الفصل التاسع والعشرون

الاقتناص

أنزلت الهليكوبتر الطوافة ببطء شديد إلى الأرض. سأل جانوس تابوري عبر جهاز الاتصال: «كم مقدار البعد؟»

أجابه ريتشارد ويكفيلد من أسفل: «نحو عشرة أمتار.» وقد كان يقف في بقعة تبعد نحو مائة متر جنوب حافة البحر الأسطواني. وكان فوقه الطوافة مدلاة في طرفَي سلكين طويلين. ثم قال له: «انتبه حتى تنزلها برفق، ثَمة بعض الإلكترونيات الحساسة في هيكلها.»

وكان هيرو ياماناكا يقود الهليكوبتر عند أقل ارتفاع يسمح به نظام التحكم، بينما كان جانوس يمد الأسلاك إلكترونيًّا عدة سنتيمترات قليلة في كل مرة. صاح ويكفيلد: «ثمة احتكاك في العجلات الخلفية. أنزل العجلات الأمامية لمسافة متر آخر.»

انطلقت فرانشيسكا ساباتيني بأقصى سرعتها إلى جانب الطوافة لتسجيل اللحظة التاريخية للمس الطوافة أرض النصف الجنوبي من أسطوانة راما. وعلى بعد خمسين مترًا من الحافة، في الجزء المُتاخم للكوخ الذي كان يُستخدم كمركز مؤقت للقيادة، كان باقي الرواد يجهزون لبدء عملية الاقتناص. كانت إيرينا تورجينيف تتفقد تثبيت السلك الذي سيُستخدم كشرَكٍ في الهليكوبتر الثانية. وعلى بعد أمتار قلائل من الكوخ، كان ديفيد براون يتحدث بمفرده عبر جهاز اللاسلكي إلى الفريق البحري هيلمان الذي كان آنذاك في مخيم بيتا. وكان الرجلان يستعرضان معًا تفاصيل خطة الاقتناص. أما ويلسون وتاكاجيشي ونيكول فقد كانوا يتابعون ما وصلت إليه عملية إنزال الطوافة.

وكان ريجي ويلسون يقول لرفيقيه: «الآن قد عرفنا من هو الزعيم الفعلي لهذه الكتيبة.» قال هذا وهو يشير إلى دكتور براون. ثم استطرد قائلًا: «إن هذا الاقتناص الملعون أشبه بعملية عسكرية أكثر من أي شيء آخر فعلناه، حتى عالمنا الكبير يضطلع ببعض المهام والضابط العظيم يدير أجهزة الاتصال.» بصق ويلسون على الأرض. ثم قال: «يا إلهي، ألدينا ما يكفي من معدات هنا؟ طائرتا هليكوبتر، وطوافة، وثلاثة أنواع مختلفة من الأقفاص، ناهيك عن الصناديق الكبيرة والكثيرة المملوءة بالمعدات الكهربائية والميكانيكية. إن السرطانات الشقية تلك لن تجد لها مفرًّا.»

وضع دكتور تاكاجيشي منظار الليزر على عينيه. وسرعان ما وجد ضالته. فعلى بعد نصف كيلومتر نحو المشرق، كانت تقف السرطانات الآلية مرة أخرى بالقرب من حافة الجرف. ولم يتغير أي شيء في حركتها. قال تاكاجيشي بهدوء: «نحتاج كل المعدات، فنحن غير متيقنين تمامًا من شيء بعينه. لا أحد يعرف بحق ما قد يحدث.»

ضحك ويلسون وقال: «ليت الأنوار تنطفئ.»

تدخَّل ديفيد براون في الحديث بفظاظة وهو متجه لينضم إلى ثلاثتهم: «نحن متأهبون لذلك الأمر.» وأردف: «إن الأصداف التي تغطي السرطانات مصبوغة بمادة فلورية خفيفة، ونحن لدينا وفرة من الشعل. وبينما كنتم تتأففون من طول اجتماعنا الأخير، كنا ننتهي نحن من خطط الطوارئ.» ثم حدق في ابن وطنه بفظاظة. قال: «أتعلم يا ويلسون، يمكنك أن تحاول …»

عندئذٍ قاطعه صوت أوتو هيلمان. كان يقول: «انتبهوا لي جيدًا. لديَّ أخبار. أخبار مهمة. لقد تسلمت لتوي إفادة من أوتول تفيد بأن قناة آي إن إن سوف تبث عملية الاقتناص «على الهواء مباشرة»، بعد عشرين دقيقة من الآن.»

رد عليه براون: «حسنًا. ينبغي أن نستعد حتى ذلك الحين. أرى ويكفيلد يتجه بالطوافة في هذا الاتجاه.» ثم نظر في ساعته. وقال: «وينبغي أن تكون السرطانات عائدة مرة أخرى في غضون ثوانٍ قلائل. بالمناسبة يا أوتو، هل لا تزال تعارض فكرتي باصطياد السرطان القائد؟»

أجابه: «بلى يا ديفيد، أعارضك. أرى أنها مخاطرة نحن في غنًى عنها. فالقليل الذي نعرفه يرجح أن السرطان القائد يتمتع بمعظم القدرات. لمَ المخاطرة؟ أي كائن آلي سيكون كنزًا عظيمًا لنرجع به إلى الأرض، ولا سيما إذا كان لا يزال يؤدي وظائفه. يمكننا أن نهتم بشأن القائد بعدما نضمن الحصول على أحدهم بالفعل.»

أجابه: «إذن، أظن أنني خسرت التصويت هذه المرة. فدكتور تاكاجيشي وتابوري يتفقان معك. والجنرال أوتول أيضًا. سننتقل إلى الخطة البديلة. سيكون السرطان المستهدف هو السرطان رقم أربعة، السرطان الخلفي ناحية اليمين عند اقترابنا من الخلف.»

وصلت الطوافة التي تحمل ويكفيلد وفرانشيسكا إلى منطقة الكوخ في نفس الوقت تقريبًا الذي وصلت فيه الهليكوبتر. قال دكتور براون لتابوري وياماناكا وهما يهبطان من الطائرة: «أحسنتما يا رجال.» ثم أردف: «استرِح قليلًا يا جانوس. ثم اذهب وتحقق ما إذا كانت تورجينيف والسلك الذي سيُستخدم شَرَكًا جاهزين. أريدك في الهواء في غضون خمس دقائق.»

التفت براون للآخرين وقال: «حسنًا، وإليكم ما سيحدث. ويلسون وتاكاجيشي ونيكول يذهبون في الطوافة مع ويكفيلد. وأنتِ يا فرانشيسكا تأتين معي في الهليكوبتر الثانية مع هيرو.»

تقدمت نيكول نحو الطوافة، لكن فرانشيسكا اعترضت طريقها. قالت: «هل سبق لك أن استخدمتِ واحدة من هذه؟» قالت الصحفية الإيطالية هذا وهي تشير إلى كاميرا فيديو في يدها بحجم الكتاب الصغير.

أجابتها نيكول وهي تتأمل في الكاميرا بيد فرانشيسكا: «أجل، مرة واحدة قبل إحدى عشرة أو اثنتي عشرة سنة مضت. كنت أسجل إحدى العمليات الجراحية في المخ التي كان يجريها دكتور ديلون. أعتقد …»

قاطعتها فرانشيسكا قائلةً: «اسمعي، قد أحتاج إلى بعض المساعدة. آسفة إنني لم أعرض الأمر عليك من قبل، لكني لم أكن أعرف … على أي حال، أحتاج لكاميرا أخرى على الأرض، وخاصةً أننا سنكون على الهواء مباشرةً الآن على قناة آي إن إن. لا أطلب منك تحقيق معجزات. أنت الشخص الوحيد الذي …»

أجابتها نيكول: «ماذا عن ريجي؟ فهو صحفي أيضًا.»

ردت فرانشيسكا في عجالة: «إن ريجي لا يُجدي نفعًا.» عندئذٍ نادى عليها دكتور براون لكي تأتي إلى الهليكوبتر. فقالت: «هل تفعلين هذا يا نيكول؟ من فضلك؟ أم أطلب هذا من أي شخص آخر؟»

وجال بخاطر نيكول سريعًا: «لمَ لا؟ ليس لديَّ عمل آخر لأقوم به إلا في الحالات الحرجة.» فأجابتها: «بالطبع.»

صرخت فرانشيسكا وهي تعطي لنيكول الكاميرا وتركض نحو الهليكوبتر: «شكرًا جزيلًا.»

قال ريجي ويلسون عندما اقتربت نيكول من الطوافة وبيدها الكاميرا: «حسنًا، حسنًا جدًّا.» وأردف: «أرى أن الصحفية رقم ١ قد جندت طبيبة الطاقم. أرجو أن تكوني قد طلبت أي أجر.»

ردت عليه نيكول: «اهدأ يا ريجي. ليس لديَّ مشكلة في أن أساعد الآخرين عندما لا يكون لديَّ مهام معينة أقوم بها.»

أدار ويكفيلد الطوافة ثم اتجه شرقًا حيث السرطانات الآلية. وقد أُنشئ مركز القيادة عمدًا في المنطقة التي «نظفتها» السرطانات بالفعل. وقد جعلت اليابسة الممهدة الطوافة تسير بسهولة ويسر. وأصبحوا على بعد مائة متر من السرطانات في فترة لا تتجاوز ثلاث دقائق. وكانت طائرتا الهليكوبتر تعلو فوق رءوس السرطانات، مطوقتين إياها.

سألت نيكول فرانشيسكا عبر جهاز الإرسال الموجود في الطوافة: «ما الذي تريدينني أن أفعله بالضبط؟»

أجابتها فرانشيسكا: «حاولي أن تتحركي بمحاذاة السرطانات. ربما يمكنك الركض بجانبها على الأقل لفترة من الوقت. وأكثر اللحظات حسمًا هي تلك اللحظة التي يحاول عندها جانوس تقريب الشرَك.»

قال تابوري بعد ثوانٍ قليلة: «كلنا مستعدون هنا، أعطِ الأمر فحسب.»

سأل براون فرانشيسكا: «هل نحن على الهواء الآن؟» أومأت برأسها بالإيجاب. فقال لجانوس: «حسنًا، انطلق.»

وكان يتدلى من إحدى طائرتَي الهليكوبتر سلكٌ سميك في طرفه ما يشبه السلة المقلوبة. وأخذ ويكفيلد يشرح لنيكول ما سيحدث: «سيحاول جانوس أن يركز الشرك على السرطان الهدف، وسيجعل الجوانب تمسك مباشرة بجوانب الصدفة. عندئذٍ سيكثف الضغط ويسحب الكائن الآلي عن الأرض. ثم سنضع السرطان في قفص لدى عودتنا إلى مخيم بيتا.»

سمعت نيكول فرانشيسكا تقول: «لنرَ ما شكلها من عندك من أسفل.» وكانت الطوافة في تلك الأثناء بجانب الكائنات الآلية مباشرة. ترجَّلت نيكول من الطوافة وسارت بتؤدة إلى جانبها. لقد كانت مرعوبة في البداية. فهي لم تتوقع أن تكون بهذا الحجم أو بهذا المظهر الغريب. لقد ذكرها لمعانها المعدني بالواجهة الكئيبة لكثير من المباني الجديدة في باريس. وبينما كانت تسير على الأرض، كانت السرطانات لا تبعد عنها سوى مترين. ولم يتعسر عليها التقاط الصور المناسبة بسبب خاصيتَي التقريب والتأطير الآليَّتين الموجودتين في الكاميرا.

حذَّرها دكتور تاكاجيشي: «لا تظهري أمامهم.» ولم يكن بحاجة إلى أن يقلق. فنيكول لم تنسَ ما فعلوه بتلك الكومة المعدنية.

دوى صوت فرانشيسكا في جهاز استقبال الطوافة وهي تقول: «إن صورك رائعة بحق.» وأردفت: «لكن حاولي يا نيكون أن تسرعي باتجاه السرطان القائد ثم تراجعي للوراء قليلًا قليلًا؛ كي تفسحي مجالًا للكاميرا لتتحرك من جانب إلى جانب لتلتقط كل الرُّتَب.» انتظرت فرانشيسكا حتى تحركت نيكول أمام السرطانات ثم استرسلت قائلة: «واو! إن هذا لرائع. الآن أعرف لمَ أحضرنا معنا بطلة أوليمبية.»

أخفق جانوس في استخدام الشرَك في المحاولتين الأوليين. لكنه أصاب بشدة عندما أنزله في المحاولة الثالثة على السرطان الخلفي رقم أربعة. وانتشرت حواف الشبكة أو السلة على أغلب أنحاء الصدفة. بدأت نيكول تتصبب عرقًا. لقد كانت تجري أربع دقائق بالفعل. قالت لها فرانشيسكا من الهليكوبتر: «من الآن فصاعدًا، ركزي على السرطان الهدف فقط. اقتربي منه قدر ما تجرئين.»

اقتربت نيكول من أقرب سرطان لها مسافة متر. كادت قدماها أن تنزلق فسرَت في بدنها قُشعريرة. وقالت نيكول في نفسها: «لو كنت قد سقطت في طريقها، لكانت قد قطعتني إربًا إربًا.» وثبتت نيكول الكاميرا على السرطان الخلفي الأيمن حيث كان جانوس يضيق الخناق عليه باستخدام الأسلاك.

صرخ جانوس: «الآن!» وعندئذٍ أخذ الشرك المحتجز فيه السرطان في الارتفاع عن الأرض. حدث كل شيء بعد ذلك على جناح السرعة. فقد استخدم السرطان الهدف مخالبه الأشبه بالمقص ليقطع أحد الخيوط المعدنية في الشرك. أما السرطانات الخمسة الأخرى فقد توقفت تمامًا عن الحركة لفترة وجيزة، ربما لمدة ثانية كاملة، ثم هجمت جميعًا فورًا على الشرك بمخالبها. وفي غضون خمس ثوانٍ كانت الشبكة المعدنية ممزقة وأصبح السرطان حرًّا.

شُدِهَت نيكول مما رأت. ومع أن نبضات قلبها زادت بطريقة عنيفة، فقد واصلت التصوير. جلس السرطان القائد على الأرض وحاقت به السرطانات الخمسة في دائرة ضيقة جدًّا. ووضع كل سرطان أحد مخالبه على السرطان القائد في المنتصف والآخر على السرطان عن يمينه. ثم انفضَّ هذا التشكيل في مدة لا تتجاوز خمس ثوانٍ. تشابكت السرطانات ووقفت في مكانها بلا حراك.

كانت فرانشيسكا هي أول من اخترق جدار الصمت. فصرخت في عجب: «قطعًا أمر لا يصدقه عقل. لقد بثثنا لتونا الرعب في نفوس كل البشر على الأرض.»

شعرت نيكول بريتشارد ويكفيلد إلى جانبها. سألها: «هل أنتِ بخير؟»

أجابته: «أعتقد ذلك.» كانت لا تزال ترتجف. ثم حدق كلاهما في السرطانات الآلية. كانت ساكنة تمامًا.

قال ريجي ويلسون من الطوافة: «إنهم يتداولون فيما بينهم. والنتيجة الآن ٧ للسرطانات وصفر للبشر.»

•••

قال أوتو: «بما أنك مقتنع تمام الاقتناع أنه ليست هناك أي مخاطر، فسوف أوافق على المضي قُدمًا. لكن عليَّ أن أقر بأنني شخصيًّا لا أشعر بالارتياح بشأن القيام بمحاولة أخرى. لقد اتضح تمام الوضوح أن هذه المخلوقات يتواصل بعضها مع بعض. ولا أعتقد أنها ترغب في أن يقتنصها أحد.»

أجابه دكتور براون: «أوتو، أوتو. إن هذه الطريقة مجرد تعديل لما حاولنا القيام به في المرة الأولى. سيلتصق خطاف السلك بصدفة السرطان ثم يلف أسلاكه الرفيعة بإحكام حول الدرع القرني بأكمله. أما عن بقية السرطانات فلن تتمكن من استخدام مخالبها. إذ لن يكون هناك أي متسع بين السلك والصدفة.»

قال دكتور تاكاجيشي عبر جهاز اللاسلكي للفريق البحري هيلمان، وكانت هناك نبرة قلقة واضحة في صوته: «الفريق البحري هيلمان، معك دكتور تاكاجيشي. ينبغي أن أبلغ بصفةٍ رسميةٍ اعتراضي الشديد والقاطع على المضي قدمًا في عملية الاقتناص. لقد رأينا بالفعل كم كانت معرفتنا عن هذه المخلوقات محدودة للغاية. وكما ذكر ويكفيلد فإن محاولتنا للإيقاع بأحدها قد أثار فيها بوضوحٍ الغريزة الأساسية للدفاع عن النفس. وليس لدينا أدنى فكرة على الإطلاق عما سيكون رد فعلها في المرة القادمة.»

عندئذٍ قاطعه ديفيد براون قبل أن يستطيع هيلمان أن ينبس ببنت شفة: «نحن جميعنا نعي هذا يا دكتور تاكاجيشي.» وأردف: «لكن هناك بعض العوامل التي خففت من حدة الموقف وأزالت كل الالتباسات. أولًا، كما أشارت فرانشيسكا، إذا تتبعنا الكائنات الآلية في الحال، فإن الأرض بأسرها ستتابعنا مرة أخرى. لقد سمعت ما قاله جين كلود ريفوار منذ عشرين دقيقة؛ إننا قد تفوقنا على الجميع في مجال الاكتشافات الفضائية منذ عهد رواد الفضاء السوفييتيين والأمريكيين الأوائل في القرن العشرين. ثانيًا، نحن جاهزون لإتمام عملية الاقتناص الآن. فإذا أقلعنا عن المحاولة وأعدنا كل معداتنا إلى مخيم بيتا، فإننا سنكون قد أهدرنا قدرًا هائلًا من الوقت والجهد. وأخيرًا، ليس هناك خطر واضح. لمَ لا تكفُّ عن القيام بمثل هذه التكهنات المنذرة بالكوارث؟ كل ما هنالك أن الكائنات الآلية قد دافعت عن نفسها.»

حاول الباحث الياباني البارز أن يقوم بمناشدة عقلانية أخيرة فقال: «بروفيسور براون، أرجوك انظر حولك.» ثم أردف: «حاول أن تتخيل القدرات التي تتمتع بها المخلوقات التي صنعت هذه المركبة المذهلة. حاول أن تقدر مدى احتمالية، وأكرر مرة أخرى، فقط مدى احتمالية أن ما نحاول القيام به ربما يُنظر إليه على أنه عمل عدائي، ثم نُقلت هذه النظرة بطريقة ما للعقل الذي يدير هذه السفينة أيًّا ما كان. ونتيجة لذلك، ولأننا ممثلون للجنس البشري، فإننا لن ندين أنفسنا فحسب، بل الأمر الأشد ضراوة أننا سندين أيضًا كل إخواننا من البشر …»

تهكم ديفيد براون: «هراء.» ثم تساءل: «كيف يجرؤ أحد على أن يتهمني بالتفكير المتهور …؟» ضحك من كل قلبه. واستطرد: «إنه لأمر سخيف. تجزم الدلائل أن مركبة راما هذه لديها نفس غرض ووظيفة المركبة السابقة، وهي غافلة تمامًا عن وجودنا. وحقيقة أن فصيلة واحدة فحسب من الكائنات الآلية تحتشد معًا عندما تتعرض للتهديد، ليس لها أهمية تُذكر على الإطلاق.» ثم حملق في الآخرين من حوله. وتابع قائلًا: «كفى كلامًا في هذا الموضوع يا أوتو. وإذا لم يكن لديك مانع، فإننا سنذهب لاقتناص كائن آلي.»

سادت فترة تردد قصيرة عبر البحر الأسطواني. ثم سمع الرواد رد الفريق البحري هيلمان بالإيجاب. يقول: «انطلق يا ديفيد. لكن لا تقم بأي محاولات نحن في غنًى عنها.»

سأل هيرو ياماناكا دكتور تاكاجيشي حينما كان براون وتابوري وويكفيلد يراجعون تكتيكات عميلة الاقتناص الجديدة قائلًا: «أتعتقد أننا في خطرٍ مُحدق بالفعل؟» قال الطيار الياباني هذا وهو يحملق بعيدًا في الفضاء الفسيح في البنايات العملاقة الموجودة في التجويف الجنوبي، مفكرًا في خطورة موقفهم، ولعلها المرة الأولى التي يفكر فيها في هذا الأمر.

أجابه الرجل الذي ينتمي إلى وطنه نفسه: «ربما لا، لكنه من الجنون أن نقوم بمثل هذه …»

قاطعه ريجي ويلسون قائلًا: «كلمة جنون هي الكلمة المناسبة تمامًا لوصف هذا الموقف. أنا وأنت نعتبر جبهة المعارضة الوحيدة الصريحة للمضي قدمًا في هذه الحماقة. لكن اعتراضنا بدا وكأنه بلاهة بل جبن أيضًا. أنا شخصيًّا، أتمنى لو أن أحد هذه الأشياء الملعونة تدعو المبجل الدكتور براون إلى مبارزة. أو لعله من الأفضل أن تنزل عليه صاعقة نارية من إحدى الأبراج القائمة هناك.»

أشار ويلسون إلى القرون العظيمة التي كان ينظر إليها ياماناكا من قبل. عندئذٍ تغيَّر صوته إذ كانت به نبرة تنم عن الخوف. وقال: «إن الأمر يفوق إدراكنا. أنا أشعر بهذا في الأجواء المحيطة. لقد حذَّرتنا قوًى لا يستطيع أحدنا إدراكها من الخطر الذي يكتنفنا. لكننا نتجاهل هذه التحذيرات.»

ابتعدت نيكول عن زملائها وحملقت في اجتماع التخطيط النشط الذي ينعقد على بعد خمسة عشر مترًا منها فحسب. وقطعًا كان المهندسان ويكفيلد وتابوري يستمتعان بالتحدي الذي يجابههما بشأن خداع الكائنات الآلية. تساءلت نيكول عما إذا كان من الممكن أن تكون راما قد أرسلت لهم بالفعل نوعًا من التحذير. ثم قالت لنفسها: «هراء.» مكررةً نفس التعبير الذي استخدمه ديفيد براون. لقد ارتعدت بطريقة لاإرادية حينما تذكرت الثواني العديدة عندما كان السرطان الآلي يهشم الشَّرَك المعدني. لكنها قالت لنفسها: «إنني أغالي في الأمر. وكذلك ويلسون. ليس هناك مدعاة للخوف.»

لكن عندما استدارت ونظرت مرة أخرى عبر المنظار كي تتأمل تشكيل السرطانات الذي لا يبعد عنها سوى نصف كيلومتر، سرى بداخلها شعور واضح بالخوف الذي لا يمكن تهدئته. فالسرطانات الستة لا تزال بلا حراك لما يقرب من ساعتين، ولا تزال محاصرة في إطار ترتيبها الأصلي. سألت نيكول نفسها عدة مرات: «ما الذي يدور بداخلك يا راما بحق؟» أما السؤال التالي الذي سألته لنفسها لاحقًا فقد أصابها بالهلع. فهي لم تتفوه بمثله من قبل. إذ سألت: «كم واحدًا منا سيتمكن من العودة إلى الأرض ليروي قصتك؟»

•••

رغبت فرانشيسكا في أن تكون على الأرض إلى جانب السرطانات في محاولة الاقتناص الثانية. ومثل المرة السابقة، كان كلٌّ من تورجينيف وتابوري على متن الطائرة الهليكوبتر الأولى وبحوزتهما أهم المعدات. وكان براون وياماناكا وويكفيلد على متن الطائرة الأخرى. ودعا دكتور براون ويكفيلد كي يُسدي إليه النصائح المباشرة، وبالطبع أقنعت فرانشيسكا ريتشارد بأن يلتقط بعض الصور من الهواء كي تكمل بها الصور التلقائية التي تصدر عن نظام الطائرة.

قاد ريجي ويلسون رواد الفضاء الأرضيين إلى موقع السرطانات على متن الطوافة. قال ريجي فور وصولهم إلى موقع السرطانات الفضائية: «لديَّ مهمة رائعة هنا لأنجزها. مهمة السائق.» ثم مد بصره نحو سقف راما البعيد. وقال: «أتسمعون ذلك، يا شباب؟ أنا فذٌّ. بإمكاني أن أقوم بمهام كثيرة.» ثم نظر إلى فرانشيسكا التي تجلس إلى جانبه. وقال: «بالمناسبة يا سيدة فرانشيسكا، ألم تعتزمي تقديم الشكر لنيكول من أجل العمل المذهل الذي قامت به؟ إن اللقطات المثيرة التي التقطتها على الأرض بجانب السرطانات هي التي جذبت انتباه الجمهور في البث الأخير.»

كانت فرانشيسكا منهمِكة في تفقد كافة معدات الفيديو التي معها، وقد تجاهلت تعليق ريجي في البداية. لكن عندما واصل سخريته، ردت عليه دون أن ترفع نظرها إليه قائلة: «هل لي أن أذكِّر السيد ويلسون أنني لست في حاجة إلى نصيحته غير المرغوب فيها بشأن كيفية إدارة أعمالي؟»

أخذ ويلسون يتأمل ويقول لنفسه بصوت عالٍ وهو يهز رأسه: «في وقتٍ ما كانت الأشياء مختلفة تمامًا.» ثم نظر إلى فرانشيسكا. ولم تكن هناك أي إشارة على أنها تعيره الانتباه أو حتى تصغي إليه. فرفع صوته وأكمل قائلًا: «كانت الأشياء مختلفة في الماضي عندما كنت لا أزال أومن بالحب. قبلما أعرف عن الخيانة. أو الطموح وأنانيته.»

هز ريجي عجلة الطوافة بعنف نحو اليسار، ثم أوقفها على بعد ما يقرب من أربعين مترًا غرب البقعة حيث السرطانات. قفزت فرانشيسكا من الطوافة دون أن تنبس ببنت شفة.

وفي غضون ثلاث ثوانٍ كانت تتكلم مع ديفيد براون وريتشارد ويكفيلد عبر جهاز اللاسلكي بشأن تغطية عملية الاقتناص بالفيديو. وشكر دكتور تاكاجيشي الدمث الأخلاق ريجي ويلسون على قيادته للطوافة.

صرخ تابوري من أعلى: «نحن قادمون.» وقد تمكن من أن يضع الوصلة المتدلية في موضعها الصحيح من ثاني محاولة. وكانت الوصلة كرة مستديرة وثقيلة يبلغ قطرها نحو عشرين سنتيمترًا، وبها اثنا عشر ثقبًا أو فجوة صغيرة في سطحها. وقد أُسقطت بتؤدة في مركز صدفة أحد السرطانات الواقعة في الجزء الخارجي من التشكيل. وبعد ذلك أمر جانوس — الذي كان ينقل وابلًا من الأوامر من الطائرة إلى المعالج في الوصلة — بنشر السلوك المعدنية المتكتلة المطوية بداخل الكرة. لم تَهج السرطانات عندما التفت الأسلاك حول السرطان الهدف.

صرخ جانوس في ريتشارد ويكفيلد الذي كان على متن الطائرة الأخرى: «ماذا ترى أيها المفتش؟»

تفقد ريتشارد الجهاز الغريب. وكان السلك السميك موصلًا بدعامة حلقية الشكل في خلفية الطائرة. وعلى بعد خمسة عشر مترًا لأسفل، استقرت الكرة المعدنية على ظهر السرطان الهدف، وكان السلك الرفيع يمتد من داخل الكرة لأعلى وأسفل الدرع القرني. رد عليه ريتشارد قائلًا: «تبدو الأمور على ما يرام. لكن بقي الآن سؤال واحد فقط. هل الهليكوبتر أقوى من قبضتها الجماعية؟»

أمر ديفيد براون إيرينا تورجينيف بأن ترفع الفريسة. فزادت ببطءٍ سرعة الشفرات وحاولت أن ترفعها. اختفى الجزء المتدلي الصغير، لكن السرطانات تحركت بشق الأنفس. قال ريتشارد: «إما أن يكونوا غاية في الثقل، وإما أنهم يتشبثون بالأرض بطريقة ما. اضربيهم ضربة قاصمة.»

رفعت الرجة الفجائية التي حدثت في السلك التشكيل السرطاني بأكمله لحظة للأعلى. دفعت الطائرة الهليكوبتر بشدة فتدلت منها كتلة السرطانات على بعد مترين أو ثلاثة فوق الأرض. وتهاوى أولًا السرطانان غير الممسكين بالسرطان الهدف على كومة جامدة بعد لحظات من عملية الرفع. أما السرطانات الثلاثة الأخرى فقد ظلت وقتًا أطول، لمدة عشر ثوانٍ كاملة قبل أن ينزعوا مخالبهم من على رفيقهم ويتهاووا على الأرض لأسفل. وعمَّت هتافات الابتهاج والتهنئة في كل الأرجاء، إذ حلقت الهليكوبتر إلى أعلى في السماء.

كانت فرانشيسكا تصور تسلسل عملية الاقتناص على بعدٍ يقرب من عشرة أمتار. وبعدما ترك آخر ثلاثة سرطانات بما فيهم القائد قبضتهم من على السرطان الهدف وتهاووا على أرضية راما، مالت وراء الطائرة الهليكوبتر التي اتجهت بفريستها نحو البحر الأسطواني كي تكمل عملية التصوير. واستغرق الأمر نحو ثانيتين أو ثلاث ثوانٍ حتى أدركت أن الجميع كانوا يصرخون فيها.

لم يتهشَّم السرطان القائد ولا الآخران عندما ارتطموا بالأرض. ومع أنهم قد تعرَّضوا لأذًى طفيف فإنهم كانوا نشطين، وفي غضون ثوانٍ من عملية السقوط كانوا سائرين على أقدامهم. وبينما كانت فرانشيسكا تصور رحيل الهليكوبتر، شعر السرطان القائد بوجودها واتجه نحوها. وتبعه السرطانان الآخران.

كانوا على بعد أربعة أمتار فحسب حينما أدركت أخيرًا فرانشيسكا، التي كانت منهمكة في التصوير، أنها هي الفريسة الآن. فاستدارت وبدأت تعدو. صاح ريتشارد في جهاز اللاسلكي: «اركضي على الجانبين، فهم يجرون في خطوط مستقيمة.»

ركضت فرانشيسكا في خطوط متعرجة، لكن السرطانات واصلت السعي وراءها. وقد مكنها إفراز الأدرينالين الناتج عن الخوف من إطالة المسافة التي تفصل بينها وبين السرطانات إلى عشرة أمتار. لكن ما إن بدأت تشعر بالتعب حتى تمكنت السرطانات التي لا تكل ولا تعيا من الاقتراب منها. زلت قدماها وكادت أن تسقط. وعندما استعادت فرانشيسكا توازنها، كان السرطان القائد يبعد عنها بمسافة لا تزيد عن ثلاثة أمتار.

وما إن اتضح أن السرطانات تطارد فرانشيسكا حتى أسرع ريجي ويلسون نحو الطوافة. وما إن تولى زمام المركبة حتى انطلق نحوها بأقصى سرعة. وكان قصده الأساسي هو أن يلتقطها ويأخذها بعيدًا عن السرطانات المنقضَّة عليها. غير أنهم كانوا قريبين منها للغاية؛ لذا قرر ريجي أن يصدم السرطانات الثلاثة من الجانب. وحدث اصطدام معدن بمعدن عندما نطحت المركبة المعدنية السرطانات. لقد نجحت خطة ريجي. فقد أطاحت قوة الدفع الناجمة عن الاصطدام بريجي والسرطانات معًا لعدة أمتار إلى جانب الطريق. وانتهى الخطر الذي كان يهدد فرانشيسكا.

لكن السرطانات لم تخر قواها. على العكس تمامًا. فمع أن أحد السرطانات الأتباع قد فقد أحد رجليه، وأُصيب السرطان القائد بخلل بسيط في المخلب، ففي غضون ثوانٍ كان ثلاثتهم قيد العمل وسط الحطام. فبدءوا يقطعون الطوافة إلى شرائح صغيرة بمخالبهم، وعندئذٍ استخدموا مجموعة مسابيرهم ومباردهم المخيفة كي يمزقوا الشرائح الصغيرة إلى قطع أصغر.

تعجب ريجي لحظة من تأثير الطوافة على الكائنات الآلية. لقد كانت السرطانات الفضائية أثقل مما توقع، وكان الخراب الذي حل بطوافته عظيمًا جدًّا. وما إن أدرك أن السرطانات لا تزال في حالة نشطة حتى شرع في القفز خارج الطوافة. لكنه لم يستطِع. لقد انحشرت رجلاه تحت لوحة القيادة المحطمة.

ولم يدم هلعه الشديد سوى عشر ثوانٍ. ولم يكن باستطاعة أحد أن يفعل أي شيء حيال الأمر. ودوت صرخات ويلسون المروعة في كل أرجاء فضاء راما الفسيح؛ إذ قطَّعته السرطانات إربًا إربًا، تمامًا كما لو كان جزءًا من الطوافة. وقد أُنجزت المهمة بسرعة وعلى نحو منهجي. وصورت كلٌّ من فرانشيسكا والكاميرا الآلية في الهليكوبتر اللحظات الأخيرة من حياته. وقد بُثَّت الصور إلى الأرض على الهواء مباشرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤