قلوب الأمهات

قال المفتش: كمية هائلة من الأخبار … إن التليفون موجود في فيلا بشارع «السودان» في «إمبابة» … والأب هو الأستاذ «عبد الجليل حسني» … ويسكن في عمارات الإعلام عند مسرح البالون.

عاطف: إن المكانين يَقترب أحدهما من الآخر.

المفتش: هذا صحيح … وقد أرسلنا في طلب الأستاذ «عبد الجليل» … وسأقوم الآن على رأس قوة لمداهمة الفيلا.

عاطف: كنا نُريد أن نكون معك.

المفتش: لقد قمتم بواجبكم حتى الآن … والمعلومات صحيحة … فدعوا الباقي لرجال الشرطة وسنُبلغكم بالنتيجة.

لم يجد «عاطف» ما يقوله فشكر للمُفتش الاتصال، ثم وضع السماعة، وأسرع يلحق ﺑ «تختخ» و«لوزة» واستطاع أن يصل إليهما وهما عند بائع الورد وروى ﻟ «تختخ» تفاصيل المكالمة التليفونية التي دارت بينه وبين المفتِّش … واستمع «تختخ» و«لوزة» بانتباه إلى الأنباء، ثم قال «تختخ»: ألم تعرف منه عنوان الفيلا؟

عاطف: لا … كل ما أعرف أنها في شارع السودان.

تختخ: كان من المهم أن تعرف العنوان … على كل حالٍ سوف نُعاود الاتصال به من منزل «محب» بعد أن نطمئن على والدته …

وصعدوا إلى المنزل واستقبلهم «محب» مُرحِّبًا، فقال «تختخ»: هل نستطيع زيارة الوالدة؟

محب: طبعًا، إنها ستَسعد كثيرًا بكم … وقد اشتريتم لها نوع الورد الذي تحبه، واتجه الأصدقاء جميعًا إلى غرفة السيدة العزيزة والدة «محب»، وتقدَّمت منها «لوزة» ووضعت الورد بين يديها … ثم قبَّلتها … وابتسمت السيدة وقالت: كانت مفاجأة جميلة وصولكم أمس ليلًا … لم نتوقع أبدًا أنكم سَتحضرون بهذه السرعة.

وتبادل الأصدقاء النظرات … وتنحنح «عاطف» وقال: لقد كان مرضُكِ السبب الأول بالطبع في حضورنا … ولكن هناك أسباب أخرى.

ابتسمت السيدة وقالت: أي أسباب؟ مغامرات وألغاز!

ضحك «عاطف» وقال: نعم … شيء مؤثِّر جدًّا … خَطف ولد.

بدا الاهتمام على وجه السيدة وقالت: خطف ولد؟ ابن مَنْ هذا؟

ردَّ «عاطف»: علمنا الآن فقط أنه ابن رجل يُدعى الأستاذ «عبد الجليل حسني»، ويُقيم في عمارات … وقبل أن يُكمل «عاطف» جُملته قالت السيدة: عمارات الإعلام بجوار مسرح البالون.

بدت الدهشة على وجوه المغامرين وقال «تختخ» کیف عرفتِ با عمتي؟

ردَّت «السيدة»: إن زوجة الأستاذ «عبد الجليل» كانت زميلتي في الجامعة … و«محسن» هو ولدها الوحيد. هل خُطف؟

ارتبك الأصدقاء أمام هذه المعلومات … فلم يكن في تصورهم أن تصل الصُّدفة إلى هذا الحد، ومضت السيدة تقول: وقد بدا عليها الذعر: «محسن» … خُطف؟ إنه في بيروت!

تختخ: تمامًا … إنه كان في بيروت، حتى أمس الأول … ولكنه الآن في «القاهرة» خطفتْه عصابة لتُهدِّد والده.

السيدة: تُهدده … لماذا؟

تختخ: إنهم يطلبون منه مفاتيح خزينة البنك الذي يعمل به لسرقتها.

السيدة: تمامًا … لقد تذكرت الآن، فقد سبق أن حدث هذا، ولإبعاده عن هذه العصابة فقد أرسله والده عند عمه الأستاذ بجامعة «بيروت». وقد كان الوالدان قلقَين عليه بعد الحوادث الأخيرة في لبنان، ولكن حتى أسبوع مضى كانت الأخبار بالنسبة له مُطمئنة. والتفتت السيدة إلى «محب» وقالت: هات التليفون يا «محب»!

محب: ماذا ستفعلين يا أمي؟

السيدة: سأتَّصل بوالدته … أليس من حقها ومن حق والده أن يعلما ما حدث لابنهما.

زاد ارتباك المغامرين … فالأحداث تتوالى سريعًا … وأسرع «محب» يحضر التليفون لوالدته التي أدارت الرقم. استمعت إلى مَن يردُّ وسمعَها الأصدقاء تقول: هل هناك أخبار عن «محسن»؟

واستمعت قليلًا ثم بدأت الدموع تتجمَّع في عينَيها … ومضت فترة وهي تستمع ثم قالت: اسمعي یا «إلهام» إن «محسن» في «القاهرة»!

واستمعت … والأصدقاء يُركزون أنظارهم عليها ثم قالت: لا … لم يحدث أي شيء في «بيروت» … إنه في «القاهرة» … ألم يتَّصل بكم أحد بشأنه؟

واستمعت لحظات ثم مضت تقول: إنها حكاية طويلة … اطمئنِّي يا «إلهام» … سيعود لكِ «مُحسن» وسأتصل بكِ مرةً أخرى.

ووضعت الأم السماعة، والتفتت إلى الأصدقاء وقالت: لقد اتصل عم «محسن» من «بيروت» وقال إنه اختفى منذ ثلاثة أيام … وقد ظن الوالدان أن ابنهما فُقدَ في أعمال العنف التي وقعت في «بيروت» مؤخرًا، وسافر والده أمس إلى «بيروت» لهذا السبب.

ساد الصمت ثم مضت السيدة تقول: والآن ما هي القصة كاملة … إني أريد أن أُطمئن «إلهام» على أخبار ولدها.

تختخ: الحقيقة أن الأخبار لیست مُطمئنة. وإن كنا نرجو أن تَنتهيَ الحكاية على خير.

الأم: ما هي الحكاية؟

أخذ «تختخ» يروي لها تفاصيل القصة … دون أن يتعرَّض لمغامراته في شقة «أبو قير» حتى لا تَنزِعج السيدة … حتى إذا انتهى منها قالت أم «محب»: اتصلوا إذن بالمفتِّش فورًا … إنني أريد أن أُطمئن «إلهام».

تختخ: لا فائدة من الاتصال به الآن … لقد نزل على رأس حملة لمهاجمة الشقة.

السيدة: حاوِلُوا على كلِّ حالٍ.

أمسك «تختخ» بسماعة التليفون، ثم أدار رقم المفتش … وأخذ الجرس يرن فترة ثم ردَّ شخصٌ قائلًا: مكتب المفتش «سامي» … أفندم.

تختخ: من فضلك هل المفتش موجود؟

الرجل: لا … لقد ذهب في مُهمة … أي خدمة يا أستاذ!

تختخ: عندما يعود اطلُب إليه أن يتصل ﺑ «محب»!

الرجل: هل يعرف رقم التليفون؟

تختخ: نعم …

ووضع «تختخ» السمَّاعة … وعرف الجميع أن المُفتِّش ليس موجودًا … وساد نوع من الصمت المتوتر … وأحسَّ «عاطف» بالندم لأنه ساق هذه الأنباء السيئة إلى السيدة المريضة، وأعلن عن اعتذاره قائلًا: آسف جدًّا لأني قُلت لكِ هذه الأنباء السيئة.

قالت السيدة: على العكس … لقد كنتُ مُتضايقة من السكون وعدم الحركة … أما الآن فسوف ألبس ثيابي وأذهب إلى «إلهام» … لا بد أن أكون بجوارها في هذه الساعات المؤلمة … إنه وحيدها وهي تحبه أكثر من أي شيءٍ آخر في العالم.

قالت «نوسة» مُعترِضة: ولكن يا ماما أنتِ مُتعبة.

قالت الأم وهي تغادر فراشها: على العكس، لقد أصبحتُ أحسن الآن، وأظنُّ أنني عندما أخرج سأتحسن كثيرًا … سأذهب إلى «إلهام» وأرجو أن تتصلوا بي كلما جاءتكم أخبار جديدة.

ودون أن تنتظر كلمة أخرى غادرت الفراش، وسرعان ما كانت مُستعدَّة للخروج ثم ركبت السيارة وانطلقت … وتركت المغامرين وهم يتبادلون النظرات، وكانوا في غاية الدهشة لكل ما حدث … فهذه أول مرة يمرُّون فيها بموقف مثل هذا الموقف … فقد أصبحت مسئوليتهم عن إعادة «محسن» مضاعفة بعد أن عرفوا ظروف والديه … وعلاقة والدة «محب» الوثيقة بوالدته.

مضت ساعة ثقيلة ومشحونة بالتوتُّر … ودقَّ جرس التليفون وكان المتحدِّث هو المفتش … واستمع «تختخ» إليه … كان صوتُه حزينًا ومُتعبًا وهو يقول: للأسف لم نجد أحدًا في الشقة … لقد غادروها أمس ليلًا … وسألنا عن الأستاذ «عبد الجليل حسن» فعرفنا أنه سافر إلى بيروت، لأنه عَلِم أن ولده فُقد، وبهذا تكون جميع الخيوط التي في أيدينا قد تقطَّعت وليس أمامنا إلا انتظار ما سيأتي من أحداث.

تختخ: ما هو عنوان الشقة يا سيادة المفتش؟

أملى المفتش العنوان على «تختخ» ثم سأله: هل تذهبون إلى هناك؟

تختخ: نعم هناك محاولة أخرى سيقوم بها «زنجر».

المفتش: لقد أغلقنا الشقة بالشمع الأحمر بعد أن رفعنا البصمات … ولعلنا نستطيع عن طريق البصمات أن نصل إلى العصابة … وهناك حارس على الباب.

تختخ: ألا نستطيع دخول الشقة بأية طريقة؟

المفتش: سأُرسل أحد الأُمناء إلى هناك الآن، ومعه تعليمات بفَتح الشقة لكم، الساعة الآن الرابعة … فاذهبوا في الخامسة إذا شئتم، ولكن لا تتصرَّفوا أي تصرُّف إلا بعد أن تتَّصلُوا بي.

تختخ: طبعًا يا سيادة المُفتِّش.

ووضع السماعة … وعَقد المغامرون جلسة عمل … واتفقوا على أن تبقي «نوسة» و«لوزة» في منزل «محب» لتكونا مرکز تجميع معلومات في حالة اتصال المفتش أو والدة «محب» وأن يتوجه الأولاد الثلاثة بعد الغَداء إلى الشقة ومعهم «زنجر».

وقال «تختخ» ﻟ «عاطف»: هل جاء «زنجر» معك؟

عاطف: لا … لقد تركته في حديقة منزلكم.

تختخ: إذن سأحضره معي … وسيكون لقاؤنا عند منزلي في الساعة الخامسة تمامًا وأسرع «تختخ» و«عاطف» يغادران المنزل.

عندما وصل «تختخ» إلى منزلهم كان أول ما فعله الاطمئنان على وجود «زنجر» ولكن لدهشته الشديدة لم يجد الكلب الأسود في الحديقة … وظنَّ أنه ذهب إلى المطبخ بحثًا عن طعام … فأسرع إلى هناك ولكن «زنجر» لم يكن موجودًا.

وأحسَّ «تختخ» بالضيق ثم سأل الشغالة: أين «زنجر»؟

ردت: لقد خرج يا أستاذ.

تختخ: خرج … إلى أين؟

الشغالة: لا أدري يا أستاذ … كان يأكل هنا منذ دقائق قليلة، ثم سمع صوت کلاب دخلت الحديقة فخرج إليهم، واشتبك معهم في معركة … وقد خرجتُ على صوت العِراك ووجدته يطاردهم … وعبثًا حاولت مناداته ليعود.

جلس «تختخ» للغدَاء، وهو مُلقٍ بسمعه إلى الحديقة … وينتظر سماع صوت «زنجر» حين عودته … ولكن الوقت مضى دون أن يظهر «زنجر».

أحس «تختخ» بالقلق بمُضي الوقت … واتصل بمنزل «محب» ولكنه لم يعثر على «زنجر» هناك ولم يكن في استطاعته عمل شيء … فأين ذهب هذا الكلب الشقي؟

مضت فترة طويلة … وبدأ «تختخ» يحس بالقلق … ربما أُصيب «زنجر» في حادث، ربما شاهده الرجل الذي هاجمه في الشقة فضربه … ربما … ربما … هكذا أخذ «تختخ» يفكر حتى هبط الظلام … والتليفونات لا تكُف عن الرنين بينه وبين الأصدقاء.

وأخيرًا سمع نباحًا خافتًا … وأسرع إلى الحديقة … كان «زنجر» راقدًا على بطنه يلعق مخالبه … وكان على وجهِه وشعره آثار معركة طاحنة خاضها … وأسرع «تختخ» إليه وقد تدافعت الكلمات الغاضبة من فمه … وأدرك «زنجر» أن «تختخ» غاضبٌ جدًّا … فوقف وأخذ يهز ذيله في أسًى.

صاح «تختخ» به: أين كنت يا «زنجر».

نبح «زنجر» في حُزنٍ فعاد «تختخ» يقول: هل تعلمتَ التشرُّد؟ … ألم أقل لك ألف مرة لا تبعد عن المنزل؟ ماذا حدث معك؟

وأخذ «تختخ» يفحص «زنجر» … وأدرك أنه جريح … وأسرع إلى المنزل وعاد بأدوات الإسعاف، وأخذ يُطهر له جروحه ويُضمدها وقد أحسَّ بضيقٍ شديدٍ … فقد كانوا في حاجة إلى جهود «زنجر» في هذا اليوم أكثر من أي يومٍ آخر …

اتصل «تختخ» تليفونيًّا ﺑ «محب» و«عاطف» وروی لهما ما حدث، وبعدَ حوار اتفقوا على أنه من الضروري أن يأخذوا «زنجر» معهم إلى الشقة … بعد أن يشمَّ بعض الأدلة ومنها المايوهات … وكيس النظَّارة … وعاد «تختخ» إلى «زنجر» وقال له: آسف جدًّا یا «زنجر» إنني أعرف أنك مُتعب ولكننا في أشد الحاجة إليك!

هزَّ الكلب ذيله … وأرسل نباحًا خفيفًا دليل الموافقة … وخرجا معًا وقابلا «محب» و«عاطف» ثم ركب الجميع تاكسيًا إلى «إمبابة».

ووصلوا وقد أشرفت الساعة على العاشرة ليلًا … كان شارع «السودان» هادئًا وقد أظلمت بعض أجزائه نتيجة انقطاع التيار الكهربائي عنها … وسُرعان ما عثروا على الفيلا.

كانت الفيلا تقع على الجانب الأيمن من الطريق حيث تقل المساكن … ولمح الأصدقاء شبح الحارس أمامهم، فتقدَّموا منه وقال «تختخ»: مساء الخير … هل وصلتك تعليمات من المفتش «سامي» … بخصوص زیارتنا.

رد الحارس: نعم تفضلوا … ولكن النور مقطوع.

تختخ: لا بأس … معنا بطاريات …!

ودخل الأصدقاء وأضاءوا بطارياتهم … وأخرج «تختخ» المايوهات وكيس النظارة وقدمها إلى «زنجر» وأخذ الكلب الذكي نفَسًا عميقًا ثم أخذ يطوف بالفيلا والأصدقاء الثلاثة خلفه … وبدا حائرًا قليلًا … ولكنه ذهب إلى باب خلفي يطلُّ على المزارع وأخذ ينبش بقدميه … وفتح «تختخ» الباب، واندفع «زنجر» جاريًا وهم خلفه …

كان الظلام كثيفًا في منطقة المزارع خلف الفيلا … حيث يمرُّ شريط سكة حديد وجه قبلي … واجتاز «زنجر» قُضبان السكك الحديدية ومضى يَنحدِر إلى الجانب الآخر والمغامرون خلفه … كان «زنجر» قطعة من الظلام، ولم يكن في إمكان المغامرين الثلاثة رؤيته، ولكنهم كانوا يتبعون نباحه الخفيف الذي كان يدلهم به على مكانه … وسُرعان ما غاصوا في زراعات الذرة الكثيفة … ومضى الوقت وهم يسيرون مسرعين في طرقات مُلتوية خلف «زنجر» الذي كان يتوقف أحيانًا ثم يرفع رأسه إلى فوق ويتنسم الهواء ويمضي … وبعد نصف ساعة تقريبًا توقف «زنجر» وسمع الأصدقاء أصوات حديث بعيد تحمله الريح … فعرفوا أن «زنجر» قد وصل إلى نهاية الرحلة … تقدم «تختخ» وربت على ظهر الكلب الذكي … ثم مشى قليلًا في حذر … وشاهد کوخًا من الخشب وخوص النخيل، قد جلس أمامه ثلاثة أشخاص أوقدوا نارًا لعمل الشاي … وانعكس ضوء النيران على وجوههم …

وانضم «محب» و«عاطف» ﻟ «تختخ» الذي همس: أحد هؤلاء الرجال هو الذي هاجمه «زنجر» … ولكن هل «محسن» معهم؟

محب: أستطيع أن أتقدم وحدي … إننا في عكس اتجاه الريح ولن يسمعوا صوت أقدامي، وسأتمكن من النظر داخل الكوخ وأعود لكما …

تختخ: كن حذِرًا یا «محب»!

محب: طبعًا!

وتقدَّم «محب» وحدَه وانحرف يسارًا بحيث يدور دورة واسعة داخل أعواد الذرة، ثم عاد وانحرف يمينًا في زاوية حادة فأصبح خلف الكوخ مباشرةً … وانحنى يسير على يديه وقدميه حتى وصل إلى الكوخ، ومد يديه وأزاح الخوص جانبًا ونظر داخل الكوخ … كان الظلام كثيفًا داخله … ولكن بعد لحظات تعودت عينا «محب» الظلام واستطاع أن يُشاهد جسَدًا مكوَّمًا في جانب الكوخ … عليه قميص أبيض … وفكَّر «محب» قليلًا: هل يعود إلى «تختخ» و«عاطف» ليروي لهما ما حدث أو يتصرف … وباندفاعه المعروف عنه قرَّر أن يُحاول إنقاذ الولد وحده …

أخذ «محب» يوسِع الفتحة التي فتحها حتى أصبحت تتَّسع له … وتلوى كالثُّعبان داخلًا فيها … وزحف على يديه وركبتيه حتى أصبح بجوار الجسد الذي رآه. لم يكن يعرف شکل «محسن» … ولكنه لم يشكَّ لحظة أنه هو … كان موثق اليدين والقدمين ومُکمَّم الفم … ومال «محب» على أذُنه وقال هامسًا: إنني صديقٌ وصلته رسالتك، لا تُحدِث أي صوت … سأفكُّ وثاقَك!

وأخذ «محب» بأصابع مدرَّبة يفُك وثاق الولد … حتى إذا انتهى من فك كل الأربطة سمع صوتًا وأرهف أذنيه … كان صوت أقدام تتقدَّم من الكوخ … وانسحب «محب» سريعًا وهو يقول: تظاهر بأنك ما زلت مقيدًا.

ربض «محب» ساكنًا خلف الكوخ يستمع … ولكنَّ الأقدام اقتربت من الكوخ ثم ابتعدت … وانتظر «محب» لحظات ثم عاد إلى داخل الكوخ … وهمَس في أُذن «محسن»: تعالَ خلفي.

وتلوى مرةً أخرى خارجًا من الفتحة … وأخذ «محسن» يحاول الخروج … وجَذبه «محب» حتى أخرجه وقال له: هل تستطيع السير؟

ردَّ «محسن» لأول مرة قائلًا في صوتٍ واهنٍ: سأُحاول! قال «محب»: سأسندك!

ومشيا معًا … و«محب» يسند «محسن» حتى وصلا إلى «تختخ» و«عاطف» اللذَين ألجمت الدهشة لسانيهما … وأمسكا بذراعي «محسن» ولكنهم وصلوا إلى شريط السكة الحديد دون أن يحدث شيء … وعبر الجميع شريط السكة الحديد. وبعد لحظات كانوا عند الفيلا … وأسرع «تختخ» إلى الحارس وقال له: افتح فورًا … نُريد الاتصال بالمفتش «سامي».

ودخل «تختخ» مسرعًا وطلب المفتِّش «سامي» وسُرعان ما كان المفتش يرد عليه قائلًا: لقد اتضح أن بعض البصمات لمُجرم هارب من السجن … ونحن نبحث عنه في كل مكان … وقد عثرنا …

ولكن قبل أن يتم المفتش جملته قال «تختخ»: لقد عثرنا على الولد المخطوف!

لم يرد المفتش للحظة ثم قال مندهشًا: عثرتم عليه؟ كيف؟ أين؟

تختخ: إنه معنا الآن في الفيلا التي كانت بها العصابة … وسنَذهب به إلى والدته فهو وهي في حالة يُرثى لها.

المفتش: سنَصل فورًا … هل عرفتم مكان العصابة؟

تختخ: لم نعرفها كلها … ولكن بعض أفراد منها هنا في كوخ خلف زراعة للذرة بعد شريط السكة الحديد … وسينتظركم «عاطف» ليدلَّكم على المكان … وسأذهب مع «محب» إلى منزل «محسن» ونعود لكم.

وخرج «تختخ» مسرعًا وطلب من «عاطف» و«زنجر» انتظار المفتِّش، ثم استقل هو و«محسن» و«محب» تاكسيًا إلى مدينة الإعلام القريبة.

•••

عندما دقَّ «تختخ» جرس الشقة سمع صوت بُكاء يقترب من الباب … ثم ظهرت سيدة جميلة قد احمرَّت عيناها وهي تمسح دموعها المتساقطة … ثم ظهرت والدة «محب» خلفها وقال «تختخ» مبتسمًا: هل تُريدان «محسن»؟

نظرت إليه السيدتان في دهشةٍ وضيقٍ، فانحرف عن الباب … وخلفه ظهر «محسن» … يسنده «محب» وصاحت السيدة: «محسن» … ابني … ابني!

واندفع «محسن» إلى أحضان والدته … وقالت والدة «محب» وقد بدت في غاية الدهشة والفرح: كيف! أين؟!

لم تكن تستطيع الكلام … وابتسم «محب» قائلًا: أما كيف فهذه قصة طويلة وأما أين … ففي مكان قريب جدًّا من هنا.

لم تتمالك السيدة دموع الفرح وهي تتساقط من عينيها … وقال «محب»: ألَّا تعودين إلى البيت؟! إنكِ ما زلتِ مريضة!

ردَّت «الأم»: إنني الآن في أتمِّ صحة بعد أن عاد «محسن» إلى والدته.

التفت «تختخ» إلى «محب» قائلًا: ابقَ أنت مع والدتك … وسأذهب أنا لاستكمال المُهمة!

قالت «الأم»: لا تذهب وحدك … خذه معك.

وفي هذه اللحظة ظهرت والدة «محسن» تقول: يا لَكُما من ولدين … ادخلا فورًا!

قال «تختخ» مُبتسمًا: ليس الآن … سنأتي غدًا فما زالت أمامنا بقية المُهمة!

ووقفت السيدتان ترمقان المغامرَين الصغيرَين وهما ينزلان السلالم مسرعين لاستكمال لُغز الزجاجة الصفراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤