«تختخ» يغرق

عندما هبط الظلام على منطقة «سيدي عبد الرحمن» جلس المغامرون الخمسة أمام الخيمة يتبادلون الحديث حول إجازتهم التي كادت تتحول إلى مغامرة … وقال «محب»: على كل حال فإن ما يحدث الليلة سيكون فاصلًا بين الإجازة والمغامرة … فإذا حضر أفراد عصابة التهريب فسوف تنتهي المغامرة … ونتمتع بالإجازة …

قال «عاطف» ساخرًا: لا أدري لماذا تتحدثون عن مغامرة لم نشترك فيها حتى الآن إلا بالكلام.

قالت «لوزة» معترضة: ولكن «تختخ» عثر على الصاروخ … أقصد على ذلك الكيس الذي يشبه الصاروخ!

ضحك «عاطف» وقال: لعلكِ تتصورين أنه صاروخ للذهاب إلى القمر … على كل حال هذا حدث بالصدفة.

كان «تختخ» يجلس وهو يستمع إلى النقاش في وجوم … وقد ولَّى وجهه ناحية البحر يفكر، ثم قال فجأة: إنني أتوقع أن تحدُث الليلةَ أحداث هامة.

نوسة: إن الحدث الوحيد الهام أن يقبض الضابطان على المهربين!

تختخ: لو كنت مكان الضابطين لما قبضت على المهربين!

التفت إليه الأصدقاء في دهشة، فقال: إن كثيرًا من قضايا التهريب تنتهي بالقبض على صغار المهربين فقط … وتبقى العصابة — أو كبار المهربين فيها — بعيدةً عن يد القانون … وتعاود نشاطها بعد فترة.

لوزة: لا أفهم … ماذا تقصد بالضبط؟

تختخ: لو كنت تقرئين قضايا التهريب بدقة لَعرَفتِ أنَّ الممول — وهو أهم شخص في عصابات التهريب — يكون عادة بعيدًا عن الشبهات، فهو لا يشترك في التهريب بنفسه، ولكن بأمواله فقط … ولا يعرفه إلا شخص واحد في العصابة، هو الوسيط بينه وبين أفراد العصابة، أعني المهربين الصغار الذين يحملون المخدِّرات … وكثيرًا ما يقع المهربون الصغار، وهؤلاء لا يعرفون الزعيم الحقيقي للعصابة … فيبقى بعيدًا عن الشبهات!

نوسة: والوسيط؟

تختخ: إنه لا يشترك في التهريب أيضًا … ولا يوجد في المكان الذي توجد به المخدِّرات، ومن الصعب حتى في حالة معرفة اسمه إثبات التهمة عليه.

عاطف: وما هي فكرتك إذن؟

تختخ: أريد أن أقول للنقيب «مجدي»، يحسُن أن يكتفيَ بمراقبة المهربين الذين قد يحضرون الليلة … وتتبُّعهم حتى الوصول إلى مقر العصابة ومراقبة المقر حتى الإيقاع بالوسيط ثم الممول.

محب: ولكن قلت إن المموِّل من الصعب إثبات التهمة عليه.

تختخ: قلت إنه صعب، ولكن ليس مستحيلًا بواسطة الاعترافات والتسجيلات عن طريق التليفون.

لوزة: ولماذا لا تذهب الآن وتتفاهم مع الضابطين، وتنقُل إليهما فكرتك؟

تختخ: هذا ما أفكر فيه!

وصمت الجميع … وتكاثف الظلام، ولمعت النجوم في السماء البعيدة، ثم وقف «تختخ»، وقال: سأذهب الآن إلى الفندق للتحدث إليهما.

لوزة: لعلهما غادرا الفندق!

تختخ: لا أظن … فلن يقوم المهربون بمحاولة إخراج الكيس من الماء قبل منتصف الليل، عندما ينام المصطافون، ولا يوجد أحد على الشاطئ، ولن يخرج الضابطان قبل ساعتين أو أكثر …

وسار «تختخ» وحده مسرعًا … كان عدد كبير من المصطافين يجلس خارج الفندق، وموسيقى خفيفة تأتي من داخله، وأضواؤه القوية تلمع في المياه … واتجه «تختخ» إلى مبنى الفندق الضخم … ودخل متجهًا إلى موظف الاستقبال، وسأله عن الأستاذ «عادل مكرم» المحامي، فقال له موظف الاستقبال بعد أن نظر إلى لوحة المفاتيح: الأستاذ «عادل» خرج!

ولم يكن «تختخ» يعرف الاسم المستعار الذي ينزل به الرائد «خيري»، فوقف لحظات يفكر … ثم مشى ببطء يبحث بين الجالسين في صالة الفندق عن الضابطين أو أحدهما، ولكنه لم يعثر عليهما.

خرج «تختخ» من الفندق وهو يفكر فيما ينبغي عمله … هل يذهب إلى سوق «سيدي عبد الرحمن» للبحث عن الضابطين … أو المخبر المتخفي في زي الشحاذين؟ … ولكن المسافة بعيدة نسبيًّا وبخاصة في هذا الظلام … هل يذهب إلى مكان الصيد حيث أخفيت المخدرات؟

ولكن قد يكون المكان مراقبًا بواسطة المهربين … أو قد يُفسد على الضابطين خطتهما، وهما بالتأكيد قد وضعا خطة ما.

وبعد تفكير طويل، قرَّر «تختخ» أن يتجوَّل قرب المنطقة التي كان يصطاد فيها صباحًا … لعله يجد الضابطين هناك يراقبان المكان … سار على الشاطئ كأنه يتنزه … والتقى ببعض المصطافين يسيرون هنا وهناك يتمتعون بنسيم الليل المنعش … وبعد عشر دقائق وصل إلى منطقة الصيد … كانت الصخور تُغطِّي المكان … ومن الصعب المراقبة من بعيد … فاقترب، وأخذ ينظر حوله … ولكن لم يكن هناك أثر للضابطين مطلقًا … ونظر إلى المياه … كانت شديدة السواد وبخاصة في ظل الصخور التي كانت تُخفي أضواء النجوم البعيدة.

أدرك «تختخ» أن الضابطين إما أنهما لم يصلا بعد … أو أنهما اختارا مكانًا خفيًّا للمراقبة بحيث لا يراهما المهربون عندما يأتون لأخذ الكيس … وقرر أن ينصرف على الفور حتى لا يعطل خطتهما … فلو أن المهربين شاهدوه في هذا المكان لترددوا في سحب الكيس!

اختار «تختخ» مكانًا يشبه الكهف بين الصخور، ثم قبع فيه وجلس ينظر إلى السماء البعيدة تارة وإلى البحر تارة أخرى … وشيئًا فشيئًا بدأت الريح تهب … وأخذ وجه البحر الساكن يثور، ثم ارتفعت الأمواج، وأخذت تقذف برذاذها إلى مكان «تختخ» … وأحس بالبرد يتسلل إلى جسده، وفكَّر أن يخرج، ولكن الوقت كان قد مضى … ولو خرج الآن ربما وجد المهربين أمامه وجهًا لوجه، ولأفسد خطة الضابطين … وأخذ يفكر فيما يفعل وهو جالس في مكمنه كأنه في سجن، واستقر رأيه على أن يبقى … ويشهد ماذا يحدث.

ومضت الساعات بطيئة … وأحسَّ «تختخ» بالجوع، وتمنَّى في هذه اللحظة لو كان في الخيمة مع الأصدقاء، يتناول عشاءه وكوبًا من الشاي، ولكن كانت الأمنية في هذه اللحظة بعيدة المنال.

نظر «تختخ» إلى ساعته … كانت قد تجاوزت منتصف الليل بساعة … وأدرك أن المهربين لا بدَّ أن يظهروا خلال الساعات الثلاثة القادمة قبل الفجر … وأخذ يحملق في المياه … ولكن أحدًا لم يظهر … ومدَّ بصره خارج الكهف ناظرًا حوله، ولكن كل شيء كان هادئًا … عدا صوت الريح وهي تزمجر بين الصخور وفوق الأمواج، ولا أثرَ لمخلوق في المنطقة.

عاود «تختخ» النظر إلى المياه، وفجأة خُيِّل إليه أنه يرى شيئًا أسود يظهر في الماء ثم يختفي … وظنَّ للوهلة الأولى أن عينيه تخدعانه … فأغمض عينيه وعاود النظر، ولكن الشيء الأسود كان قد اختفى … واقترب «تختخ» من الماء أكثر … ولم يعد بينه وبين المكان الذي ربطوا فيه الكيس أكثر من أمتار قليلة، وأخذ يُحدِّق في الماء … ومرة أخرى رأى الشيء الأسود … كان في هذه المرة أكثر وضوحًا، كان أشبه بذراع فوق الماء … وانحدر «تختخ» من مكانه وأصبح قريبًا من المكان بحوالي متر واحد … ووجد الذراع تظهر أمامه … وتأكد في هذه اللحظة أن شخصًا أو أشخاصًا تحت الماء يسحبون الكيس … وبدون أدنى تفكير، ألقى بنفسه في الماء!

هبط تحت الماء بسرعة … ولم يكن هناك أي شيء واضح في الظلام … ولكنه كان يعرف مكان الكيس جيدًا فاتَّجه إليه … وفجأة أحسَّ بضربة قوية تُصيب بطنه، فدار حول نفسه وواجه العدو المجهول مادًّا ذراعيه إلى الأمام … ومرة أخرى أحسَّ بضربة قوية تُصيب رقبته، ولكنه كان مستعدًّا هذه المرة فأمسك بالذراع ولواها بشدة، ثم وجَّه لكمةً قوية إلى الجسم الذي اشتبك معه في صراع مميت!

مرَّت هذه الأحداث في أقل من دقيقة، ثم شعر «تختخ» أن نفسه يضيق، وأنه يجب أن يصعد إلى سطح الماء ليتنفس … فترك العدو المجهول وصعد إلى فوق … وعندما طفا رأسه على سطح الماء أخذ نفسًا عميقًا، ولكنه في الوقت نفسه أحسَّ بيدين قويتين تجذبان ساقيه إلى أسفل، وسرعان ما وجد نفسه مغمورًا تحت الماء مرة أخرى … وشخصًا يحاول إغراقه، فاشتبك معه في صراع مرير …

كان العدو المجهول قويًّا كالثَّوْر … وعرف «تختخ» بطريقة اللمس أنه يلبس خوذة فولاذية للتنفس تحت الماء … وأدرك أنه لا يستطيع الاستمرار طويلًا في صراعه؛ لأن أنفاسه تضيق سريعًا، وأنه يجب أن يتخلص من العدو المجهول ويصعد مُسرِعًا إلى سطح الماء، وينادي طالبًا النجدة، فلا بُدَّ أن الضابطين قريبان منه.

ولكن في محاولته المستميتة للتخلص من العدو … أحسَّ بضربة قوية تُصيب رأسه، وتراخت يداه … وأخذ جسمه يغوص في الأعماق! وحاول «تختخ» الصعود إلى سطح الماء مقاومًا الإغماء الذي زحف إلى رأسه … واختلط كل شيء في ذهنه، وشعر بالماء يتدفَّق إلى فمه، وبرئتيه تتقلصان، وقلبه يكاد يكفُّ عن الحركة …

كانت اللحظات الفاصلة بين الحياة والموت تتوقف على إرادته التي أخذت تتلاشى بعد أن فقد القدرة على الحركة … وأحسَّ بجسده يهبط إلى القاع الرملي … واستجمع كل ما تبقَّى من عزيمته وقواه، وضرب الأرض بقدمه ضربة قوية، وطفا جسمه إلى أعلى، ومدَّ ذراعه إلى أعلى … وأمسكت أصابعه بصخرة مُدببة، فقبض عليها بكل ما يملك من قوة، ثم مدَّ يده الأخرى وتشبَّث بالصخرة، وأخذ يرفع جسده عن سطح الماء شيئًا فشيئًا … كان كل ما في جسده يضجُّ بالتعب … ورأسه يدور كأن به ألف طاحونة … وفي النهاية خرج رأسه من الماء، وأخذ نفسًا عميقًا … واتَّجه برأسه إلى السماء فلم يرها ولم يشاهد النجوم، وأدرك أنه في فجوة بين الصخور … فطوَّح بساقه وصعد إلى الصخرة التي أمسك بها … ثم تمدَّد عليها … وفي هذه اللحظة تلاشى كل ما بقي في جسده من قوة واستسلم للإغماء …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤