الفصل الثاني

كان الطريق إلى السفارة مُختنقًا بحركة المرور؛ السيارات، والدرَّاجات البخارية، وعربات الأجرة الصغيرة التي تسير على ثلاث عجلات (ريكشا)، والحافلات الكبيرة والصغيرة التي تحمل ضعف سَعتها من الركَّاب؛ موكب من العجلات والأذرع والسيقان، كلٌّ يحارب ليجد لنفسه مكانًا أثناء قيظِ ما بعد الظهيرة. استطعنا أن نشقَّ طريقنا بضعةَ أقدامٍ إلى الأمام، ثم توقَّفنا. ووجدْنا مخرجًا ننفُذ منه ثم توقَّفنا مرةً أخرى، ولوَّح سائق سيارة الأجرة التي نستقلُّها مُبعدًا مجموعةً من الصبية الذين كانوا يبيعون اللبان والسجائر المفردة، وكاد أن يصطدم بدراجةٍ بخارية تحمل عائلةً كاملة على ظهرها؛ أبًا وأمًّا وابنًا وابنةً، مالوا جميعًا معًا كأنهم شخصٌ واحد عند أحد المنعطفات، وكانوا يُكمِّمون أفواههم بمناديل للتخفيف من تأثير العوادم عليهم جعلتهم يبدون كعائلة من قطَّاع الطرق. وعلى جانب الطريق كانت مجموعةٌ من النساء السمراوات ذوات البشرة الذابلة يلفُفنَ حول أجسادهن رداءً بنيًّا باهتَ اللون يُرتِّبن في أكوام سِلالًا من القش ممتلئةً بفاكهة ناضجة، وميكانيكيان يجلسان أمام مرأبٍ في الهواء الطلق، ويهشَّان الذبابَ بخمولٍ وهما يُفكِّكان محرِّكًا. ومن خلفهما تنحدِر بعض أجزاء التربة الطينية لتصبح مقلبًا للنفايات المحترقة حيث كان طفلان مُستديرا الرأسِ يطاردان بجنونٍ دجاجةً سوداء هزيلة. وانزلق الطفلان في الوحل وقشر الذرة وأوراق شجر الموز، يصرخان في سعادةٍ حتى اختفيا في الطريق القذرِ خلفهما.

وما إن وصلنا إلى الطريق السريع حتى قلَّ الزحام، خرجنا من سيارة الأجرة أمام السفارة حيث استقبلَتْنا إيماءات الترحيب من اثنين من رجال المارينز يرتديان ملابس أنيقة. وداخل فناء السفارة حلَّ صوت الإيقاع المنتظِم لتقليم الأشجار محلَّ ضوضاء الشارع. كان رئيس أمي في العمل رجلًا أسودَ بدينًا قصيرَ الشعر بدأ الشيب يخطُّ صدغَيه. ويتدلَّى علم الولايات المتحدة من على عصًا طويلة بجوار مكتبه. وقد مد إليَّ يده مصافحًا بقوة قائلًا: «كيف حالك أيها الشاب؟» كانت تنبعِث منه رائحةُ عطرِ ما بعد الحلاقة وياقة القميص المشدودة تُحيط عنقه بإحكام. ووقفتُ منتصبَ القامة وأنا أُجيب أسئلته عن تقدُّمي في الدراسة. وكان الهواء في غرفة المكتب باردًا وجافًّا، مثل هواء قِمم الجبال، نسيم نقي عليل.

انتهت مُقابلتنا، وأجلستني أمي في المكتبة في حين ذهبَتْ هي لإنجاز بعض الأعمال. انتهيتُ من قراءة كتب الرسوم المسلية ومن الواجب الدراسي الذي جعلتني أمي أُحضِره معي قبل أن أصعد على مقعدي لأستعرض الكتب على الأرفف. كانت معظم الكتب لا تُثير اهتمامَ صبيٍّ في التاسعة من عمره؛ تقارير البنك الدولي، ودراسات جيولوجية، وخطط خمسية للتنمية. لكني وجدتُ في أحد الأركان مجموعةً من أعداد مجلة «لايف» معروضة بشكلٍ أنيق في غلاف بلاستيكي شفاف. قلَّبت في الإعلانات الجذابة — شركة جوديير للإطارات، وشركة دودج فيفر، وشركة زينيث لأجهزة التليفزيون («لماذا ليس أفضل الأنواع؟») وحساء كامبل (ممم، شهي!) — ورجال يرتدون بلوفرات بيضاء ذات رقبةٍ طويلة يسكبون الخمر على الثلج ونساء يرتدين جونلات حمراء قصيرة يشاهدنَ بإعجاب، ولسببٍ غريب بثَّ هذا في نفسي الطمأنينة. وعندما رأيت صورًا إخبارية، حاولت أن أُخمِّن موضوعَ القصة قبل قراءة التعليق. رأيت صورةً لأطفال فرنسيين ينطلقون في شوارعَ مُعبَّدة بالحصى الكبير، كان مشهدًا سعيدًا يلعبون فيه لعبة الاستغماية بعد يومٍ من الكتب المدرسية والواجبات اليومية المملة، وكانت ضحكاتهم تُعبِّر عن الحرية. ثم صورة سيدة يابانية تضع برفقٍ فتاةً صغيرة عارية في حوضٍ غير عميق، كان ذلك المشهد حزينًا؛ فالفتاة كانت مريضة وساقاها ملتويتان ورأسها ملقًى إلى الخلف على صدر الأم، كان الحزن محفورًا على ملامح وجه الأم، ربما كانت تلقي باللوم على نفسها …

وفي النهاية صادفتُ صورةً لرجل عجوز يرتدي نظارةً سوداء ومعطفَ مطر يسير في طريق خاوٍ. لم أستطِع تخمينَ ما الذي تدور حوله هذه الصورة؛ فلم يبدُ بها أيُّ شيءٍ غير عادي عن الموضوع. وفي الصفحة التالية وجدت صورةً أخرى، هذه المرة صورة أقرب ليدَي الرجلِ نفسه. وكانتا شاحبتَين شحوبًا غير طبيعي، كما لو أن الدماء قد سُحبت من الجسد. فعُدت إلى الصورة الأولى، وفي تلك اللحظة فقط رأيت أن شَعر الرجل المجعَّد وشفتَيه الغليظتين وأنفَه العريض الضخم جميعها لها نفس اللون الشاحب المخيف.

وجال في خاطري أن الرجل يُعاني مرضًا شديدًا، أو ربما يكون ضحيةَ التعرُّض لإشعاعٍ أو ربما يكون أمهقَ؛ فقد رأيت أحد هؤلاء الناس في الشارع قبل بضعة أيام، وشرحَتْ لي أُمي هذه الأشياء. لكن عندما قرأتُ ما صحِب الصورة من تعليق أدركتُ أنه ليس واحدًا من هؤلاء؛ فقد جاء في المقال أن الرجل تلقَّى علاجًا كيميائيًّا لتفتيح لون بشرته. وقد دفع نقودَ العملية من أمواله الخاصة. ثم أبدى بعضَ الندم على محاولة تغيير نفسه إلى رجل أبيض، وكان يشعر بالأسف للنتيجة السيئة التي آلت إليها الأمور. لكن لا يمكن إعادة بشرته إلى ما كانت عليه. آلاف الأشخاص مثله، رجال ونساء سود في أمريكا كانوا سيودون الخضوعَ لهذا العلاج استجابةً للدعاية التي تَعِدهم بحياةٍ سعيدة إذا أصبحوا من البِيض.

تدفَّقت الدماء الساخنة إلى وجهي وعنقي، وبدأت معدتي تتقلَّص، وبدت الحروف غيرَ واضحةٍ أمام عيني. هل كانت أمي تعلم بشأن هذا؟ ماذا عن رئيسها، لماذا كان شديد الهدوء وهو يقرأ التقارير على مقربةٍ منها في الرُّواق؟ وكانت لديَّ رغبة قوية في أن أقفز من على مقعدي لأريهم ما رأيته، وأن أطلب منهم تفسيرًا أو طمأنة. لكن شيئًا ما أوقفني. وكما يحدث في الأحلام لم يكن هناك صوتٌ لمخاوفي الجديدة، وعندما عادت أمي لتصطحبني إلى المنزل كانت الابتسامة تعلو وجهي وعادت المجلات إلى مكانها الصحيح. والغرفة والجو عادا هادئين كما كانا من قبل.

•••

كنا قد قضينا في إندونيسيا في ذلك الوقت ما يزيد عن ثلاثة أعوام نتيجةَ زواج والدتي من رجلٍ إندونيسي اسمه لولو كان هو الآخر طالبًا قابلَتْه أمي في جامعة هاواي. واسمه يعني بلغة هاواي «مجنون»، الأمر الذي جعل جَدي ينفجر ضحكًا بلا توقُّف، لكن المعنى لم يكن مناسبًا للرجل؛ إذ كان لولو يتمتَّع بكياسةِ وأخلاقِ شعبِه. فهو قصير القامة أسمرُ البشرة وسيمُ الطلعة أسودُ الشعر كثيفه، له ملامح من الممكن أن تكون ملامح أحد أبناء المكسيك أو ساموا أو إندونيسيا، ويجيد لعب التنس، وله ابتسامة هادئة رائعة، وكان رابطَ الجأش أيضًا. ولمدة عامَين — منذ أن كنتُ في الرابعة حتى أصبحت في السادسة — احتمل عددًا لا حصر له من ساعات لعب الشطرنج مع جَدي وجولاتٍ طويلة من المصارعة معي. وعندما أجلستني أُمي في أحد الأيام لتُخبرني أن لولو قد عرض عليها الزواج ويريدنا أن ننتقل معه إلى مكانٍ بعيد، لم أتفاجأ ولم أُبدِ أيَّ اعتراضٍ أيضًا. لكني سألتها هل تحبُّه؛ فقد أصبحتُ على خبرةٍ كافية لأن أُدرك أهمية مثل هذه الأشياء. فبدأ ذقن أمي يرتجف مثلما يحدث عندما تُقاوم دموعها، وضمَّتني بين ذراعَيها لوقتٍ طويل مما جعلني أشعر بأني شجاع، مع أني لم أكن واثقًا من سبب هذا الشعور.

ترك لولو هاواي فجأةً بعد ذلك، وقضيتُ أنا وأمي شهورًا نُجري استعداداتنا؛ جوازات السفر والتأشيرات وتذاكر الطيران وحجز الفنادق وسلسلة لا تنتهي من الصور. وبينما كنا نحزم حقائبنا، أخرج جَدي أطلسَ جغرافية العالم ووضع علاماتٍ على أسماء سلسلة جزر إندونيسيا: جاوة وبورنيو وسومطرة وبالي. وقال إنه يتذكَّر بعض الأسماء من قراءة أعمال جوزيف كونراد وهو صبي. كان يُطلَق عليها في ذلك الوقت «جزر البهار»، ولهذه الجزر أسماء ساحرة محاطة بالغموض. وقال: «يقول الكتاب إنه لا تزال تُوجَد هناك نمور.» وتابع: «وإنسان الغاب.» ونظر إلى الكتاب واتَّسعَت عيناه وقال: «يقول إنه يُوجَد هناك صائدو رءوس!» في ذلك الوقت اتصلت جَدتي بوزارة الخارجية لتعرِف هل البلد مُستقر. وأيًّا كان مَن تحدَّثت إليه فقد أخبرها أن الموقف تحت السيطرة، لكنها أصرَّت على أن نحمل معنا عدةَ صناديق مليئة بالأطعمة: مسحوق عصير تانج، وحليب مُجفَّف، وعلب من سمك الساردين. وقالت بحزم: «مَن يدري ماذا يأكل أولئك الناس!» فتنهَّدَت أُمي، لكن جَدتي قذفت بعدة علب من الحلوى كي تَكسبني إلى صفِّها.

أخيرًا صعدنا على متن طائرةٍ تابعةٍ لشركة «بان أمريكان» لنبدأ رحلتنا حول العالم. كنتُ أرتدي قميصًا أبيضَ اللون طويل الأكمام وربطةَ عنق مثبتة بدبوس، وقد أمطرتني المضيفات بألعاب ألغازٍ وكميةٍ إضافية من الفول السوداني، وأجنحةِ طيار معدنية وضعتُها فوق جيب القميص. وفي أثناء التوقُّف لثلاثة أيام في اليابان سِرنا تحت أمطارٍ شديدة البرودة لنرى تمثال بوذا الفضِّي العظيم في كاماكورا المصنوع من البرونز وتناولنا آيس كريم بالشاي الأخضر في معدِّية تنتقل عبر البُحيرات الجبلية المرتفعة. وفي المساء كانت أمي تُذاكر بطاقات تعليم اللغات الأجنبية المصوَّرة. وما إن هبطنا من الطائرة في جاكرتا — كان مهبط الطائرات شديدَ الحرارة والشمس مُتوهِّجة كأنها فرن — حتى أمسكتُ بيدِ أُمي عاقدًا العزم على حمايتها من أيِّ شيءٍ قد نُجابهه.

كان لولو هناك في استقبالنا، وقد ازداد وزنه بضعة أرطال، وأصبح هناك شاربٌ كثٌّ يلوح فوق ابتسامته. وقد احتضن أُمي ورفعني لأعلى في الهواء، وأخبرَنا أن نتَّبع الرجل الصغير النحيل الذي يحمل حقائبنا في الطابور الطويل في الجمارك ثم إلى السيارة التي كانت بانتظارنا. ابتسم الرجل بابتهاجٍ وهو يضع الحقائب في حقيبة السيارة، وحاولت أُمي أن تقول له شيئًا، لكن الرجل ضحك وأومأ برأسه. التفَّ الناس حولنا يتحدثون بسرعةٍ بلغةٍ لا أعرفها وتنبعث منهم رائحة غريبة. ولوقتٍ طويل شاهدتُ لولو يتحدَّث إلى مجموعةٍ من الجنود الذين يرتدون زيًّا موحَّدًا بنيَّ اللون. وكان بحوزتهم مسدسات يضعونها في جرابها، لكنهم بدوا في مزاجٍ مرح، يضحكون على شيءٍ ما قاله لولو. وعندما انضم إلينا لولو أخيرًا، سألته أمي هل يريد الجنود فحص حقائبنا.

فقال وهو يستقلُّ السيارة ويشغل مقعد السائق: «لا تقلقي … لقد اهتممتُ بكلِّ شيء.» وتابع: «إنهم أصدقائي.»

أخبرَنا لولو أنه استعار السيارة، لكنه اشترى درَّاجةً بخارية جديدة يابانية الصنع، وستفي بالغرض في الوقت الراهن. كان قد انتهى من إعداد المنزل الجديد ولم يتبقَّ سوى قليلٍ من اللمسات الأخيرة. وقد سُجِّل اسمي بالفعل في مدرسةٍ قريبة، وأقرباؤه يتوقون لمقابلتنا. وبينما كان يتحدَّث هو وأُمي، أخرجتُ رأسي من النافذة الخلفية وأخذتُ أحدِّق فيما نمرُّ به من مناظرَ طبيعية بُنية وخضراء متعاقبة، وقرًى تتبعها غابات، ورائحة وقود الديزل واحتراق الأخشاب. وكان الرجال والنساء يسيرون برشاقةٍ مثل طيور الغرنوق عبر حقول الأرز، والقبعات القشية العريضة تُخفي وجوههم. وكان هناك صبي مُبتل وأملس مثل ثعلب الماء يجلس على ظهر جاموسةِ ماء لها وجه مضحك ويضربها على فخذها بعصًا من الخيزران. أصبحت الشوارع أكثر ازدحامًا؛ إذ ظهرت المحال الصغيرة والأسواق والناس يجرُّون عرباتٍ محمَّلة بحصًى وأخشاب، ثم أصبحت المباني أكثر ارتفاعًا مثل المباني الموجودة في هاواي — فندق إندونيسيا الذي يقول عنه لولو إنه حديث للغاية والمركز التجاري الجديد، أبيض ومُتألق — ولكنَّ قليلًا منها فقط كان أطولَ من الأشجار التي كانت تُرطِّب الهواء على الطريق. وعندما مرَرْنا بصفٍّ من المنازل الكبيرة العالية الحواجز وبها مخافرُ للحراسة، قالت أُمي شيئًا لم أستطِع تمييزه بوضوحٍ عن الحكومة ورجل يُسمَّى سوكارنو.

فَصِحتُ أنا من المقعد الخلفي للسيارة: «مَن هو سوكارنو؟» لكن بدا أن لولو لم يسمعني. وبدلًا من ذلك لمس ذراعي وتحرَّك أمامنا. قال: «انظر»، وهو يشير إلى الأعلى. وهناك كان يقف مُنفرجَ الساقَين على جانبي الطريق عملاقٌ ضخم يصِل طوله إلى ارتفاع ١٠ طوابق على الأقل، وله جسد إنسان ووجه قرد.

قال لولو ونحن ندور حول التمثال: «هذا هو هانومان، الإله القرد.» فاستدرتُ في مقعدي وتسمَّرتُ وأنا أنظر إلى التمثال الوحيد الذي بدا شديد السواد في مقابل الشمس، ومتأهبًا للقفز نحو السماء في الوقت الذي تدور فيه حركة المرور الضعيفة حول قدمَيه. وقال لولو بحزم: «إنه محارب عظيم.» وتابع: «يتمتَّع بقوة ١٠٠ رجل. وعندما يحارب الشياطين يهزمهم دائمًا.»

كان المنزل في منطقةٍ تحت التطوير في ضواحي المدينة. والطريق يمتدُّ عبر جسرٍ ضيقٍ فوق نهرٍ واسعٍ مياهه بُنية اللون، وعندما مررْنا رأيتُ فلاحِين يستحمُّون ويغسلون ملابسهم على طول الضفاف المنحدرة بالأسفل. وبعد ذلك انعطف الطريق المعبَّد إلى الطرق المغطاة بالحصى، ثم طريق ترابي عندما انعطف ليمرَّ أمام متاجر صغيرة وبيوت من طابقٍ واحد مطلية بالجير حتى توقَّفتُ أخيرًا عند ممرات المشاة الضيقة للقرى الصغيرة. كان المنزل نفسه متواضعًا من الجص والطوب الأحمر، لكنه مفتوح ويدخله الهواء، وبه شجرة مانجو كبيرة في الفناء الأمامي الصغير. وعندما دخلنا من البوابة قال لولو إن لدَيه مفاجأةً لي، وقبل أن يذكرها سمعنا صوتَ عواء يصمُّ الآذان من أعلى الشجرة. فقفزتُ أنا وأُمي إلى الوراء بهلعٍ ورأينا مخلوقًا كبيرًا كثيفَ الشعر له رأس صغير مُسطح وذراعان طويلتان تسبِّبان الرعبَ يهبِط إلى غصنٍ متدلٍّ.

فصرخت: «سعدان!»

صحَّحَت أُمي: «بل قرد.»

فأخرج لولو حبَّة فول سوداني من جيبه ووضعها بين أصابع الحيوان. وقال: «اسمه تاتا.» وتابع: «وقد أحضرتُه من غينيا الجديدة إلى هنا من أجلك.»

فبدأتُ أتقدَّم قليلًا كي أنظر إليه عن قُرب، لكن تاتا هدَّد بأن يندفع فجأة للأمام، وكانت عيناه السوداوان الدائريَّتان شرستَين ومليئتَين بالشك. فقررتُ أن أظل حيث أنا.

فقال لولو وهو يُعطي تاتا حبَّة أخرى من السوداني: «لا تقلق.» وتابع: «إنه مُقيَّد بحبل. تعالَ، هناك المزيد.»

فنظرتُ إلى أُمي، فابتسمت لي بتردُّد. وفي الفناء الخلفي وجدْنا ما يُشبه حديقة حيوان صغيرة: دجاجٌ وبطٌّ يركض في كل مكان، وكلب أصفر كبير له نباح مُخيف، واثنان من طيور الفردوس، وببغاء كوكاتو أبيض اللون، وأخيرًا تمساحان صغيران كانا شبه مغمورين في بحيرةٍ محاطة بسياجٍ باتجاه نهاية المنزل. حدَّق لولو في التمساحَين وقال: «لقد كانوا ثلاثة، لكن أكبرها خرج زاحفًا عبر حفرة في السياج. وتسلَّل إلى حقل أرز ملك شخصٍ ما وأكل إحدى بطات صاحب الحقل. وكان علينا أن نصطاده على ضوء الكشافات.»

كان الليل قد أوشك أن يُرخي ستائره، ولكننا أخذنا نزهةً قصيرة على الطريق الطيني إلى القرية. ولوَّحت مجموعاتٌ من أطفال الجيران الضاحِكين لنا وهم في منازلهم. وجاء بعض كبار السن من الرجال حفاةَ القدمَين لمصافحتنا. وقفنا أمام منطقةٍ عامة، حيث كان أحد رجال لولو يرعى بعض الماعز، وجاء ولدٌ صغير إلى جواري يمسك يعسوبًا يرفرف بجناحيه في طرَف خيط. وعندما عُدنا إلى المنزل، كان الرجل الذي حمل متاعنا يقِف في الفِناء الخلفي يطوي أسفل ذراعه دجاجةً لونها بني يميل إلى الأحمر ويحمل في يده اليمنى سكينًا طويلًا. وقال شيئًا للولو، الذي أومأ له ثم نادى على أُمي وعليَّ. لكن أُمي طلبت مني أن أنتظر حيث أنا ونظرت إلى لولو متسائلة.

«ألا ترى أنه لا يزال صغيرًا؟»

فهزَّ لولو كتفَيه ونظر إليَّ. قال: «على الصبي أن يعرف من أين يأتي عشاؤه. ما رأيك يا باري؟» فنظرتُ إلى أُمي ثم استدرتُ لمواجهة الرجل الذي يحمل الدجاجة. فأومأ لولو مرة أخرى، وشاهدتُ الرجل وهو يضع الطائر أرضًا، ويُثبِّته برفقٍ أسفل إحدى ركبتيه، ثم أبعد عنقه عن جسده ليُصبح فوق بالوعة قريبة. ولدقيقة أخذ الطائر يُناضل، ويضرب بجناحَيه الأرض بقوة، وتطايرت بضع ريشات في الهواء لترقص مع الرياح. ثم سكن تمامًا، فمرَّر الرجل شفرة السكين على عنق الطائر في حركةٍ واحدة هادئة. واندفعت الدماء في شريط قرمزي طويل. ونهض الرجل وهو يحمل الطائر بعيدًا عن جسده، ثم ألقاه فجأة عاليًا في الهواء. وسقط الطائر بصوتٍ مكتوم على الأرض ثم جاهد ليقِف على قدمَيه، ورأسه يتدلَّى بشكلٍ غريب على جانبه ورجلاه تدوران بجنون في دوائر غير منتظمة. وشاهدتُ الدائرةَ التي يلفُّ فيها الطائر تضيق، وأصبح الدم يسيل ببطءٍ مُحدثًا صوتًا كالقرقرة، حتى انهار الطائر على الحشائش وقد فارق الحياة.

مسح لولو على رأسي بيدَيه وأخبرَني أنا وأمي أن نذهب ونغتسِل قبل العَشاء. تناولنا نحن الثلاثة الطعام؛ دجاجًا وأرزًا بهدوء على ضوءِ مصباحٍ أصفر خافت، ثم كانت الحلوى فاكهة حمراء قشرُها كثير الشعر، رائعة المذاق في مُنتصفها حتى إنه لم يُوقفني عن تناولها إلا آلام المعدة. وبعد ذلك سمعتُ — وأنا أنام وحيدًا أسفل مظلةٍ للحماية من الناموس — صوت صراصير الليل أسفل ضوء القمر، وتذكَّرت الانتفاضة الأخيرة للحياة التي شاهدتها قبل ساعات قليلة. ولم أكد أُصدِّق حظي السعيد.

•••

«أول شيء تتذكَّره هو كيف تحمي نفسك.»

وقفتُ في مواجهة لولو في الفناء الخلفي. وقبل ذلك بيومٍ عُدت إلى المنزل وعلى جانب رأسي تورُّم في حجم البَيضة. فنظر إليَّ لولو وهو يغسل دراجته البخارية وسألني ماذا حدث، فأخبرته عن مشادة وقعت بيني وبين صبيٍّ أكبرَ منِّي يقطن في آخر الشارع. وأخبرتُه أن هذا الصبي أخذ كرةَ قدم صديقي وجرى ونحن في منتصف اللعبة. وعندما طاردتُه التقط حجرًا من الأرض. ثم قلتُ وصوتي يختنق من الحزن هذا ليس عدلًا. لقد غشَّني.

مرَّر لولو أصابعه في شعري وفحص الجرح بهدوء. ثم قال في النهاية قبل أن يعود إلى عمله: «إنه لا ينزف.»

ظننتُ بذلك أن الموضوع قد انتهى. ولكن عندما عاد إلى المنزل من العمل في اليوم التالي، كان معه زوجان من قفازات الملاكمة. وكانت لهما رائحة الجلد الجديد، الزوج الأكبر كان أسود اللون وكان الأصغر أحمر، وأرْبِطتُهما معقودة، ومُلقَيان على كتفِه.

انتهى لولو من عقْد الرباط في قفازي وتراجع إلى الخلف ليرى نتيجة عمله. تدلت يداي إلى جانبيَّ مثل مصابيح تتدلَّى في طرف سلك رفيع. فهز رأسه ورفع القفازين ليُغطيا وجهي.

قال لولو: «أبقِ يدَيك مرفوعتَين لأعلى.» وأخذ يضبط وضع مرفقي وتراجع ليتخذ وقفةً مناسبة وبدأ يتحرَّك في مكانه. وقال: «عليك أن تستمرَّ في التحرك، ولكن اخفض رأسك لأسفل دائمًا، لا تمنحهم هدفًا يضربونه. بماذا تشعر؟» أومأتُ برأسي وأنا أُقلِّده بقدرِ ما أستطيع. وبعد بضع دقائق، توقَّف ورفع راحةَ يده في مواجهة أنفي.

وقال: «حسنًا. دعنا نرَ ضربتك.»

هذا شيء أعرف كيف أقوم به. فتراجعتُ خطوةً للخلف، وشحذتُ قواي وسدَّدت أفضلَ ضربةٍ لدي. وتمايلت يدُه بالكاد.

فقال لولو: «ليس سيئًا.» وأومأ لنفسه ولم تتغيَّر تعبيراتُ وجهه. وتابع: «ليس سيئًا على الإطلاق. لكن انظر أين يداك الآن. ماذا قلت لك؟ ارفعهما لأعلى …»

رفعتُ ذراعيَّ وسدَّدتُ ضرباتٍ خفيفةً لراحة يد لولو وأنا ألقي نظرة عليه على نحوٍ مُتكرِّر وأدركتُ إلى أي مدًى أصبح وجهه مألوفًا لي بعد سنتَين معًا، مألوفًا بالضبط كالأرض التي كنا نقف عليها. استغرقتُ أقل من ستة شهور كي أتعلم اللغة الإندونيسية والعادات والأساطير فيها. وتعرضتُ للإصابة بالجديري المائي والحصبة وتعافيتُ منهما، وتذوَّقتُ لسعةَ عِصي المدرسين المصنوعة من الخيزران. وأصبح أقرب أصدقائي هم أبناء الفلاحين والخدَم والموظفين الحكوميين العامِلين بوظائف قليلة الأهمية، وكنا نركض في الشوارع مساءً وصباحًا، ونقوم بأعمال غريبة؛ فنُمسك بصراصير الليل، ونحارب الطيارات الورقية بأسلاك حادة كالأمواس، وكان الخاسر يرى طائرته الورقية وهي تُحلِّق بعيدًا مع الرياح، ويعرف أنه في مكانٍ ما هناك أطفال آخرون كوَّنوا صفًّا يتحرك من جانبٍ لآخر على نحوٍ غير مستقر، ورءوسهم تتَّجِه إلى السماء مُنتظرِين أن تهبِط عليهم جائزتهم. ومع لولو تعلمتُ كيف آكل الفلفل الأخضر الصغير نيئًا على العشاء (مع كثير من الأرز)، وبعيدًا عن مائدة العشاء، جرَّبت لحمَ الكلاب (صعب المضغ)، ولحم الثعابين (أصعب) والجراد المشوي (مقرمش). وعلى غرار معظم الإندونيسيين، تبع لولو فرقةً من الإسلام يمكن أن تتَّسِع معتقداتها لتشمل بقايا العقائد القديمة الأكثر روحانية والهندوسية. وكان يرى أن الرجل يستمد قوَّته مما يأكله، ووعدني أنه سيُحضِر لنا قريبًا قطعةً من لحم نَمِر لنأكلها معًا.

هكذا كانت تسير الأمور، مغامرة واحدة طويلة، إثراء لحياة صبي صغير. وفي خطاباتٍ لجَديَّ كنتُ أُسجِّل بصدقٍ الكثيرَ من هذه الأحداث، وأنا واثِق بأن طرودًا من الشيكولاتة وزبدة الفول السوداني الأكثر رقيًّا ستتبع هذه الخطابات. لكن لم تكن الخطابات تحمل كلَّ ما أمر به؛ فبعض الأشياء وجدتُ أنه من الصعب تفسيرها. فلم أخبر جَديَّ عن وجه الرجل الذي جاء يطرق بابنا في أحد الأيام وفي وجهه حفرة عميقة في المكان الذي من المفترض أن يكون فيه أنفه، وصوت الصفير الذي صدر منه وهو يسأل أُمي بعض الطعام. ولم أذكر لهما أيضًا تلك المرة التي أخبرني فيها أحد زملائي في منتصف فُسحَة اليوم الدراسي أن شقيقه الرضيع تُوفي الليلة السابقة بسبب روحٍ شريرة جلبَتْها الرياح، والرعب الذي تراقص في عينَي صديقي لوهلةٍ قبل أن يُطلق ضحكةً غريبة ويَلكمني في ذراعي ويُطلق ساقَيه للريح. ولم أذكر تلك النظرة الخاوية التي ارتسمت على وجوه الفلاحين في العام الذي لم تهطل فيه الأمطار قط، وانحناء أكتافِهم وهم يتجولون حفاةً في الحقول القاحلة المتشقِّقة وينحَنُون كثيرًا ليُفتِّتوا التربة الزراعية بين أصابعهم، ولم أكتب عن إحباطهم العام التالي عندما هطلت الأمطار دون توقُّف لما يزيد عن شهر، مما أدَّى إلى ارتفاع منسوب المياه في النهر والحقول حتى إن المياه كانت تتدفَّق في الشوارع وقد وصلت إلى مستوَى خَصري، والعائلات تتزاحَم لإنقاذِ ما يملكون من الماعز والدجاج حتى بعد أن جرفت المياه أجزاءً من أكواخهم.

عرفتُ أن العالم عنيف، ولا يمكن تَوقُّعُ ما سيحدث فيه وغالبًا ما يكون قاسيًا. ورأيت أن جَديَّ لا يعرفان شيئًا عن مثل هذا العالم، ولم يكن هناك مغزًى من إزعاجهما بأسئلةٍ لا يستطيعان الإجابةَ عنها. وفي بعض الأحيان، عندما كانت أُمي تعود من العمل كنتُ أخبرها عن الأشياء التي رأيتها أو سمعتُ عنها، وكانت تضرب براحةِ يدِها على جبهتي وتستمع إليَّ باهتمام، وتبذل قصارى جهدها في تفسيرِ ما تستطيع. وكنتُ دائمًا أُقدِّر هذا الاهتمام؛ فصوتُها ولمسةُ يدِها كانا يمثِّلان لي الأمان. لكن معلوماتها عن الفيضانات والتعاويذ ومصارعة الديوك جعلت هناك الكثير من الأشياء التي أودُّ تعلُّمها. فكلُّ شيءٍ جديد عليَّ كان جديدًا عليها، وكنتُ أخرج من تلك الحوارات وأنا أشعر بأن أسئلتي قد منحتها سببًا غير ضروري للقلق.

لذا فقد اتجهتُ للولو أطلبُ منه الإرشاد والنُّصح. ولم يكن لولو شخصًا كثيرَ الكلام، لكن من المريح أن تكون معه، وكان يُقدِّمني لعائلته وأصدقائه بصفتي ابنه، لكن الأمور بيننا لم تتطوَّر إلى أكثرَ من نصائح مباشرة، ولم يتظاهر أن علاقتنا أكثر مما هي عليه حقًّا. وأنا تفهَّمتُ هذه المسافة؛ فقد كانت تعني ضمنًا وجودَ ثقةٍ بيننا كرجُلَين. وبدت معلوماته عن العالم لا تنضب. فلم تتضمَّن هذه المعلومات كيفيةَ تغيير الإطار الذي تسرَّب منه الهواء، أو الثغرات في لعبة الشطرنج فحسب. بل كان يعرف أمورًا تتصف بقدرٍ كبيرٍ من المراوغة، وطرقًا للتعامُل مع المشاعر التي كانت تنتابني، وطرقًا لشرح ألغاز القدَر المستمرة.

على سبيل المثال مسألة كيفية التعامُل مع المتسولين. بدوا أنهم كانوا ينتشرون في كل مكان؛ فقد كانوا مَعْرض للمرضى من الرجال والنساء والأطفال الذين يرتدون ملابس رثَّة تُغطيها القاذورات، وبعضهم فقدَ ذراعَيه والبعض الآخر فقدَ قدمَيه، وبعضهم ضحايا لمرض الإسقربوط أو شلل الأطفال أو الجذام يسيرون على أيديهم أو يتدحرجون على الأرصفة المزدحمة في عرباتٍ بالية، وسيقانهم ملتوية خلفهم مثل البهلوانات المتخصِّصين في تنفيذِ حركات صعبة بأجسادهم. في البداية كنتُ أرى أُمي تعطي نقودًا لأي شخصٍ يتوقَّف عند باب بيتنا أو يمدُّ لها يده ونحن نسير في الشوارع. بعد ذلك عندما أصبح من الجليِّ أن فيضان الآلام لا ينتهي كانت تنتقي مَن تمنحهم نقودًا بعد أن تعلَّمت تقييم درجة البؤس. ورأى لولو أن حساباتها الأخلاقية مثيرةٌ للإعجاب لكنها سخيفة، وكلما رآني أنهج نهجها وأمنح المتسولين العملات القليلة التي أمتلكها رفع حاجبَيه وانتحى بي جانبًا وسألني: «كم معك من النقود؟»

فكنت أفرغ جيبي. وأقول: «٣٠ روبية.»

«وكم عدد المتسولين في الشارع؟»

حاولت أن أتخيَّل عددَ مَن مرَّ إلى جوار منزلنا في الأسبوع المنصرم. فيقول بمجرد أن يظهر عليَّ أني لا أستطيع إحصاء العدد: «أرأيت؟» ويتابع: «من الأفضل أن تدَّخِر أموالك وتحرص على ألا ينتهي بك الأمر أنت شخصيًّا في الشارع.»

وكان يُطبِّق المبدأ نفسه مع الخدَم الذين كان معظمهم فلاحين. كانوا شبابًا وصلوا إلى المدينة حديثًا ويعملون غالبًا لدى عائلاتٍ ليسوا أحسن حالًا منهم بكثير، ويرسلون النقودَ إلى أهلهم في القرية أو يدَّخرون ما يكفي لأن يبدءوا مشاريعهم الخاصة. وعندما كان لولو يرى أنَّ لدَيهم طموحًا، كان يساعدهم ليبدءوا أعمالهم الخاصة، ويتسامح بصفة عامة مع صفاتهم الشخصية غيرِ المألوفة؛ فقد استأجر لأكثر من عامٍ شابًّا طيبًا يحب أن يرتدي ملابسَ نسائية في عطلة نهاية الأسبوع، وكان لولو يُحب الطعام الذي يطهوه، لكنه من الممكن أن يطرد الخدَم دون أيِّ شعور بالذنب إذا كانوا غير مهرة أو كثيري النسيان أو يكلِّفونه نقودًا كثيرة، وكان يشعر بالحَيرة عندما أحاول أنا أو أُمِّي أن نحميهم من حُكمه عليهم.

وقد قال لي لولو في أحد الأيام بعد أن حاولَتْ أُمي أن تتحمَّل هي اللوم لإسقاط جهاز راديو من على الخزانة: «إن أُمَّك رقيقة القلب.» وتابع: «وهذه صفة جميلة في النساء. لكنك ستكون رجلًا يومًا ما، ويجب على الرجل أن يتحلَّى بمزيدٍ من العقل.»

وقال إن هذا ليس له علاقة بما إذا كان المرء طيبًا أم شريرًا، أو يُحب الناس أو يكرههم. إنها مسألة تقبُّل الحياة بشروطها.

شعرتُ بضربةٍ عنيفة في الفك، ونظرتُ إلى أعلى إلى وجه لولو الذي يتصبَّب عَرقًا.

«انتبِه. وأبقِ يدَيك مرفوعة لأعلى.»

تدرَّبنا نصف ساعة أُخرى قبل أن يقرِّر لولو أنَّ وقتَ الراحة قد حان. كانت ذراعاي تؤلمانِني، ورأسي يخفق بألمٍ مستمر. أخذنا إبريقًا مليئًا بالماء وجلسنا بالقُرب من بحيرة التماسيح.

وسألني: «أتشعر بالتعب؟»

سقط جسدي للأمام وأنا أُومئ له بالإيجاب بصعوبة. فابتسم وشمَّر عن إحدى ساقيه ليحكَّ الجزء الخلفي من ساقه. فلاحظتُ سلسلةً من الندبات المسنَّنة التي تمتدُّ من الكاحل لأعلى حتى منتصف قصبة ساقه.

«ما هذه؟»

«إنها علاماتٌ تركتها الطفيليات.» وتابع: «ذلك منذ أن كنتُ في غينيا الجديدة. إنها تزحف داخل حذاء الجيش أثناء السير في المستنقعات. وعندما تنزع الجوارب في المساء تجدها ملتصقةً في هذا المكان مُنتفخةً من امتصاص الدماء. وعندما تنثر عليها الملح تموت، لكن عليك أن تحفر في جسدك بسكين ساخن لاستخراجها.»

مرَّرتُ أصبعي على إحدى الندبات البيضاوية الشكل. وكانت ناعمةً وخالية من الشَّعر في الأماكن التي تعرَّض فيها الجِلد للحرق. وسألت لولو عما إذا كانت قد آلمته.

فقال وهو يرتشف جرعةَ ماء من الإبريق: «بالطبع كانت مؤلمة.» واستدرك: «لكن في بعض الأحيان لا يُهمك هل الأمر مؤلم أم لا. إنما يهمك فقط القيام بما عليك أن تقوم به.»

ساد بيننا صمتٌ لبعض الوقت وكنتُ أراقبه بطرَف عيني. وأدركتُ أنني لم أسمعه قط يتحدَّث عما يشعر به. لم أرَه قط غاضبًا أو حزينًا. لقد بدا وكأنه يعيش في عالمٍ من الأسطح الصلبة والأفكار المحدَّدة بدقة. وفجأة قفزت إلى ذهني فكرةٌ غريبة.

فسألته: «هل رأيتَ في حياتك شخصًا يُقتَل؟»

فنظر إلى الأسفل وقد باغته السؤال.

فأعدتُه عليه مرةً أخرى: «هل رأيت؟»

فقال: «نعم.»

«هل كان المشهد داميًا؟»

«نعم.»

فكَّرتُ لدقيقة وسألت. «لماذا قُتِل الرجل؟ أعني الرجل الذي رأيت؟»

«لأنه كان ضعيفًا.»

«هذا كل شيء؟!»

فهزَّ لولو كتفَيه وعاد ليُغطي ساقه التي كشفها. وقال: «عادة ما يكون هذا كافيًا، فالناس تستغل ضعف الآخرين. إنهم بالضبط مثل الدول في هذا الأمر. فالرجل القوي يستولي على أرض الضعيف. ويجعل الضعيفَ يعمل في حقوله. وإذا كانت زوجة الرجل الضعيف جميلة فإن القوي سيأخُذها.» وتوقَّف ليأخذ رشفةً أُخرى من الماء ثم سألني: «أيهما تفضِّل أن تكون؟»

لم أُجِب عليه، فنظرَ بعينَين شبهِ مُغمضتين إلى السماء. وقال في النهاية وهو ينهض على قدميه: «من الأفضل أن تكون قويًّا.» وتابع: «وإذا لم تستطِع أن تكون قويًّا، فكن ذكيًّا وتحالفْ مع شخصٍ قوي. لكن من الأفضل دائمًا أن تكون أنت نفسك قويًّا. دائمًا.»

•••

كانت أُمي تُراقبنا من داخل المنزل، وهي تجلس إلى مكتبها تُصحِّح الأوراق. وتتساءل في نفسها: ما الذي يتحدَّثان عنه؟ دماء وأحشاء على الأرجح، وربما ابتلاع المسامير. فمثل هذه الأمور تروق للرجال.

وأطلقَتْ ضحكةً عالية ثم توقَّفت. فهذا ليس عدلًا. إنها مُمتنَّة بالفعل لاهتمام لولو بي. فلم يكن سيُعامِل ابنَه بطريقةٍ مختلفة. وتعلم أنها محظوظة لطيبةِ قلبِ لولو. وضعت أمي أوراقها جانبًا وراقبتني وأنا أُمارس تمارين الضغط. وأخذت تُفكِّر في أن ابنها يكبر بسرعة. وحاولت أن تتخيَّل نفسها يومَ وصولنا؛ أُمٌّ في الرابعة والعشرين من عمرها ومعها طفل في رعايتها، ومتزوجة من رجلٍ لا تكاد تعرف تاريخه أو بلده. وأدركَتْ في ذلك الوقت أنها لم تكن تعلم حينها إلا أمورًا قليلة، وأنها كانت تحمل براءتها مع جواز سفرها الأمريكي. وكان من الممكن أن تُصبح الأمور أسوأ، بل أسوأ بكثير.

لقد توقَّعَت أن تكون هذه الحياة الجديدة صعبة. وقبل أن تُغادر هاواي حاولَتْ أن تعلَمَ كلَّ ما يمكنها عن إندونيسيا: تَعداد سكانها؛ فهي خامس دولةٍ في العالم من حيث تَعداد السكان وبها المئات من القبائل واللهجات المحلية، وحاولت معرفةَ تاريخها مع الاستعمار؛ إذ احتلتها في بادئ الأمر هولندا أكثرَ من ثلاثة قرون، ثم اليابان إبَّان الحرب العالمية الثانية، سعيًا وراء التحكُّم في مخزونها الكبير من النفط والمعادن والأخشاب، ومعركتها من أجل الاستقلال بعد الحرب وظهور مُقاتل من أجل الحرية اسمه سوكارنو ليكون أولَ رئيس للبلاد. ومنذ عهد قريب نُحِّيَ سوكارنو لكن التقارير تقول إنه كان انقلابًا غيرَ دموي، وإن الشعب أيَّد التغيير. إذ قالوا إن سوكارنو أصبح فاسدًا، مُستبدًّا يعتمد على الخُطَب المتوهِّجة لإثارة مشاعر الجماهير، وشديد الانجذاب للشيوعيين.

وإندونيسيا دولة فقيرة ومُتخلفة وغريبة تمامًا، هذا هو ما كانت تعرفه. وكانت مستعدة لمواجهة الدوسنتاريا والحمى، واستعدَّت لعدم وجود الماء الساخن في الحمامات، وأن عليها أن تجلس القرفصاء على حفرةٍ في الأرض لتتبول، واستعدت لانقطاع الكهرباء كلَّ بضعة أسابيع، وللجو الحار وللناموس المستمر. إنها أمورٌ مُزعِجة حقًّا، لكنها كانت أقوى مما تبدو عليه، بل أقوى حتى مما كانت تَعرِف عن نفسها. وعلى أية حال كان هذا أحد أسباب انجذابها للولو بعد رحيل باراك؛ الوعد بشيءٍ جديد ومُهم، مساعدة زوجها في إعادة بناء بلدٍ في مكان مشحون ومليء بالتحديات بعيدًا عن متناول يد والدَيها.

لكنها لم تكن مستعدةً للوِحدة، الوِحدة الدائمة مثل ضيق التنفُّس. لم يكن بإمكانها أن تُشير إلى شيءٍ محدَّد بدقة. لقد رحَّب بها لولو ترحيبًا حارًّا وبذل كلَّ ما في وسعه ليجعلها تشعر بالأُلفة ووفَّر لها جميع سُبل الراحة التي يستطيع. وعاملتها عائلته بلباقةٍ وكرم، وعاملت ابنها كما لو أنه أحد أبنائها.

لكن شيئًا ما حدث بينها وبين لولو في العام الذي افترقا فيه. في هاواي كان لولو مفعمًا بالحياة، وشديدَ التَّوق لتنفيذ خُططه. وليلًا عندما يكونان وحدهما كان يخبرها كيف ترعرع وهو صبي إبَّان الحرب ثم رأى والده وشقيقه الأكبر يرحلان عن الأسرة لينضمَّا إلى جيش الثورة، وسمع نبأ مقتلِهما وضياع كلِّ شيء، وكيف أضرم الجيش الهولندي النيران في منزلهم فهربوا إلى الريف، وكيف كانت والدتُه تبيع مجوهراتها قطعةً في مقابل الطعام. وقد أخبرها لولو أن الأمور ستتغيَّر بعد رحيل الهولنديين وأنه سيعود للتدريس في الجامعة، وسيكون جزءًا من ذلك التغيير.

لكنه لم يَعُد يتحدَّث بهذه الطريقة. في الواقع أصبح نادرًا ما يتحدَّث إليها على الإطلاق، إلا عندما تكون هناك ضرورة لذلك أو عندما تتحدَّث هي إليه، وغالبًا لا يكون ذلك إلا عن مهمةٍ حالية مثل إصلاح تسرُّبٍ ما، أو التخطيط لرحلةٍ لزيارة أحد أقربائه البعيدين. كان الأمر كما لو أنه انجذب إلى مكانٍ مظلمٍ سري، لا يمكن لأحد الوصول إليه مصطحبًا معه أكثرَ جزءٍ مشرق من ذاته. وفي بعض الليالي كانت تسمعه وهو مستيقظ — بعد أن يأوي الجميع إلى الفراش — يتجوَّل في المنزل ومعه زجاجة من الويسكي المستورد غارقًا في أسراره. وفي ليالٍ أخرى كان يضع مسدسًا أسفل وسادته قبل أن يخلُد للنوم. وكلما سألته أُمي ما الخطْب صدَّها بلباقةٍ قائلًا إنه مُتعَب. وأصبح كما لو أنه لم يَعُد يثق بالكلمات. لم يَعُد يثق بالكلمات وبما تحمِله من مشاعر.

ساورت والدتي الشكوك بأن هذه المشكلات تتعلَّق بعمل لولو. فعندما وصلت كان يعمل جيولوجيًّا في الجيش، يفحص الطرق والأنفاق. كان عملًا مرهقًا للعقل وغير مجزٍ ماديًّا؛ فشراء الثلاجة وحدَها كلَّفه مرتَّبه في شهرين. وأصبح معه زوجة وطفل يتكفَّل بهما … فلا عجبَ أنه كان مكتئبًا. ورأت أُمي أنها لم تقطع كلَّ هذه المسافة لتكون عبئًا عليه. فقرَّرت أن تتحمَّل هي الأخرى الجزء الخاص بها من المسئولية.

وسرعان ما عثرت على عملٍ في تدريس اللغة الإنجليزية في السفارة الأمريكية لرجالِ الأعمال الإندونيسيين — وهو جزء من برنامج مساعدات الولايات المتحدة للدول النامية. وساعدتها النقود لكنها لم تخفِّف من وِحدتها. ولم يكن رجال الأعمال الإندونيسيون مُهتمين كثيرًا بتفاصيل اللغة الإنجليزية الدقيقة، وحاول العديد منهم التقرُّب منها. في السفارة كان الأمريكيون في الغالب رجالًا مُتقدِّمين في السن يهتمُّون بعملهم في وزارة الخارجية، أما رجال الاقتصاد أو الصحافة — الذين كانوا يختفون فجأةً لشهور — فلم يكن من الواضحِ ما وظيفتهم أو صِلتهم بالسفارة. وبعضهم كان صورةً للوجه القبيح للأمريكيين، فكانوا يميلون إلى السخرية من الإندونيسيين حتى يكتشفوا أنها متزوِّجة من إندونيسي، وعندها يحاولون التذرُّع بحجةٍ للإفلات من الإحراج كأن يقول أحدهم: لا تعتبري كلَّ ما أقوله جديًّا، فإن الجو الحار يَذهب بعقلي، وكيف حال ابنك، إنه ولد رائع.

ومع ذلك فهؤلاء الرجال كانوا يعرفون البلد جيدًا، أو أجزاء منها على الأقل، وحتى المخابئ التي دُفنت فيها الهياكل العظمية. وعلى الغداء أو أثناء محادثات عابرة كانوا يخبرونها أشياءَ لم تكن تعرفها من الأخبار الصحفية التي تُنشر. شرحوا لها كيف أن سوكارنو قد سبَّب قلقًا شديدًا للحكومة الأمريكية التي كانت تنتابها الهواجس بالفعل بسبب زحف الشيوعية عبر الهند الصينية، وخُطبِه الرنانة وسياسة عدم الانحياز، لقد كان سيئًا بالضبط مثل لومومبا أو جمال عبد الناصر، لكنه كان أسوأ بسبب الأهمية الاستراتيجية لإندونيسيا. وانتشرت شائعاتٌ تقول إن وكالة الاستخبارات الأمريكية قد لعِبت دورًا في الانقلاب، مع أن أحدًا لم يكن متأكدًا من هذا. لكن الأمر الأكيد هو أن القوات العسكرية بعد الانقلاب اجتاحت الريف بحثًا عن متعاطفين مع النظام الشيوعي. وكان عدد القتلى عرضةً للتقديرات المختلفة؛ فالبعض قدَّره ببضع مئات من الآلاف أو ربما نصف مليون. وحتى رجال المخابرات المحنَّكون لم يعرفوا العدد.

وقد علِمت أُمي من التلميحات والهمسات الجانبية أننا وصلنا إلى جاكرتا بعد أقلِّ من عام من أكثرِ حملات القمع وحشيةً وسرعةً في العصر الحديث. وامتلأت نفسها خوفًا من فكرةِ أنه يمكن ابتلاع التاريخ بهذا الشكل، بالطريقة نفسها التي يمكن للأرض الثرية والخصبة ابتلاع أنهار الدماء التي كانت تتدفَّق في الشوارع، والطريقة التي استطاع بها الناس استكمالَ أعمالهم وفوق رءوسهم صور عملاقة للرئيس الجديد كما لو أن شيئًا لم يحدث، كشعبٍ منشغل بتطوير نفسه. وعندما اتسعت دائرة أصدقائها من الإندونيسيين كان بعضهم على استعدادٍ لأن يخبرها بقصصٍ أخرى عن الفساد الذي تفشَّى في الجهات الحكومية، وعمليات الابتزاز التي تُنفِّذها الشرطة والجيش، والصناعات التي نشأت من أجل عائلة الرئيس وحاشيته. وبعد كل قصة جديدة كانت تذهب إلى لولو وتسأله سرًّا: «هل هذا صحيح؟»

وهو لم يكن يُخبرها شيئًا. وكلما ازدادت أسئلتها أصبح هو أكثر تمسكًا بصمته الهادئ. وكان يسألها: «لماذا تُقلقين نفسَك بمثل هذه الأحاديث؟» ويستفسِر منها قائلًا: «لِمَ لا تشترين ثوبًا جديدًا للحفل؟» وفي النهاية، اشتكت لأحد أقرباء لولو، وهو طبيب أطفال كان يرعى لولو أثناء الحرب.

وقد قال لها قريبه برفق: «إنك لا تفهمين.»

«أفهم ماذا؟»

«ظروف عودة لولو. إنه لم يخطِّط للعودة من هاواي بهذه السرعة كما تعرفين. ففي أثناء التطهير استُدعي جميع الطلاب الذين يدرُسون بالخارج دون تفسير، وسُحبت منهم جوازات السفر. وعندما هبط لولو من الطائرة لم تكن لدَيه فكرةٌ عما قد يحدث بعد ذلك. إننا حتى لم نرَه؛ فقد اصطحبه المسئولون بالجيش واستجوبوه، وأخبروه أنه جرى تجنيده وسيذهب لأدغال غينيا الجديدة لمدة سنة. لقد كان من المحظوظين. إذ كان حال الطلاب الذين كانوا يدرسون في دول الكتلة الشرقية أسوأ كثيرًا. الكثير منهم لا يزالون في السجن. أو اختفوا.»

وقال لها مرة أخرى: «ينبغي ألا تقسي على لولو.» وتابع: «من الأفضل أن ينسى المرء مثل هذه الأوقات.»

غادرت أمي منزلَ قريبه وهي تشعر بدوار. وفي الخارج كانت الشمس في كبد السماء والهواء مليء بالغبار، لكن بدلًا من أن تستقل سيارةَ أجرةٍ إلى المنزل بدأت تسير دون أن تعرف إلى أين تتَّجِه. ووجدت نفسها في حيٍّ للأثرياء حيث يقطن الدبلوماسيون وقادة الجيش في منازلَ واسعة لها بوابات عالية من الحديد المطروق. ورأت سيدة حافية القدمَين ترتدي شالًا ممزقًا تعبُر بوابةً مفتوحة وتسير على الطريق الذي يقود إلى داخل المنزل حيث كان مجموعةٌ من الرجال يغسلون أسطولًا من السيارات من طراز مرسيدس-بنز، ولاند روفر. صاح فيها أحد الرجال وأمرها أن تغادر، لكن المرأة وقفَت في مكانها، ومدَّت أمامها يدًا ضامرة تستجدي بها والظلال تخفي وجهها. وفي النهاية وضع رجل آخر يدَه في جيبه ورمى إليها بضع عملات. ركضت المرأة خلف العملات بسرعةٍ مُذهلة وهي ترفع عينَيها من حينٍ لآخر تتفحَّص الطريق في شك، وهي تجمع النقود وتضعها في جيب صدرها.

«القوة». علِقت الكلمة في ذهن أُمي مثل اللعنة. في أمريكا تظل مسألة القوة هذه بصفةٍ عامة مختفية عن الأنظار حتى يبحث المرء بنفسه أسفل السطح؛ أي حتى يزور أحد الأماكن المغلقة المخصَّصة لقبائل الهنود الحمر أو يتحدَّث إلى شخصٍ أسود بعد أن يكسِب ثقتَه. لكن القوة هنا واضحة لا تعرف تمييزًا، عارية، دائمًا حية في ذاكرتك. لقد أخذت القوة لولو وأعادته مرةً أخرى في الوقت الذي ظن فيه أنه هرب منها، مما جعله يشعر بأهميتها، وجعلته يُدرك أن حياته ليست ملكه. هكذا سارت الأمور؛ فالمرء لا يستطيع أن يُغيِّر شيئًا، كلُّ ما يمكنه فعله هو أن يعيش وفقًا للقواعد، وهي قواعد بسيطة إذا تعلمها. وهكذا عقد لولو معاهدةَ سلام مع القوة، وتعلَّم حكمة النسيان. بالضبط كما فعل زوج أخته الذي جمع الملايين من عمله كمسئولٍ رفيع المستوى في شركة نفط قومية، وبالضبط كما حاول شقيقٌ آخر له أن يفعل إلا أنه أخطأ في حساباته وآل به الحال الآن إلى سرقة قطعٍ من الفضة كلما جاء في زيارة، وبيعها بعد ذلك مقابل السجائر.

وتذكَّرت ما أخبرها به لولو ذات مرة عندما مسَّت أسئلتها المتواصلة موضوعًا حساسًا. إذ قال: «الإحساس بالذنب رفاهيةٌ لا يقدِر عليها سوى الأجانب، مثل قولٍ ما يبدُر إلى ذهنك.» إنها لم تكن تعرف ما يبدو عليه الأمر عندما يخسر المرء كلَّ شيء، عندما يستيقظ ويجد أحشاءه تتقطَّع من الجوع. لم تعرف كم من الممكن أن يكون الطريق إلى الأمن مزدحمًا وغادرًا. فمن دون التركيز المطلق، من السهل أن ينزلق المرء ويعود إلى الوراء.

إنه محقٌّ بالطبع. إنها أجنبية، بيضاء من الطبقة المتوسطة جذورها تحميها، سواءً أكانت تريد الحماية أم لا. فبإمكانها دائمًا أن تُغادر إذا ما ساءت الأمور. وهذه الإمكانية كانت تنفي أيَّ شيءٍ من الممكن أن تقوله للولو، وهذا هو الحاجز الذي لا يمكن اختراقه بينهما. وفي تلك اللحظة نظرت من النافذة ووجدَت أنني ولولو قد انتقلنا من مكاننا والحشائش أصبحت مسطَّحة في المكان الذي كنا نجلس فيه. هذا المشهد جعلها ترتجف، فنهضت على قدمَيها وقد ملأها رعب مفاجئ.

إن القوة تأخذ ابنها.

•••

وعندما أعود وأفكِّر في تلك الفترة أجد أنني لستُ واثقًا بأن لولو كان يفهم جيدًا ما كانت أمي تمرُّ به في تلك السنوات، ولماذا كانت الأشياء التي كان يبذل قصارى جهده ليوفِّرها لها تزيد المسافة بينهما. إنه لم يكن رجلًا يطرح على نفسه مثل هذه الأسئلة، بل كان يحافظ على تركيزه، وعلى مدار الفترة التي عشناها في إندونيسيا استمرَّ نجمه في الصعود. وبمساعدة زوج شقيقتِه حصل على عملٍ جديد في مكتب العلاقات الحكومية بشركةِ نفط أمريكية. وانتقلنا إلى منزلٍ في حيٍّ أفضل، وحلت السيارة محلَّ الدراجة البخارية، وحل التليفزيون ومذياع لِبثِّ الصوت بكفاءةٍ عالية محلَّ التماسيح والقرد تاتا، وأصبح بإمكان لولو أن يحجز لنا عشاءً في نادي الشركة. وفي بعض الأحيان كنتُ أسمعه وأمي يتجادلان في غرفةِ نومهما عن رفضها حضور حفلات العشاء التي تقيمها الشركة حيث يربِّت رجال الأعمال الأمريكيون من تكساس ولويزيانا على ظهرِ لولو ويتفاخرون بالرُّشا التي دفعوها للحصول على حقوق التنقيب عن النفط في الحقول البحرية الجديدة، في حين تشتكي زوجاتهم لأمي من طبيعة المساعدة الإندونيسية. وكان يسألها كيف سيكون شكله إذا ذهب وحدَه، ويذكِّرها بأنهم شعبها، وهنا يعلو صوت أُمي ليُصبح صراخًا تقريبًا.

كانت تقول: «إنهم ليسوا شعبي.»

ومع ذلك فمثل هذه المناقشات نادرًا ما كانت تحدُث، وقد ظلَّت علاقة لولو وأمي يسودها الودُّ عند ميلاد أختي مايا وانفصالهما وطلاقهما في النهاية، وحتى المرة الأخيرة التي رأيتُ فيها لولو بعد ١٠ سنوات عندما ساعدَتْه أُمي على السفر إلى لوس أنجلوس للعلاج من مرضٍ في الكبد تسبَّب في وفاته وهو في الحادية والخمسين من عمره. أما التوتر الذي لاحظتُه فكان يتعلَّق في المقام الأول بالتغير التدريجي في سلوك أُمي تجاهي. لقد كانت دائمًا تشجعني على أن أتشرَّب الثقافة الإندونيسية بسرعة، وقد جعلني هذا إلى حدٍّ ما أتمتَّع باكتفاءٍ ذاتي ولا أطلب الكثير نظرًا للميزانية المحدودة، وجعلني حسَن الخلق بالمقارنة بالأطفال الأمريكيين الآخرين. لقد علَّمَتني أن أحتقر المزيج من الجهل والغرور الذي كان في أغلب الأحيان صفةً للأمريكيين بالخارج. لكنها أصبحت تُدرك — مثل لولو بالضبط — الهوةَ الكبيرة التي تفصل بين فرص الحياة المتاحة أمام أمريكي وتلك المتاحة أمام إندونيسي. وعرفَت إلى أي جانبٍ تريد أن يكون ابنها. فقرَّرت أنني أمريكي، وحياتي الحقيقية تُوجَد في مكانٍ آخر.

تركَّزت جهودها المبدئية على التعليم. ومع عدم توفُّر النقود المناسبة كي ألتحق بالمدرسة الدولية حيث يدرُس معظم الطلاب الأجانب في جاكرتا؛ فقد رتَّبت منذ لحظة وصولنا كي تُضيف إلى تعليمي في المدارس الإندونيسية منهجًا دراسيًّا أمريكيًّا أدرُسه بالمراسَلة.

وفي ذلك الوقت تضاعفت جهودها. فطَوال خمسة أيام في الأسبوع كانت تدخل إلى غرفتي في الرابعة صباحًا، وتُجبرني على تناول طعام الإفطار وتُعطيني دروسًا في اللغة الإنجليزية لمدة ثلاث ساعاتٍ قبل أن أذهب إلى المدرسة وتذهب هي إلى عملها. وقد قاومتُ هذا النظام بشدة، لكن في مقابل كل وسيلةٍ كنتُ أتدبَّرها، سواء أكانت غير مُقنعة (مثل ألمٍ في معدتي) أو حقيقية بصورةٍ لا تقبل النقاش (مثل أن تَغمض عيني كل خمس دقائق)، كانت أُمي تكرِّر على مسامعي بصبرٍ أقوى وسيلة دفاعية لديها:

«هذا الأمر ليس نزهةً لي أنا أيضًا أيها الصبي.»

ثم كانت هناك المخاوف التي تظهر من حينٍ لآخر فيما يخصُّ سلامتي، وصوت جَدتي يتصاعد. وأذكر أني عُدت إلى المنزل بعد أن أسدل الليل ستائره في أحد الأيام لأجد أنَّ هناك فرقةَ بحثٍ كبيرة محتشدة في فناء منزلنا. لم تبدُ أُمي سعيدة ولكنها شعرت بارتياحٍ شديد لرؤيتي حتى إنها استغرقت عدة دقائق لتُلاحظ أن جوربًا مبتلًّا ومُتسخًا بالوحل ملفوفًا حول ساعدي.

«ما هذا؟»

«ماذا؟»

«هذا! لماذا تلف ساعدك بجورب؟»

«لقد جرحت نفسي.»

«دعني أرَ.»

«الأمر ليس بهذه الخطورة.»

«باري. دعني أرَ.»

فنزعتُ الجورب لأُريها جرحًا طويلًا يمتد من الرُّسغ إلى المرفَق. كان بعيدًا عن الوريد ببوصةٍ واحدة لكنه عميق عند العضلة حيث يظهر لحمٌ دامٍ من أسفل الجلد. وعلى أمل أن تهدأ شرحتُ لها ما حدث وهو أنني وصديقي سافرنا مُتطفلَين إلى مزرعة عائلته، ثم بدأت الأمطار تهطل، وفي المزرعة كان هناك مكان رائع للتزلُّق على الوحل، وكانت هناك أسلاك شائكة تُعيِّن حدود المزرعة، و…

صاحت أمي: «لولو!»

وعندما تقصُّ أمي هذه القصة الآن فإنها تضحك عند هذه النقطة، ضحكة أم سامحت ابنها على الأخطاء التي مضت. لكن نبرتها تتغيَّر تغيرًا طفيفًا عندما تتذكَّر أن لولو اقترح أن ننتظر إلى الصباح لتضميد الجرح، وأنه كان عليها أن تُرهِب جارنا الوحيد الذي يمتلك سيارةً بالصياح في وجهه ليصطحبنا إلى المستشفى. وتتذكَّر أمي أن معظم الأضواء كانت مطفأة في المستشفى عندما وصلنا، ولا يُوجَد أيُّ موظفٍ في الاستقبال، وتتذكَّر صوت خطواتها المضطربة تتردَّد عبر الرُّواق حتى وجدت أخيرًا شابَّين يرتديان شورت لعبة الملاكمة يلعبان الدومينو في غرفةٍ صغيرة في الخلف. وعندما سألتهما أين الأطباء، أجابها الرجل بابتهاج: «نحن الأطباء»، واستكملا لعبتهما قبل أن يرتديا سرواليهما ويخيطان ذراعي بعشرين غرزة تركت ندبةً قبيحة المنظر. وطوال ذلك الوقت، كان هناك شعور يسيطر عليها أن حياة طفلها ربما تضيع عندما يغيب عن ناظرَيها، وأن جميع مَن حولها سيكون مشغولًا في محاولة النجاة بنفسه حتى إنه لن يلاحظ، وأنه عندما نظرَت حولها وجدَت أنه سيكون معها الكثير من المتعاطفين لكن لا أحد سيقِف إلى جوارها وهي تقاوِم المصير الذي يُهدِّدها.

وأُدرك الآن أن مثل تلك الأمور، غير الملموسة مثل النصوص الدراسية والخدمات الطبية، هي التي أصبحت محورَ تركيزِ دروسها معي. فكانت تقول لي: «إذا أردتَ أن تكون إنسانًا فإنك بحاجةٍ إلى بعض القِيَم»:

الأمانة: ما كان ينبغي للولو أن يخبِّئ الثلاجة في حجرة التخزين عندما جاء مسئولو الضرائب، حتى إذا كان الجميع — ومنهم مسئولو الضرائب أنفسهم — يتوقَّعون مثل هذه الأمور. العدالة: لا ينبغي لأولياء أمور الطلاب الأكثر ثراءً أن يُهدوا المدرسين أجهزةَ تليفزيون في شهر رمضان، وليس من حق أطفالهم أن يفتخروا بالدرجات العالية التي يحصلون عليها. الصراحة: إذا لم يكن القميص الذي اشتريته لك في عيد ميلادك قد أعجبك، كان يجب أن تقول هذا بدلًا من أن تتركه في قاعِ خزانة ملابسك. استقلال الرأي: إذا كان الأطفال يستهزئون بالصبي الفقير بسبب الطريقة التي يقصُّ بها شعره فلا يعني هذا أن تفعل مثلهم.

لقد كان الأمر كما لو أنه بالسفر حول منتصف العالم — بعيدًا عن الاعتداد بالنفس والنفاق الذي كشفته الألفة — استطاعت أُمي أن تُعبِّر عن فضائل ماضيها الغرب أوسطي وتعرِضها بصورةٍ مركَّزة. المشكلة هي أنه لم يكن لدَيها سوى قليلٍ من وسائل التأكيد؛ فكلما انتحت بي جانبًا لتقدِّم لي إحدى هذه النصائح أومأتُ لها موافقًا، لكن كان يجب أن تعرف أن الكثير من أفكارها غيرُ عمليٍّ. وكلُّ ما فعَله لولو هو أنه شرح لي فقط الفقر والفساد والتدافُع المستمر من أجل الأمان، لكنه لم يخترعها. فقد ظلَّت تُحيط بي وولَّدت داخلي شكًّا لا يعرف الرحمة. فثقة أُمي في الفضائل الجمالية تعتمد على إيمانٍ لم يكن عندي، إيمان رفضتْ هي أن تصفه بأنه دِين، إيمان أخبرتْها خبرتُها أنه تدنيس للمقدَّسات؛ إنه إيمان بأن الأشخاص العقلانيين المتفكِّرين يمكنهم أن يُشكلوا قدَرَهم. وفي أرضٍ ظلت الحتمية فيها أداةً ضرورية لتحمُّل الصعاب، حيث كانت الحقائق المطلَقة تظل منفصلةً عن حقائق الحياة اليومية، كانت هي شاهدة وحيدةً للإنسانية العلمانية، جندية لصفقة كينيدي الجديدة، وقوات السلام، والليبرالية التي تقول بها المنظمات.

ولم يكن لها في كل هذا سوى حليفٍ واحد؛ السلطة البعيدة لأبي. فأصبحت بصورةٍ متزايدة تذكِّرني بقصته؛ كيف نشأ فقيرًا في دولةٍ فقيرة في قارةٍ فقيرة، وكيف كانت حياته صعبة، صعبة مثل أي شيءٍ قد يكون لولو واجهه. لكنه لم يختَر أسهل الطرُق ولم يلجأ إلى استخدام كل وسيلةٍ تُتاح أمامه لتحقيق أهدافه. لقد كان مجتهدًا وأمينًا مهما كلَّفه الأمر. وعاش حياته وفقًا لمبادئَ تطلَّبت نوعًا مختلفًا من الصلابة، مبادئ وعَدَته بشكلٍ أرقى من القوة. ورأت أمي أني سأسير على نهجه. ولم يكن لديَّ خيار. فهذا الأمر مستقرٌّ في جيناتي.

«يمكنك أن تشكرني على شكل حاجبَيك … فقد كان حاجبا أبيك خفيفَين وصغيرَين. لكنك ورِثت عقلك وشخصيتك عنه.»

أصبحت رسالتها تضمُّ السودَ بصفةٍ عامة. فكانت تعود إلى المنزل محمَّلةً بكتبٍ عن حركة الحقوق المدنية، وتسجيلات لماهاليا جاكسون وأحاديث الدكتور كينج. وعندما قصت عليَّ قصصًا عن أطفال المدارس في الجنوب الذين كانوا مُجبرين على قراءةِ كتبٍ تنازلت عنها لهم مدارس البِيض الأكثر ثراءً، لكنهم استكملوا تعليمهم ليصبحوا أطباء ومحامين وعلماء، شعرت بخجلٍ لأني أُعارض الاستيقاظ مبكرًا والمذاكرة في الصباح. وإذا أخبرتها عن مسيرات الاستعراض العسكري التي قام بها فريقُ الكشافة الإندونيسي أمام الرئيس، فقد تذكر مسيرةً من نوع آخر، مسيرةَ أطفال لا يكبرونني سنًّا من أجل الحرية. فكل رجلٍ أسودَ كان ثورجود مارشال أو سيدني بواتييه، وكانت كل سيدة سوداء فاني لو هامر أو لينا هورن. وأن يكون المرءُ أسودَ يعني أن يكون المستفيدَ من ميراثٍ عظيم، ومصيرٍ خاص، وأعباءٍ مجيدة لا يقوى على تحمُّلها سوانا.

إنها أعباءٌ قُدِّر لنا أن نتحمَّلها بأناقة. فقد أشارت أمي أكثرَ من مرةٍ إلى أن «هاري بيلافونت هو أكثر الرجال وسامةً على ظهر الكوكب.»

•••

كان هذا هو السياق الذي رأيتُ فيه صورة الرجل الأسود في مجلة «لايف» الذي حاول أن يخلع عنه بشرتَه. وأتخيَّل أطفالًا سودًا آخرين في ذلك الوقت والآن يمرون بلحظاتٍ مشابهة من تجلي الحقائق. ربما تتجلَّى هذه اللحظات في أوقاتٍ مبكِّرة للبعض؛ فيحذِّر الآباء أبناءهم من عبور حدود منطقةٍ محدَّدة بعينها، أو يشعرون بالإحباط لأن شَعرهم ليس كشعر الدُّمية «باربي» بصرفِ النظر عن كيف تُمشَّط وتَتَعَذَّب، أو قصة إهانة الوالد أو الجَد على يد صاحب عمل أو ضابط، التي يسمعها الطفل صدفةً عندما يكون من المفترض أنه نائم. قد يكون من الأسهل لطفلٍ أن يتلقى الأخبار السيئة في جرعاتٍ صغيرة ويسمح لنظامِ دفاعٍ أن يتكوَّن داخله، مع أني أشك أني كنتُ من المحظوظين؛ إذ تمتعتُ بفترةِ طفولة خالية من الشك في الذات.

أعلم أن رؤيةَ ذلك المقال كانت قاسية، كمينٌ تعرَّضتُ فيه للهجوم. لقد حذَّرتني أمي من المتعصِّبين؛ فهُم جهلةٌ غير مثقَّفين يجب أن يتجنَّبهم المرء. وإذا لم أكن قادرًا بعدُ على التفكير في كوني مخلوقًا فانيًا، فقد ساعدني لولو على فهْم احتمال التعرُّض لعجز المرض، أو تشوُّهات الحوادث، أو أُفول نجم الحظ. فاستطعتُ بنجاحٍ التعرُّف على طمعٍ منتشر أو قسوةٍ في الآخرين، وفي بعض الأحيان في نفسي. لكن تلك الصورة أخبرتني بشيءٍ آخر: أن هناك عدوًّا خفيًّا، عدوًّا يمكنه أن يصل إليَّ دون علمِ أحد، أو حتى دون علمي أنا شخصيًّا. وعندما عُدت إلى المنزل في تلك الليلة من مكتبة السفارة، ذهبت إلى الحمام ووقفتُ أمام المرآة ووجدتُ جميع حواسي وأطرافي كما هي، وبدوت كما أنا دائمًا، وتساءلت هل أَلَمَّ بي شيء. أما البديل الآخر الذي كان أمامي فلم يكن أقلَّ إثارة للرُّعب وهو أن جميع الكبار ممن حولي يعيشون في غمرة الجنون.

ستمرُّ تلك النوبة القوية الأولى من القلق، وسأقضي عامي المتبقِّي في إندونيسيا كما أمضيتُ ما قبله. وحافظتُ على ثقةٍ لم تجد ما يبرِّرها دائمًا، ومهارة لا يمكن كبتها للإزعاج. لكنَّ نظرتي تغيَّرت للأبد. وفي عروض التليفزيون الأجنبية التي بدأت تُذاع في المساء، بدأتُ ألاحظ أن «كوسبي» لم يفُز قط بالفتاة في مسلسل «أنا أتجسَّس» (آي سباي)، وأن الرجل الأسود في فيلم «مهمة مستحيلة» (ميشن إمبوسيبل) ظل طوال الوقت تحت الأرض. ولاحظت أنه لا يُوجَد أحدٌ مثلي في كُتيب الكريسماس الدعائي لشركة «سيرز وروباك وشركاه» الذي كان جَدي وجَدتي يُرسِلانه لنا، وأن بابا نويل كان رجلًا أبيضَ اللون.

احتفظتُ بهذه الملاحظات لنفسي، مُقرِّرًا أن أمي إما أنها لم تشاهدها أو أنها تحاول حمايتي، وإنني يجب ألا أريها أن محاولتها قد فشلت. وكنتُ لا أزال أثق بحبِّ أمي، لكني أصبحتُ أواجه احتمال أن ما ترويه عن العالم ومكانة أبي فيه غير كاملة بطريقةٍ ما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤