فوبيا

شعور بالتحرر يُداهمني وأنا أعبر تلك البوَّابة. اللون الأخضر بسلامه يُغْويني، وصفحة النيل أو ما تبقى منها قبل أن تتآكل بفعل الفنادق والمباني المُتعددة النجوم والطوابق، تستقبلني كأنها تبتسم لي، وتتمنى لي صباحًا مُمتلئًا بالحواديت ككتابي الذي أضمُّه إلى صدري كوديعة.

دعوة لقضاء صباح لا تقطعه نوبات بكاء صغيرتي وصراخها، أو جرعات لا تنتهي من الأعمال المنزلية، تلقَّيتها من صديقتي إلى نادي جامعتها الموجود على شاطئ النيل.

أتاحت لي الدخول ببطاقة عضويتها، ثم انصرفَت لأستمتع بخلوتي الخاصة، أنا وكتابي وثالثتنا المُتعة الحلال، أرتوي منها. حتى هذا العامل بلباسه الرمادي الكالح لم يُزعجني، لعله ظنَّني من رُواد المكان المُتشابهة هيئاتُهم بفعل هيبتهم العلمية، الذين يأتون لمهماتٍ مشتركة؛ إما الانكفاء أمام شاشات الحاسوب للدراسة، أو تصحيحِ كراساتٍ حَفِظ حجمها وشكل أغلفتها الخارجية، أو لتدوين الملاحظات على الرسائل العلمية.

في النهاية، اكتفى العامل ببسمةٍ رائقة عند جلوسي، ثم راح يستكمل تنظيف الطاولات وإحكام غلق المظلَّات، أو فتحها حسب طلب القلة من رُواد النادي في هذا الوقت المُبكر.

بدأ الأمر على مهل. جاء الأول، فلملمت أشيائي، ونقلتها من الكرسي المقابل إلى المجاور. دقَّات قلبي تتسارع وتيرتُها، نظرة منه دامت لحظاتٍ ثم رحل، فانكأفتُ أنا على كتابي أُواري قلقي وتوتُّري.

دقائق مرَّت، نعِمتُ فيها بمُداعَبة نسمات الهواء الربيعية الخالية من أتربة الخماسين وغدر الموجات الحارة، أُتابع هذا الغراب الذي يستعرض هيبته وهو ينفش ريشه تحت مياه خرطوم الحديقة، أمام آخر، لعلها وليفته، غيرَ آبهٍ لتعويذات المُتشائمين.

مرةً أخرى، عادَني رعبي مع عودتهما. اثنان هذه المرة، في تأنٍّ يلتفت بعضهما لبعض، واحدةٌ تتهادى بخلاعة، ثم تمرِّغ جسدها بإغراء كمُحترفة، والآخر يُمعن النظر إليها في غرور، فيُلاحظهما ثالث فيأتي مُتحفزًا، ويقطع احتمالية الإغواء.

لحظاتٌ ثقيلة مرَّت وأنا أتخيَّل أجواء معركة قادمة، وأعدُّ نفسي لخطةٍ بديلة لإفساح المكان لهم؛ فاحتمالية القراءة على أصداء المعركة، أو إجراء هجوم دفاعي من جانبي، أمران مستبعَدان تمامًا.

خابت توقُّعاتي برحيلهم، ولكنهم تركوا معدتي فريسةً لتشنُّجاتها العصبية. متى بدأ كل هذا الخوف؟ أتساءل مستهزئةً بطولي الفارع وسنوات عمري التي تعدَّت الثلاثين، ولم تمنع ارتجافي أمام هذا المخلوق الصغير.

أُهدهد مخاوفي، وأبحث في عقلي الباطن عن سبب كل هذا الرعب بحسب التفسير الفرويدي؛ فلعله هذا الكابوس الذي أفزعني طفلةً، وهاجَمني فيه قطيع منها، وما زالت تُطاردني ذكراه حتى اليوم، ويسطو على تعاملي مع هذا الكائن، وما زال بدني يقشعرُّ من فَروها وجسدها الانسيابي.

وربما محاولات التسلل التي مارَسها هذا المخلوق مراتٍ أثناء المرحلة الابتدائية؛ حينما فُوجئنا به يتحرَّش بأقدامنا تحت مقاعد الدراسة، فتعالت صرخات بعضنا ونحن نحتمي بأسطح المقاعد، وبعضنا استغلَّ الفرصة للتفلت إلى ساحة الملعب، حتى نجح الفرَّاش في طردها، وكانت النتيجة عقابًا جماعيًّا لنا بإرسال خطابات إنذار إلى أولياء أمورنا.

أتذكَّر سخرية زوجي وابنتي حينما انتفضتُ مراتٍ عديدةً عند دخول إحداها مجال جلوسنا في الحدائق العامة أو المقاهي المفتوحة، واشتراطي على صديقة لي تمتلك إحداها ألا أدخل بيتها إلا إذا حبسَتْها في غرفتها فترةَ مُكوثي ببيتها.

لعل فوبيا النظافة عند أمي هي ما أورثني هذا الرعب، أو لعلها أحاديث برامج الحيوانات عن فصيلتها المُستأسدة التي أصَّلت فيها الغدر بحسب ظني. ألعن العلماء وأطباء النفس ونظرياتهم التي تُهاجمني اليوم، تكفيني فوبيا واحدة في هذا الصباح.

في هذه المرة كان الهجوم أكثر جرأةً؛ حيث جاءوا جماعةً وتحرَّشوا بطاولتي، يبحثون بدهاء عن صيد تحت قدميَّ المُرتعشتين، حتى أصبح المكان مَرتعًا لأصداء المُواء، فلملمتُ حقيبتي ورحلت.

أُطأطئ رأسي وأنا أُجرجر هزيمتي أمام مخاوفي، وأثناء مروري أمام الكافتيريا سمعت عاملًا يشكو لآخر قسوة البشر بصوتٍ مرتفع: «دي قطة، مش أسد، هي الناس جرى لقلوبهم إيه؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤