محاولة … ولكن …

تحركت السيارة التي كان يستقلها الرجلان … وكانت من طراز «بيجو ٤٠٤» وبعد لحظات دارت سيارة «وجيه» المرسيدس ۲۰۰، وانطلقَت خلفها … ومضت السيارتان تشقان شوارع الإسكندرية نصف المزدحمة … ثم سرعان ما غادرتا المدينة الجميلة إلى الطريق الزراعي … وأطلق سائق السيارة الأولى لها العنان … وخلفها مضت «المرسيدس» تهدر على مبعدة.

وبين قزقزة اللب والفول قال «وجيه» موجهًا حديثه إلى «تختخ»: ما هي الحكاية هذه المرة؟

قال «تختخ»: ولد مخطوف!

وجيه: ولماذا لا تُبلغون رجال الشرطة!

تختخ: ليست عندنا أدلة كافية … فالحكاية مُعقَّدة.

انتهز «عاطف» الفرصة ليقول: إن الدليل الوحيد في القضية أكلتْه مِعزة.

وضحك الجميع، وانزلقت السيارة على أسفلت الطريق الناعم … الذي بدا في هذه الساعة من الليل خاليًا إلا من بضع سيارات بين الحين والحين … وساد الصمت إلا مِن صوت مُحرِّك السيارة القوي المنتظم الذي يشقُّ السكون … ويزيد كلما غيَّر «وجيه» من السرعة … ثم يعود إلى رتابته … وبدأ المغامرون يستسلمون للنوم … «لوزة» ثم «نوسة» … وقاوم «عاطف» قليلًا ثم أغمض عينيه … فقد كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد منتصف الليل … وكان للهواء البارد وصوت المُحرِّك المُنتظر أثرهما في الأصدقاء … ولم يبقَ ساهرًا بعد فترة أخرى إلا السائق «وجيه»، و«تختخ» وقال «وجيه»: ماذا نفعل عندما نصل إلى «القاهرة» … فلم يبقَ إلا نحو ستين كيلومترًا؟

تختخ: سنَتتبَّع السيارة داخل القاهرة … إنني أريد أن أعرف مقر العِصابة.

وجيه: إنك لم تحكِ لي هذه المغامرة.

تختخ: الحكاية بدأت بزجاجة صفراء تعوم وتكاد تغرق في مياه «أبو قير»، وأصرت «لوزة» أن تحصل عليها … وعندما استطعنا الوصول إليها وجدنا أن بها قطعة ورق سابحة في المياه التي دخلتها … فلم تكن سدادتها مُحكَمة.

وجيه: ومِن هذه الرسالة بدأت المغامرة.

تختخ: بالضبط … فقد اتضح أن كاتبها ولد صغير خطفته عصابة من «بيروت» وعادت به إلى القاهرة لتُهدِّد والده الموظف في أحد البنوك.

وجيه: أي بنك؟

تختخ: لا نعرف حتى الآن …

ومضى «تختخ» يروي القصة ﻟ «وجيه» الذي كان يَستمِع بشغف، وهو لا يكاد يُصدِّق التفاصيل الغريبة التي كان يَرويها له «تختخ»، وقال «وجيه» في النهاية: إنها قصة مُشوِّقة حقًّا وإنني الآن أتمنى أن أشارككم العمل من أجل إنقاذ هذا الولد.

تختخ: سنرى عندما نصل إلى «القاهرة» ما يُمكن عمله.

وساد الصمت من جديد، ومضت السيارة «المرسيدس» القوية تتبع على مَبعدة السيارة «البيجو» حتى وصلت السيارتان إلى مشارف القاهرة … ونظر «تختخ» إلى ساعته، كانت الثالثة إلا خمس دقائق … وأخذ يَصيح في المغامرين الذين استيقظوا على الفور …

ومضت السيارتان إلى الكورنيش … ثم دخلت السيارة «البيجو» إلى مدخل کوبري «إمبابة» وكانت السيارات الضخمة المحمَّلة بالخضار والفاكهة تعبر الكوبري في طريقها إلى سوق الخضار أو خارجة منه … وعندما وصلت «المرسيدس» إلى مدخل الكوبري كان أمامها عربة خضار يجرُّها حصان … تسير ببطء … بينما كانت «البيجو» قد وصلت إلى منتصف الكوبري.

أدرك المغامرون أنهم سيفقدون أثر «البيجو» وأن لا حيلة لهم في هذا الموقف. لقد دخلوا ممر السيارات في الكوبري … أمامهم العربة الكارو … وأمامهم سیارتان من سيارات النقل … وخلفهم عشرات السيارات ولا يُمكنهم التقدم أو العودة، وأحس «تختخ» بالضيق … وفكر أن ينزل ويلحق «بالبيجو» سيرًا على الأقدام … ولكن ذلك لم يكن يؤدِّي إلى شيءٍ.

مضت السيارات وعربات الكارو تتحرك ببطء فوق کوبري «إمبابة» … حتى إذا وصلت «المرسيدس» إلى نهاية الكوبري … لم يكن هناك أثر للسيارة البيجو على الإطلاق وقال «وجيه»: آسف جدًّا … لم يكن أمامي ما أفعله!

تختخ: نحن نعرف أنك بذلت ما بوسعِك وكل ما نرجوه أن نعود إلى منازلنا.

وأدار «وجيه» السيارة إلى شارع «السودان»، ثم شارع «أحمد عرابي» وانطلق مسرعًا في طريقه إلى كوبري «الجامعة» واجتازه إلى «مصر القديمة» ثم «المعادي» وأشرفت السيارة في النهاية على منازل الأصدقاء … وقال «تختخ»: ليس أمامَنا إلَّا النوم لبضع ساعات وسنرى في الصباح ما يمكن عمله.

وشَكر المُغامرون «وجيه» كثيرًا، وبالكرم المصري المشهور رفض «وجيه» أن يتقاضى منهم أجرَه إلا بعد إلحاح شديد … ثم أعطاهم رقم تليفون البقال المجاور لمنزله حتى إذا احتاجوا إليه جاءهم … فقد كان شديد الرغبة في معرفة ما ستتطور إليه قضية الزجاجة الصفراء.

•••

وعندما استيقظ الأصدقاء في اليوم التالي … كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بعد الظهر فأسرعوا جميعًا واتصل بعضهم ببعض … وسرعان ما كانوا يجتمعون في حديقة منزل «عاطف» كالمعتاد … وكان أول سؤال وجهه «تختخ» إلى «محب» عن صحة والدته فقال «محب» إنها ما تزال مُتْعَبة … ولكنها تتحسن بسرعة … وقد تخلفت «نوسة» لتبقى بجانبها.

عاطف: وأنت أيضًا یا «محب» يجب أن تذهب … إن والدتك محتاجة إليك بعد سفر والدك وهي أهم من كل شيءٍ آخر.

وانضمَّ «تختخ» و«لوزة» إلى «عاطف» في هذا الرأي فغادرهم «محب» عائدًا وقد وعده الأصدقاء أن يتصلوا به في حالة وقوع أي شيءٍ جديدٍ.

وجلس الثلاثة يتحدثون … وطلب «تختخ» من «لوزة» أن تُحضِر التليفون ليتصل بالمفتش «سامي» وسرعان ما كان المفتش يرد، قال «تختخ»: عندنا قضية عجيبة … هل تحب أن تسمعها؟

قال «المفتش» مقاطعًا: إنَّ كل قضاياكم عجيبة … وأنا على استعداد طبعًا لسماعها.

وأخذ «تختخ» يروي للمفتش ما حدث في «الإسكندرية» في اليوم السابق … والمفتش يدون المعلومات أمامه حتى إذا انتهى «تختخ» من حديثه قال المفتش: إن عندنا دليلَين الآن: رقم التليفون ووالد الطفل المخطوف.

تختخ: هذا صحيح!

المفتش: إن معرفة المكان المركَّب به التليفون ليس مشكلة … ولكن العثور على هذا الأب هو المشكلة … ومع ذلك سنقوم فورًا ببحث الموضوع كله.

تختخ: إنك بالطبع لن تنسانا!

المفتش: لا … إنكم أنتم الذين عثرتم على الرسالة … وتابعتم الموضوع … ومن حقكم أن تعرفوا ماذا يحدث بعد ذلك.

كانت «لوزة» تُشير إلى «تختخ» طول الوقت محاولة أن تلفت نظره إلى شيءٍ دون أن يُدرك ماذا تريد … وعندما كاد يضع السماعة صاحت «لوزة» انتظر قليلًا، وقال «تختخ» للمفتش إن «لوزة» تريد أن تقول شيئًا … لحظة واحدة من فضلك.

قالت «لوزة»: لقد نسينا شيئًا هامًّا … إن الرجل والد «م.ح» سبق أن أبلغ الشرطة ألا تذكر ما كان في الرسالة.

تختخ: وماذا يعني هذا؟

لوزة: يُمكن المفتش بالاطلاع على مَحَاضر أقسام الشرطة معرفة المكان … وبخاصة في منطقة «الزمالك» و«العجوزة».

تختخ: ولماذا هاتان المنطقتان؟

لوزة: ألا تذكر رقم التليفون الذي كان في نهاية الرسالة؟

تختخ: ولكنه كان ناقصًا.

لوزة: ولكن بدايته كانت (۸۱) وهي بداية أرقام في منطقتي «الزمالك» و«العجوزة».

تختخ: معك حق.

ورفع سماعة التليفون وقال معتذرًا: آسف جدًّا يا سيادة المفتش … «لوزة» معها حق … إن هناك وسيلة سريعة للتعرف على والد الولد المخطوف.

المفتش: إن «لوزة» عندها دائمًا أفكار مُثيرة.

تختخ: لقد نسيت أن أقول لك إن والد الولد المخطوف سبق أن أبلغ الشرطة عند تهديده بخطف ولده، ولكنَّ الشرطة لم تَستطِع إثبات جدية التهديد … ويَغلب على الظن أنهم حفظوا البلاغ.

المفتش: أليس هناك تاريخ؟

تختخ: لا … ولكن الأغلب أن البلاغ كان لشرطة «الزمالك» أو«العجوزة» وربما «إمبابة» أيضًا … فإن «لوزة» تذكر أن الولد طلب الاتصال بوالده في رقم تليفون يبدأ برقم (۸۱) وكما تعلم أنها أرقام هذه المناطق.

المفتش: بَلِّغ «لوزة» تهانيَّ على هذا الإيضاح الهام … فسوف نستطيع عن طريقه معرفة مكان الأب، وذلك سيُسهِّل لنا الكثير.

ووضع المفتش السماعة بعد أن اتفق مع «تختخ» على إبلاغه بكل التطورات أولًا بأول … وجلس المغامرون يستريحون. ولكن «لوزة» لم تتركهم وشأنهم بل مضت تقول: هل أحضرتَ کيس الأدلة یا «تختخ»؟

تختخ: نعم …

لوزة: هات الأدلة لفحصها، قد نصل عن طريقها إلى شيء.

وأخذ «تختخ» يُخرج الأدلة … المايوهات الأربعة … عُلبة السجاير وبعض الأعقاب وكيس النظارة.

وأخذوا يفحصون الأدلة فترة، وقال «عاطف»: إن مايوه الولد يُمكن استخدامه.

تختخ: كيف؟

عاطف: لو شمَّه «زنجر» لاستطاع أن يصلَ إلى الولد سريعًا؛ فقد ظل ملتصقًا بجسمه فترة طويلة … ومن المؤكَّد أن رائحته ما زالت عالقة به.

تختخ: معقول … ولكن من غير المعقول أن نطلب من «زنجر» أن يبحث في القاهرة كلها عن الولد … لا بد من تحديد مكان معين له.

لوزة: لو عَثر المفتِّش على شقة العصابة بواسطة رقم التليفون … لكانت بداية طيبة ﻟ «زنجر».

تختخ: أُرجِّح أنهم غيَّروا مكانهم منذ المكالمة التليفونية التي تمت بيني وبينهم فسوف يعرفون أن شخصًا ليس منهم هو الذي ردَّ على المكالمة … وسيسرعون إلى تغيير مكانهم قبل الاستدلال عليه بواسطة رقم التليفون.

ساد الصمت لحظات ثم قال «تختخ» ألا يجب أن نزور والدة «محب» و«نوسة»؟

احمر وجه «لوزة» وقالت: كيف نسينا هذا الواجب!

تختخ: سنذهب لشراء باقة ورد للسيدة، ثم نتجه إلى المنزل!

لوزة: ولكن المفتش قد يتَّصل في أي لحظة.

تختخ: إذن يبقى عاطف، وسأذهب أنا وأنتِ للزيارة ثم نعود فورًا.

عاطف: أرجو أن تَعتذِرا عني.

تختخ: بالطبع … هيا بنا یا «لوزة».

انصرف «تختخ» و«لوزة» وبقي «زنجر» مع «عاطف» حسب تعليمات «تختخ»، ولم يكد المغامران يبتعدان حتی رن جرس التليفون ورفع «عاطف» السماعة في لهفة وعلى الطرف الآخر سمع صوت المُفتِّش يقول: هالو …«توفيق»!

قال «عاطف»: إن «توفيق» في منزل «محب» یا حضرة المفتش … هل هناك أخبار جديدة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤