الفصل الأربعون

دعوة فضائية

قالت نيكول لنفسها: «عليَّ أن أستعد للإنقاذ.» كانت قد انتهت من ملء قارورتها من السائل الأخضر الموجود بقلب شمام المن. وبعد أن قسمت ثمرة الشمام الرطب بعناية ووضعت أجزاءه في عبوات الطعام القديمة جلست في ركنها المعتاد.

«يا للعجب!» قالتها لنفسها وهي تستعيد رحلتها الذهنية الجامحة التي قامت بها بعد أن تجرعت محتويات القارورة. وأردفت: «ما الذي يعنيه كل هذا بحق السماء؟» واسترجعت نيكول الرؤية التي رأتها أثناء احتفال البورو وهي طفلة، والحوار المقتضب الذي دار بينها وبين أوميه حول هذه الرؤية بعد مرور ثلاث سنوات عندما عادت إلى نيدوجو لحضور جنازة والدتها.

سألها أوميه في أحد الأمسيات عندما كانا بمفرديهما: «أين ذهبت روناتا؟».

وأدركت نيكول على الفور عمَّ يسأل. فأجابته: «إنني تحولت إلى طائر أبيض كبير. وحلقت خلف القمر والشمس إلى حيث الفضاء الفسيح.»

قال أوميه: «نعم، لقد اعتقد أوميه ذلك أيضًا.»

وعندئذٍ سألت شخصية العالمة بداخل نيكول البالغة شخصيتها السابقة عندما كانت في العاشرة من عمرها: «ولمَ لمْ تسأليه حينذاك عما حدث لكِ؟ عندئذٍ ربما كان سيبدو بعض من هذا معقولًا.» لكن بطريقة ما، أدركت نيكول أن الرؤية لا تخضع للتحليل، وأنها موجودة في عالم لا تستطيع العمليات الاستنتاجية التي منحت العلم كل هذه القوة أن تسبر غوره. وعوضًا عن ذلك، فكرت نيكول في والدتها، وفي بهائها وهي متسربلة بردائها الأحمر الطويل المتدلي. لقد أنقذتها أناوي من النمر. قالت نيكول في نفسها: «أشكرك يا أمي.» وتمنَّت نيكول لو كان بمقدورها أن تتحدث مع والدتها لمدة أطول.

سمعت نيكول صوتًا غريبًا، كما لو كان صوت عشرات من الرُّضَّع يزحفون وهم حفاة الأقدام على أرضية من المشمع، كان الصوت قادمًا باتجاهها بالفعل. ولم يكن لدى نيكول متسع من الوقت كي تتعجب. فبعد لحظات كان رأس أم أربع وأربعين الآلي بقرونه الاستشعارية يطل من حافة التجويف الذي تجلس بداخله نيكول، ودون أن تهدئ من خطواتها بأي حال، نزلت مباشرة على الجدار في الجهة المقابلة لنيكول.

وكان إجمالي طول المخلوق الآلي أربعة أمتار. وقد نزلت لأسفل الجدار دون عناء؛ إذ وضعت كلًّا من أرجلها الستين على سطح الجدار مباشرة، وكانت تحتفظ بوضعها عن طريق الشفط من نوع أو آخر. ارتدت نيكول حقيبة ظهرها وتحيَّنت الفرصة. ولم تكن مذهولة ﺑ «الدرجة» من منظر الحشرة الآلية. وعقب ما رأته في رؤيتها، صارت متيقنة أن إنقاذها بطريقة ما بات وشيكًا.

كانت أم أربع وأربعين الآلية تتكون من خمس عشرة شريحة متصلة بمفاصل، تحوي كلٌّ منها أربعة أرجل ورأسًا أشبه برأس الحشرة، بها مجموعة من المجسات الغريبة، اثنان منها طويلان ورفيعان ويشبهان الهوائي. ويبدو أن كومة المعادن المختلطة الموضوعة في الطرف الآخر من التجويف، هي قطع غيارها. وبينما وقفت نيكول تراقبها استبدلت الحشرة الآلية ثلاثة من أرجلها، ودرعًا قرنيًّا بإحدى الشرائح، ونتوءَين على جانب رأسها. ولم تستغرق هذه العملية بأكملها أكثر من خمس دقائق. وعندما انتهت الحشرة بدأت تتسلق الجدار مرة أخرى.

قفزت نيكول على ظهر أم أربع وأربعين الآلية، عندما كان ثلاثة أرباع جسمها متجهًا إلى أعلى. وكان الثقل الجديد المفاجئ كبيرًا للغاية. ففقد المخلوق الآلي قبضته وسقط هو ونيكول في التجويف مرة أخرى. وفي غضون لحظات حاولت أن تتسلق الجدار مرة أخرى. انتظرت نيكول هذه المرة حتى يكون جسد أم أربع وأربعين بأكمله على الجدار، أملًا في أن تساعد قوة باقي الشرائح على حملها. لكن كان هذا دون طائل. فسقط كلٌّ من المخلوق الآلي ونيكول على الكومة.

أُصيبت إحدى أرجل الحشرة الأمامية إصابةً بالغة خلال السقطة الثانية؛ لذا قامت بعمل الإصلاحات اللازمة قبل محاولتها تسلق الجدار للمرة الثالثة. في تلك الأثناء أخرجت نيكول أكثر الخيوط الجراحية متانةً من حقيبتها الطبية وربطت طرف حبل طويل من ثماني عقد حول الأجزاء الثلاثة بظهر المخلوق الآلي. وقامت نيكول بعمل حلقة في الطرف الآخر من الحبل. وبعدها ارتدت قفازًا لتحمي يديها، ثم صنعت حزامًا للوسط حتى لا ينقطع الحبل، ثم ربطت الحلقة حول وسطها.

قالت نيكول في نفسها بعدما تخيلت كل العواقب التي قد تترتب على خطتها: «قد يكون هذا مدمرًا. إذا لم يثبت الحبل فسأسقط. وربما لا يحالفني الحظ في هذه المرة الثانية.»

زحفت أم أربع وأربعين في طريقها لأعلى الجدار كالمرة السابقة. وبعدما خطت بضع خطوات قليلة وصار جسمها بأكمله على الجدار، شعرت بثقل نيكول من أسفل. بيد أنها لم تسقط هذه المرة. وتمكنت الحشرة المكافحة من أن تواصل زحفها في طريقها لأعلى بتؤدة. احتفظت نيكول بوضعها عموديًّا على السطح كما لو كانت تتسلق صخرة، وأمسكت حبل الخيوط الجراحية بكلتا يديها.

وكانت نيكول تبعد نحو أربعين سنتيمترًا وراء آخر شريحة من أم أربع وأربعين وهما يتسلقان الحائط. وعندما وصل رأس الحشرة إلى قمة التجويف، كان جسد نيكول تقريبًا في منتصف المسافة للخارج. وأثناء مغادرة جسم الحشرة التجويف واصلت نيكول تسلقها بتؤدة وثبات شريحةً تلو الأخرى. غير أنه بعد بضع دقائق تباطأ تقدم نيكول على نحو ملحوظ، إلى أن توقفت تمامًا عندما تراجع عدد شرائح الحشرة المتبقية على الحائط إلى أربع شرائح. وكانت نيكول يمكنها تقريبًا أن تلمس آخر شريحة من هذه الشرائح الأربعة للحشرة إذا مدت ذراعها لأعلى. ولم يتبقَّ على الجدار من طول الحشرة سوى متر واحد تقريبًا، لكن يبدو أنها علقت. فقد كانت نيكول حملًا ثقيلًا جدًّا على المفاصل التي تربط بين الشرائح الخلفية.

ودارت سيناريوهات محبطة في ذهن نيكول وهي متدلية على ارتفاع يزيد عن ستة أمتار فوق أرضية التجويف. قالت نيكول في نفسها بتهكم وهي مسحوبة بإحكام في الحبل ورجلاها مثبتتان بإحكام على الجدار: «هذا عظيم. ثمة ثلاث عواقب متوقعة، وجميعها سيئة. إما أن ينقطع الحبل. وإما أن تسقط الحشرة. أو أظل أنا هنا معلقة للأبد.»

ووضعت نيكول نصب عينيها الاحتمالات الثلاثة. وكان التصور الوحيد ذات الاحتمالية المعقولة للنجاة — والذي لا يزال محفوفًا بالمخاطر — هو أن تتسلق الحبل حتى تصل إلى الشريحة الأخيرة، وعندئذٍ تستخدم جسد الحشرة أو أرجلها بطريقة ما كدعامات كي تشق طريقها لقمة التجويف.

نظرت نيكول لأسفل وتذكرت سقطتها الأولى. فقالت: «لسوف أنتظر أولًا لمدة قصيرة كي أرى إن كانت هذه الآلة ستتحرك مرة أخرى.» ومرت دقيقة. ثم مرت دقيقة أخرى. تنفست نيكول نفسًا عميقًا. ثم مدت يديها لأعلى على الحبل وشدت نفسها نحو الجدار. ثم عاودت الكرة بيدها الأخرى. صارت نيكول الآن خلف الشريحة الأخيرة مباشرة. شبَّت نيكول وأحكمت القبض على أحد الأرجل، لكن ما إن حاولت أن تلقي بأي ثقل على الرجل حتى انفصلت الرجل بعيدًا عن الجدار.

وقالت لنفسها بعد لحظة من الهلع: «هذه الخطة غير مجدية.» ثم عاودت الاحتفاظ بتوازنها مرة أخرى وراء الحشرة مباشرة. وفحصت جسم الحشرة بعناية بالغة مرة أخرى. فوجدت أن الدرع القرني بكل شريحة مكون من أجزاء متشابكة. فقالت لنفسها: «لعله يمكن الإمساك بأحد هذه الأجنحة المترفرفة …» أجْرت نيكول محاولتين أُوليَين كي تصعد على ظهر الحشرة. وفكرت: «لقد كانت قوة الشفط هي التي استُنفدت. والآن وبعد أن أصبح معظم جسم الحشرة في مستوى الأرض أعلى التجويف. ينبغي أن تكون قادرة على حملي.»

وقد أدركت نيكول أنه فور أن تكون على ظهر الحشرة، لن يعود هناك أي مصدر للحماية من السقوط. ولكي تجرب فكرتها، جذبت نفسها إلى أعلى الحبل وأمسكت بجناح الدرع القرني. واستطاعت أن تحكم قبضتها عليه. وعندئذٍ كانت المشكلة الوحيدة هي هل سيتحمل الجناح وزنها أم لا. حاولت نيكول أن تقيم مدى قوة تحمله وهي تمسك بالحبل في يدها الأخرى كنوع من الأمان. وحتى الآن سار كل شيء على ما يرام.

تشبثت نيكول بالجناح الموجود في الشريحة الخلفية، ثم دفعت نفسها لأعلى بحذر. ثم تركت الحبل. ولفت أرجلها حول جسم الحشرة، وأخذت تتسلق جسمها حتى وصلت إلى الجناح التالي. عندئذٍ سقطت أرجل الشريحة الأخيرة، لكن الحشرة لم تتحرك بأي حال من الأحوال.

عاودت نيكول هذه العملية مرتين ثانيتين، منتقلة من شريحة إلى أخرى. وصلت نيكول إلى القمة تقريبًا. وعندما كانت على وشك القيام بآخر خطواتها، فزعت قليلًا عندما انزلقت الحشرة لبضعة سنتيمترات داخل التجويف. تماسكت نيكول وهي تلهث، وانتظرت حتى استعادت الحشرة توازنها ثم زحفت حتى الشريحة الأولى التي كانت بمستوى الأرض. وبينما كانت تزحف بدأت الحشرة في التحرك مجددًا، عندئذٍ انقلبت نيكول على الجنب واستلقت على ظهرها على الأرض. وصرخت: «حمدًا لله.»

•••

حدقت نيكول وهي واقفة على الجدار الذي يكتنف نيويورك في مياه البحر الأسطواني المتدفقة، استغربت نيكول لمَ لمْ يكن هناك أي استجابة لاتصالاتها لطلب الإغاثة. إن الاختبار الذاتي لبيان الحالة في جهازها الخاص بالإرسال والاستقبال يشير إلى أنه يعمل جيدًا، وقد حاولت بالفعل ثلاث مرات متتالية أن تتصل بباقي أفراد الطاقم دون طائل. كانت نيكول تعي جيدًا أن أجهزة الاتصال متاحة للرواد. وكان الإخفاق في استقبال أي إجابة يعني أن أيًّا من أفراد الطاقم لا يوجد في نطاق ستة كيلومترات أو ثمانية من موقعها في الوقت الحالي، «و» أن محطة بيتا ليست قيد العمل. فكرت نيكول: «لو كانت بيتا قيد العمل، لكانوا قادرين على التحدث إليَّ من أي مكان، حتى على متن نيوتن.»

أخبرت نيكول نفسها أن أفراد الطاقم بلا ريب على متن سفينتهم يستعدون لإجراء رحلة أخرى، وأن محطة اتصالات بيتا ربما تعطلت بسبب الإعصار. بيد أن ما أزعجها بحق هو أنه قد مر خمس وأربعون ساعة على بداية ذوبان البحر الأسطواني وأكثر من تسعين ساعة على سقوطها في التجويف. فلمَ لا يبحث عنها أحدهم؟

تفحصت نيكول السماء بدقة بحثًا عن أي أمارات للهليكوبتر. وكما كان متوقعًا احتوى الغلاف الجوي على سحب. فذوبان البحر الأسطواني غير بصورة جذرية أنماطَ الطقس في راما. فارتفعت درجة الحرارة بدرجة ملحوظة. نظرت نيكول في الترمومتر وتأكدت من تقديراتها؛ فقد كانت درجة الحرارة في تلك الأثناء أربع درجات فوق نقطة التجمد.

ورجعت نيكول مرة أخرى للتفكير بشأن مكان رفقائها فعلَّلَت ذلك قائلة: «الموقف الأكثر ترجيحًا هو أنهم سيعودون قريبًا.» وأردفت: «عليَّ أن أمكث بالقرب من الجدار؛ ومن ثَم يسهل عليهم رؤيتي.» ولم تُضيع نيكول كثيرًا من الوقت في التفكير بشأن سيناريوهات أخرى هناك احتمالية قليلة لحدوثها. فكرت فقط ولفترة قصيرة في احتمال تعرض أفراد الطاقم لكارثة مروعة، وأنه لا يوجد أحد للبحث عنها. لكنها قالت لنفسها: «حتى وإن كان الأمر كذلك، فعليَّ أن أنتهج المنوال نفسه. فسوف يأتون عاجلًا أو آجلًا.»

ولكي تشغل وقتها أخذت عينة من ماء البحر واختبرتها. فوجدت بها قدرًا ضئيلًا للغاية من السموم العضوية كتلك التي وجدها رواد بعثة راما ١. ففكرت: «لعلهم جاهدوا وماتوا بينما كنت في التجويف. على أي حال، جميعهم ذهب الآن.» ونبهت نيكول نفسها أنه في حالة أي طوارئ، قد يتطلب الأمر سباحة ماهرة كي تعبر البحر دون الاستعانة بقارب. غير أنها تذكرت صور القروش الآلية وغيرها من المخلوقات البحرية التي ذكرها نورتن وطاقمه، فعدلت قليلًا عن تقييمها.

سارت نيكول على طول المتاريس لعدة ساعات. وبينما كانت تجلس في سكينة تتناول غداءها من شمام المن (وتفكر في طرق ترشيد المتبقي من الشمام، في حال لم يجرِ إنقاذها في غضون اثنتين وسبعين ساعة أخرى)، سمعت صوتًا خُيِّل لها أنه صرخة قادمة من نيويورك. فظنت على الفور أنه دكتور تاكاجيشي.

حاولت نيكول استخدام جهاز اللاسلكي مرة أخرى. لم يأتِها رد. وتفحصت السماء مجددًا بحثًا عن أي أمارات للهليكوبتر. وكانت لا تزال تتناقش مع نفسها فيما إذا كانت ستغض الطرف عن نقطة المراقبة الموجودة على الجدار أم لا عندما سمعت صرخة ثانية. ولكن هذه المرة كان يمكنها تمييز موقع الصرخة بدرجة أفضل. وحددت موقع أقرب سلم وسارت جنوبًا نحو مركز نيويورك.

ولم تكن نيكول قد أجْرت بعدُ تحديثًا لخريطة نيويورك المخزنة على الكمبيوتر الخاص بها. وبعد أن عبرت الشوارع الحلقية الشكل القريبة من الميدان المركزي، توقفت بالقرب من المجسم الثماني الأسطح وأدخلت كل اكتشافاتها الجديدة بما في ذلك المخزن ذو التجاويف وأي شيء آخر استطاعت أن تتذكره. وبعد لحظة، بينما كانت نيكول مأخوذة بجمال البناية الثمانية الأسطح الغريبة، سمعت صرخة ثالثة. لكن الصوت هذه المرة كان أقرب ما يكون إلى صرخة ذعر. لو كان هذا تاكاجيشي لكان حتمًا قد صدر عنه صوت مميز.

وسارت بتؤدة عبر الساحة المفتوحة، في محاولة للاقتراب من الصوت الذي كان لا يزال يدوي في ذهنها. وما إن وصلت نيكول إلى المباني في الجانب المقابل حتى سمعت صرخة الذعر تدوي مرة أخرى. وهذه المرة سمعت أيضًا ردًّا. واستطاعت أن تميز الأصوات. لقد كانت تبدو كصوت الطائرين اللذين زاراها حينما كانت في التجويف. صارت نيكول أكثر حذرًا. وسارت باتجاه الصوت. وبدا أنه قادم من المنطقة التي تحيط بالشبكة التي كانت قد انبهرت بها فرانشيسكا ساباتيني للغاية من قبل.

وفي أقل من دقيقتين، كانت نيكول تقف بين ناطحتَي سحاب كبيرتين تتصلان إحداهما بالأخرى عن طريق شبكة سميكة ترتفع مسافة خمسين مترًا في الهواء. وعلى ارتفاع ما يقرب من عشرين مترًا فوق الأرض، كان الطائر المغطى بطبقة القطيفة يناضل للخروج من الشرَك. لقد وقعت مخالب الطائر وأجنحته في حبال الشبكة اللزجة. وصرخ مرة أخرى عندما رأى نيكول. أما الطائر الآخر رفيقه الأكبر حجامًا الذي كان في تلك الأثناء يحلق بالقرب من قمة المباني، فقد اندفع لأسفل باتجاهها.

انكمشت نيكول مقابل واجهة أحد المباني عندما اقترب الطائر منها. وكلم نيكول بلغة غير مفهومة كما لو كان يوبخها، لكنه لم يمسها. عندئذٍ قال الطائر المغطى بطبقة القطيفة شيئًا ما، وبعد حوار قصير انسحب الطائر المغطى بطبقة المشمع إلى حافة قريبة على مسافة عشرين مترًا تقريبًا.

بعد أن هدأت نيكول من رَوعها (وثبتت إحدى عينيها على الطائر الكبير في موقعه)، سارت نحو الشبكة وتفحصتها. ولم يكن لديها هي وفرانشيسكا متسع من الوقت كي يفحصا الشبكة من قبل عندما كانا يبحثان عن تاكاجيشي؛ من ثَم كانت هذه هي المرة الأولى التي سنحت فيها الفرصة لنيكول كي تفحصها من كثب بطريقة مفصلة. كانت الشبكة مصنوعة من مادة كتلك التي تُصنع منها الحبال، ويبلغ سمكها نحو أربعة سنتيمترات، وكانت لدنة إلى حد ما. وكان هناك آلاف من نقاط التقاطع في الشبكة، بكل واحدة منها عقدة. وكان يشوب العقد قدر ضئيل من اللزوجة، ولكن ليس بالدرجة التي يمكن أن تفكر معها نيكول أن هذه الشبكة هي نوع من شباك العناكب التي تصطاد المخلوقات الطائرة.

وبينما كانت تمعن النظر في قاع الشبكة حلَّق الطائر الحر فوق رأسها وهبط بالقرب من رفيقه الواقع في الشرَك. وبعد أن احتاط الطائر الحر بشدة حتى لا يقع هو الآخر في الشرك، أخذ يهز الخيوط الفردية بمخالبه. وأخذ يشد الحبال أيضًا ويلويها بصعوبة. وعقب ذلك، خطا الطائر ذو طبقة المشمع بحذر بالغ إلى حيث رفيقه معلق، وقام بمحاولة فاشلة كي يقطع الشبكة أو يفك الحلقات التي تربط الطائر الآخر. وعندما باءت محاولاته بالفشل، خطا الطائر الضخم للخلف وحملق في نيكول.

«ماذا عساه أن يفعل؟» تساءلت نيكول في سرها. وأردفت: «أنا متيقنة من أنه يود أن يخبرني شيئًا ما …» وعندما وجد الطائر أن نيكول لم تحرك ساكنًا، أعاد بمثابرةٍ الاستعراض بأكمله. في هذه المرة اعتقدت نيكول أن المخلوق الغريب يحاول أن يخبرها أنه لا يستطيع أن يحرر صديقه. ابتسمت نيكول ولوحت بيدها. عندئذٍ قامت وهي لا تزال واقفة عند قاع الشبكة، بربط القليل من الحبال القريبة منها معًا. وعندما فكتها بعد ذلك، صرخ الطائران بصوت واحد صرخة تعبر عن استحسانهما. أعادت نيكول الكرة مرتين ثم أشارت بيدها إلى نفسها أولًا ثم إلى المخلوق المغطى بطبقة القطيفة الواقع في الشرك فوق منها.

وكان علو صوتهما يوحي بالاضطراب في الحديث، وأحيانًا ما كانا يتحدثان بنبرة موسيقية ثم عاد الطائر الأكبر إلى موقعه عند الحافة. حدقت نيكول لأعلى في الطائر المغطى بطبقة القطيفة. كان الشرك مُمسكًا بثلاث مناطق مختلفة في جسده، وقد أدى نضاله للتخلص من الشرك في كلٍّ من هذه الأماكن إلى التصاقه بشدة بالحبال اللدنة. خمنت نيكول أن الطائر حتمًا قد وقع في الشرك في غضون العاصفة الهوجاء التي عصفت الليلة الماضية وقصفت به إلى أحضان الشبكة. ولعل الحبال تداخلت نتيجة قوة الدفع الناجمة عن ارتطامه بها، وعندما انحلت الحبال وعادت فجأة إلى وضعها الطبيعي، كان الطائر الهائل الحجم قد وقع في شرك الشبكة. لم يكن من العسير تسلق الشبكة، فقد كانت مثبتة بقوة بين المبنيين، وكانت الحبال نفسها ثقيلة بما يكفي حتى إن نيكول لم تهتز كثيرًا. لكن ارتفاع عشرين مترًا فوق مستوى الأرض هو ارتفاع كبير؛ إذ يفوق ارتفاع بناية مكونة من ستة طوابق عادية؛ لذا أعادت نيكول التفكير في الأمر عندما وصلت أخيرًا إلى حيث ارتفاع الطائر الممسك في الشرك.

كانت نيكول تلهث بسبب المجهود الذي بذلته في التسلق. وارتخت بحذر بالغ أعلى الطائر كي تتأكد من أنها لم تسئ فهم أي شيء في لغة تواصلهما الغريبة. وتابعها الطائر الغريب بثبات بعينيه الزرقاوين الضخمتين.

كان أحد أجنحة الطائر مقيدًا في الشرك بإحكام بالقرب جدًّا من رأسه. حاولت نيكول أن تحرر الجناح، فربطت أولًا حبال الشبكة حول كاحليها كي تضمن عدم سقوطها. وكانت تقوم بذلك ببطء. وفي لحظة ما استنشقت نيكول نفسًا من أنفاس المخلوق القوية. قالت نيكول لنفسها: «أنا أعرف هذه الرائحة.» وعلى الفور ربطت نيكول ما بين هذه الرائحة ورائحة شمام المن الذي أكلته من قبل. فكرت نيكول قائلة: «إذن أنت تأكل من نفس الشيء؟ لكن من أين يأتي هذا الشيء؟» وتمنت لو كان بمقدورها التحدث إلى هذه المخلوقات الرائعة والغريبة.

عانت نيكول في فك العقدة الأولى. إذ إنها كانت محكمة للغاية. وكانت تخشى من أن تؤذي جناح المخلوق إذا سحبته بقوة. فمدت يدها في حقيبتها وأخرجت مشرطها القوي.

وفي التو واللحظة كان الطائر الآخر فوق منها، يثرثر بجلبة ويصرخ فيها ويرعبها حتى الموت. ولم يدعها تواصل عملها، إلى أن تحركت نيكول بعيدًا عن الشرك، وأوضحت للطائر رفيقه كيف يمكن للمشرط أن يقطع حبال الشبكة.

وبالطبع عجَّل استخدام المشرط من انتهاء عملية التحرير. وحلَّق الطائر المغطى بطبقة القطيفة في الهواء، وصدحت صرخاته الموسيقية التي تعبر عن سعادته في كل أرجاء المنطقة. وشاركه رفيقه فرحته عن طريق إطلاق صرخاته الخاصة ولعب كلاهما معًا، تمامًا مثل طائرين متحابين في الهواء فوق الشبكة. واختفيا بعدها بلحظة وهبطت نيكول من فوق الشبكة بتؤدة. سعدت نيكول بنفسها. وكانت مستعدة الآن للرجوع إلى الجدار وانتظار النجدة التي كانت متيقنة من أنها على الأبواب. وسارت نحو الشمال وهي تغني أغنية شعبية من أغاني إقليم اللوار تذكرتها من أيام صباها.

وبعد بضع دقائق، كان لدى نيكول صحبة أخرى. أو بكلمات أدق أصبح لديها مرشد. فكان كلما انعطفت نحو الطريق الخطأ أحدث الطائر المغطى بطبقة القطيفة الذي كان يحلق فوق رأسها جلبةً عظيمة. ولا تتوقف هذه الجلبة إلى أن تتحرك نيكول في الاتجاه الصحيح. فسألت نيكول نفسها: «إلى أين نحن ذاهبان؟»

وفي منطقة الميدان التي لم تكن تبعد سوى أربعين مترًا فحسب من البناية الثمانية الأسطح، هبط الطائر على أرض معدنية متوارية عن الأنظار تمامًا. ونقر بمخالبه عدة مرات ثم رفرف فوق هذه البقعة. فتحرك غطاء من نوع ما، واختفى المخلوق تحت سطح الميدان. وحلق لأعلى مرتين وقال شيئًا ما لنيكول؛ وعندئذٍ هبط تحت السطح مرة أخرى.

فهمت نيكول الرسالة التي يريد أن يوصلها إليها. وقالت لنفسها: «أعتقد أنني دُعيت لمقابلة العائلة. لنأمل فقط ألا أكون أنا وجبة العشاء.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤