المطاردة

أسرع «تختخ» خلف الرجل محاولًا تركيزَ ذهنه ليتذكر أين رآه من قبل، وكان يسأل نفسه … لو كان لصًّا … فماذا يفعل؟ هل يطارده؟ هل يبحث عن نقطة الشرطة ويُبلغ عنه؟! إن واجبه أن يفعل ذلك، برغم أنه كان يتمنَّى أن يقضيَ إجازة هادئة … وكان الرجل يمشي بسرعة … واقترب من الفندق ثم نظر حوله … فانحنى «تختخ» على الرمال متظاهرًا بأنه يجمع الأصداف كما يفعل المصطافون عادة.

عاود الرجل المسير واتجه إلى صف المظلات الذي يملأ الشاطئ أمام الفندق، ولاحظ «تختخ» أنه اقترب من إحدى المظلات وكان يجلس تحتها رجل بمفرده … وتظاهر الرجل ذو النظارة أنه تعثَّر في مشيته، بحيث قام الرجل الآخر ومدَّ له يده، ولم يشكَّ «تختخ» لحظةً أنهما تبادلا حديثًا خاطفًا … وربما سلَّم أحدهما للآخر ورقة مكتوبة … فقد بقيت يداهما إحداهما في الأخرى أطول مما ينبغي، ثم استمر الرجل في سيره … وأثارت هذه الحركة فضول «تختخ» فقرَّر أن يستمر في المطاردة … لقد أصبح متأكدًا أن خلف الرجل ذي النظارة السوداء ما يريب … وإن كان لا يعرف ما هو.

ووصل الرجل إلى منطقة ازدحام المصطافين في الفندق الكبير … وظل «تختخ» يراقبه حتى جلس تحت إحدى المظلات وحده. ثم مد يده إلى غطاء المظلة وأخرج كتابًا أخذ يقرأ فيه … ولكن «تختخ» تأكَّد مرة أخرى أنه لا يقرأ بل يراقب المستحمين في الماء … والسائرين على الشاطئ …

ظلَّ «تختخ» في مكانه نحو ربع ساعة، ولم يتحرك الرجل من مكانه … وقرر «تختخ» الانصراف سريعًا إلى الأصدقاء … لعلهم يستطيعون صيد بعض السمك قبل أن ترتفع الشمس ويصبح الصيد أشد صعوبة … فالسمك في الصيف — إذا أحسَّ بحرارة الشمس — غاص إلى الأعماق … ولا تستطيع سناراتهم الصغيرة الوصول إليه.

عندما وصل «تختخ» إلى الأصدقاء، وجد سنارته في يد «نوسة» تحاول إلقاء خيط النايلون الشفاف بعيدًا فلا تستطيع، وعندما رأَوْه قالت «لوزة»: هل عرفت الرجل؟

رد «تختخ»: لا، ولكنني متأكد من شيئين … أولًا: أنني أعرفه وقابلته قبل الآن … وثانيًا: أنه يقوم بعمل ما مريب!

نوسة: وماذا دفعك لأنْ تستريبَ فيه؟

تختخ: إنَّ له زميلًا، ولكنهما يتظاهران بأن أحدهما لا يعرف الآخر … وبينهما اتَّفاق على أسلوب الكلام أو إيصال الرسائل دون أن يشكَّ فيهما أحد … وفي الوقت نفسه يقوم بمراقبة المستحمين مراقبةً دقيقة … ويبدو أن له صديقًا ثالثًا كان في الماء سيتصل به بشكلٍ أو بآخر!

لوزة: إنهم عصابة إذن!

تختخ: ليس هذا ببعيد …

لوزة: أي نوع من العصابات يا ترى؟

تختخ: لا أدري …

وانهمك «تختخ» في الصيد، ألقى الخيطَ وفي طرفه السنارة بعيدًا ثم جلس ينتظر.

وكان «عاطف» هو الآخر قد فعلَ الشيءَ نفسه … ومضت الدقائق بطيئة دون أن يهتزَّ الخيط، وقالت «نوسة» التي كانت تتسلَّى بقراءة رواية: يبدو أننا سنتغدَّى فاصوليا!

ولكن لم تكد «نوسة» تنتهي من جملتها الساخرة حتى جذب «تختخ» سنارته وبها سمكة من نوع «الميرمار» الفضية المخططة باللون الأسود … ولمعت السمكة في الشمس و«تختخ» يجذبها نحوه، فقالت «لوزة»: يا سلام … شكلها جميل جدًّا … خسارة أن تُشوى!

وكأنما شاء «عاطف» أن يثبت هو الآخر أنه صيَّاد ماهر … فقد جذب سنارته وبها سمكة بنية اللون، أصغر حجمًا من سمكة «تختخ». قالت «نوسة»: إنها سمكة غريبة حقًّا!

تختخ: نعم … ويسمونها «بطاطا».

نوسة: إنها تشبه حبة البطاطا فعلًا …

وخلال ساعتين اصطاد «تختخ» و«عاطف» كمية لا بأس بها من السمك، وقالت «لوزة»: لقد حقَّق الله أملي وسنتغدَّى سمكًا مشويًّا!

وقال «تختخ» وهو يلمُّ سنارته: هيَّا بنا … لقد ارتفعت الشمس، وسيكون من الصعب الوصول إلى سمكة بعد ذلك.

وأخذوا طريقهم عائدين إلى الخيمة، و«زنجر» خلفهم يهز ذيله مرحًا … وعندما مروا بالمصطافين على الشاطئ، اجتمع حولهم عدد كبير يتفرجون على السمك، ويُبدون إعجابهم به … وعرض رجل ضخم البطن على المغامرين أن يشتريَ منهم السمك، وكعادة «عاطف» جاراه في حديثه قائلًا: وكم تدفع يا سيدي؟

رد الرجل وعيناه تنظران إلى السمك بشراهة: أدفع خمسة وسبعين قرشًا!

هزَّ «عاطف» رأسه قائلًا: لقد عرضتْ علينا سيدة جنيهًا كاملًا!

أخذ الرجل يمسح شفتيه بلسانه وهو ينظر إلى السمك في يد «لوزة» وقال: أدفع عشرة قروش زيادة.

عاطف: هل تقصد خمسة وثمانين، أم مائة وعشرة؟

ترك «تختخ» «عاطف» يُعابث الرجل؛ لأنه كان مهتمًّا بفحص المصطافين حوله. كان يبحث عن الرجل ذي النظارة السوداء، ولكن لم يكن له أثر … وهكذا أشار «تختخ» بطرف عينه إلى «عاطف»، فأمسك السمك من «لوزة» ومشى وخلفه الأصدقاء والرجل السمين يصيح خلفهم: أدفع مائة وعشرين قرشًا!

ولكن «عاطف» أشار له بيده رافضًا هذا السعر … وقالت «نوسة» تعاتبه: لماذا تعبث برجل مثل والدك يا «عاطف»؟!

عاطف: وهل عبثتُ به؟ لقد أراد أن يشتريَ السمك، ولكن السعر الذي عرضه لم يناسبني … هذا كل ما في الموضوع!

نوسة: وهل لو عرض سعرًا أكبر كنت تقبل؟

عاطف: طبعًا!

نوسة: وكم كنت تقبل؟

عاطف: مائة جنيه مثلًا، فنعطيه السمك، وننزل في فندق «سيدي عبد الرحمن» بدلًا من هذه الخيمة!

لوزة: يا لك من مهزار سخيف!

وضحك «عاطف» واقتربوا من الخيمة … وكان «محب» يجلس أمامها وقد بدا عليه الضيق، فلم يكد يراهم حتى صاح: كدت أظن أنكم لن تعودوا أبدًا!

عاطف: لا تغضب، لقد كدنا نصبح أغنياء … لولا …

محب: لولا ماذا؟

عاطف: لولا أن الرجل السمين رفض!

وكاد «محب» يواصل الحديث لولا أن «نوسة» قاطعته قائلة: دعك من «عاطف» … فهو يبدو اليوم وكأنه يهوَى تعذيبَ الناس!

وفجأة أشارت «لوزة» إلى شخص يسير على مَبْعدة، وقالت: الرجل ذو النظارة السوداء!

لم يكد «تختخ» يسمع ما قالته «لوزة» حتى التفت مسرعًا وشاهد الرجل فعلًا في قميص أزرق، وسروال رمادي، وحذاء أبيض يسير بنشاط في اتِّجاه شريط السكة الحديد الذي يمتد خلف مسجد «سيدي عبد الرحمن»، وقال «تختخ»: أعدُّوا الغداء، وسوف أعود بعد أن أرى أين يذهب هذا الرجل.

وتركهم «تختخ» ومضى يسير خلف الرجل على مَبْعدة، وبدا واضحًا أنه يسير فعلًا — كما استنتج «تختخ» — إلى حيث ضريح «سيدي عبد الرحمن» … كانت الشمس حارة والرمال ساخنة … ولكن «تختخ» لم يتردد وقرر متابعة الرجل. وظلَّا يسيران نحو ساعة حتى وصل الرجل إلى قرب ضريح «سیدي عبد الرحمن»، حيث يوجد الشارع الوحيد في ذلك المكان … شارع صغير لا يزيد عرضه على عشرة أمتار ويمتد نحو مائة متر، وتصطفُّ على جانبيه محلات البيع … وينتهي بمسجد وضريح «سيدي عبد الرحمن» الذي سُميت المنطقة باسمه.

سار الرجل متسكعًا أمام المحلات، ثم دخل إحداها وغاب قليلًا و«تختخ» يقف على مَبْعدة يرقبه … ثم سار الرجل مرة أخرى ودخل محلًّا آخر. كانت جميع محلات الشارع بما فيها محلات البقالة والأقمشة تبيع في الوقت نفسه لحم الماعز، وهي ملاحظة أدهشت «تختخ»، ثم نسيَها عندما خرج الرجل ذو النظارة السوداء واتَّجه إلى المسجد، وكان ثمة شحاذ يجلس أمامه، لاحظ «تختخ» أنه لم يكد يرى الرجل حتى وقف وأمسك بعكازه، وانطلق خلفه وهو يطلب منه حسنة لله.

كانت مطاردة الشحاذ للرجل قصيرة، فسرعان ما توقَّف ذو النظارة السوداء ووضع يده في جيبه، واقترب الشحاذ منه أكثر … وتظاهر بأنه يرفع يديه للسماء ويدعو له، وفي الوقت نفسه كان ذو النظارة يضع له شيئًا في جيبه … ولو شاهده شخص آخر غير «تختخ» لظنَّ أنه يضع له بضعة قروش.

وانحنى الشحاذ وبدا أنه يهمس ببضع كلمات في أذن الرجل، ثم افترقا … وعاد الرجل يقطع الطريق عائدًا، وتمهَّل «تختخ» قليلًا، ثم غادر السوق الصغيرة وبدأ طريق العودة خلف الرجل، وقد تنبَّهت كلُّ حواسه لما يحدث، لقد أصبح متأكدًا أن شيئًا غامضًا يدور في «سيدي عبد الرحمن» … وأنه والأصدقاء — برغم كونهم في إجازة — فلا يمكنهم أن يتركوا ما يحدث يمر دون تدخُّل وكشف الحقيقة.

كان الرجل يسير بنشاط حسده عليه «تختخ»، وسرعان ما اختفى في اتجاه الفندق على حين اتَّجه «تختخ» إلى الخيمة حيث شاهد خيطًا من الدخان يرتفع أمامها فعرف أن الأصدقاء قد بدءوا شيَّ السمك … وسال لعابُه، وأحسَّ بمعدته تتقلص، فقد كان مثل «لوزة» يحبُّ السمك جدًّا …

أسرع «تختخ» حتى وصل إلى الخيمة … وكان الأصدقاء يحيطون بفرن صغير صنعه «محب» من بعض الأحجار … وقد أشعلوا تحته بعض الأخشاب، وبدا السمك شهيًّا.

قال «محب»: ماذا فعلت؟

وروى لهم «تختخ» تفاصيل رحلته السريعة خلف الرجل، وما شاهده في السوق الصغيرة عند مسجد «سيدي عبد الرحمن»، ثم قال: سأظل أتبعه حتى أعرف ماذا يفعل … وأظن أننا سنجده غدًا صباحًا يسير في رياضته المعتادة … وسوف أتبعه، فقد عرفت جزءًا من نشاطه.

قالت «لوزة»: إذن سنشترك في مغامرة جديدة؟!

تختخ: في الحقيقة أنني متردِّد جدًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤