الفصل الحادي والعشرون

الشرفة

ولما كانت الساعة التاسعة قدم دارتانيان إلى الإصطبل فوجد بلانشت قائمًا في انتظاره وفي يده زِمامَا فَرَسَيْنِ، فركبا وسارا تحت الليل حتى أبعدا عن باريز ودخلا في غابة بولونيا، وحَثَّا جواديهما حتى قربا من سان كلو، فقال دارتانيان لخادمه: أَنْظِرْني هنا حتى أرجع إليك. قال: يا مولاي، أجد الليلة باردةً وأخشى أن يصيبَني منها بعضُ أذًى يقعُد بي عن خدمتك، فلو أذِنْتَ لي بالْمَبِيت في أحد هذه الأكواخ؟ قال: أنت وذاك. وسار بجواده يَنْهَب الطريق ويتنكب الواسعةَ منها حتى انتهى إلى الشُّرْفة، فوقف تِجاهَها وأقام ينتظر ساعةً وهو لا يَسْمَع حِسًّا ولا يرَى إلا قِفَارًا يُجَلِّلها ضَبابٌ كثيفٌ تَلْمَع من خلاله بعضُ الكواكب، حتى قرعت الساعة العاشرة ولم يرَ شيئًا ولم يسمع رِكْزًا، وبصرُه موجَّهٌ إلى نوافذ البيت القائمة الشرفة على زاويته، وهي كلها مقفلة ليس فيها إلا واحدة مفتوحة في آخرها يلوح من خلالها نورٌ ضعيف ولا حركةَ فيها. فأقام ينظر إليها حتى الساعة العاشرة والنصف، فجالت وساوسه وجعل يقوم ويقعد، ثمَّ توهَّم أنه مخطئٌ في قراءة الرسالة، فدنا من النافذة وقرأها فإذا هو مصيب غير مخطئ، ثمَّ كانت الساعة الحادية عشرة فضاق صدره وأوجس في نفسه خوفًا من شيء يصيب حبيبته، فجعل يروح تِلْقاءَ النوافذ ويجيء، ثمَّ حاول الصعود على الحائط فلم يَقْدِر، وخطر له فصعد إلى شجرة تُقابِل النافذة ونظر فرأى نورًا ضعيفًا يضيء من خلال نافذة مكسورة الزجاج، وتظهر به الغرفة مَصْروعة الباب مقلوبة الْمَتاع والأثاث، وعليها بعض قطرات دم، فنزل من الشجرة وقلبُه خافق وفِكْرُه مضطرب، ونظر إلى الأرض فرأى فيها آثار أقدام وحوافر وعجَلات مَرْكَبة تمتد إلى طريق باريز، ووجد على قارعة الطريق قفَّاز امرأة لم يَكَدِ الْوَحْل يَعْلَق به لِنُعومته ولِينه، فضاقت عليه الدنيا وانقبض صدره وعدل إلى الشارع، فسأل بعض المارَّة فقال له إنه رأى امرأة تقطع النهر مُتَّشِحَة بِبُرْنُسِها، فظنَّ دارتانيان أنها هي، فعاد إلى النافذة ليتحقق قراءة الرسالة لعله ضل عن المكان، فوجد نفسه مصيبًا وأنْ قد حالَ دون لقاء حبيبته حائل، فمال إلى بيت قريبٍ وقرع باب ففتح له رجل شيخ، فسأله عما حدث؟ فقال: هو أمر إذا أخبرتك به ساءت مَغَبَّتُهُ عليَّ. قال: لا بأسَ عليك، فَقُلْ. ثمَّ رشاه بشيءٍ من المال فقال له بصوت منخفض: إنه عند الساعة التاسعة بينما أنا في بيتي هذا سمعت خَفْق نِعال وقَعْقَعَة لُجُم، ففتحت الباب لأرى، وإذا أنا بثلاثة رجال بلباس الخيالة، وعلى مقربة منهم عربة تقودها الخيل، فاستخبرتهم الخبرَ فقالوا: هل عندك سُلَّم؟ قلت: نعم. قالوا: علينا بها وخذ هذه القطعة على أن تَكْتُمَ ما رأيت. فأخذت القطعةَ وأعطيتُهم السُّلَّم ثمَّ تظاهرت أني داخل في الباب وتواريت وراء شجرة فإذا بهم نَصَبُوا السُّلَّم وصعدوا إلى الغرفة ثمَّ سمعت صوتًا يقول: هي هذه. ورأيت الامرأة قد دنت من النافذة فصَدَّها الرجلان الصاعدان على السلم فأخذت تَصِيح وتستغيث حتى خفيَ صوتها ونزلوا بها إلى العربة، فسارت بهم ولم أَدْرِ ماذا جرى بعد ذلك. قال: ألَا تَصِف لي زعيمَهم؟ قال: بلى. ثمَّ أخذ يصف له الرجل، فقال: قاتلَه الله، لم يَزَلْ يتبعني، هو خَصْمي، واللهِ لَأُذِيقَنَّهُ الموتَ ألوانًا. ثمَّ قال الرجل: فاكتم يا مولاي ما سمعت مني تحفظ حياتي. قال: لا عليك. ثمَّ سار فوجد خادمَه في أحد الأكواخ، فركب وإياه وسارا إلى البيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤