المكالمة التليفونية …

أسرع الأصدقاء إلى «لوزة» فقال «تختخ»: ماذا جَری با «لوزة»؟!

قالت «لوزة» وهي تُحاول أن تتمالك نفسها: الرسالة!

تختخ: لقد عرفنا كل ما فيها … ولم يعد يهمنا وجودها.

لوزة: ولكن الشرطة لن تُصدِّقنا.

تختخ: لا بأس … سوف نَعتمد على أنفسنا.

لوزة: هل نستمر في البحث؟

تختخ: بالطبع … إن المسألة حقيقية وليست عبثًا ولا وهمًا، وسنذهب الآن للبحث عن الرجال الثلاثة.

محب: ولكن ماذا نفعل بالضبط؟

تختخ: إذا وجدنا الرجال الثلاثة والولد ما زالوا في الشقة فسوف نُخطِر رجال الشرطة.

محب: وإذا لم نجدهم؟

تختخ: لا أدري … ربما يكون دورنا في المغامرة قد انتهي عند هذا الحد، وفي هذه الحالة أتصور أن نتصل تليفونيًّا بالمفتش «سامي» ونُخطره بكل ما حدث … وأعتقد أنه يستطيع أن يجد موظفًا في بنك له ابنٌ يبدأ اسمه بالحرفين «م. ح» وأن هذا الموظف أرسل ولده للدراسة في بيروت خوفًا من بطش عصابة تُهدده.

محب: ستكون مهمة شاقة … فعندنا عشرات البنوك، ولها عشرات الفروع.

تختخ: هذا ما يمكننا عمله على كل حال.

كانت الساعة قد أشرفت على السابعة مساءً … وبدأت الشمس تغرُب … عندما بدأ المغامرون يتحرَّكون للذهاب إلى المنزل في شارع «الأزهار» … حيث اختفى الرجال الثلاثة والولد … ولكن حدث ما لم يكن في الحُسبان … أطلت السيدة «كريمة» من الشُّرفة ونادت على «محب» قائلة: تليفون مِن القاهرة يا «محب»!

وأسرع «محب» وشقيقتُه «نوسة» إلى داخل الفيلا. وقال «محب»: لا تَذهبوا بدوني.

ودخل الجميع إلى الفيلا، وأسرع «محب» إلى التليفون وسمع صوت والده يقول: كيف حالكم جميعًا؟

قال «محب»: على ما يُرام … إننا نقضي إجازة طيبة.

الأب: لا تنسَ أن موعد عودتِكم غدًا.

محب: ألا نستطيع البقاء بضعة أيام أخرى؟

الأب: لا … فإنني مسافر في مهمَّة ووالدتُك مريضة … ولا بد أن يبقى أحد بجوارها. فخفق قلب «محب» وصاح: مريضة … ماذا بها؟

الأب: لا تَنزعج … المسألة بسيطة … فقط تحتاج إلى من يبقى بجوارها.

وأسرعت «نوسة» تخطف السماعة من يد «محب» وتسأل عن والدتها بلهفة وجَزع، ولكن الأب طمأنها وطلب عودتها هي و«محب» … ثم قال الأب: إنني أطلبكما منذ الساعة الثانية عشرة ظهرًا … ولكن هناك تأخير في المكالمات … وقد لا أستطيع محادثتكم مرةً أخرى … فعودا غدًا.

وانتهت المكالمة … وجلس «محب» و«نوسة» صامتين، فقال «تختخ»: لا تنزعجا بهذا الشكل … لو كان الأمر خطيرًا لطلبتُ منكما الحضور فورًا.

ساد صمت ثقيل … وانقضى بعض الوقت، وأخذت «لوزة» تهزُّ قدمها في عصبية، فقد كانت تريد أن تتحرك لاستكمال البحث.

قالت «نوسة»: سأقوم لحزم الحقائب واذهب أنت یا «محب» لحجز مكانَين لنا في القطار.

تختخ: إننا لن نبقى بعد سفركما … نحن أيضًا نرید الاطمئنان على والدتكما … سنُسافر جميعًا!

قالت «لوزة»: والرسالة!

تختخ: لا بأس أن نُحاول محاولة أخيرة لمعرفة مصير الولد … فإذا لم نجده فستكون أمامنا الفرصة غدًا لمقابلة المفتش «سامي» ورواية كل شيءٍ له، وهو سيتصرَّف طبعًا لأنه يعرف أننا لا نقول سوى الحقيقة.

قامت الشغالة بإعداد الشاي وبعض الحلويات للأصدقاء فتناولوها صامتين، وهبط الظلام شيئًا فشيئًا، وقال «تختخ»: سأخرُج مع «زنجر» فقط … وليبقَ الجميع هنا لحين عودتي.

محب: هل أذهب لحجز أماكن لنا في القطار؟

تختخ: بالطبع … سوف نُسافر جميعًا … لقد قضينا سبعة أيام وهذا يكفي، وقد نعود مرة أخرى في شهر أغسطس القادم.

لوزة: أريد أن آتيَ معك يا «تختخ».

تختخ: لا داعي … سأعود سريعًا.

انطلق «تختخ» ومعه «محب» و«زنجر» فلما وصلوا إلى شارع «النقلي» انفصلوا فاتجه «محب» إلى محطة السكة الحديد واتجه «تختخ» إلى شارع «الأزهار» …

كان الظلام قد هبط تمامًا عندما وصل «تختخ» إلى قُرب المنزل … ولاحظ أن الدور الأرضي به شقة مُضاءة … وشقة مُظلمة … وتقدَّم وخلفه «زنجر» حتى أصبح بجوار المنزل مباشرة وتوقف … كان يريد البحث عن حُجة يدخل بها المنزل … لم يجد شيئًا يمكن عمله إلا الأسلوب القديم … وهو السؤال عن اسم ساكن غير موجود … وقرَّر أن يُجرب هذا في الشقة المُضاءة … دق الجرس ووقف منتظرًا حتى فُتح الباب ووجد ولدًا في مثل سِنِّه تقريبًا ينظر إليه مستفسرًا … قال «تختخ»: الأستاذ «حکيم» من فضلك!

نظر إليه الولد في دهشة وقال: «حکيم»؟! ليس هنا أحد باسم «حکيم».

تختخ: أليس هذا المنزل رقم «١٦»؟

الولد: لا إنه رقم «۱۸».

تختخ: آسف جدًّا …

وتظاهر «تختخ» بالاستعداد للانصراف حتى أغلق الولد الباب، والتفت إلى الشقة المظلمة … لقد أصبح متأكد الآن أن الرجال الثلاثة والولد موجودون فيها … أو على الأقل كانوا فيها، فماذا يفعل؟ هل يتبع الأسلوب التقليدي ويبحث عن ساكن لا وجود له … إنَّ عصابةً تخطف ولدًا وترسم هذه الخُطة الجُهنمية وتُنفِّذها ستشك على الفور فيه … وإذا لم تشُك فعلى الأقل ستأخذ حَذرها …

ونظر «تختخ» حوله فلم يجد أحدًا … وانحنى ونظر من ثُقب الباب … لم ير شيئًا لأن الظلام كان كثيفًا … ماذا يفعل؟

خرج إلى الشارع واقترب من الشُّرفة … كانت تعلوه بحوالَي متر … ونظر حوله وكان الشارع مزدحمًا … ولكن لم يكن هناك أحد ينظر ناحيته … وكان للشُّرفة أفريز بارز فقفز برغم سِمنته، وتعلق بالإفريز … ثم اعتمد على ذراع واحدة بعد أن ثبَّت قدمه في الطوب الناتئ … واختبر النافذة وقد دُهشَ كثيرًا عندما وجد المصراع الخشبي يهتزُّ … وأدرك أنه مغلق دون قفل من الداخل … وأنه من الممكن دخول الشقة عن هذا الطريق … وسأل نفسه هل هي خالية؟

كانت الإجابة على هذا السؤال بسيطة جدًّا … نزل وذهب ودق جرس الباب وسمع الجرس وهو يرن داخل الشقة المُظلِمة … ولم يتلقَّ إجابة … فالشقة خالية إذن وقد يكون الولد موجودًا بها … إما مُخدَّرًا أو مُكمَّمًا، ويمكن إنقاذه … وعاد إلى الشُّرفة وأخذ ينتظر لحظة مناسبة ثم قفز ودفع المِصراع بیده فانفتح … وتوقف لحظات مكانه ونظر حوله حتى حانت فرصة أخرى ثم قفز فتعلق بالإفريز البارز … واستجمع كل ما يملك من قوة ورفع جسمه إلى أعلى ثم تجاوز السور وقفز إلى الداخل! وقف حائرًا متتابع الأنفاس يفكر، ثم أخرج مصباحه الصغير وأخذ يُطلقه في أنحاء الشقة … كان كل شيءٍ فيها يدلُّ على أن من كانوا بها غادروها مسرعين. ووجد بجوار باب الحمام ثلاثة «مايوهات» وفي الحمام ذاته وجد مایوهًا صغيرًا، وفكر أنه ربما يكون للولد.

وسمع في هذه اللحظة ما يُشبه الدق على الباب، فأطفأ مصباحه وتوقف مكانه وأخذ ينصت … وعاد الدق من جديد … وغمره العرق … ثم تذکر «زنجر» ولم يملك نفسه من السَّخط عليه … وأسرع فوقف بجوار الباب واستمع … لم يكن هناك أحد ففتح الباب واندفع «زنجر» داخلًا.

أغلق «تختخ» الباب ومضى يبحث في الشقة على ضوء المصباح … كانت هناك حقيبتان خاليتان إلا من مِنديل مُتَّسخ … وعلى المائدة بقايا طعام … جُبن وزيتون وعُلبة سردين وخُبز وفِجل … وعُلبة سجاير أجنبية بها سيجارة … وكيس نظَّارة وفتَّش باقي الغُرف … لم يكن هناك أحد … لقد أفلت الرجال ومعهم الولد … وفي الأغلب أنهم لم يقيموا في الشقة أكثر من بضع ساعات ثم غادروها … ومعنى هذا أنهم فقدوا أثرهم إلى الأبد …

ووجد كيسًا من الورق وضع به المايوهات الأربعة … وعلبة السجاير وكيس النظارة وبعض أعقاب السجاير التي وجدها … إنها قد تصلح كأدلَّة … وعندما استعد لمغادرة المكان دقَّ في الصمت جرس التليفون … وأطلق «تختخ» شعاع مصباحه الصغير ناحية الجهاز الذي لم يره قبلًا … وكان الجرس يدق بإلحاح … دقًّا طويلًا مُتواصلًا، وهذا دليل على أنها مكالمة خارجية … ولم يتردد … مد يده ورفع سماعة التليفون، وسمع عاملة الترنك تقول: ٦٧٥ على ٥٠٠٠٠؟

رد «تختخ»: نعم!

قالت العاملة: ٨٥٥٥٧٧ القاهرة معك.

وسمع «تختخ» صوتًا خشنًا يقول: من أنت؟

وتذكر «تختخ» اسم «الحنش» فقال محاولًا تقليد صوت رجل: أنا «الحَنَش».

قال «الرجل»: صوتك متغير.

رد «تختخ» وهو يتظاهر بالسعال: أُصبت ببرد هذا الصباح!

الرجل: لماذا تأخرتم حتى الآن؟

تختخ: لقد طلبناك منذ ساعات … ولكن هناك عُطل في الخط.

الرجل: هل هناك أي مشاكل؟

تختخ: لا!

الرجل: أسرعوا بالحضور … هل الولد معكم؟

تختخ: نعم!

الرجل: عظيم … أنا في انتظاركم … لا تتأخروا أكثر من هذا … السيارة مُعَدة في الجراج حسب اتفاقنا.

تختخ: اتفقنا!

ووضع الرجل السماعة … ووقف «تختخ» مكانه يفكر … من الواضح أن الرجال عند وصولهم طلبوا مكالمة تليفونية مع هذا الرجل … ولكن وجود عُطل في خطوط التليفون أخَّر المكالَمة كما تأخرت مكالمة والد «محب» و«نوسة» … لقد حصل على معلومات هامة: رقم التليفون الذي حصَرَه في ذهنه ٨٥٥٥٧٧ … وصوت الرجل … ولكن فجأة اكتشف أن هذه المكالمة برغم فائدتها لهم … فيها تحذير للعصابة … فسوف يصل الرجال الثلاثة ومعهم الولد إلى مقر العصابة وسيعرفون أن شخصًا دخل شقة «أبو قير» وعرف أسرارهم ومن الضروري أنهم سيُغيرون مكانهم …

عاد ينظر إلى مائدة الطعام مرةً أخرى … ووضع يده على الخُبز … فما زال الخبز طازجًا وكذلك الفِجل، ومعنى هذا أنهم غادروا الشقة قبل أن يأتي بقليل وهم الآن في طريقهم إلى القاهرة … فهل يتمكنون من الوصول إليهم …

واتجه إلى الباب وبیده کیس الورق وبه ما جمعه من مخلَّفات العصابة … ووقف خلف الباب لحظات … وعندما مدَّ يده ليفتح الباب سمع صوت أقدام تتوقف أمام الباب وسمع صوتًا يقول: لقد غادروا الشقة ونسوا باب الشُّرفة مفتوحًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤