الفصل الخامس والثلاثون

إلى التجويف

ساروا في متاهة الشوارع المذهلة عشرين دقيقة فحسب، وأوشكوا على أن يضلوا لولا أجهزة الملاحة الشخصية الخاصة بهم. لم يكن لديهم خطة متكاملة للبحث. لقد تجولوا في الشوارع جيئة وذهابًا بطريقة شبه عشوائية. وكان الفريق البحري هيلمان يتصل بدكتور براون كل ثلاث دقائق أو أربع، وكان على فريق البحث أن يبحث في الموقع الذي تكون فيه قوة الإشارات مناسبة.

قالت نيكول عندما سمعوا مرة أخرى صوت أوتو هيلمان الذي كان يصل كالهمس عبر جهاز الاتصال: «إن كنا سنسير بهذا المعدل فإن بحثنا سيدوم للأبد، دكتور براون لمَ لا تمكث في بقعة واحدة؟ وعندئذٍ نقوم أنا وفرانشيسكا …»

عندئذٍ سمعوا صوت أتو الذي جاء بوضوحٍ هذه المرة، عندما تحرك ديفيد براون نحو الفضاء الذي يتوسط مبنيين مرتفعين: «انتبهوا لي.» وأردف متسائلًا: «ألم تسمع ما قلته لك في بثي الأخير؟»

رد عليه دكتور براون: «مع الأسف، لا أوتو.» وعقَّب قائلًا: «من فضلك أعد مرة أخرى.»

أجابه: «لقد غطى ياماناكا وويكفيلد وتورجينيف الثلث المنخفض من نصف الأسطوانة الجنوبي. ولم تكن هناك أي أمارات على وجود تاكاجيشي. ومن المستبعد أن يكون قد ذهب إلى أبعد من ذلك شمالًا، ما لم يكن قد ذهب إلى إحدى المدن. وفي تلك الحالة كنا سنرى آثار أقدامه في مكان ما. إذن من المرجح أنكم تتبعون المسار الصحيح.»

«وفي الوقت نفسه، لدينا أخبار مهمة. لقد أخذ السرطان المأسور في التحرك منذ ما يقرب من دقيقتين. إنه يحاول الهرب، لكن حتى الآن لم تفلح أدواته إلا بثني القفص بشق الأنفس. ويبذل تابوري الآن جهدًا محمومًا لبناء قفص أكبر وأقوى ليحيط بالجهاز كليًّا. وقد أمرت ياماناكا بالعودة بطائرته إلى مخيم بيتا كي يساعد تابوري. وينبغي أن يكون هنا في غضون دقيقة … انتظر … ثَمة نداء عاجل آتي من ويكفيلد … سأستقبل اتصاله.»

كانت لُكْنة ريتشارد ويكفيلد البريطانية واضحة، مع أن الرواد الثلاثة بنيويورك كانوا يسمعونه بشق الأنفس. لقد صرخ ردًّا على سؤال الفريق البحري هيلمان قائلًا: «عناكب.» وأردف: «هل تتذكر العناكب الآلية التي قامت لورا إيرنست بتشريحها؟ إننا نرى ستة منها خلف الجرف الجنوبي مباشرة. وجميعها تحيط بالكوخ المؤقت الذي بنيناه. ويبدو أن شيئًا ما قد أصلح السرطانين اللذين ماتا؛ لأن إخوة السرطان الأسير يسيرون بتؤدة نحو القطب الجنوبي …»

صاحت فرانشيسكا ساباتيني في جهاز اللاسلكي: «صور! هل تلتقط صورًا؟»

أجاب ويكفيلد: «ماذا؟ آسف، لم أتابعك.»

وهنا وضح له الفريق البحري هيلمان: «تود فرانشيسكا أن تعرف ما إذا كنت تلتقط صورًا.»

قال ريتشارد ويكفيلد: «بالطبع، يا محبوبتي.» وتابع حديثه قائلًا: «كلٌّ من نظام التصوير الآلي في الطائرة والكاميرا اليدوية التي أعطيتِني إياها هذا الصباح يعملان بلا انقطاع. والعناكب الآلية مذهلة للغاية. لم أشاهد أي شيء يتحرك بهذه السرعة قط … بالمناسبة، هل هناك أي دلائل بشأن البرفيسور الياباني؟»

صرخ ديفيد براون من نيويورك: «ليس بعد.» وأردف: «إن الأمور تسير ببطء في هذه المتاهة. أشعر وكأنني أبحث عن إبرة في كومة من القش.»

أعاد الفريق البحري هيلمان ذكر الوضع الحالي لعملية البحث عن الشخص المفقود على كلٍّ من ويكفيلد وتورجينيف في الهليكوبتر. ثم قال ريتشارد إنهما عائدان إلى مخيم بيتا للتزود بالوقود. سأل هيلمان: «وماذا عنك يا ديفيد؟» ثم تابع حديثه: «ألا ترى في ضوء كل ما يحدث، بما في ذلك الحاجة لإخبار هؤلاء الأوغاد على الأرض، أنه ينبغي أن تعود إلى مخيم بيتا بنفسك؟ ويمكن أن تواصل كلٌّ من الرائدة فرانشيسكا والرائدة نيكول عملية البحث عن دكتور تاكاجيشي. وإذا اقتضى الأمر فيمكننا أن نرسل شخصًا آخر ليحل محلك عندما تُقِلُّك الهليكوبتر.»

أجابه: «لا أعرف يا أوتو، أنا لم …» عندئذٍ أطفأت فرانشيسكا خاصية البث في جهاز ديفيد براون اللاسلكي أثناء رده على هيلمان. فرمقها بنظرة ساخطة سرعان ما تحولت إلى نظرة هادئة.

قالت بنبرة صارمة: «نحن في حاجة للتحدث بشأن هذا. أخبره بأنك ستعاود الاتصال به بعد دقيقتين.»

شُدِهت نيكول من الحوار الدائر بين فرانشيسكا ساباتيني وديفيد براون. لم يكن أيٌّ منهما يكترث البتة للمصير الذي حل بدكتور تاكاجيشي. لقد أصرَّت فرانشيسكا على العودة إلى مخيم بيتا فورًا لتغطية «كل» الأحداث العاجلة هناك. وكان دكتور براون قلقًا لأنه كان بعيدًا عن الأحداث «الرئيسية» للبعثة.

وكان كلاهما يحاول أن يبرهن أن سبب عودته هو الأكثر أهمية. وماذا إن رجعا إلى نيويورك؟ لا، فإنهما بهذا سوف يتركان الرائدة نيكول بمفردها. لعلها سوف ترحل معهما ثم يعاودان بدء عملية البحث عن دكتور تاكاجيشي مرة أخرى حينما تهدأ الأمور في غضون بضع ساعات …

وأخيرًا انفجرت نيكول. وصرخت فيهما على حين غِرة: «لم أشاهد في حياتي قط مثل هذه الأنانية …» لم تستطع نيكول أن تجد وصفًا أقل وطأة من الأنانية. مضت نيكول في صراخها: «إن أحد زملائنا مفقود وهو قطعًا في حاجة إلى مساعدتنا. قد يكون مجروحًا أو لعله يحتضر، وكل ما تستطيعان فعله هو الجدال حول مصالحكما الدنيئة. إنه لأمرٌ مقزز بحق.»

توقفت نيكول لحظة لتلتقط أنفاسها. ثم استطردت وهي لا تزال ثائرة: «دعوني أخبركما شيئًا واحدًا. أنا لن أعود إلى مخيم بيتا الآن. أنا لا آبه إذا أمرتني بذلك. سأمكث هنا حتى أنتهي من البحث. على الأقل، لديَّ أولوياتي المباشرة. أعرف أن حياة إنسان أهم من صورة أو مكانة أو حتى مشروع إعلامي دنيء.»

طرف ديفيد براون بعينيه مرتين، وكأنه صُفع على وجهه. في حين ابتسمت فرانشيسكا. وقالت: «حسنًا، حسنًا. إذن الطبيبة المتوحدة تعرف أكثر مما سمحنا لها أن تعرفه.» نظرت إلى ديفيد براون ثم رجعت إلى نيكول. وقالت: «هل يمكنك أن تتركينا لحظة، يا عزيزتي؟ لدينا بعض الأمور القليلة التي نود مناقشتها على انفراد.»

تحركت فرانشيسكا ودكتور براون إلى جانب قاعدة إحدى ناطحات السحاب، على بعد ما يقرب من عشرين مترًا من نيكول وبدأ الاثنان حوارًا ساخنًا. استدارت نيكول نحو الاتجاه المعاكس. لقد استاءت من نفسها بسبب فقدانها لأعصابها. وقد توترت للغاية بسبب إفصاحها عن معرفتها بأمر عقدهما مع شميت وهاجينست. وجال بخاطرها: «سوف يفترضان أن جانوس هو من أخبرني إذ إننا صديقان حميمان.»

رجعت فرانشيسكا لتنضم إلى نيكول في حين اتصل دكتور براون بالفريق البحري هيلمان عبر جهاز اللاسلكي. وقالت فرانشيسكا لنيكول: «يستدعي ديفيد الهليكوبتر كي تقابله بجانب ناقل الطوارئ. لقد أكد لي أنه يستطيع أن يشق طريقه حتى هناك. وسوف أمكث هنا معكِ للبحث عن تاكاجيشي. على الأقل بهذه الطريقة سوف يمكنني أن أصور نيويورك.»

كان تصريح فرانشيسكا يخلو تمامًا من أي مشاعر. ولم تستطع نيكول أن تستشف حالتها المزاجية. أضافت فرانشيسكا: «ثمة شيء آخر. لقد وعدت ديفيد بأننا سوف ننتهي من بحثنا ونكون مستعدين للعودة إلى المخيم في غضون أربع ساعات أو أقل.»

•••

لم تتحدث المرأتان في غضون أول ساعة من بحثهما إلا نادرًا. ولم يكن لدى فرانشيسكا مشكلة في أن تترك اختيار الدرب الذي ستسلكانه لنيكول. وكل خمس عشرة دقيقة كانتا تتوقفان للاتصال بالمخيم للحصول على معلومات محدثة بشأن تحديد موضعهما الحالي. أخبرهما ريتشارد ويكفيلد عندما توقفتا لتناول الغداء: «أنتما الآن تبعدان عن ناقلة الطوارئ نحو كيلومترين جنوبًا وأربعة كيلومترات شرقًا.» وكان قد أُوكل إلى ريتشارد مهمة تتبع سيرهما. قال ريتشارد: «أنتما الآن شرق الساحة المركزية مباشرة.»

لقد ذهبتا أولًا إلى الساحة المركزية لأن نيكول اعتقدت أن تاكاجيشي اتجه إلى هناك. فوجدتا ساحة مفتوحة مستديرة بها العديد من البنايات المنخفضة، لكن ما من أمارات تقوداهما إلى زميليهما. وبعد ذلك عرجتا على الساحتين الأخريين، وتفقدتا بعناية جزأين من الأجزاء المركزية المقسمة على شكل الشطيرة. فلم تعثرا على أي شيء. وأقرَّت نيكول بأن كل أفكارها قد استُنفدَت.

قالت فرانشيسكا عندما همت بتناول غدائها: «يا له من مكان مذهل للغاية.» كانتا تجلسان على صندوق مربع من المعدن يبلغ ارتفاعه مترًا. وأردفت: «إن الصور التي التقطها له تعبر بالكاد عنه. فكل شيء هادئ للغاية وشاهق للغاية وغريب … للغاية.»

ردت نيكول: «لا يمكن وصف بعض من هذه المباني دون صورك. والمجسم العديد الأسطح أحدُ الأمثلة على ذلك. ثمة مجسم في كل جزء، إلى جانب أكبرها الذي عادة ما يكون حول الساحة. تُرى ما المغزى وراءها، إن كان هناك مغزًى من الأصل؟ ولماذا توجد في تلك الأماكن بعينها؟»

ظل التوتر العاطفي المضمر في نفس المرأتين مكبوتًا داخلهما. تحدثتا قليلًا عما شاهدتاه في خلال رحلتهما عبر نيويورك. كان أكثر ما جذب نظر فرانشيسكا هو مكانًا مظللًا ضخمًا يصل بين ناطحتَي سحاب شاهقتَي الارتفاع في الوحدة المركزية. تساءلت نيكول بفتور: «في رأيك، ما المغزى من هذا الشيء الشبيه بالشبكة؟ إنه حتمًا يحتوي على عشرين ألف حلقة، وحتمًا يبلغ ارتفاعه خمسين مترًا.»

أجابتها نيكول وهي تلوح بيدها: «أعتقد أنه لأمر سخيف أن نحاول فهم أيٍّ من هذه.» انتهت نيكول من تناول غدائها ونظرت إلى رفيقتها. ثم قالت: «هل أنتِ جاهزة للمواصلة؟»

أجابتها فرانشيسكا بعزم: «ليس تمامًا.» ثم نظفت بقايا طعامها ووضعتها في كيس النُّفاية ببذلة طيرانها. ثم قالت لنيكول: «لدينا أنا وأنت بعض المسائل التي لم ننتهِ منها بعد.»

نظرت إليها نيكول متحيرة. قالت فرانشيسكا بلطف مصطنع: «أرى أنه حان وقت نزع الأقنعة ومواجهة إحدانا للأخرى صراحة. إن كنت ترتابين في أنني قد أعطيت لفاليرى بورزوف بعض الأدوية في يوم موته، فلِمَ لمْ تسأليني مباشرة؟»

حملقت نيكول في خصمتها لبضع ثوانٍ. ثم سألتها أخيرًا: «وهل فعلتِ؟»

ردت فرانشيسكا بتحفظ: «وهل تظنين أنني فعلت هذا؟ وإن كان ذلك حدث، فلمَ سأفعله؟»

قالت نيكول بعد برهة: «أنت تلعبين اللعبة نفسها ولكن على مستوًى آخر منها. أنتِ لا ترغبين في أن تعترفي بأي شيء. أنتِ لا تحاولين إلا اكتشاف كم المعلومات التي لديَّ. لكني لست في حاجة إلى اعتراف منك. العلم والتكنولوجيا يؤيداني. وفي النهاية ستظهر الحقيقة.»

قالت فرانشيسكا بلا مبالاة: «أشك في ذلك.» قفزت من على الصندوق. وتابعت: «لطالما تراوغ الحقيقة من يبحثون عنها.» ثم ابتسمت. وقالت: «والآن لنذهب للبحث عن البروفيسور.»

•••

على الجانب الغربي من الساحة المركزية وجدت المرأتان بناية أخرى فريدة. كانت تبدو من بعيد مخزنًا ضخمًا. وبلا ريب كان يبلغ ارتفاع قمة سقفها الأسود أربعين مترًا فوق الأرض، ويبلغ طولها أكثر من مائة متر. وكانت هناك سمتان بارزتان تميزان هذا المخزن. أولهما هو أن طرفَي المخزن كانا مفتوحين. وثانيهما أن كل الجدران والأسقف كانت شفافة من «الداخل» مع أنه لا يمكن اختراقهما بالنظر من الخارج. وتناوبت كلتاهما الأدوار لإثبات أن هذا ليس خداعًا بصريًّا. فالمرء بداخل المخزن يستطيع أن يرى في كل الاتجاهات فيما عدا أسفله. في حقيقة الأمر، كانت ناطحات السحاب العاكسة المتاخمة متراصَّة بدقة؛ من ثَم كانت كل الشوارع القريبة مرئية من داخل البناية.

قالت فرانشيسكا وهي تصور نيكول وهي تقف إلى جوار الجانب الآخر من الجدار: «مذهل.»

قالت نيكول وهي تقترب من المنعطف: «لقد أخبرني دكتور تاكاجيشي أنه من المستحيل أن يعتقد المرء أن نيويورك بلا مغزًى. وماذا عن باقي راما؟ فربما لا مغزى وراءها. لكن يستحيل أن يقضي أحد كل هذا الوقت ويبذل كل هذا المجهود بلا سبب معين.»

قالت فرانشيسكا: «أنت تبدين متدينة تقريبًا.»

حملقت نيكول بهدوء في رفيقتها الإيطالية. وقالت لنفسها: «هي تحاول الآن أن تتعمد مضايقتي. إنها لا تعبأ بحق بما أفكر. وربما لا تعبأ أيضًا بتفكير أي أحد البتة.»

قالت فرانشيسكا بعد برهة من الصمت: «مهلًا. انظري إلى هذا.» وكانت فرانشيسكا قد خطت خطوات معدودة إلى داخل المخزن وكانت تشير إلى الأرض. دنت نيكول بالقرب منها. وكان هناك أمام فرانشيسكا تجويف ضيق على شكل مستطيل محفور في الأرض. وكان يبلغ طوله نحو خمسة أمتار وعرضه مترًا ونصفًا، وقد كان عميقًا للغاية، فقد يصل عمقه إلى ثمانية أمتار. وكان معظم القاع مظلمًا. وكانت جدرانه تسير في خطوط مستقيمة لأعلى ولأسفل، دون أي آثار لانبعاجات.

قالت فرانشيسكا: «ثمة واحد آخر هناك، وآخر هناك …»

كان إجمالي عدد التجويفات تسعة، وجميعها مصمَّمة بنفس الطريقة بالضبط ومنتشرة في أنحاء النصف الجنوبي للمخزن. أما في النصف الشمالي، فقد كان هناك تسع كرات صغيرة معلقة على السطح في ترتيب شديد الدقة من حيث الأبعاد. ووجدت نيكول نفسها تتوق إلى مُفسِّر من نوع ما؛ مرشد يقودها في تفسير المغزى من وراء كل هذه الأشياء أو الهدف منها. لقد بدأت تشعر بأنها مشوشة الفكر.

وكانتا قد قطعتا بالفعل المخزن بطوله تقريبًا عندما سمعتا صوت إشارة طوارئ ضعيفًا قادمًا من جهاز لاسلكي كل واحدة منهما. صاحت نيكول بصوت عالٍ وهي تندفع بعجالة من أحد الطرفين المفتوحين للبناية: «قطعًا عثروا على دكتور تاكاجيشي.» وما إن خرجت من تحت سقف المخزن حتى كاد صوت إشارة الطوارئ يمزق طبلة أذنها. فردَّت عبر جهاز اللاسلكي: «حسنًا. حسنًا. يمكننا سماعك؟ ما الذي يحدث؟»

سمعت ريتشارد ويكفيلد يقول: «نحاول الاتصال بكما منذ ما يزيد عن دقيقتين. أين كنتما بحق الجحيم؟ لقد استخدمت إشارة الطوارئ لأنها أقوى فحسب.»

ردَّت فرانشيسكا من خلف نيكول: «لقد كنا بداخل المخزن المذهل. إنه أشبه بعالم سريالي، ذات مرايا أحادية الانعكاس وانعكاسات غريبة …»

قاطعها ريتشارد قائلًا: «عظيم، لكن ليس هناك وقت للمسامرة. عليكما أيتها السيدتان أن تسيرا في الحال نحو أقرب بقعة من البحر الأسطواني. ستأتي الهليكوبتر لتُقلَّكما في غضون عشر دقائق. وسوف نأتي إلى نيويورك نفسها إذا كان هناك مكان للهبوط.»

«لماذا؟» سألته نيكول. وأردفت: «لمَ هذه العجلة المباغتة؟»

«أيمكنكما أن تريا القطب الجنوبي من مكانكما؟»

«لا. فثَمة كثير من المباني الشاهقة تعترض رؤيتنا.»

«ثَمة شيء غريب يحدث حول القرون الصغيرة. حيث تقفز أقواس ضخمة من البرق من برج إلى آخر. إنه مشهد مثير للغاية. وكلنا يشعر أن ثمة شيئًا غير عادي يوشك أن يحدث.» تردد ريتشارد لحظة. ثم تابع قائلًا: «عليكما أن تتركا نيويورك في التو واللحظة.»

أجابته نيكول: «حسنًا. نحن في طريقنا.»

ثم أطفأت جهاز اللاسلكي والتفتت إلى فرانشيسكا. وقالت: «ألاحظتِ كم ارتفع صوت إشارة الطوارئ ما إن خرجنا من المخزن؟» أخذت نيكول تفكر لبضع لحظات. ثم قالت: «إن المادة في جدران هذا المبنى وسقفه قطعًا تحجب إشارات الإرسال.» انفرجت أسارير وجهها. وتابعت: «هذا يفسر ما حدث لتاكاجيشي … قطعًا هو موجود بداخل مخزن أو شيء أشبه بهذا.»

لم تكن فرانشيسكا تتابع حبل أفكار نيكول. «وماذا في ذلك؟» قالتها وهي تلتقط صورة أخيرة شاملة الرؤية للمخزن بكاميرا الفيديو. وأردفت: «هذا لا يهم الآن. علينا أن نُهرع كي نلحق بالطائرة.»

واصلت نيكول في حماسة: «لعله في أحد هذه التجاويف. بالتأكيد. لعل الأمر كذلك؛ كان يستكشف في الظلام. ثم سقط في …» قطعت حديثها ثم قالت لفرانشيسكا: «انتظري هنا. سأعود بعد دقيقة واحدة فحسب.»

اندفعت نيكول مسرعة إلى داخل المخزن، وانحنت بجانب أحد التجاويف. تشبثت نيكول بأحد جوانبه بإحدى يديها، وسلطت مصباحها الضوئي على قاعه. كان يوجد شيء هناك! انتظرت بضع لحظات حتى تستطيع عيناها أن تركز. كان هناك كومة من مادة ما. ثم هرولت إلى التجويف التالي. صاحت: «دكتور تاكاجيشي.» وهتفت باللغة اليابانية: «أأنت هنا يا شيج؟»

صاحت فرانشيسكا في نيكول من عند طرف المخزن: «هيا! دعينا نذهب. لقد كان ريتشارد جادًّا للغاية.»

عندما وصلت نيكول إلى التجويف الرابع، جعلت الظلال رؤية القاع عسرة للغاية حتى مع وجود الضوء الخارج من مصباحها. وكادت أن تميز بعض الأشياء، ولكن ما عسى أن تكون هذه الأشياء؟ ثم استلقت على بطنها وزحفت قليلًا نحو التجويف من زاوية مختلفة كي تحاول أن تتأكد من أن هذه الكتلة غير الواضحة المعالم ليست جسد صاحبها.

أخذت الأضواء في راما تنطفئ وتضيء. أما بداخل المخزن فقد كانت المؤثرات البصرية مفزعة. بل مشوشة للغاية. نظرت نيكول أعلى منها كي ترى ماذا يحدث ففقدت توازنها. انزلق معظم جسدها إلى داخل التجويف. فضغطت يديها على الحائط المقابلة بداخل التجويف كي تسند جسدها وهي تصرخ قائلة: «فرانشيسكا. فرانشيسكا، انجديني.»

انتظرت نيكول لما يقرب من دقيقة حتى خلصت إلى أن الرائدة فرانشيسكا حتمًا قد تركت منطقة المخزن. أخذَت ذراعاها تفقدان القدرة على التحمل بسرعة. ولم يكن يستند بأمان على أرضية المخزن سوى قدميها وأطراف ساقيها. وكانت رأسها بجانب أحد جدران التجويف على بعد ما يقرب من ثمانين سنتيمترًا أسفل مستوى أرضية المخزن. أما باقي جسدها فقد كان معلقًا في الهواء، ولا يمنعه من السقوط سوى ضغط يديها الشديد على الحائط.

واصَل الضوء انقطاعه ومجيئه على فترات زمنية قصيرة. رفعت نيكول رأسها لترى هل بإمكانها أن تصل إلى قمة التجويف باستخدام أحد ذراعيها، وأن تحتفظ بوضعها آمنًا بمعاونة ذراعها الأخرى. لكن وضعها كان ميئوسًا منه. فقد كانت رأسها على عمق بعيد داخل التجويف. وانتظرت بضع ثوانٍ أخرى، لكن كلما حل التعب بذراعيها استفحل يأسها. أخيرًا قامت نيكول بمحاولة أخرى كي ترتفع بجسدها لأعلى، ولكي تمسك بحافة التجويف في حركة واحدة. وكادت أن تنجح. غير أن ذراعيها لم تستطيعا أن توقفا قوة دفعها لأسفل عندما سقطت. ولحقت قدماها بجسدها إلى داخل التجويف وارتطم رأسها بالجدران. وسقطت نيكول إلى قاع التجويف فاقدة الوعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤