زجاجة تلمع في عين الشمس

كان يومًا نموذجيًّا من أيام الصيف … وكان المغامرون الخمسة و«زنجر» أيضًا يَستمتعون بمياه البحر في «أبو قير» … وقد ازدحم الشاطئ والمياه بالمستحمين في منطقة المعسكر … وهي من أحب الأماكن إلى قلوب المغامرين … لما تتميَّز به من صفاء المياه … ووفرة الرمال الصفراء … والتلال والروابي الخُضر تمتد بعيدًا حتى الأفق …

وأخذت كرة حمراء تقفز فوق المياه يُطاردها المغامرون … «محب» و«تختخ» معًا … و«عاطف» و«نوسة» و«لوزة» معًا … وكان على «زنجر» عندما تصل الكرة إلى الشاطئ أن يُعيدَها إلى البحر …

وأمضى المغامرون ساعتين في مباراةٍ مُثيرة … تخلَّلتها بعض دقائق للراحة عندما ظهرت السيدة «كريمة» قريبة «عاطف» والتي ينزلون ضيوفًا عندها … ظهرت على الشاطئ تنظر إلى المياه بحثًا عنهم … فقد حان موعد الغداء …

ولاحظ «عاطف» حضور السيدة «كريمة» فقال: لقد ظهرت الحكومة … وعلينا أن نَهرُب.

تختخ: لقد جاءت في موعدها … فأنا في غاية الجوع.

عاطف: إنك في غاية الجوع دائمًا … والحمد لله، فلو كان والدك يَمتلك مطعمًا لأفلس منذ زمن بعيد.

تختخ: إنَّ الساعة بالتأكيد قد تجاوزت الثانية … وأغلب المستحمين قد غادَرُوا البلاج.

وأخذت السيدة العجوز تُشير بيدها … فرفع لها «تختخ» ذراعه معلنًا أنهم سيخرجون فورًا … وبدأ يعوم في اتجاه الشاطئ عندما قالت «لوزة»: انظر يا «تختخ» إنني أرى شيئًا عائمًا يلمع في الشمس.

تختخ: أين؟

أشارت «لوزة» في اتجاه الغرب وقالت: هذا هو.

وأخذ «تختخ» ينظر ولكنه لم ير شيئًا، فقال: هيا بنا … ربما كانت سمكة ميتة أو قطعة خشب بها صفيح أو شيء من هذا القبيل.

وبدأ «تختخ» يخرج … ولكن «لوزة» الصغيرة أخذت تتَّجه ناحية الغرب وصاحت «نوسة» بها: إلى أين أنتِ ذاهبة؟

ردَّت «لوزة»: سأرى هذا الشيء اللامع البعيد.

محب: دعكِ من هذا الآن يا «لوزة» … فإن السيدة «كريمة» في انتظارنا.

لوزة: لن أخرج حتى أعرف ما هذا.

ومضت «لوزة» … تضرب المياه بذراعَيها متجهة إلى الشيء الذي رأته ولم يره بقية المغامرين … ولاحظ «محب» أنها تجاوزت المياه الضحلة، وأخذت تعوم في المياه العميقة، فتوقف، وقال «تختخ»: إنها وصلت إلى المياه السوداء … وأخشى أن تتعب بعد هذه المباراة التي لعبناها بالكرة.

حوَّل «تختخ» وجهه من الشاطئ إلى داخل البحر … وأخذ ينظر، ولاحظ على الفور أن «لوزة» تتجه بسرعة إلى منطقة المياه السوداء خارج الصخور حيث البحر عميق، والتيَّارات قويَّة … فأخذ نفسًا عميقًا ثم انطلق يعوم في اتجاه «لوزة» وهو يُنادي عليها … وتبعه «محب» … بينما توقف «عاطف» و«نوسة» وأخذا يَنظُران وقد أحسَّا ببعض القلق.

كانت «لوزة» تلبس «مايوه» … أبيض اللون … بدا واضحًا فوق الأمواج العالية.

وزاد «محب» و«تختخ» من سرعتهما، وأخذا يُناديان … ولكن صوت الأمواج كان يُغطِّي على ندائهما … وكان «محب» أسرع عومًا، فتقدم «تختخ» ببضعة أمتار … واقترب من «لوزة» التي بدأت تَشعُر بالتعب … وتُحسُّ أن ذراعَيها لا تُطاوعانها على الاستمرار في السباحة بعد أن أصبحت قريبة من الشيء اللامع الذي عرفت عندما اقتربت منه أنه زجاجة …

كانت بين أن تعود سريعًا إلى الشاطئ قبل أن تَعجز عن السباحة … وبين أن تضرب بضع ضربات أخرى وتمسك بالزجاجة العائمة … وكالعادة تغلَّبت روح المغامرة في نفس «لوزة» وقررت أن تستمر … وأخذت تضرب المياه بقوة، ولكن بعد بضع ضربات أحسَّت أن قواها تخور … وأنها لن تستطيع الاستمرار … وتوقفت مكانها واستلقت على ظهرها لترتاح … ووصل «محب».

قال «محب» لاهثًا: ما هذا يا «لوزة»؟ … إنكِ ابتعدتِ كثيرًا عنا.

ردَّت «لوزة» بأنفاسٍ متسارعةٍ: أريد الوصول إلى هذه الزجاجة!

محب: لماذا؟

لوزة: لا أدري … إنها رغبة لا أملك السيطرة عليها.

ومدَّ «محب» ذراعه «للوزة» تَستند عليها … وفي هذه اللحظة وصل «تختخ» وشاهد الزجاجة تَلمع في الشمس، فيُثير انعكاس الأشعة عليها ما يشبه الألم في العين … وقال مُشيرًا إلى الزجاجة: هل هذا هو الشيء الذي تُريدين الوصول إليه؟

ردَّت «لوزة»: نعم، وأرجوكَ أن تُحضرَها.

كان حجم «تختخ» الهائل يخدمه في السباحة … ولم يكن قد شعر بالتعب، فضرب بذراعَيه في المياه وتقدم من الزجاجة التي كانت التيَّارات تَحملُها مُبتعدة … وأحس بنفس العناء الذي أحسَّت به «لوزة» … أن يحصل على الزجاجة … وبدأت الزجاجة تَبتعد وهو خلفها حتى أصبحت على بُعد متر واحد منه … ولاحظ أنها بدأت تغوص في المياه … ودُهِشَ ولكن بضربة واحدة أخرى أصبحت في متناول يده، فمدَّ ذراعه وأمسك بها.

كانت زجاجة متوسطة الحجم … صفراء اللون مسدودة بقطعة من القماش … ودار «تختخ» وهو يمسك بها عائدًا إلى الشاطئ، وكان «محب» و«لوزة» قد سبقاه فأخذ يُبدي مهارته في العوم، وهو يمرق فوق المياه كالدرفيل الأبيض حتى اقترب منهما سريعًا وصاح: ها هي يا «لوزة»!

صاحت «لوزة» بفرح حقيقي: أشكرك …

ومدَّت يدها فناولها «تختخ» الزجاجة … وصعد الجميع إلى الشاطئ وسمعوا السيدة «كريمة» وهي تصرخ: ماذا حدث؟ لماذا ذهبتُم إلى داخل المياه بهذا الشكل؟ إذا تكرر هذا منكم مرة أخرى، فسوف أُعيدكم فورًا إلى القاهرة … ولن تروا الإسكندرية مرةً أخرى.

قال «عاطف» مُعتذرًا في لُطف: إنكِ لستِ قاسية إلى هذا الحد يا عمتي.

صاحت العمة: اسكت أنت … إنني أُحدِّث هذه الطِّفلة الشقية.

ردت «لوزة» وهي ترفع الزجاجة إلى فوق: ولكن يا عمَّتي لقد حصلنا على هذه الزجاجة.

قالت «العمة» في ضيق: وما قيمة هذه الزجاجة؟! إنها لا تُساوي بضعة قروش، وكدتِ تغرقين وأنتِ تَسعين خلفها.

لوزة: كيف أغرق ومعي هذان السبَّاحان الماهران.

قالت «العمة»: هيا … لا وقت نُضيعه أكثر من هذا، وإلا أكلتم السمك باردًا، والسمك البارد هو أسوأ أكل في العالم.

قال «عاطف»: هذه هي المشكلة إذن يا عمتي … مشكلة السمك.

ردَّت «العمة»: اسكت أنت.

عاطف: حاضر … ولكن أُفضِّل السمك باردًا.

العمة: ستأكل عيشًا وجُبنًا فقط جزاءً لك على هذا الكلام.

عاطف: جُبنًا ساخنًا!

وضحك الجميع، ومشوا في الطريق إلى فيلا السيدة «كريمة» التي تقع في التقسيم الجديد بجوار الكَنيسة مباشرةً.

كانت «لوزة» تُمسك بالزجاجة في يدها، وهي تسير سعيدة راضية؛ فقد حقَّقت هدفها … وحصلت على الزجاجة العائمة.

وعندما اقتربوا من المنزل رفعت «لوزة» الزجاجة لأول مرة ونظرت إليها ولاحظت أنها تكاد تمتلئ بالماء فقالت: كانت ستَغرق.

قال «عاطف» يا لَلكارثة … لو غرقت لنشرَتِ الصُّحف صورتها قائلة: غرق زجاجة صفراء في الإسكندرية!

أعادت «لوزة» النظر إلى الزجاجة … ولاحظت أن شيئًا أبيض يعوم في المياه … وأخذت تُدقِّق النظر إليه … إنه شيءٌ كالورقة يعوم داخل الزجاجة …

وصعدوا جميعًا إلى الفيلا وانهمكوا في تنظيف أجسامهم … واستبدال ثيابهم وانهمكت السيدة «كريمة» والشغَّالة «توحيدة» في إعداد الطعام … وسرعان ما تحلَّقُوا حول المائدة ورائحة السمك المشوي اللذيذ تملأ خياشيمهم … وأخذت الأيدي تهوي إلى الأطباق رائحة غادية … والحديث لا ينقطع عن مُتعة العوم … ومطاردة الزجاجة الصفراء.

وقالت «لوزة»: لقد لاحظت وجود شيءٍ أبيض يعوم داخل الزجاجة … إنه يُشبه سيجارة، أو ورقة مبرومة.

نوسة: ربما كانت رسالة من البحر … كما كان يَحدُث في الروايات القديمة قبل اختراع اللاسلكي، فعندما كانت سفينة تُوشِك على الغرق، يقوم الرُّبَّان بإعداد رسالة عن ظروف غرق السفينة، وبما كان عليها من أشياء، وأسماء الرُّكَّاب ثم يضعها في زجاجة ويختمها بالشمع الأحمر ويُلقيها في الماء.

لوزة: هل كانت وسيلة لإنقاذ السفن؟

نوسة: لا طبعًا؛ فهذه الرسالة قد لا تصل إلى الشاطئ إلا بعد شهور حسب الأمواج والتيَّارات البحرية، كما أنها قد لا تصل مطلقًا … أو تصل إلى شاطئ بعيد … فهناك رسائل أُلقيت في المحيط الهندي، وعُثر عليها في المحيط الأطلسي بعد شهور طويلة.

قال «عاطف» ضاحكًا: ربما كانت رسالة من قُرصان ظلَّت عائمة مئات السنين … ولعل بها قصة كَنزٍ كبير مدفون في إحدى الجُزُر …

لم تُعلق «لوزة» على حديث «عاطف» ولكنها غادرت المائدة وغسلت يديها ثم أمسكت بالزجاجة وأخذت تُفْرغ ما بها من الماء، واتضح أن الشيء الأبيض الموجود بالزجاجة هو ورقة مبرومة فعلًا … ولكن بسبب المياه تضخمت وأصبحت أكبر من أن تَمُر بعنُق الزجاجة … وأخذت «لوزة» تبذل ما في وسْعها لإخراج الرسالة … ولكن دون جدوى.

وقال «تختخ» وهو يرْقب محاولتها: أقترح أن تتركيها في الشمس فترة وسوف تجفُّ الورقة وتعود لحجمها الطبيعي ويُصبح من السهل إخراجها … ولكن «محب» اقترح فكرة أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤