الفصل السابع والثلاثون

وحيدة في مكان مهجور

أول ما استيقظت نيكول كانت مترنحة، وعانت صعوبة بالغة في التركيز أو التفكير. كانت تشعر بآلام مبرحة في رأسها وظهرها ورجليها. لم تدرك ما قد حل بها. واستطاعت بشق الأنفس أن تعثر على قارورة الماء الخاصة بها وأخذت منها رشفة. قالت نيكول لنفسها وهي تغوص مرة أخرى في النوم: «حتمًا أُصبت بارتجاج في المخ.»

وعندما استيقظت ثانية كان المكان حالك السواد. لكن لم يعد ذهنها مشوشًا هذه المرة. لقد أدركت أين كانت. لقد تذكرت البحث عن تاكاجيشي والانزلاق في التجويف. وتذكرت أيضًا نداءها لفرانشيسكا والسقطة المؤلمة والمروعة. وعلى الفور نزعت جهاز الاتصال من حزام بذلتها.

قالت وهي تنتصب بتؤدة: «مرحبًا، فريق نيوتن. معكم الرائدة نيكول. حسنًا، أنا متوعكة، قد تكون هذه الكلمة المناسبة لوصف حالتي. لقد سقطت في حفرة وصُدمت بشدة. فرانشيسكا ساباتيني تعرف أين أنا …»

توقفت نيكول عن نجواها وانتظرت. لم يأتِها ردٌّ عبر جهاز الاستقبال. ضخمت نيكول قوة الصوت، لكنها لم تنجح إلا في التقاط بعض الإشارات المشوشة الغريبة. وجال بخاطرها: «لقد حلَّ الظلام بالفعل، وكان الضوء موجودًا منذ ساعتين فحسب على الأكثر …» علمت نيكول أن فترة الضوء داخل راما قد استمرت لما يقرب من ثلاثين ساعة. هل كانت فاقدة الوعي طيلة هذه المدة؟ أم إن راما فعلت شيئًا غير متوقع مجددًا؟ نظرت في ساعة يدها، التي بينت لها الوقت المنقضي منذ بداية الرحلة الثانية، وأجرت بعض الحسابات بسرعة. ثم قالت: «لقد مكثت هنا اثنتين وثلاثين ساعة. لِمَ لمْ يأتِ أحدهم؟»

تذكرت نيكول الدقائق الأخيرة التي سبقت سقوطها. لقد تحدثا إلى ويكفيلد، ثم اندفعت هي لتتفقد التجاويف. لقد كان ريتشارد يتتبع خط سيرهما عندما كانا في هذا المكان المفتوح من اتجاهين، وفرانشيسكا تعلم بالضبط …

هل وقع مكروه لكل أفراد الطاقم؟ وإن لم يكن كذلك، فلمَ لمْ يعثر عليها أحد؟ ابتسمت نيكول لنفسها وهي تقاوم الهلع الذي بدأ يتسلل إلى قلبها. وبررت ذلك: «بالطبع وجدوني لكنني كنت فاقدة الوعي؛ لذا قرروا …» رن صوت آخر في ذهنها ليخبرها أنها تفكر بطريقة غير منطقية. فتحت أي ظرف من الظروف، كانت ستُنقذ من التجويف إذا كانوا قد عثروا عليها.

ارتعدت فرائص نيكول لا إراديًّا بسبب الهلع الذي اجتاحها عندما فكرت لبرهة أنه من المحتمل ألا يُعثر عليها ﻟ «الأبد». فأجبرت نفسها على أن تغير المواضيع التي تفكر فيها، وأخذت في تقييم الضرر البدني الذي لحق بها أثناء سقوطها. فأخذت تمرر أصابعها بحذر على كل أجزاء جمجمتها. كان هناك العديد من الكدمات، بما فيها كدمة كبيرة في مؤخرة رأسها. فخمنت: «حتمًا هذه الكدمة هي المسئولة عن حدوث الارتجاج.» لكن لم يكن هناك أي كسور في الجمجمة، أما النزيف القليل فقد توقف منذ بضع ساعات.

وتفحصت ذراعيها ورجليها ثم ظهرها. كان هناك رضوض وكدمات في كل أنحاء جسدها، ولكنها نجت بأعجوبة من أي كسور في العظام. أما الألم الحاد الذي ينتابها تحت عنقها مباشرة على فترات متقطعة، فكان يشير إما إلى حدوث تهشم جزئي في واحدة من فقرات عمودها الفقري، وإما أن بعض الأعصاب منضغطة بشدة. فيما عدا ذلك ستتعافى. وكان لاكتشاف أن جسدها قد نجا، وتقريبًا لم يُمس، أثره في رفع معنوياتها مؤقتًا.

بعدها تفقدت نيكول مكانها الجديد. لقد سقطت في وسط تجويف مستطيل الشكل عميق ولكن ضيق. كانت المسافة بين طرفَيه ست خطوات طولًا وخطوة ونصفًا عرضًا. وباستخدام مصباحها الضوئي وذراعها قدرت أن عمق التجويف يبلغ نحو ثمانية أمتار ونصف.

ولم يكن في التجويف سوى مجموعة مختلطة من القطع المعدنية الصغيرة، تتراوح أطوالها ما بين خمسة وخمسة عشر سنتيمترًا، مكومة عند أحد أطرافه. فحصتها نيكول بعناية باستخدام الضوء المنبعث من مصباحها. إجمالي عددها يزيد عن المائة، من اثني عشر نوعًا مختلفًا تقريبًا. وبعضها طويل ومستقيم، وبعضها الآخر مُنحنٍ، وقليل منها مَفصِلي، ذكرتها هذه الكومة بالنفاية الصناعية لأحد مصانع الفولاذ الحديثة.

كانت جدران التجويف مستقيمة تمامًا. وبدا ملمس المادة المصنوع منها الجدران لنيكول كخليط من المعدن والصخر. وكانت باردة، بل شديدة البرودة. ولم يكن هناك أي اعوجاج أو ثنايا يمكن استخدامها كموطئ للقدم، أو أي شيء من مثل هذا يمكن أن يوطد عزيمتها على تسلق الحائط. فحاولت أن تكسر في الحائط أو تكشط سطحه باستخدام أدواتها الطبية. لكنها عجزت عن إحداث أي علامة.

وبعد أن وهنت عزيمتها بسبب الإنشاء المحكم لجدران التجويف، رجعت نحو كومة المعادن كي ترى هل هناك طريقة يمكن أن تجمع بها سلمًا أو سقالة، كدعامة ترفعها إلى النقطة التي تتمكن عندها من التسلق للخارج باستخدام قوتها الخاصة. لكن الكومة لم تكن مشجعة. فقد كانت قطع المعادن صغيرة للغاية ورفيعة. وبحسبة عقلية بسيطة استنتجت أنه لا توجد كتلة كافية لحمل وزنها.

ازدادت نيكول إحباطًا عندما تناولت وجبة خفيفة. تذكرت أنها قد أحضرت قليلًا من الطعام والشراب لأنها أرادت أن تحمل مزيدًا من المؤن الطبية لتاكاجيشي. حتى وإن قننت استخدامها من الماء والطعام، فإن الماء لن يكفي سوى يوم واحد، والطعام لن يكفي لفترة تتجاوز الست والثلاثين ساعة.

أضاءت مصباحها الضوئي إلى أعلى مباشرة. فارتد شعاع الضوء من سقف المخزن. وبالتفكير في المخزن، تذكرت مرة أخرى الأحداث التي سبقت سقوطها. لقد تذكرت نيكول تضخم إشارة الطوارئ، ما إن خرجت من المبنى. فقالت لنفسها في يأس: «حسنًا. من المرجح أن هذا المخزن منطقة عازلة لإشارات اللاسلكي من الداخل. إذن لا عجب في أن أحدًا لم يسمعني.»

•••

استغرقت نيكول في سُبات لما لم تجد شيئًا آخر تفعله. وبعد مرور ثماني ساعات، استيقظت مع بدء أحد الأحلام المفزعة. كانت تجلس مع والدها وابنتها في أحد المطاعم الريفية بفرنسا. كان يومًا ربيعيًّا رائعًا؛ رأت الزهور في الحديقة المتاخمة للمطعم. وعندما جاء النادل وضع أمام جينيفيف طبقًا به لحم حلزون مغطًّى بالأعشاب والزبد. وأعطى بيير طبقًا كبيرًا به دجاج مطهو في مرق فطر عيش الغراب والنبيذ. ابتسم النادل ثم غادر. وقبل أن يغادر مال على نيكول بتؤدة وأخبرها أنه لا يوجد شيء «لها» …

لم تتضور نيكول جوعًا من قبل. وحتى في أثناء احتفال البورو بعدما استولت الأشبال على طعامها، لم تشعر نيكول بالجوع الشديد. وقالت نيكول لنفسها قبل أن تنام إنها سوف تقنن استخدام الطعام المتبقي بحوزتها، لكن هذا كان قبل أن تقهرها آلام الجوع. والآن اندفعت نيكول إلى عبوات الطعام بيدين مرتجفتين، وكادت أن تلتهم كل الطعام المتبقي لولا أنها منعت نفسها. ولفت الكم الضئيل المتبقي ووضعته في أحد جيوبها، ثم دفنت وجهها بين يديها. ولأول مرة منذ سقوطها تركت نيكول نفسها تجهش في البكاء.

وقد أقرَّت أيضًا أن التضور جوعًا حتى الموت هو بحقٍّ طريقة مروعة للموت. وحاولت نيكول أن تتخيل حالها، إذا ما هزلت من شدة الجوع ثم ماتت في النهاية. هل ستحدث هذه العملية بالتدريج، كل مرحلة متعاقبة أكثر فظاعة من المرحلة التي قبلها؟ عندئذٍ قالت نيكول بصوت مرتفع عندما خابت كل آمالها: «إذن ليحدث ذلك في أسرع وقت.» وكانت ساعة يدها الرقمية تتوهج في الظلام، وتُحصي الدقائق الأخيرة الثمينة من حياتها.

مرت عدة ساعات. وازدادت نيكول هزالًا ويأسًا. وجلست مطأطأة الرأس في ركن بارد من التجويف. كما لو كانت مشرفة على أن تستسلم تمامًا وتقبل حتمية موتها، حينئذٍ جاء صوت مغاير من داخلها، صوت قاطع ومتفائل يرفض أن يتركها تستسلم. أخبرها هذا الصوت أن «أي» لحظة من لحظات الحياة ثمينة للغاية ورائعة، وأن تمتع الإنسان بوعيه فقط لهو معجزة مبهرة من معجزات الوجود. أخذت نيكول نفسًا بطيئًا وعميقًا ثم فتحت عينيها. وقالت: «إن كان عليَّ أن أموت هنا، على الأقل لأفعل هذا بحماسة.» وعزمت على أن تقضي الوقت الباقي، أيًّا كان مقداره، وهي تركز تفكيرها في اللحظات البارزة في سنوات حياتها الستة والثلاثين.

احتفظت نيكول بأمل ضئيل في النجاة. لكنها لطالما كانت امرأة عملية؛ لذا أخبرها المنطق أن المتبقي من عمرها قد يُحسب بالساعات على الأرجح. وفي غضون رحلتها المتأنية عبر ذكرياتها النفيسة، أجهشت نيكول في البكاء مرات عديدة دون أن تمنع نفسها، كانت دموعها حينًا هي دموع فرحة بسبب الماضي الذي استعادته إلى ذهنها، وحينًا آخر دموع فرحة وحزن في آن واحد؛ إذ كانت تعلم وهي تعيش كل ذكرى من جديد أنه ربما تكون هذه هي آخر زيارة لهذا الجزء بعينه من بنك ذكرياتها.

ولم يكن هناك نمط معين تتبعه في جولتها عبر دروب الحياة التي عاشتها. فهي لم تصنف ذكرياتها أو تَقِسها أو تُضاهِ بين تجاربها. فما حدث هو أنها عاشت من جديد ذكرياتها التي تواردت على ذهنها، وعمل وعيها المتزايد على تغيير وإثراء كل حدث قديم.

شغلت والدة نيكول مكانة خاصة في ذاكرتها. نظرًا لأنها توفيت عندما كانت في العاشرة من عمرها فحسب، نسبت إلى والدتها جميع الخصال المنسوبة لملكة أو إلهة. وكانت أناوي تياسو امرأة أفريقية شديدة السواد تتمتع بجمال فائق وبهاء ملكي ومكانة غير عادية. وكانت كل الصور التي تحتفظ بها نيكول في مخيلتها عنها يغمرها ضوء متوهج ومبهج.

وتذكرت والدتها في غرفة المعيشة بمنزلهم بشيلي-مازران، وهي تشير لها كي تأتي وتجلس على حجرها. وكانت أناوي تقرأ لابنتها كل ليلة كتابًا قبيل نومها. وكانت معظم هذه الكتب تحكي قصصًا خيالية عن أمراء وقلاع وأناس سعداء رائعين يقهرون كل الصعاب. كان صوت والدتها عذبًا ورقيقًا. وكانت تغني لها التهويدات وهي تدخل في النوم رويدًا رويدًا.

وكانت أيام الآحاد أيامًا مميزةً في طفولتها. ففي الربيع تذهبان إلى الحديقة وتلعبان في حقول العشب الفسيحة. وكانت والدتها تعلمها الركض. ولم ترَ الصبية الصغيرة في حياتها شيئًا يضاهي جمال والدتها وهي تركض برشاقة عبر المروج الخضراء؛ إذ كانت في شبابها من النساء المصنفات دوليًّا في العدو.

وبلا ريب، تذكرت نيكول جيدًا تفاصيل رحلتها كافةً مع أناوي إلى ساحل العاج لحضور احتفالات البورو. كانت والدتها تؤازرها في الليالي التي سبقت طقس العبور في نيدوجو. وفي غضون هذه الليالي الطويلة المرعبة، تصارعت نيكول الصغيرة مع مخاوفها كافة. وفي كل يوم كانت والدتها تجيب بهدوء وحلم عن أسئلتها، كما كانت تذكرها أن فتيات كثيرات جدًّا قد اجتزن هذا الطقس الانتقالي دون التعرض لصعوبة تُذكَر.

وكانت أكثر ذكرى محبَّبة إلى نفس نيكول في الرحلة هي ذكرى ما حدث في غرفة الفندق في أبيدجان، في الليلة التي سبقت عودتهما إلى باريس. فلم تخض الاثنتان في مناقشة تفاصيل أي شيء يخص البورو سوى نذر يسير من الوقت خلال الثلاثين ساعة المنقضية منذ أن أنهت هي وبقية الصبايا المراسم. فلم تكن أناوي قد أثنت بعد على اجتيازها للبورو. وكان أوميه وشيوخ القرية أخبروا نيكول بأنها كانت مميزة، لكن بالنسبة لصبية في السابعة من عمرها، لم يكن ثناء أمها يعادله في أهميته أي ثناء آخر. واستجمعت نيكول شجاعتها قبيل وقت العشاء مباشرة.

تساءلت الفتاة الصغيرة بنبرة مترددة: «هل أبليت بلاءً حسنًا، يا والدتي؟ أعني في البورو.»

أجهشت أناوي في البكاء. وكررت جملة ابنتها: «هل أبليت بلاءً حسنًا؟ هل أبليت بلاءً حسنًا؟» ثم طوقت ابنتها بذراعيها الرشيقتين ورفعتها من الأرض. وحملتها فوق مستوى رأسها وقالت: «حبيبتي. أنا فخورة بك جدًّا حتى إنني لا أستطيع أن أصدق نفسي.» قفزت نيكول بين ذراعَي أمها وتعانقتا وضحكتا وبكتا لمدة خمس عشرة دقيقة.

•••

استلقت نيكول على ظهرها في قاع التجويف، وكانت دموع الذكريات تنهمر على خديها وتصل إلى أذنيها. ولمدة ساعة تقريبًا كانت تفكر في ابنتها، بدءًا من يوم مولدها ومرورًا بكل الأحداث الرئيسية في حياة جينيفيف. وتذكرت نيكول العطلة التي قضتها معها في أمريكا قبل ثلاثة أعوام عندما كانت جينيفيف في الحادية عشرة من عمرها. كم كانتا قريبتين خلال هذه الرحلة، ولا سيما في اليوم الذي تنزهتا معًا على قدميهما في طريق ساوز كيباب في الجراند كانيون.

وكانت نيكول وجينيفيف تقفان عند كل علامة إرشادية في هذا الطريق، متأملتين آثار مليارَي عام على كوكب الأرض. وقد تناولتا الغداء على سطح صخرة شاطئية مطلة على الصحراء المتيبسة لهضبة تونتو. وفي هذه الليلة بسطت الأم وابنتها الفراشين اللذين سينامان عليهما جنبًا إلى جنب بجوار نهر كولورادو العظيم مباشرة. وطوال الليل تبادلتا أطراف الحديث وتشاركتا الأحلام وأمسكتا إحداهما بيد الأخرى.

غاصت نيكول في ذكرياتها أكثر، فبدأت تتذكر والدها، وقالت في نفسها: «لولا أنت ما كنت سأذهب إلى تلك الرحلة. أنت من كان يعلم أن هذا هو الوقت المناسب للذهاب.» كان والد نيكول هو حجر الزاوية في حياتها. لقد كان بيير دي جاردان بالنسبة لها الصديق، والشخص الذي تعترف له بأسرارها كافة، والصحبة الفكرية، وأكثر معضديها المتقدين حماسة. لقد كان حاضرًا وقت ولادتها، وحاضرًا أيضًا في كل اللحظات المهمة في حياتها. وكان هو أكثر من تتوق إلي وجوده وهي ترقد في قاع التجويف داخل راما. وهو من اختارته كي يكون آخر من تتحدث معه قبل أن تموت.

لم تختفِ من ذاكرتها أي ذكرى لها مع والدها، ولم تحتَجْ، مثل باقي الذكريات الأخرى، لأن تعصر ذهنها كي تتذكرها. كانت نيكول تحتفظ في ذهنها بفيلم دقيق يصور كل أحداث حياتها مع بيير. ومع أن السعادة كانت سمتها فإنها لم تخلُ أيضًا من الأحزان. فعلى سبيل المثال، تذكرت بوضوح وهما في غابات السافانا التي لا تبعد كثيرًا عن نيدوجو، أحدهما يمسك يدَي الآخر في هدوء وهما يبكيان، بينما كانت ألسنة النيران التي تلتهم جسد أناوي ترتفع وسط عباب ظلام أفريقيا. وما زالت أيضًا تستطيع أن تشعر بذراعيه وهما يحيطان بجسدها، في حين كانت تتشنج بشدة من فرط البكاء عقب فشلها، وهي في الخامسة عشر من عمرها في الفوز بالمسابقة التي أُجريت على مستوى فرنسا بأسرها لأداء دور جان دارك.

وقد عاشا معًا في بوفوا، كرفيقين من المستبعَد أن يمكثا معًا لمدة طويلة، بعد مرور عام على موت والدتها حتى أنهت عامها الثالث من الدراسة بجامعة تور. وقد عاشا حياة سعيدة بكل ما تحملها الكلمة من معانٍ. فبعدما تعود بدراجتها من المدرسة كانت تجول عبر الغابات حول الفيلا التي يقطنان فيها. وكان بيير يجلس في مكتبه يكتب رواياته. وفي المساء تدق مارجريت الجرس وتدعوهما لتناول العشاء؛ إذ ينتهي يوم عملها عندئذٍ وتركب دراجتها عائدة إلى زوجها وأطفالها في لوين.

وفي أثناء فصول الصيف، كانت نيكول تسافر مع والدها في رحلة يطوفان فيها كل أنحاء أوروبا، حيث تزور مدن العصور الوسطى والقلاع التي كانت مسرح الأحداث الرئيسي لرواياته التاريخية. وقد عرفت نيكول عن إليانور دي أكيتان وزوجها الملك هنري بلانتاجينت أكثر مما عرفت حول زعماء السياسة النشطاء في فرنسا وغرب أوروبا. وعندما حاز بيير جائزة ماري رينو للأدب القصصي التاريخي عام ٢١٨١، ذهبت معه لباريس لتسلم الجائزة. جلست نيكول في الصف الأول في القاعة الكبيرة، مرتديةً تنورة بيضاء وبلوزة أنيقة كان بيير قد ساعدها في اختياريهما، ثم استمعت إلى المتحدث وهو يُثني على مناقب والدها.

ولا تزال نيكول تستطيع أن تتلو عن ظهر قلب أجزاءً من خطاب قبول والدها للجائزة. قال والدها بالقرب من نهاية خطابه: «وكثيرًا ما أُسأل، هل نلت أي قدر من الحكمة وأود أن أشارك به أجيال المستقبل.» فنظر عندئذٍ لنيكول مباشرة وهي جالسة بين الجمهور. وقال: «إلى ابنتي الغالية نيكول، وإلى كل شباب العالم بأسره، أقدم نصيحة واحدة بسيطة متبصرة. لقد اكتشفت في حياتي شيئين لا يُقدَّران بثمن، وهما التعلم والحب. ولا شيء سواهما، لا الشهرة، ولا السلطة، ولا الإنجاز لمجرد الإنجاز، يتمتع بقيمتهما الدائمة. لأنه عندما تنتهي حياتك، تستطيع أن تقول «لقد تعلمت»، «ولقد أحببت»، عندئذٍ يمكنك أن تقول أيضًا «لقد كنت سعيدًا».»

قالت نيكول والدموع الغزيرة تنهمر على خدها: «لقد كنت سعيدة، بسببك أنت في المقام الأول. أنت لم تخذلني قط. حتى في أصعب لحظات حياتي.» واتجهت ذاكرتها بعد ذلك إلى صيف عام ٢١٨٤، عندما تسارع إيقاع حياتها بهذا المعدل المذهل، حتى إنها فقدت القدرة على التحكم في توجيه دفة حياتها. ففي فترة لم تتجاوز ستة أسابيع فازت نيكول بميدالية أوليمبية ذهبية وأقامت علاقة قصيرة وحارَّة مع أمير ويلز، ورجعت إلى فرنسا لتخبر أباها أنها حامل.

واستطاعت نيكول أن تتذكر الأحداث الرئيسية في هذه الفترة كما لو كانت قد حدثت البارحة. فلم تجتَزْ نيكول بكم مشاعر في حياتها يمكن أن يُضاهى بالبهجة والسعادة اللتين عايشتهما عندما كانت واقفة على منصة الفوز في لوس أنجلوس، والميدالية الذهبية تطوق عنقها، وهتاف تشجيع مائة ألف إنسان يدوي في أذنيها. لقد كانت أسعد لحظات حياتها. ولمدة أسبوع تقريبًا، كانت نجمة الإعلام العالمي. تصدرت أخبارها الصفحة الأولى في جميع الصحف، وسُلطت عليها الأضواء في كل المحطات الرياضية الرئيسية.

وبعد آخر مقابلة أُجريت معها في الاستوديو التلفزيوني المتاخم للاستاد الذي تجري فيه الألعاب الأوليمبية، جاء شاب إنجليزي ذو ابتسامة ساحرة وقدم نفسه على أنه دارين هيجينز وأعطاها بطاقة. تحوي هذه البطاقة دعوة مكتوبة بخط اليد للعشاء مع أمير ويلز نفسه، الرجل الذي سوف يصبح فيما بعدُ ملك بريطانيا العظمى هنري السادس.

أخذت نيكول تتذكر، إذ نسيت، إلى حين، وضعها المأسوي الحالي في راما وقالت: «كان العشاء كالسحر.» وأردفت: «كان الأمير بهيَّ الطلعة. وكان اليومان التاليان رائعين بدرجة مذهلة.» لكن بعد مرور تسع وثلاثين ساعة، عندما استيقظت في غرفة نوم هنري في ويستوود، انتهت قصتها الخيالية فجأة. فأميرها الذي كان لطيفًا وحنونًا للغاية، قد تحوَّل الآن إلى شخص متجهم الوجه وحاد المزاج. ولما حاولت نيكول الساذجة أن تفهم دون طائلٍ ما الخَطب، اتضح لها بالتدريج أن القصة الخيالية قد انتهت. تذكرت نيكول: «لم أكن إلا عشيقة؛ لأني كنت موضوع الساعة حينذاك فقط. لم أكن مناسبة لأي علاقة دائمة.»

ولم تستطِع نيكول أن تنسى آخر كلمات نطق بها الأمير في لوس أنجلوس. لقد كان يطوف حولها وهي تحزم أمتعتها في عجالة. ولم يستطِع أن يفهم لمَ هي ثائرة للغاية هكذا. رفضت نيكول أن تجيب أيًّا من أسئلته وقاومت محاولاته ليحضنها. فسألها أخيرًا بعدما بدا عليه الإحباط. ماذا كنت تتوقعين؟ أكنت تتوقعين أننا سنبدأ حياة سعيدة ونعيش هانئين للأبد؟ أفيقي يا نيكول، هذا هو الواقع الذي نعيشه. عليك أن تعرفي أن الشعب الإنجليزي لن يقبل البتة أن تكون ملكتهم امرأة من أصول زنجية.»

فرَّت نيكول قبل أن يرى هنري دموعها. ثم قالت نيكول لنفسها في قاع التجويف براما: «وهكذا يا عزيزتي جينيفيف، رجعت من لوس أنجلوس بكنزين جديدين. كانت لديَّ ميدالية ذهبية، وطفلة رائعة في أحشائي.» ثم قفز ذهنها بعد ذلك بسرعة إلى الأسابيع المليئة بالقلق والإحباط التي عقبت ذلك، ولحظات العزلة عندما استجمعت أخيرًا كل قُواها كي تتحدث إلى والدها.

قالت نيكول مترددةً لبيير في صباح أحد أيام شهر سبتمبر في غرفة المعيشة في فيلتهما في بوفوا: «أنا … أنا لا أعلم ماذا أفعل. أعلم أنني خذلتك بشدة — وخذلت نفسي — لكن أودُّ أن أسألك إذا كان من المناسب. أعني إذا أردت، أفيمكنني أن أمكث هنا وأحاول …»

قاطعها والدها قائلًا: «بالطبع، يا نيكول.» وقد كان يبكي بهدوء. وكان هذا الوقت الوحيد الذي شاهدته فيه نيكول يبكي منذ وفاة والدتها. واسترسل بيير: «سوف نفعل ما هو مناسب أيًّا كان»، قال هذا وهو يجذبها لحضنه.

قالت نيكول لنفسها: «كنت محظوظة للغاية. فقد كان متسامحًا للغاية. ولم يشعرني بجرمي قط. ولم يسأل عن أي شيء. وعندما أخبرته أن هنري هو والد الطفلة، وأنني لا أريد أن يعرف أحد على الإطلاق ولا سيما هنري أو الطفلة، وعدني بأنه سيكتم السر. وقد فعل.»

وفجأةً بزغ الضوء على راما، فوقفت نيكول كي تفحص سجنها في ظل الأوضاع الجديدة. وكان مركز التجويف هو المكان الوحيد المكتمل الإضاءة، أما طرفاه فقد كانا مظلمين. وكانت نيكول تشعر بالبهجة والتفاؤل بالرغم من وضعها الحالي.

رفعت نيكول عينيها إلى سقف المخزن ومن خلاله إلى سماء راما التي يعجز المرء عن وصفها. فكرت نيكول في ساعاتها الأخيرة القليلة، فانتابها باعث مفاجئ. إن نيكول لم تصلِّ طيلة عشرين عامًا، فانحنت على ركبتيها وسط بقعة الضوء المكتملة وسط التجويف. وصلَّت قائلة: «يا إلهي، أعرف أني تأخرت في هذا جدًّا، لكن أشكرك على والدي، ووالدتي وابنتي. وعلى كل معجزات الحياة.» ثم حدقت نيكول في السقف. وابتسمت وتلألأت عيناها. ثم أردفت: «والآن يا إلهي يمكنني أن أطلب منك العون.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤