ذو النظارة السوداء

أخذت سيارة الأتوبيس الضخمة تخفض من سرعتها، وقال الكمساري: ركاب «سيدي عبد الرحمن» يستعدون … وبدأت حركة وقوف داخل الأتوبيس للركاب النازلين … وبينهم كان المغامرون الخمسة.

كان لكلٍّ منهم مهمة محددة في حمل الأمتعة … «محب» و«عاطف» يحملان الخيمة القماش الكبيرة … «تختخ» يحمل البطاطين والملاءات … «نوسة» تحمل أدوات المطبخ … «لوزة» تحمل الأشياء الصغيرة … ترمس المياه المثلجة، والكاميرا، وحقيبة صغيرة بها أوراق وأقلام … «زنجر» كان يحمل راديو «ترانزستور» صغيرًا …

وتوقَّفت السيارة الضخمة عند نقطة المرور … وبدأ نزول الركاب، وسرعان ما كان المغامرون الخمسة ينفِّذون الخطة الموضوعة لحمل الأمتعة … وبعد دقائقَ كانوا يقفون على الطريق وحدهم، فقد اتَّجه بقية الركاب الذين نزلوا في «سيدي عبد الرحمن» إلى الفندق الكبير الفاخر. ونظر الأصدقاء حولهم وأشار «تختخ» إلى بحيرة صغيرة من الماء تكوَّنت بين البحر والشاطئ الأزرق الجميل، وقال: ما رأيكم؟ إنه مكان لطيف لإقامة الخيمة!

واتجهوا بما يحملون إلى حيث أشار «تختخ» … كانت الشمس عالية، تُصلي الأرضَ والبحر نارًا حامية، وأخذ العرق يطفر على وجوه المغامرين وهم يسيرون ببطء إلى حيث أشار «تختخ». كانت المسافة بين محطة الأتوبيس حيث نزلوا وبين النقطة التي أشار إليها «تختخ» تزيد على كيلومتر، وتحت الأثقال التي كانوا يحملونها بدت المسافة ﻟ «لوزة» وكأنها عشرون كيلومترًا … الأرض ساخنة … الهواء ساخن … الريح تحمل إلى وجوههم وأذرعهم وأقدامهم ذرَّات الرمال القاسية تلسعهم … وفكَّرت «نوسة»: أنها بداية غير موفقة للرحلة.

ولكن «عاطف» بروحه المرحة الساخرة قال: حضرات المغامرين، لقد نسينا شيئًا مهمًّا؟

قال «محب» وهو يعوج رأسه تحت ثقل الخيمة: ما الذي نسيناه؟

عاطف: نسينا أن نحضر معنا حمالين.

لم يضحك أحد، فعاد «عاطف» يقول: إنكم لا تضحكون ولا تشجعونني، ولن أقول لكم نكتًا أخرى … تعالَ يا «زنجر» بجواري أنت، إنك الوحيد الذي يفهم النكت.

واضطُرَّ المغامرون للضحك، عندما وجدوا «زنجر» يتقدَّم فعلًا، ويمشي بجوار «عاطف»، وكأنه يريد أن يسمع نِكاته فعلًا.

وأخيرًا وصلوا إلى البقعة التي أشار إليها «تختخ»، وقالت «نوسة»: لماذا هذا المكان يا «تختخ»؟

تختخ: لقد نزل به عدد من أصدقائي، وأُعجبوا به … إنكم تعرفونهم … «أشرف» و«ياسر» و«أمين» و«ماهر» و«زكي» و«جمال».

لوزة: ولكنهم عادوا جميعًا مرضى، وبخاصة «أشرف» الذي أصيب بالتهاب عنيف في فمه.

تختخ: ذلك لأنهم لم يضعوا خطة دقيقة لرحلتهم … ولكني وضعت الخطة ولم أنسَ شيئًا.

عاطف: لقد نسيت شيئًا واحدًا … هو أن الدنيا حرٌّ جدًّا!

وألقى الأصدقاء بما يحملون على الرمال الناعمة … ثم بدءوا في دقِّ أوتاد الخيمة، وبعد ساعة كانت الخيمة مُجهَّزة، ودخل الأصدقاء إليها يُرتِّبون كل شيء؛ البطاطين على الأرض، المفارش … «نوسة» اختارت جانبًا بجوار الخيمة ووضعت أدوات الطعام … وأخذت «لوزة» تسوِّي الرمال هنا وهناك وأسرعت بإحضار بعض المياه من البحيرة الصغيرة ورشَّتْها على الرمال حتى لا تتناثر على الطعام.

وأخيرًا جلسوا داخل الخيمة الكبيرة يرتاحون من الرحلة التي بدأت في الصباح الباكر من القاهرة، وانتهت قُرب المساء في «سيدي عبد الرحمن» على الشاطئ الغربي لمدينة الإسكندرية … قرب الطريق الصحراوي بين جمهورية مصر العربية، والجمهورية العربية الليبية.

قال «تختخ»: لقد كانت معجزة أن نقنع آباءنا وأمهاتنا بالموافقة على القيام بالرحلة!

عاطف: لقد تحقَّقت المعجزة الأولى، وبقيَ أن تتحقق المعجزة الثانية وهي أن نقضيَ رحلة طيبة هادئة بعيدة عن المغامرات والألغاز، وغيرها من مشاكلنا التي لا تنتهي، وبخاصة أننا على بعد مئات الكيلومترات من الشاويش «فرقع»!

قالت «لوزة» وهي تضحك: من يدري … لعلنا نجد الشاويش قد حضر هو الآخر إلى «سيدي عبد الرحمن» … ليقضي إجازته!

عاطف: ويقع الشاويش في مشكلة، ونذهب نحن إليه … ويتهمنا بأننا سببها، ثم نكتشف أن لصًّا خطيرًا خلف المشكلة … ويستنتج «تختخ» أن اللص مختفٍ في شكل مهرج … وأنه يعمل في سيرك … و…

وقاطعته «لوزة»: ماذا تقصد بهذا الكلام؟! هل تريد أن تقول إننا نحب الوقوع في مشاكل! هل تريد …؟!

وقاطعتها «نوسة» قائلة: لا داعي يا «لوزة» لكي تغضبي!

وقاطعها «تختخ» بصوت كالرعد: من فضلكم جميعًا …

وسكتوا … ونظروا ناحية «تختخ» في دهشة … فقال في صوت منخفض: أريد أن آكل!

وانفجروا جميعًا ضاحكين … وقال «محب»: لقد نسينا أننا لم نتغدَّ بعد، وما زال عندي بعض المأكولات المطهية التي أحضرتها من المعادي … وسنأكل بعد دقائق!

فقال «تختخ»: سنتركك يا «نوسة» مع «لوزة»، ونذهب إلى البحر، فليس هناك ما يزيل التَّعب مثل غطس في المياه الباردة.

وأسرع الأولاد الثلاثة يلبسون المايوهات واتجهوا للبحر وخلفهم «زنجر»، وكانت الشمس قد انحدرت في الأفق ناحية الماء … فصبغتْه بلون شديد الاحمرار. وألقى الأولاد الثلاثة بأجسادهم المتعبة في الماء المنعش.

وتردَّد «زنجر» قليلًا ثم تبعهم.

بعد ربع ساعة ظهرت «لوزة» على باب الخيمة … ووضعت يديها على فمها بشكل البوق وصاحت: الطعام مُعَد!

•••

قضى الأصدقاء نحو ساعتين بعد الطعام يتحدثون عن رحلتهم، وعن الأيام المقبلة … ثم استسلموا للنوم بعد رحلة اليوم الطويل المنهكة، وتركوا أمر الحراسة لكلبهم الأسود الذكي الذي قبع أمام الخيمة وهو يدرك مهمته تمامًا … ولكن «زنجر» لم يقم بأي نشاط في تلك الليلة، فقد مرت هادئة … وعندما بدأت أشعة الشمس تتسلل مرة أخرى إلى العالم كانت «نوسة» أول من استيقظ من المغامرين … ففتحت باب الخيمة، واستقبلها «زنجر» بحماس ومضت معه إلى الشاطئ، وأخذت تسير ناحية الفندق الضخم الذي كان يبعد عنهم بنحو كيلومترين …

مضى «زنجر» يطارد «الكابوريا» الصغيرة التي تظهر دائمًا مع شروق الشمس من الشقوق الرفيعة قرب المياه … وكانت «نوسة» تمشي في المياه الضحلة، وهي ترقب الأصداف التي تلقيها الأمواج على الرمال، وبين فترة وأخرى كانت تجد بعض قطع الأخشاب، والعلب الفارغة، ولمبات الكهرباء المحترقة، وأشياء أخرى صغيرة، كانت تعرف أنها من مُخلَّفات السفن.

واقتربت «نوسة» من الفندق الكبير … وكان بعض نزلائه قد استيقظوا مبكرين مثلها، ومضَوْا يقطعون الشاطئ مشيًا، وهي رياضة ممتازة …

وعندما كانت «نوسة» تلتقي بهم كانت تبادلهم تحية الصباح … وعندما قررت العودة لاحظت على مَبْعدة من الفندق سفينة صغيرة من عابرات البحار … بيضاء … قد ألقت مراسيَها على مَبْعدة نحو ثلاثة كيلومترات من الشاطئ … وتمنَّت لو كان لدى المغامرين سفينة مثلها.

واستدارت «نوسة» عائدة إلى الخيمة … و«زنجر» خلفها يجري هنا، وهناك، ورأت «لوزة» تقف على باب الخيمة تنتظرها … ثم رأتها تجري ناحيتها في مرح والتقت الصديقتان، ووقفتا تعبثان بالمياه وتضحكان … وظلتا هكذا حتى برز قرص الشمس في جانب الأفق، فقالت «نوسة»: هيا نُعد طعام الإفطار للأصدقاء!

لوزة: وما هو إفطار اليوم؟!

نوسة: فول مدمس بالزيت والليمون … بيض مسلوق وشاي!

لوزة: والغداء؟

نوسة: سيحاول الأصدقاء صيد السمك … فإذا نجحوا يكون سمكًا مشويًّا، وإذا فشلوا، ففاصوليا محفوظة … وطبق أرز.

لوزة: أرجو أن ينجحوا … فكم أتمنى تناوُلَ أكلةٍ من السمك الطازَج.

انهمكت «نوسة» و«لوزة» في إعداد الإفطار … واستيقظ المغامرون الثلاثة وقرَّروا نزول البحر قبل الإفطار.

لوزة: ستصابون ببرد!

ردَّ «محب» بمرح: إن الذين يصابون بالبرد هم النائمون تحت الأغطية، أما الذين يعرِّضون أجسامهم لأشعة الشمس والهواء فإنهم يأخذون حصانة ضد البرد.

وبرغم أن هذه النظرية صحيحة، إلا أن «محب» عاد من البحر وهو يعطس، وتناولته قفشات الأصدقاء هو ونظريته … وبعد تناول الإفطار خرج «تختخ» و«عاطف» و«نوسة» و«لوزة»، وبقي «محب» ومعه «زنجر».

كان «تختخ» يحمل سنَّارة الصيد … وكذلك «عاطف»، واتَّجه الأربعة ناحية الفندق حسب إرشادات «تختخ» الذي قال سنبحث عن مكان تحيط به الصخور … فالأسماك عادة تعيش في تلك المناطق … ومرَّ بهم شخص يلبس نظارة سوداء، ويسير مستغرقًا في التفكير … ونظر إليه «تختخ» طويلًا ثم التفت إلى الأصدقاء قائلًا: هذا الرجل!

قال «عاطف» متسائلًا: هل رأيناه من قبل؟!

تختخ: هذا ما فكَّرتُ فيه!

لوزة: إنه كمَن يتخفَّى عن الأعين خلف هذه النظارة!

تختخ: ليس هذا دليلًا يا «لوزة» … فعادة يضع الناس النظارات السوداء في الصيف حمايةً لأعينهم من وَهَج الشمس … وبرغم هذا … فإنني متأكد أنني رأيت هذا الرجل من قبل.

نوسة: لعلك قابلته في قطار المعادي أو أي مكان آخر.

تختخ: لا … إنني قابلتُه في مغامرة من مغامراتنا!

صاحت «لوزة»: لعله لص هارب … هيَّا نعود خلفه!

نوسة: والسمك؟

لوزة: لنأكل أي شيء آخر!

قال «تختخ» وهو يعطي سنارته ﻟ «نوسة»: اذهبوا أنتم إلى مكان صيد السمك … وسأتبع أنا هذا الرجل وأعود إليكم.

وغادرَهم «تختخ» وشاهدوه وهو يُسرِع الخُطَى على الشاطئ خلف الرجل ذي النظارة السوداء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤