صديقان من السودان

زاد حماس الأصدقاء وهم يقتربون من قراءة بقية الرسالة … وقرأ «تختخ» السطور الأخيرة بسرعة بعد أن وضع الكلمات المناسبة في مكانها: سأضع هذه الرسالة في الزجاجة وأُلقيها في البحر … مَنْ يجدها يتصل بأبي في رقم تليفون (… ٨١) إن حياتي في خطر.

وسكت «تختخ» قليلًا ثم قال: والإمضاء «ميم حاء» … وهما حرفان يمكن أن يبدأ بهما اسم «مُحمَّد» مثلًا.

لوزة: أو «محمود».

نوسة: أو «محسن».

محب: أو «محب» أو «مُحي» أو …

عاطف: أقترح أن نسمع الآن الرسالة كاملة.

أخذ «تختخ» يقرأ: الثالث عشر الشهر السابع … إنني ولد صغير خطفوني ليُهددوا أبي المسكين. وقد سمعتهم يتحدثون عن سرقة ضخمة من البنك. لقد طلبوا من أبي أن يُسلمهم مفاتيح الخِزانة. ولم يستطع رجال الشرطة إثبات التهديد. واضطرَّ أبي أن يرسلني إلى بيروت.

وسكت «تختخ» لحظات ثم قال: ولم نَعرف بعدُ ماذا يقصد ﺑ «بريوس» … ثم نمضي في الرسالة: سنصل إلى الإسكندرية يوم الثلاثاء غدًا. وأنا أكتب هذا يوم الإثنين وقد اختاروا بلاج «أبو قير» وسيركبون برسوار ويلبسون مايوهات سأكون مُخَدرًا، وسيقولون إنني مريض. في انتظارهم أشخاص في شقة قريبة من الشاطئ. إنَّ أحدهم اسمه … والثاني اسمه «الحَنَش» سأضع هذه الرسالة في زجاجة من يجدها يتَّصل بأبي في رقم تليفون … إن حياتي في خطر، ثم الإمضاء.

سكت «تختخ» ونظر إلى المغامرين الأربعة فقالت «لوزة»: معنى ذلك أنهم سيصلون اليوم.

تختخ: وربما يكونون قد وصلوا … هل فهمتم الخطة؟

قال «محب»: فهمت أنهم سيقتربون من البلاج على برسوار وكأنهم من المُصيفين … ومعهم الولد مُخَدَّرًا وسيقولون إنه مريض، ولن يشكَّ فيهم أحد؛ فهناك عشرات من البرسوارات على الشاطئ.

قال «تختخ» مقاطعًا: ولكن هل سيَصِلون من بيروت إلى «الإسكندرية» في «برسوار»؟

هَزَّ «محب» رأسه وقال: بالطبع لا يمكن.

تختخ: هذا يعني أن هناك سفينة ستأتي بهم إلى قُرب الإسكندرية.

نوسة: هل كلمة «بريوس» هي اسم هذه السفينة.

تختخ: معقول جدًّا … ربما يقول الولد إنني على سفينة أو مركب اسمه «بريوس» فكثير من السُّفن والمراكب تأخذ أسماءها من أسماء البلاد.

محب: إذن الخطة واضحة جدًّا … وهي خطة جُهنمية لا مثيل لها … فهم لا يستطيعون دخول الميناء بشكل رسمي؛ لأن رجال الشرطة سوف يسألون عن أوراق الولد، وربما لا تكون معهم هذه الأوراق، وقد يكونون من اللصوص والمسجَّلين لدى رجال الشرطة، ولا يريدون الدخول بشكل عادي … وخطتهم بسيطة جدًّا … تبحر السفينة من بيروت وهم عليها … وعندما يقتربون من الإسكندرية ينزلون في «البرسوار» ويَدخُلون الشاطئ ببساطة كأيِّ مُصيفين محترمين.

نوسة: يا لها من خطة!

وفي هذه اللحظة سمعوا صوت السيدة «كريمة» تُنادي عليهم … وعندما نزلوا قالت غاضبة: ماذا تفعلون في هذه الشمس النارية … ألا تخشون أن تُصابوا بضربة شمس؟!

ردَّت «لوزة»: إننا كنا نقرأ رسالة.

السيدة: من أين؟

عاطف: رسالة من البحر يا عمتي.

السيدة: لعلها تلك الورقة التي كانت في الزجاجة التي كادَت «لوزة» تغرق من أجلها.

تختخ: بالضبط.

قالت السيدة ضاحكة: إن هناك أولادًا كثيرين يلعبون هذه اللُّعبة، يكتبون رسائل استغاثة ويضعونها في الزجاجات … ويسخرون ممَّن يعثر عليها.

نظر المغامرون بعضهم إلى بعض … هل هم ضحية ولد عابث يَسخر منهم؟

عادت السيدة تقول: لقد وقعت حادثة مماثلة الأسبوع الماضي، وعثر شخص على رسالة في زجاجة … وذهب بها إلى قسم الشرطة … وانطلق رجال الشرطة يبحثون عن أصل الحكاية … حتى اتَّضح في النهاية أنها كانت مجرد دُعابة قام بها بعض الأولاد لإثارة المرح على الشاطئ.

عاد المغامرون يتبادلون النظرات، فقالت السيدة «كريمة»: هل هي رسالة استغاثة؟

ردَّت «نوسة» حزينة: نعم يا عمتي … رسالة من ولد يُدعى «مُحمَّد» أو «محمود» أو «محب».

ضحكت السيدة قائلة: من أين أتيت بهذه الأسماء؟ ولماذا لا يكون اسمه «إبراهيم» أو «عصام» أو «حُسام» مثلًا؟

لوزة: إن حرفين من اسمه بقيا وأكلَتْ مياه البحر بقية الاسم … الحرفان هما حرف الميم والحاء.

السيدة: إنه ولد خبيث، فهو لا يريد أن يكشف عن اسمه … وسوف تجدون في النهاية أنها مجرد دُعابة … فلا تُضيِّعوا وقتكم في البحث كعادتكم في مثل هذه المسائل.

عادت النظرات تلتقي، وقامت السيدة «كريمة» … قائلة إنها ذاهبة لزيارة أسرة من أصدقائها وتركَت الأصدقاء، وقد سكبت على حماسهم ماءً باردًا وران عليهم الصمت.

قالت «لوزة» فجأة: إن قلبي يُحدثني بأن هذه الرسالة حقيقية، وأنَّنا يجب أن نتدخل لإنقاذ الولد.

لم يردَّ أحد من المغامرين … فلم يكونوا يحبُّون أن يُصبحوا موضع سُخرية أحد ولكن «لوزة» وقفت تُدافع عن وجهةِ نظرها قائلة: هناك احتمالان؛ أن تكون رسالة مُزيفة فنتعرَّض لبعض السُّخرية … وأن تكون رسالة حقيقية ونتجاهلها، وهذا يعني أننا قد قعدنا عن مساعدة شخص يحتاج إلى مساعدتنا.

لم يرد أحد مرة أخرى، فقالت «لوزة» وهي تتحرَّك في اتجاه باب الخروج: سوف أذهب وحدي … فليس عندي مانع من أن أتعرَّض للسخرية، بدلًا من أن يُعذِّبَني ضميري لأني قد أكون قد تخلَّيت عن مساعدة إنسان في ضيق.

نوسة: سأذهب معك يا «لوزة»!

محب: انتظري قليلًا يا «لوزة» …

وساد الصمت لحظات ثم قالت «نوسة»: ماذا نخسر إذا حاولنا؟

لم يردَّ أحد وفجأة قال «تختخ»: هيا بنا.

عاطف: إلى أين؟

تختخ: سنذهب إلى البلاج ونبحث دون أن يحسَّ أحد بحقيقة مهمَّتنا.

عاطف: ولكن ماذا نفعل بالضبط؟ وعن أيِّ شيء نبحث؟

تختخ: عن برسوار عليه ثلاثة رجال وولد صغير. هيا بنا.

واندفع المغامرون الخمسة نازلين السلم، ووقفت السيدة «كريمة» تنظر إليهم وهي في غاية الدهشة … وعندما وصلُوا إلى الشارع قال «تختخ»: «محب» و«عاطف» عليكما الذهاب إلى أول الشاطئ عند محلِّ «زفریون» وأن تسألا عن برسوار دخل البلاج وعليه ثلاثة رجال وولد … وسأذهب أنا إلى أول الشاطئ من الجانب الآخر أي من ناحية المُعسكَر ومعي «زنجر» … أما «لوزة» و«نوسة» فتَذهبان إلى منطقة «ساسوها» … في وسط الشاطئ … والسؤال كما قُلت عن برسوار عليه … ردَّت «نوسة»: ثلاثة رجال وولد.

وانطلق الجميع … جرى «محب» و«عاطف» ناحية «زفریون» وجرت «نوسة» و«لوزة» ناحية الشاطئ الأوسط … و«تختخ» و«زنجر» إلى منطقة المُعسكَر، وصاح «تختخ»: سنَلتقي جميعًا على الكازينو المُجاوِر للبلاج «ساسوها».

كانت «لوزة» شديدة الانفعال … لقد صدق ظنُّها مرةً أخرى في شم رائحة مغامرة وها هم أولاء مشغولون بها … وتمنَّت أن تجد هذا البرسوار … أما «تختخ» فمضى يُحدِّث نفسه … هل الحكاية صحيحة؟! لو صدق هذا، فهي خُطة جُهنمية لم يسبق لها مثيل. وها هُم أمام عِصابة مُنظمة وخطيرة … ولكنَّ المُهم الآن هو العثور على هذا البرسوار …

كان «محب» هو المُغامر حَسن الحظ … فعندما وصل هو و«عاطف» إلى شاطئ «زفریون» كانت الساعة حوالي الرابعة … وقد خلا البلاج إلَّا من عددٍ قليلٍ من الروَّاد. واستطاع بعد سَير استمرَّ بضع دقائق أن يَلمح «برسوار» أخضر اللون ممددًا على الرمال وليس بجواره أحد … سوى ولد صغير أسمر اللون كان يلعب «الراكت» … مع فتاة تُشبهُه.

اقترب «محب» من الولد وسأله: هل هذا «البرسوار» لك؟

ردَّ الولد: لا!

محب: هل تَعرف صاحبه؟

ردَّ الولد: لا … ولكني كنتُ موجودًا عندما وصل حوالي الساعة ۱۲ وكان يَركبه ثلاثة رجال وولد صغير مريض.

محب: أنت متأكِّد؟

الولد: نعم … وقد حملوا الولد وشاهدَهم رجال الإنقاذ فأسرعوا إليهم فقد ظنوا أن الولد غريق … ولكنَّ الرجال الثلاثة قالوا إنه مُصاب بضربة شمس وإنهم سيحملونه إلى الطبيب … وكنت ساعتها عائدًا إلى منزلي فرأيتُهم يحملونه إلى منزل في الشارع المجاور لنا.

خَفق قلب «محب» فلم يكن يتصوَّر أن يتمَّ كل شيءٍ بهذه السهولة، وأن يجد هو «البرسوار» بهذه السرعة فقال للولد: من فضلك، هل يمكن أن تدُلني على مكان المنزل؟

تردد الولد لحظات ثم نَادى الفتاة التي تلاعبه وقال لها: هل تذكرين الرجال الثلاثة الذين أتوا بهذا البرسوار ومعهم الولد المريض؟

ردت الفتاة: نعم … لقد ذهبوا إلى منزل مجاور لنا.

محب: هل رأيتهم من قبل؟

الفتاة: لا … هذه أول مرة أراهم فيها.

محب: هل يُمكن أن تدلَّانا على مكان المنزل من فضلكما.

نظرت الفتاة إلى الفتى وقالت: لا بأس هيا بنا.

ومشى الأربعة وعرف «محب» و«عاطف» أن الفتى والفتاة ضيفان من السودان يقضيان الصيف في الإسكندرية … وعرفهما بنفسه وﺑ «عاطف» … وسار الأربعة ودخلوا شارعًا قريبًا من البلاج … وأشارت الفتاة إلى منزل وقالت: هُنا …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤