واستهلت سنة ست عشرة ومايتين وألف بيوم الخميس

وباستهلالها خفَّ أمر الطاعون.

وفي ليلة الجمعة تلك أرسل عبد العال الأغا وأحضر الشيخ محمد الأمير ليلًا إلى منزله فبيته عنده، ولما أصبح النهار طلع به إلى القلعة وحبسه عند المشايخ بجامع سارية، والسبب في ذلك أن ولد الشيخ المذكور كان من جملة من يستحث الناس على قتال الفرنسيس في الواقعة السابقة في مصر، فلما انقضت هرب إلى جهة بحري ثم حضر بعد مدة إلى مصر، فأقام أيامًا ثم رجع إلى فوة بإذن من الفرنسيس.

فلما حصلت هذه الحركة وتحذروا شدة التحذير، وآخذوا الناس بأدنى شبهة وتقرب إليهم المنافقون بالتجسس والإغرا ذكر بعضهم ذلك لقايمقام وأدخل في مسامعه أن ابن الشيخ المذكور ذهب إلى عرضي الوزير، والتف عليهم فأرسل قايمقام إلى الشيخ قبل تاريخه فلما حضر سأله عن ولده المذكور فأخبره أنه مقيم بفوة، فقال له: لم يكن هناك وإنما هو عند القادمين، قال له: لم يكن ذلك وإن شيتم أرسلت إليه بالحضور، فقال له: أرسل إليه وأحضره، فقام من عنده على ذلك وأمهله ثمانية أيام مدة مسافة الذهاب والمجي، ثم خاطبه على لسان وكيل الديوان أيضًا فوعده بحضوره أو حضور الجواب بعد يومين، واعتذر بعدم أمن الطريق، فلما انقضى اليومان أمروا عبد العال بطلبه وإصعاده إلى القلعة ففعل.

وفيه حضر جملة من عساكر الفرنساوية من جهة بحري، وتواترت الأخبار بوصول القادمين من الإنكليز والعثمانية إلى الرحمانية، وتملكهم القلعة وما بالقرب منها من الحصون الكاينة بالعطف وغيره، وذلك يوم السبت خامس عشرين الحجة.

وفيه حضرت زوجة ساري عسكر كبير الفرنسيس بصحبة أخيها السيد علي الرشيدي أحد أعضا الديوان، وكان خرج بها من رشيد حين ما ملكها القادمون، ونزل بها في مركب وأرسى بها قبالة الرحمانية، فلما حصلت واقعة الرحمانية وأخذت قلعتها حضر بها إلى مصر بعد مشقة وخوف من العربان وقطاع الطريق وغير ذلك، فأقامت هي وأخوها ببيت الألفي بالأزبكية نحو ثلاثة أيام ثم صعد إلى القلعة.

وفيه قربت العساكر القادمة من الجهة الشرقية، وحضرت طوالعهم إلى القليوبية والمنير والخانكة لأخذ الكلف فتأهب قايمقام بليار للقاهم وأمر العساكر بالخروج من أول الليل ثم خرج هو في آخر الليل، فلما كان يوم الأحد رابعه رجع قايمقام ومن معه ووقع بينه وبينهم مناوشة، فلم يثبت الفرنسيس لقلتهم ورجعوا مهزومين، وكتموا أمرهم ولم يذكروا شيًّا.

وفي خامسه رفعوا الطلب عن الناس بباقي نصف المليون، وأظهروا الرفق بالناس والسرور بهم لعدم قيامهم عند خروجهم للحرب، وخلو البلدة منهم وكانوا يظنون منهم غير ذلك.

وفيه أخذت جملة من عدد الطواحين، وأصعدت إلى القلعة وأكثروا من نقل الما والدقيق والأقوات إليها وكذلك البارود والكبريت والجلل والقنابر والبنب، ونقلوا ما في الأسوار والبيوت من الأمتعة والفرش والأَسِرَّة وحملوه إليها، ولم يُبقُوا بالقلاع الصغار إلا مهمات الحرب.

وفيه طلبوا الزيَّاتين وألزموهم بمايتي قنطار زيت سيرج وسمروا جملة من حوانيتهم، وخرج جماعة من الجزارين لشرا الغنم من القرى القريبة، فقبض عليهم عساكر العثمانية القادمة ومنعوهم من العود بالغنم والبقر، وكذلك منعوا الفلاحين الذين يجلبون الميرة والأقوات إلى المدينة، فانقطع الوارد من الجهات البحرية والقليوبية وعزَّت الأقوات وشح اللحم والسمن جدًّا، وأغلقت حوانيت الجزارين، واجتهد الفرنساوية في وضع متاريس خارج البلد من الجهة الشرقية والبحرية وحفروا خنادق وطلبوا الفَعَلة للعمل، فكانوا يقبضون على كل من وجدوه ويسوقونهم للعمل، وكذلك فعلوا بجهة القرافة، وألقوا الأحجار العظيمة والمراكب ببحر إنبابة لتمنع المراكب من العبور، وابتدأوا المتاريس البحرية من باب الحديد ممدودة إلى قنطرة الليمون إلى قصر إفرنج أحمد إلى السبتية إلى مجرى البحر.

وفي ثامنه بعث قايمقام بليار، فأحضر التجار وعظما الناس وسالهم عن سبب غلق الحوانيت، فقالوا له: من وقف الحال والكساد والجلا والموت، فقال لهم: من كان موجودًا حاضرًا فألزموه بفتح حانوته وإلا فأخبروني عنه، ونزلت الحكام فنادت بفتح الحوانيت والبيع والشرا.

وفي عاشره شرعوا في هدم جانب من الجيزة من الجهة البحرية، وقربت عساكر الإنكليز القادمة من البر الغربي إلى البلد المسماة بنادر عند راس ترعة الفرعونية.

وفيه تواترت الأخبار بأن العساكر الشرقية وصلت أوايلها إلى بنها وطحلا بساحل النيل، وأن طايفة من الإنكليز رجعوا إلى جهة إسكندرية وأن الحرب قايم بها، وأن الفرنساوية محصورون بداخل الإسكندرية والإنكليز ومن معهم من العساكر يحاربون من خارج، وهي في غاية المنعة والتحصين، وأن الإنكليز بعد قدومهم وطلوعهم إلى البر ومحاربتهم المرات السابقة أطلقوا الحبوس عن المياه السايلة من البحر المالح منه إلى الجسر المقطوع حتى سالت المياه وعمت الأراضي المحيطة بالإسكندرية وأغرقت أطيانًا كثيرة وبلادًا ومزارع، وأنهم قعدوا في الأماكن التي يمكن الفرنسيس النفوذ منها بحيث إنهم قطعوا عليهم الطرق من كل ناحية.

وفي ثاني عشره نزلت امرأة من القلعة بمتاعها واختفت بمصر، فأحضر الفرنسيس حكام الشرطة وألزموهم بإحضارها، وهذه المرأة اسمها هوى كانت زوجة لبعض الأمرا الكشاف، ثم إنها خرجت عن طورها وتزوجت نقولا وأقامت معه مدة، فلما حدثت هذه الحوادث جمعت ثيابها، واحتالت حتى نزلت من القلعة وهي على حمار ومتاعها محمول على حمار آخر، فنزلت عند بعض العطف وأعطت المكارية الأجرة وصرفتهم من خارج واختفت، فلما وقع عليها التفتيش وأحضروا المكارية، قالوا: لا نعلم غير المكان الذي أنزلناها به وأعطتنا الأجرة عنده، فشددوا على المكارية ومنعوهم من السروح، وقبضوا على أهل الحارة وحبسوهم، ثم أحضروا مشايخ الحارات وشددوا عليهم وعلى سكان الدور وأعلموهم أنه إن وجدت المرأة في حارة من الحارات ولم يخبروا عنها نهبوا جميع دور الحارة وعاقبوا سكانها، فحصل للناس غاية الضجر والقلق بسبب اختفاها وتفتيش أصحاب الشرطة وخصوصًا عبد العال، فإنه كان يتنكر ويلبس زي النسا ويدخل البيوت بحجة التفتيش عليها، فيزعج أرباب البيوت والنسا، ويأخذ منهن مصالح ومصاغًا ويفعل ما لا خير فيه، ولا يخشى خالقًا ولا مخلوقًا.

وفي خامس عشره قبضوا على ألطون أبي طاقية النصراني القبطي وحبسوه بالقلعة وألزموه بمبلغ دراهم تأخرت عليه من حساب البلاد.

وفي سادس عشره أفرجوا عن محمد أفندي يوسف ونزل إلى بيته، وكذلك الشيخ مصطفى الصاوي لمرضه.

وفيه انقضت دعوة تهمة الشيخ خليل البكري، ومحصلها أن خادم مملوكه ذهب عن لسان المملوك إلى بليار قايمقام وأخبره أنه وصل إلى أستاذه الشيخ خليل البكري المذكور فرمان من عرضي الوزير بالأمان، وكان هذا بإغرا عبد العال ليوقعه في الوبال ويحرك عليه الفرنسيس لحزازة بينه وبينه، فلما حضر الشيخ خليل على عادته عند قايمقام سأله عن ذلك، فجحده فأحضروا الخادم الذي بلَّغ ذلك فصدَّق على ذلك، وأسند إلى المملوك سيده فأحضروا المملوك وسألوه، فقال: نعم، فقالوا له: وأين الفرمان؟ فقال: قراه وقطعه، فقال الفرنساوية: وكيف يقطعه؟ هذا دليل الكذب؛ لأنه لا يصح أن يتلقاه بالقبول ثم يقطعه، فقيل له: ومن أتى به؟ قال: فلان، فألزموا الشيخ بإحضار ذلك الرجل، وحبس المملوك عند عبد العال يومين وحضر الرجل فسألوه فجحد ولم يثبت عليه، وظهر كذب الغلام والخادم، فعند ذلك طلب الشيخ غلامه، فقال قايمقام: إن قصاصه في شريعتنا أن يقطع لسانه، فتشفَّع فيه سيده وأخذه بعد أمور وكلام قبيح قاله الغلام في حق سيده.

وفيه حضر حسين كاشف اليهودي إلى قايمقام وأخبره أن الأمرا الذين بالصعيد خرجوا عن طاعة الفرنساوية وردوا مكاتبتهم التي أرسلوها لهم بعد موت مراد بك، وأنهم مروا وتوجهوا إلى بحري من البر الغربي وعثمان بك الأشقر ذهب من خلف الجبل إلى جهة الشرق، فلما حصل ذلك ركب قايمقام وذهب للست نفيسة وأمَّنها وطيَّب خاطرها وأخبرها أنها في أمان هي وجميع نسا الأمرا والكشاف والأجناد، ولا مواخذة عليهن بما فعله رجالهن.

وفي عشرينه توكل رجل قبطي يقال له عبد الله من طرف المعلم يعقوب بجمع طايفة من الناس لعمل متاريس فتعدى على بعض الأعيان، وأنزلهم من على دوابهم، وعسف وضرب بعض الناس على وجهه حتى أسال دمه، فتشكى الناس من ذلك القبطي وأنهوا شكواهم إلى بليار قايمقام، فأمر بالقبض على ذلك القبطي وحبسه بالقلعة، ثم فردوا على كل حارة رجلين يأتي بهما شيخ الحارة وتدفع لهما أجرة من شيخ الحارة.

وفيه وردت الأخبار بأن الوزير وصل دجوه.

وفي يوم الاثنين سمع عدة مدافع على بعد وقت الضحوة.

وفي ذلك اليوم قبل العصر طلبوا مشايخ الديوان فاجتمعوا بالديوان، وحضر الوكيل والترجمان وطلبهم للحضور إلى قايمقام، فلمَّا حصلوا عنده قال لهم على لسان الترجمان: نخبركم أن الخصم قد قرب منَّا ونرجوكم أن تكونوا على عهدكم مع الفرنساوية وأن تنصحوا أهل البلد والرعية بأن يكونوا مستمرين على سكونهم وهدوهم ولا يتداخلوا في الشر والشغب، فإن الرعية بمنزلة الولد وأنتم بمنزلة الوالد، والواجب على الوالد نصح ولده وتأديبه وتدريبه على الطريق المستقيم التي يكون فيها الخير والصلاح، فإنهم إن داموا على الهدو حصل لهم الخير ونجوا من كل شر، وإن حصل منهم خلاف ذلك نزلت عليهم النار، وأحرقت دورهم ونهبت أموالهم ومتاعهم ويتمت أولادهم وسبيت نساهم وألزموا بالأموال والفِرَد التي لا طاقة لهم بها، فقد رأيتم ما حصل في الوقايع السابقة فاحذروا من ذلك فإنهم لا يدرون العاقبة، ولا نكلفكم المساعدة لنا ولا المعاونة لحرب عدونا، وإنما نطلب منكم السكون والهدو لا غير، فأجابوه بالسمع والطاعة وقولهم كذلك وقري عليهم ورقة بمعنى ذلك، وأمروا الأغا وأصحاب الشرطة بالمناداة على الناس بذلك وأنهم ربما سمعوا ضرب مدافع جهة الجيزة فلا ينزعجوا من ذلك فإنه شنك وعيد لبعض أكابرهم، وأن يجتمع من الغد بالديوان الأعيان والتجار وكبار الأخطاط ومشايخ الحارات ويتلى عليهم ذلك، فلما كان ضحوة يوم الثلاثا اجتمعوا كما ذكر وحصلت الوصية والتحذير، وانتهى المجلس وذهبوا إلى محلاتهم.

وفي ذلك اليوم أشيع حضور الوزير إلى شلقان، وكذلك عساكر الإنكليز بالناحية الغربية وصلوا إلى أول الوراريق.

وفي يوم الجمعة غايته اجتمع المشايخ والوكيل بالديوان على العادة، وحضر أستوف الخازندار وترجم عنه رفاييل بقوله إنه يثني على كل من القاضي والشيخ إسماعيل الزرقاني باعتنائهما فيما يتعلق بأمر المواريث وبيت المال والمصالح على التركات المختومة؛ لأن الفرنساوية لم يبقَ لهم من الإيراد إلا ما يتحصل من ذلك، والقصد الاعتنا أيضًا بأمر البلاد والحصص التي انحلت بموت أربابها، فلازم أيضًا من المصالحة والحلوان والمهلة في ذلك ثمانية أيام، فمن لم يصالح على الالتزام الذي له فيه شبهة في تلك المدة ضبطت حصته ولا يقبل له عذر بعد ذلك، واعلموا أن أرض مصر استقر ملكها للفرنساوية فلازم من اعتقادكم ذلك وأركزوه في أذهانكم كما تعتقدون وحدانية الله تعالى، ولا يغرنكم هولا القادمون وقربهم، فإنه لا يخرج من أيديهم شي أبدًا، وهولا الإنكليز ناس خوارج حرامية وصناعتهم إلقا العداوة والفتن والعثملي مغتر بهم، فإن الفرنساوية كانت من الأحباب الخلص للعثملي فلم يزالوا حتى أوقعوا بينه وبينهم العداوة والشرور، وأن بلادهم ضيقة وجزيرتهم صغيرة ولو كان بينهم وبين الفرنساوية طريق مسلوك من البر لانمحى أثرهم ونُسي ذكرهم من زمان مديد، وتأملوا في شأنهم وأي شي خرج من أيديهم فإن لهم ثلاثة أشهر من حين طلوعهم إلى البر وإلى الآن لم يصلوا إلينا، والفرنسيس عند قدومهم وصلوا في ثمانية عشر يومًا، فلو كان فيهم همة أو شجاعة لوصلوا مثل وصولنا، وكلام كثير من هذا النمط في معنى ذلك من بحر الغفلة.

ثم ذكر البكري والسيد أحمد الزرو أنه حضر مكتوب من رشيد على يد رجل حناوي لآخر من منية كنانة، يذكر فيه أنه حضر إلى إسكندرية مراكب وعمارة من فرنسا، وأن الإنكليز رجعت إليهم وأن الحرب قايمة بينهم على ظهر البحر، فقال الخازندار: يمكن ذلك وليس ببعيد، ثم نقلوا ذلك إلى بليار قايمقام، فطلب الرجل الراوي لذلك فأحضر الزرو رجلًا شرقاويًّا حلف لهم أنه سمع ذلك بأذنه من الرجل الواصل إلى منية كنانة من رشيد.

شهر صفر الخير سنة ١٢١٦

واستهل بيوم السبت وفي ذلك اليوم قبل المغرب مشى عبد العال الأغا، وشق في شوارع المدينة وبين يديه منادٍ يقول: الأمن والأمان على جميع الرعايا، وفي غد تضرب مدافع وشنك من القلاع في الساعة الرابعة فلا تخافوا ولا تنزعجوا، فإنه حضرت بشارة بوصول بونابارته بعمارة عظيمة إلى الإسكندرية، وإن الإنكليز رجعوا القهقرى، فلما أصبح يوم الأحد في الساعة الرابعة من الشروق ضربت عدة مدافع وتابعوا ضربها من جميع القلاع، وصعد أناس إلى المنارات ونظروا بالنظارات فشاهدوا عساكر الإنكليز بالجهة الغربية وصلوا إلى آخر الوراريق وأول إنبابة ونصبوا خيامهم أسفل إنبابة، وعند وصولهم إلى مضاربهم ضربوا عدة مدافع، فلما سمعها الفرنساوية ضرب الآخرون تلك المدافع التي ذكروا أنها شنك، وأما العساكر الشرقية فوصلت أوايلهم إلى منية الأمرا المعروفة بمنية السيرج والمراكب فيما بينهما من البرين بكثرة.

فعند ذلك عزَّت الأقوات وشحت زيادة على قلتها وخصوصًا السمن والجبن والأشيا المجلوبة من الريف، ولم يبقَ طريق مسلوكة إلى المدينة إلا من جهة باب القرافة، وما يجلب من جهة البساتين من القمح والتبن فيأتي ذلك إلى عرصة الغلة بالرميلة، ويزدحم عليه النسا والرجال بالمقاطف فيسمع لهم ضجة عظيمة، وشح اللحم أيضًا وغلا سعره لقلة المواشي والأغنام، فوصل سعر الرطل تسعة أنصاف، والسمن خمسة وثلاثين نصفًا، والبصل بأربعماية فضة القنطار، والرطل الصابون بثمانين فضة، والشيرج عشرون نصفًا، وأما الزيت فلا يوجد ألبتة، وغلت الأبزار جدًّا، واتفق لي غريبة وهو أني احتجت إلى بعض أنيسون، فأرسلت خادمي إلى الأبزارية على العادة يشتري منه بدرهم فلم يجده، وقيل له إنه لا يوجد إلا عند فلان هو يبيع الوقية بثلاثة عشر نصفًا، ثم أتاني منه بوقيتين بعد جهد في تحصيله فحسبت على ذلك سعر الإردب فوجدته يبلغ خمسماية ريال أو قريبًا من ذلك، فكان ذلك من النوادر الغريبة.

وفي يوم الاثنين ثالثه حصلت الجمعية بالديوان وحضر التجار ومشايخ الحارات والأغا، وحضر مكتوب من بليار قايمقام خطابًا لأرباب الديوان والحاضرين يذكر فيه أن حضر إليه مكتوب من كبيرهم منو بالإسكندرية صحبة هجانة فرنسيس، وصلوا إليهم من طريق البرية، مضمونه أنه طيب بخير، والأقوات كثيرة عندهم يأتي بها العربان إليهم، وبلغهم خبر وصول عمارة مراكب الفرنساوية إلى بحر الخزر، وأنها عن قريب تصل الإسكندرية، وأن العمارة حاربت بلاد الإنكليز واستولت على شقة كبيرة منها فكونوا مطمينين الخاطر من طرفنا، ودوموا على هدوكم وسكونكم إلى آخر ما فيه من التمويهات، وكل ذلك لسكون الناس وخوفًا من قيامهم في هذه الحالة، وكان وصول هذا المكتوب بعد نيف وأربعين يومًا من انقطاع أخبار مَنْ في إسكندرية ولا أصل لذلك.

وفي ذلك اليوم قتل عبد العال رجلًا ذكروا أنه وُجِدَ معه مكتوب من بعض النسا مرسل إلى بعض أزواجهن بالعرضي، قتل ذلك الرجل بباب زويلة ونودي عليه: هذا جزا من ينقل الأخبار إلى العثملي والإنكليز.

وفيه وصلت العساكر الشرقية إلى العادلية وامتد العرضي منها إلى قبلي منية السيرج، وكذلك الغربية إلى إنبابة ونصبوا خيامهم بالبرين والمراكب بينهم في النيل، وضربوا عدة مدافع وخرج عدة من الفرنساوية خيالة فترامحوا معهم وأطلقوا بنادق، ثم انفصلوا بعد حصة من الليل ورجع كل إلى مأمنه، واستمر هذا الحال على هذا المنوال يقع بينهم في كل يوم.

وفي سادسه زحفت العساكر الشرقية حتى قربوا من قبة النصر، وسكن إبراهيم بك زاوية الشيخ دمرداش، وحضر جماعة من العسكر وأشرفوا على الجزارين من حايط المدبح، وطلبوا شيخ الجزارين ووجدوا ثلاثة أنفار من الفرنسيس فضربوا عليهم بنادق، فأصيب أحدهم في رجله فأخذوه وهرب الاثنان، وأصيب جزار يهودي ووقع بين الفريقين مضاربة على بعد، وقتل بعض قتلى وأسر بعض أسرى.

ولم يزل الضرب بينهم إلى قريب العصر، والفرنسيس يرمون من القلعة الظاهرية وقلعة نجم الدين والتل، ولا يتباعدون عن حصونهم.

وفي سابعه وقعت مضاربة بين الفريقين ببنادق ومدافع من الصباح إلى العصر أيضًا.

وفيه أشيع موت السيد أحمد المحروقي بدجوة، وكان مريضًا بها وامتنع الوارد من الجهة البحرية بالكلية.

وفيه قبضوا على رجل شبه خدام ظنوه جاسوسًا، فأحضروه عند قايمقام، فسألوه فلم يقر بشي فضربوه عدة مرار حتى ذهل عقله وصار كالمختل، وكرروا عليه الضرب والعقاب وضربوه بالكرابيج على كفوفه ووجهه وراسه حتى قيل إنهم ضربوه نحو ستة آلاف كرباج وهو على حاله، ثم أودعوه الحبس.

وفيه أطلقوا محبوسًا يقال له الشيخ سليمان حمزة الكاتب، وكان محبوسًا بالقلعة من مدة أشهر فأطلق على مصالحة قدرها ألفا ريال.

وفي ثامنه وقعت مضاربة أيضًا بطول النهار ودخل نحو خمسة وعشرين نفرًا من عسكر العثمانية إلى الحسينية، وجلسوا على مساطب القهوة، وأكلوا كعكًا وخبزًا وفولًا مسلوقًا وشربوا قهوة ثم انصرفوا إلى مضربهم.

وأخذ الفرنساوية عسكريًا من أتباع محمد باشا والي غزة والقدس المعروف بأبي مرق، فحبسوه ببيت قايمقام، وأغلقوا في ذلك اليوم باب النصر وباب العدوي.

وفيه زحفت عساكر البر الغربي إلى تحت الجيزة فحضر في صبحها «يني»، وأخبر قايمقام فركب من ساعته وعدى إلى بر الجيزة، فسُمع الضرب أيضًا من ناحية الجيزة وسُمعت طبول الأمرا ونقاقيرهم، واستمر الأمر إلى يوم الثلاثا حادي عشره، فبطل الضرب في وقت الزوال.

ولما حصلوا جهة الجيزة انتشروا إلى قبلي منها، ومنعوا المعادي من تعدية البر الشرقي فانقطع الجالب من الناحية القبلية أيضًا، فامتنع وصول الغلال والأقوات والبطيخ والعجور والخضروات والخيار والسمن والجبن والمواشي، فعزت الأقوات وغلت الأسعار في الأشيا الموجودة منها جدًّا.

واجتمع الناس بعرصة الغلة بالرميلة يريدون شرا الغلة فلم يجدوها، فكثر ضجيجهم وخرج الأكثر منهم بمقاطفهم إلى جهة البساتين ورجع الباقون من غير شي، فأحضر عبد العال القبانية وألزمهم بإحضار السمن، وضرب البعض منهم فأحضروا له في يومين أربعة عشر رطلًا بعد الجهد في تحصيلها وبيعت الدجاجة بأربعين نصفًا، وامتنع وجود اللحم من الأسواق.

واستمر الأمر على ذلك الأربعا والخميس والمضاربة بين الفريقين ساكنة، وأشيع وقوع المسالمة والمراسلة بينهما والمتوسط في ذلك الإنكليز وحسين قبطان باشا، فانسرَّ الناس وسكن جأشهم لسكون الحرب.

وفي ذلك اليوم أغلقوا باب القرافة وباب المجراة، ولم يعلم سبب ذلك ثم فتحوهما عند الصباح من يوم الجمعة ورفعوا عشور الغلة.

وفي يوم الاثنين سابع عشره أطلقوا المحبوسين بالقلعة من أسرى العثمانية، وأعطوا كل شخص مقطع قماش وخمسة عشر قرشًا، وأرسلوهم إلى عرضي الوزير وكان بلغ بهم الجهد من الخدمة والفِعَالة وشيل التراب والأحجار وضيق الحبس والجوع، ومات الكثير منهم، وكذلك أفرجوا عن جملة من العربان والفلاحين.

وفي ليلة الاثنين المذكور سُمع صوت مدفع بعد الغروب عند قلعة جامع الظاهر خارج الحسينية، ثم سمع منها أذان العشا والفجر، فلما أضا النهار نظر الناس فإذا البيرق العثماني بأعلاها والمسلمون على أسوارها فعلموا بتسليمها، وكان ذلك المدفع إشارة إلى ذلك، ففرح الناس وتحققوا أمر المسالمة، وأشيع الإفراج عن الرهاين من المشايخ وغيرهم وباقي المحبوسين في الصباح، وأكثر الفرنساوية من النقل والبيع في أمتعتهم وخيولهم ونحاسهم وجواريهم وعبيدهم وقضا أشغالهم.

وفي ذلك اليوم أنزلوا عدة مدافع من القلعة، وكذلك من قلعة باب البرقية، وأمتعة وفروشًا وبارودًا.

وفي يوم الثلاثا عمل الديوان وحضر الوكيل وأعلن بوقوع الصلح والمسالمة، ووعد أن في الجلسة الآتية يأتي إليهم فرمان الصلح وما اشتمل عليه من الشروط ويسمعونه جهارًا.

وفي ذلك اليوم أكثر اهتمام الفرنساوية بنقل الأمتعة من القلعة الكبيرة وباقي القلاع بقوة السعي.

وفيه أفرجوا عن محمد جلبي أبي دفية، وإسماعيل القلق، ومحمد شيخ الحارة بباب اللوق، والبرنوسي نسيب أبي دفية، والشيخ خليل المنير، وآخرين تكملة ثمانية أنفار ونزلوا إلى بيوتهم.

وفيه سافر عثمان بك البرديسي إلى الصعيد وعلى يده فرمانات للبلاد بالأمن والأمان وسوق المراكب بالغلال والأقوات إلى مصر، ويلاقي ستة آلاف من عسكر الإنكليز حضروا من القلزم إلى القصير.

وفيه شنق الفرنساوية شخصًا منهم على شجرة ببركة الأزبكية قيل إنه سرق.

وفيه أرسل الفرنساوية إلى الوزير، وطلبوا منه جمالًا ينقلون عليها متاعهم فأمر لهم بإرسال مايتي جمل، وقيل أربعماية، مساعدة لهم وفيها من جمال طاهر باشا وإبراهيم بك.

وفي يوم الخميس عشرينه أفرجوا عن بقية المسجونين والمشايخ، وهم: شيخ السادات، والشيخ الشرقاوي، والشيخ الأمير، والشيخ محمد المهدي، وحسن أغا المحتسب، ورضوان كاشف الشعراوي وغيرهم، فنزلوا إلى بيت قايمقام وقابلوه وشكروه، فقال للمشايخ: إن شئتم اذهبوا فسلموا على الوزير، فإني كلمته ووصيته عليكم.

وفيه حضر الوزير ومن معه من العساكر إلى ناحية شبرا، وكذلك الإنكليز وصحبتهم قبطان باشا إلى الجهة الغربية والعساكر تجاههم، ونصبوا الجسر فيما بينهم على البحر وهو من مراكب مرصوصة مثل جسر الجيزة، بل يزيد عنه في الإتقان بكونه من ألواح في غاية الثخن، وله درابزين من الجهتين أيضًا وهو عمل الإنكليز.

وفيه ألصقوا أوراقًا بالطرق مكتوبة بالعربي والفرنساوي، وفيها شرطان من شروط الصلح التي تتعلق بالعامة ونصها:

ثم إنه أراد الله تعالى بالصلح ما بين عسكر الفرنساوية وعساكر الإنكليز وعساكر العثمانية، ولكن مع هذا الصلح أنفسكم وأديانك ومتاعكم ما أحد يقارشكم وروس عساكر الثلاثة جيوش قد اشترطوا بهذا كما ترونه.

الشرط الثاني عشر: كل واحد من أهالي مصر المحروسة من كل ملة كانت، الذي يريد أن يسافر مع الفرنساوية يكون مطلق الإرادة وبعد سفره كامل ما يبقى عياله ومصالحه ما أحد يعارضهم.

الشرط الثالث عشر: لا أحد من أهالي مصر المحروسة من كل ملة كانت يكون قلقًا من قبل نفسه ولا من قبل متاعه، جميع الذين كانوا بخدمة الجمهور الفرنساوي بمدة إقامة الجمهور بمصر ولكن الواجب أن يطيعوا الشريعة، ثم يا أهالي مصر وأقاليمها جميع الملل أنتم ناظرون لحد آخر درجة الجمهور الفرنساوي ناظرًا لكم ولراحتكم، فيلزم أنتم أيضًا تسلكون في الطريق المستقيمة، وتفتكرون أن الله — جل جلاله — هو الذي يفعل كل شي، وعليه إمضا بليار قايمقام.

وفي يوم الجمعة عملوا الديوان وحضر المشايخ والوكيل، فقال الوكيل: هل بلغكم بقية الشروط الثلاثة عشر، فقالوا: لا، فأبرز ورقة من كمه بالقلم الفرنساوي فشرع يقرؤها والترجمان يفسرها وهي تتضمن الأحد عشر شرطًا الباقية، فقال: إن الجيش الفرنساوي يلزم أن يُخلُوا القلاع ومصر ويتوجهوا على البر بمتاعهم إلى رشيد، وينزلوا في مراكب ويتوجهوا إلى بلادهم، وهذا الرحيل ينبغي أن يسرع به، وأقل ما يكون في خمسين يومًا وأن يساق الجيش من طريق مختص وسر عسكر الإنكليز، والمساعد يلزم أن يقوم لهم بجميع ما يحتاجونه من نفقة ومونة وجمال ومراكب.

والمحل الذي يبدأ منه السعي يكون بالتراضي بين الجمهور والإنكليز والمساعد، وكامل الأمتعة والأثقال تتوجه من البحر ومعهم جيش من الفرنساوي لأجل الحراسة، ولا بد من كون المونة التي تترتب لهم، كالمونة التي كانوا يعطونها هم لجيش الإنجليز وريساهم، وعلى ريسا عساكر الإنكليز وحضرة العثملي القيام بنفقة الجميع، والحكام المتقيدون بذلك يحضرون لهم المراكب ليسفروهم إلى فرنسا من جهة البحر المحيط وأن يقدم كل من حضرة العثملي والإنكليز أربعة مراكب للعليق والعلف للخيل التي يأخذونها في المراكب، وأن يسيروا معهم مراكب للمحافظة عليهم إلى أن يصلوا إلى فرنسا.

وأن الفرنساوية لا يدخلون مينة إلا مينة فرنسا والأمنا والوكلا يقدمون لهم ما يحتاجون إليه نظرًا لكفاية عساكرهم، والمدبرون والأمنا والوكلا والمهندسون الفرنساوية يستصحبون معهم ما يحتاجون من أوراقهم وكتبهم، ولو التي شروها من مصر.

وكل من أهل الإقليم المصري إذا أراد التوجه معهم فهو مطلق السراح مع الأمن على متاعه وعياله، وكذلك من داخل الفرنساوية من أي ملة كانت، فلا معارضة له إلا أن يجري على أحواله السابقة.

وجرحى الفرنساوية يتخلفون بمصر ويعالجهم الحكما وينفق عليهم حضرة العثلمي، وإذا عوفوا توجهوا إلى فرنسا بالشروط المتقدم ذكرها، وحكام العثملي يتعهدون مَنْ بمصر منهم.

ولا بد من حاكمَين من طرف الجيشين يتوجهان بمركبين إلى طولون، فيرسلون خبرًا إلى فرنسا ليطلعوا حكامها على الصلح وساير الرسوم، وكل جدال وخصام صدر بين شخصين من الفرنساوية والحلفاء فلا بد أن يقام شخصان حاكمان من الطايفتين ليتكلما في الصلح، ولا يقع في ذلك نقض عهد الصلح.

وعلى كل طايفة معين من العثملي والفرنساوي أن تسلم ما عندها من الأسرى، ولا بد من رهاين من كل طايفة واحد كبير يكون عند الطايفة الأخرى حتى يتوصلوا إلى فرنسا.

ثم قال الوكيل: وقد علمنا الشروط، وما ندري ماذا يكون؟ فقيل له: هذه شروط عليها علامة القبول، وهذا الصلح رحمة للجميع وسيكون الصلح العام، فقال الوكيل: إني أرجو أن يكون هذا الصلح الخصوصي مبدأ للصلح العمومي.

وفيه كثر خروج الناس ودخولهم من الأتباع والباعة والمتنكرين من نقب البرقية المعروف بالغريب، فصار الحرسجية من الفرنساوية يأخذون من الداخل والخارج دراهم ولا يمنعونهم، فلما علم الناس بذلك كثر ازدحامهم، فلما أصبحوا منعوهم فدخلوا وخرجوا من باب القرافة لم يمنعهم الواقفون به من الفرنسيس، بل كانوا يفتشون البعض ويمنعون البعض، وكل ذلك حذرًا من أفعال الطموش وسو أخلاقهم وتولد الشر بسببهم.

وقد دخل بعضهم أكابر الإنكليز وصحبتهم فرنساوية يفرجونهم على البلدة والأسواق، وكذلك دخل بعض أكابر العثمانية فزاروا قبر الإمام الشافعي والمشهد الحسيني والشيخ عبد الوهاب الشعراوي والفرنساوية ينتظرونهم بالباب.

وفي ليلة الاثنين رابع عشرينه نادوا في الأسواق برمي مدافع في صبحه، وذلك لنقل رمة كليبر فلا يرتاع الناس من ذلك، فلما كان في صبح ذلك اليوم أطلقوا مدافع كثيرة ساعة نبش القبر بالقرب من قصر العيني، وأخرجوا الصندوق الرصاص الموضوع فيه رمته ليأخذوه معهم إلى بلادهم.

وفيه أرسلوا أوراقًا ورسلًا للاجتماع بالديوان وهو آخر الدواوين، فاجتمع المشايخ والتجار وبعض الوجاقلية وأستوف الخازندار والوكيل والترجمان، فلما استقر بهم الجلوس أخرج الوكيل كتابًا مختومًا وأخبر أن ذلك الكتاب من ساري عسكر منو بعث به إلى مشايخ الديوان، ثم ناوله لريس الديوان ففضه وناوله للترجمان فقراه والحاضرون يسمعون.

وصورته:

بعد البسملة والجلالة والصدر، نخبركم أنَّا علمنا بكثرة الانبساط أنكم تهتدون بكثرة الحكمة والإنصاف في الموقع الذي أنتم مستمرون فيه، وإن لم تقدروا لتنظيم أهالي البلد بالهدى والطاعة الموجبة منه لحكومة الفرنساوي، فالله تعالى بسعادة رسوله الكريم — عليه السلام الدايم — ينعم عليكم في الدارين عواض خيراتكم، وأخبرنا المقدام الجسور بونابارته المشهور عن كل ما فعلتم حاكمًا ونافعًا بوصايا لأجلكم سارة، رضي واستراح لتلك الفعال الجيدة، وعرفني أيضًا أنه عن قريب يرسل لكم بذاته جواب جميع مكاتيبكم إليه، فدمتم إلى الآن بخير الهدى، وبقوته تعالى نرى فضايلكم عن قريب، ونواجه سكان محروسة مصر كما هو مأمولنا.

لكن يسركم أن الجمهور المنصور غلب في أقاليم الروم جميع أعداه وبعون الله هادي كل شي سيغلب كذلك العدا في مصر، واعتمدوا بأكثر الاعتماد على الستويان جيرار هذا الذي وضعناه قربكم؛ لأنه هو رجل مشهور بالعدل والاستقامة.

ونوجه إلى هممكم النصيحة إلى زوجتنا الكريمة السيدة زبيدة وولدنا العزيز سليمان مراد أن كليهما حالا كاينان في حصننا في مصر، وتأسفنا جدًّا برحلة المرحوم مراد بك في انتقاله إلى البقاء، ومعلوم فضايلكم أننا أرضينا بإنعام علوفة توجه على عمدة العفايف حضرة الست نفيسة خاتون لما جرت الحكومة الفرنساوية إلى أصدقاها.

وقولوا للقوم إن ما منيتي ومرامي وإبرامي ألا تقيدي بيمنه وخيره، واعتمدوا أيضًا إلى كل ما سيقول لكم الستويان استيو المأمور بتدبير الأمور وكمال العوائد، والله تعالى ينعم عليكم وعلى عيالكم في الأيام بالبشرى والإقبال.

وحرر في أحد عشر مسيدور سنة تسعة من قيام دولة جمهور الفرنساوية الموافق لثامن عشر صفر، وتحته الواحدة غير المنقسمة ممضي عبد الله جاك منو بخطه وختمه.

نُقِل بألفاظه وحروفه وهو من تراكيب لوماكا الترجمان، وكأنه كتب قبل وصول خبر الصلح إلى الإسكندرية.

ثم أخذ الوكيل يقول: إن الجنرال منو انسر بسلوككم حتى الآن وراحة البلد حظ الفقراء، وأن الحكام القادمين لا بد وأن يسلكوا معكم هذا الموضوع، ولا بد من وصول مكاتيب بونابرته بعد أربعة أيام أو خمسة، وأنه لا ينسى أحبابه كما لا ينسى أعداءه، ولو لم يكن له من الحسن إلا جعلكم وسايط لإغاثة الناس لكان كافيًا، وأنكم تعلمون أنه كان نظر إلى أحوال المارستان ومصالح المرضى، وكان قصده أن يبني جامعًا ولكن عاقه توجهه إلى الشام، وذكر كثيرًا من أمثال هذه الخرافات والتمويهات.

ثم أخرج ورقة بالفرنساوي وقراها بنفسه حتى فرغ منها، ثم قرا ترجمتها بالعربي الترجمان رفاييل، ومضمونها حصول الصلح وتمويهات وهلسيات ليس في ذكرها فايدة.

ولما انتهى من قراءتها أبرز أيضًا أستوف الخازندار ورقة وقراها بالفرنساوي، ثم قرا ترجمتها بالعربي الترجمان وهي في معنى الأولى.

وصورتها:

خطاب محبة من حضرة أستوف مدبر الحدود العام في مجلس الديوان العالي في سبعة عشر مسيدور سنة تسع من المشيخة الفرنساوية.

يا مشايخ ويا علما وغيرهم، أعلمكم أنه ما عليَّ أني أكلمكم في أسباب خروجنا من الديار المصرية، بل وظيفتي تدبير أمور السياسة فقط، ومجي عندكم لأجل أن أعرفكم قدر ما هو حاصل من الصعوبة، كل واحد منكم رأى المحبة والأخوة التي كانت موجودة ما بين الفرنساوية وما بين أهل الديار المصرية، قد كان الجيش والأهل المذكورون مثل الرعية الواحدة.

واسم حضرة بونابارته القنصل الأول من جمهور الفرنساوية في عز الكفالة عندكم وعندنا.

كم مرة يا مشايخ ويا علما فقد تمت صحبتنا لأجل سيرة هذا الشجاع الأعظم المعان بقوة الله الذي عقله ما له مثيل، كان يستحق أن يكون حاكمًا عليكم، دايمًا عرفتموني عن المحبة والشفقة الذي مضت منه لكم، ومن وقت ما التزم بسبب التعب الذي حصل له في بلده أن يتوجه إليه ما ضاع منكم العشم أن يترتب في الديار المصرية التدبير العدل، والمنافقة الذي كان وعدكم به وقت ما كان عندكم، وصحيح يا مشايخ وعلما أن حكم الفرنساوي كان يتم ما عاهدكم به الذي هو كبيرهم بونابارته دايمًا رأى لكم في الخير والمحبة إلى رعاية الديار المصرية لما لها نظير.

كم مرة كرر إلى حضرة سر عسكر منو أنه ينظر إليكم في كامل الأمور بالخير، وكام نوبة حضرة منو المذكور أثبت أن الحكام والجيوش لما أمنوه أعطوه الأمان في أحسن محل وفي حكم سر عسكر منو صار أن كثرة الظلم والجور الذي كان مستقلينه الرعية قد أبطله، والعدل الذي كان ممنوعًا عنكم في الأحكام السابقة قد وصل إليكم بواسطته.

وأيضًا في مدة حكمه رأيتم أن نقضي تحصيل الأموال بالشفقة إلى الرعايا، ولما كان التزم بسبب الحرب أنه يرتب تدبيرًا في تحصيل الأموال، وهذا التدبير يكون في حد العدل والخير لأهل الديار المصرية، ونحن كنا صحبته في تدبير هذا الشغل العمومي، وأنتم تعرفون أن خير أو خراب الرعايا من تدبير مثل هذا.

وكذلك حضرة سر عسكر منو قبل ما يتوجه إلى السفر بمدة كان أمر بمسح الديار المصرية، وكان وكَّل لذلك مدبرين ونحن من جملتهم، والمدبرون المذكورون كانوا بدأوا في إتمام هذا الأمر الذي هو كنز لكامل الناس، لكن كل ذلك ما كان يكفي له وكان صعبان عليه من أمور الفلت الذي يقع من العربان الذين حواليكم، وأيضًا من الخوف الذي عندكم بسببهم، وكان في عقله أن يزيلهم من على وجه الأرض لأجل راحة الفلاحين ولأجل إتمام الخير والصلاح.

وكذلك مراده يا مشايخ ويا علما أن يسفر في هذه السنة الحج الشريف، ويفتح زيارة طنطا لأجل حفظ مقام السيد أحمد البدوي، ويظهر جميع ما تشهرونه وكامل ما تمشون فيه، من اللازم أنكم تعرفون جميع ما صدر لكم من الخيرات بواسطة حكم الفرنساوية، هذا ورعاية الديار المصرية جربه بعض منهم، وفي عشمي أنهم لم ينسوه أبدًا.

صحيح أن حكم الفرنساوي حقق الكل، والذي يعجب الأكثر إلى الرعايا بسبب ذلك ذات الفرنساوية قتلوا فيه لأجل منع الظلم والتعب الذي كانوا فيه والقرانات في بلاد الغرب خافوا أن رعاياهم يقبلون الحكم المذكور، وبسبب ذلك ارتبطوا مع بعضهم لأجل ما يمنعوه منا لكن كل جهاتهم صارت بطالة، وقد حاربونا حربًا شديدًا مدة عشر سنين متوالية، وفي جميع المطارح وقعت لهم الهزيمة، وحكمنا قد بقي محله، وكذلك هو الباقي دايمًا أبدًا فلا يحتاج أننا نعرفكم في الذي تعرفونه، ويكفينا الآن أننا نحقق لكم من عند حضرة القنصل الأول في الجمهور الفرنساوي بونابرته ومن عند حضرة سر عسكر منو المحبة والشفقة الصادقة التي واقعة من الفرنساوية إلى الرعايا المصرية، وهذه المحبة والعشم لم ينقطعا أبدًا بسبب سفر جانب من الجيش.

وهلبت أن يصادف يوم أننا نرجع إلى عندكم لأجل تمام الخير الذي يصدر من حكم الفرنساوي، والذي ما أمكننا تتميمه فلا تتوهموا يا مشايخ ويا علما أن فراقنا لم يقع إلا عن مدة، وذلك محقق عندي ولا بد أن دولتنا يربطون ثانيًا في مدة قريبة المحبة القديمة التي كانت بينهم وبينكم.

وهلبت أن دولة العثمانية لما تسير على الجرف الخالي الذي عمل لهم الإنكليز يرون أن الفرنساوية في طلب الديار المصرية ليس لهم إلا ربط زيادة محبة صحبتهم لأجل كسر نفس وطيش الإنكليز الذين مرادهم نهب جميع البحور ومتاجر الدنيا، انتهى.

وهو من تعريف أبي ديه وإنشا أستوف بالفرنساوي.

ولما فرغوا من قراته قيل له: إن الأمر لله والملك له وهو الذي يمكن منه من شاء.

وانفض الديوان وركب المشايخ وخرجوا للسلام على الوزير يوسف باشا الذي يقال له الصدر الأعظم والسلام على القادمين معه أيضًا من أعيان دولتهم والأمرا المصرية، وكانوا عزموا على الذهاب في الصباح فعوقوا لبعد الديوان.

وأما الشيخ السادات فإنه خرج للسلام من أول النهار، وكتب لهم قايمقام أوراقًا للحرسجية؛ لأنهم مستمرون على منع الناس من الدخول والخروج وأبواب البلد مغلقة، وكان خروجهم من طريق بولاق، فلما وصلوا إلى العرضي سلموا على إبراهيم بك، وتوجه معهم إلى الوزير فلما وصلوا إلى الصيوان أمروهم برفع الطيلسان التي على أكتافهم وتقدموا للسلام عليه، فلم يقم لقدومهم فجلسوا ساعة لطيفة وخرجوا من عنده، وسلموا أيضًا على محمد باشا المعروف بأبي مرق وعلي المحروقي والسيد عمر مكرم وباتوا تلك الليلة بالعرضي، ثم عادوا إلى بيوتهم، وفي ثاني يوم عدوا إلى البر الغربي وسلموا على قبطان باشا ورجعوا إلى منازلهم، وفيه أرسل إبراهيم بك أمانًا لأكابر القبط فخرجوا أيضًا وسلموا ورجعوا إلى دورهم، وأما يعقوب فإنه خرج بمتاعه وعازقه وعدى إلى الروضة، وكذلك جمع إليه عسكر القبط وهرب الكثير منهم واختفى، واجتمعت نساهم وأهلهم وذهبوا إلى قايمقام وبكوا وولولوا، وترجوه في إبقاهم عند عيالهم وأولادهم فإنهم فقرا وأصحاب صنايع ما بين نجار وبنا وصايغ وغير ذلك، فوعدهم أنه يرسل إلى يعقوب أنه لا يقهر منهم من لا يريد الذهاب والسفر معه.

وفيه ذهب بليار قايمقام وصحبته ثلاثة أنفار من عظما الفرنسيس إلى العرضي، وقابلوا الوزير فخلع عليهم وكساهم فراوي سمور ورجعوا.

وفي يوم الأربعا تاسع عشره خرج المسافرون مع الفرنساوية إلى الروضة والجيزة بمتاعهم وحريمهم، وهم جماعة كثيرة من القبط وتجار الإفرنج والمترجمين وبعض المسلمين ممن تداخل معهم وخاف على نفسه بالتخلف، وكثير من نصارى الشوام والأروام مثل «يني» و«برطلمين» و«يوسف الحموي»، و«عبد العال» الأغا أيضًا طلق زوجته وباع متاعه وفراشه وما ثقل عليه حمله من طقم وسلاح وغيره، فكان إذا باع شيًّا يرسل خلف المشتري ويلزمه بإحضار ثمنه في الحال قهرًا، ولم يصحب معه إلا ما خف حمله وغلا ثمنه.

وفيه حضر وكيل الديوان إلى الديوان، وأحضر جماعة من التجار وباع لهم فراش المجلس بثمن قدره ستة وثلاثون ألف فضة على ذمة السيد أحمد الزرو، وفي ذلك اليوم أيضًا فتحوا باب الجامع الأزهر وشرعوا في كنسه وتنظيفه، وفي ذلك اليوم وما بعده دخل بعض الإنجليز ومروا بأسواق المدينة يتفرجون وصحبتهم اثنان أو واحد من الفرنسيس يعرفونهم الطرق، وأشيع في ذلك اليوم ارتحال الفرنساوية ونزولهم من القلاع وتسليمهم الحصون من الغد وقت الزوال، فلما أصبح يوم الخميس ومضى وقت الزوال لم يحصل ذلك فاختلفت الروايات، فمن الناس من يقول ينزلون يوم الجمعة، ومنهم من يقول إنهم أخذوا مهلة ليوم الاثنين، وبات الناس يسمعون لغط العساكر العثمانية وكلامهم ووطء نعالاتهم، فنظروا فإذا الفرنساوية خرجوا بأجمعهم ليلًا وأخلوا القلعة الكبيرة وباقي القلاع والحصون والمتاريس، وذهبوا إلى الجيزة والروضة وقصر العيني، ولم يبقَ منهم شبح يلوح بالمدينة وبولاق ومصر العتيقة والأزبكية، ففرح الناس كعادتهم بالقادمين، وظنوا فيهم الخير وصاروا يتلقونهم ويسلمون عليهم ويباركون لقدومهم والنسا يلقلقن بألسنتهن من الطيقان وفي الأسواق، وقام للناس جلبة وصياح، وتجمع الصغار والأطفال كعادتهم ورفعوا أصواتهم بقولهم: نصر الله السلطان ونحو ذلك.

وهولا الداخلون دخلوا من نقب الغريب المنقوب في السور، وتسلقوا أيضًا من ناحية العطوف والقرافة، وأما باب النصر والعدوي فهما على حالهما مغلوقان لم يأذنوا بفتحهما خوفًا من تزاحم العسكر ودخولهم المدينة دفعة واحدة، فيقع فيهم الفشل والضرر بالناس، وباب الفتوح مسدود بالبنا.

فلما تضحى النهار حضر قبي قول وفتح باب النصر والعدوي، وأجلس بهما جماعة من الينكجرية، ودخل الكثير من العساكر مشاة وركبانًا أجناسًا مختلفة.

ودخلت بلوكات الينكجرية وطافوا بالأسواق، ووضعوا نشاناتهم ورنكهم على القهاوي والحوانيت والحمامات، فامتعض أهل الأسواق من ذلك.

وكثر الخبز واللحم والسمن والشيرج بالأسواق، وتواجدت البضايع وانحلت الأسعار وكثرت الفاكهة مثل العنب والخوخ والبطيخ، وتعاطى بيع غالبها الأتراك والأرنؤد فكانوا يتلقون من يجلبها من الفلاحين بالبحر والبر، ويشترونها منهم بالأسعار الرخيصة، ويبيعونها على أهل المدينة وبولاق بأغلى الأثمان.

ووصلت مراكب من جهة بحري، وفيها البضايع الرومية واليميش من البندق واللوز والجوز والزبيب والتين والزيتون الرومي.

فلما كان قبل صلاة الجمعة وإذا بجاويشية وعساكر وأغوات وتلا ذلك حضرة يوسف باشا الصدر، فشق من وسط المدينة وتوجه إلى المسجد الحسيني فصلى فيه الجمعة وزار المشهد الحسيني، ودعاه حضرة الشيخ السادات إلى داره المجاورة للمشهد، فأجابه فدخل معه وجلس هنيهة ثم ذهب إلى الجامع الأزهر فتفرج عليه وطاف بمقصورته وأروقته، وجلس ساعة لطيفة وأنعم على الكناسين والخدمة بدراهم، وكذلك خدمة المسجد الحسيني، ثم ركب راجعًا إلى وطاقه بناحية الحلي بشاطئ النيل.

وعملوا في ذلك الوقت شنكًا وضربوا مدافع كثيرة من العرضي والقلعة، ودخل قلقات الينكجرية وجلسوا بروس العُطف والحارات وكل طايفة عندها بيرق، ونادوا بالأمان والبيع والشرا، وطلب أوليك القلقات من أهل الأخطاط المآكل والمشارب والقهوات وألزموهم بذلك.

وانحاز الفرنساوية إلى جهة قصر العيني والروضة والجيزة إلى حد قلعة الناصرية وفم الخليج، وعليها بنديراتهم ووقف حرسهم عند حدهم يمنعون من يأوي إلى جهتهم من العثمانية، فلا يمر العثماني إلا إلى الجهة الموصلة إلى بولاق، وأما إذا كان من أهل البلد فيمر حيث أراد.

وفي مدة إقامة المشار إليه بساحل الحلي ببولاق خرَّب عساكره ما قرب منهم من الأبنية والسواقي والمتريز الذي صنعه الفرنساوية من حد باب الحديد إلى البحر، وأخذوا ما بذلك من الأفلاق الكثيرة المتهدِّمة والأخشاب المنجرة المرصوصة فوق المتريز وتحته وفي الخندق، فخربوا ذلك جميعه في هذه المدة القليلة، وذلك لأجل وجود النار والمطابخ.

وفي يوم السبت دخل قبي قول وهو المسمى عند المصريين كتخدا الينكجرية وشق المدينة، وأمر بمحو نشانات الإنكشارية من الحوانيت ولم يترك إلا القهاوي.

واستهل شهر ربيع الأول بيوم الأحد سنة ١٢١٦

فيه ركب أغات الينكجرية الكبير العثملي وشق المدينة وخلفه سليم أغا المصري، ودخل الكثير من العساكر والأجناد المصرية بمتاعهم وعازقهم وأحمالهم وطلبوا البيوت وسكنوها، ودخل محمد باشا المعروف بأبي مرق الغزي وهو المرشح لولاية مصر، وسكن ببيت الهياتم بالقرب من مشهد الأستاذ الحنفي، وأرسل إلى المشايخ وكبار الحارات وطلب منهم التعريف عن البيوت الخالية بالأخطاط.

وفي يوم الثلاثا ثالثه حضر حسين باشا القبطان من الجيزة، ودخل المدينة وتوجه إلى المشهد الحسيني فزاره وذبح به خمس جواميس وسبعة كباش واقتسمتها خَدَمة الضريح، وحلَّق تاج المقام بأربعة شيلان كشميري، وأخذ قياس المقام ليصنع له سترًا جديدًا، وفرق عليهم وعلى الفقرا نحو ألفي محبوب ذهب إسلامبولي، وامتدحه صاحبنا العلامة أحد أدبا مصر وفضلاها في العلوم الأدبية الشيخ علي الشرنفاشي بقصيدة مطلعها:

بدر المسرة بالمعالي أمنا
والوقت من بعد المخاوف أمنا

وهي طويلة يقول في بيت التاريخ منها:

ولمصرنا نادى السرور مورخًا
صدر الكمال حسينه شرف الهنا

وقدمها إليه وهو جالس للزيارة فأعطاه جايزة سنية، ثم ركب وعاد إلى مخيمه بالجيزة.

وفي ذلك اليوم وقعت حادثة: وهو أن شخصًا من العسكر بالجمالية شرب من العرقسوسي شربة عرقسوس ولم يدفع له ثمنها، فكلم العرقسوسي القلق الإنكشاري فأحضره وأمره بدفع ثمنها ونهره وأراد ضربه، فاستل ذلك العسكري الطبنجة وضرب ذلك الحاكم فقتله، وهرب إلى حارة الجوانية ودخل إلى داره وامتنع فيها وصار يضرب بالرصاص على كل من قصده فقتل خمسة أنفار، ومر شخصان من الأرنؤد بتلك الخطة فقتلهما الإنكشارية لكون الغريم أرنؤديًّا من جنسهما، فلما أعياهم أمره حرقوا عليه الدار فخرج هاربًا من النار فقبضوا عليه وقتلوه، ومات تسعة أشخاص في شربة عرقسوس.

ووقع في ذلك اليوم أيضًا أن شخصين من القليونجية دخلا إلى دار رجل نصراني، فأخذا من بيته بقجتين من الثياب، وخرجا فوجدا شخصين مارَّين من الفلاحين فسخراهما في حمل البقجتين فخرج النصراني وشكا إلى القلق، فأمر بالقبض على الشخصين العسكريين فتخلصا وهربا بعد أن انجرح أحدهما، وأخذوا الشخصين المسخرين فقطعوا روسهما ظلمًا وعدوانًا وذلك من مبادي قبايحهم.

وفي يوم الأربعا رابعه ارتحل الفرنساوية، وأخلوا قصر العيني والروضة والجيزة وانحدروا إلى بحري الوراريق، وارتحل معهم قبطان باشا ومعظم الإنكليز ونحو الخمسة آلاف من عسكر الأرنؤد، ومن الأمرا المصرية عثمان بك الأشقر ومراد بك الصغير وأحمد بك الكلارجي وأحمد بك حسن، فكانت مدة الفرنساوية وتحكمهم بالديار المصرية ثلاث سنوات وواحدًا وعشرين يومًا، فإنهم ملكوا بر إنبابة والجيزة وكسروا الأمرا المصرية يوم السبت تاسع عشر صفر سنة ثلاث عشرة ومايتين وألف، وإن انتقالهم ونزولهم من القلاع وخلو المدينة منهم وانخلاعهم عن التصرف والتحكم ليلة الجمعة الحادي والعشرين من شهر صفر سنة ست عشرة ومايتين وألف، فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتحول سلطانه.

وفي ذلك اليوم حضر السيد عمر أفندي نقيب الأشراف، وصحبته السيد أحمد المحروقي شاه بندر التجار بمصر، وعليهما خلعتا سمور وتوجها إلى دورهما.

وفيه نبهوا على موكب حضرة الوزير يوسف باشا من الغد، فلما أصبح يوم الخميس خامسه اجتمع الناس من جميع الطوايف وساير الأجناس، وهرع الناس للفرجة وخرجت البنت من خدرها واكتروا الدور المطلة على الشارع بأغلى الأثمان، وجلس الناس على السقايف والحوانيت صفوفًا، وانجر الموكب من أول النهار إلى قريب الظهر ودخل من باب النصر وشق من وسط المدينة، وأمامه العساكر المختلفة من الأرنؤد وأرط الينكجرية والعساكر الشامية والأمرا المصرلية والمغاربة والقليونجية، وطاهر باشا باشة الأرنؤد، وإبراهيم باشا والي حلب، ومحمد باشا والي مصر، والكتبة وريس الكتاب، وكتخدا الدولة والأغوات الكبار بالطبول والنقرزانات وقاضي العسكر ونواب القضا والعلما المصرية ومشايخ التكايا والدراويش.

وأقبل المشار إليه وأمامه الملازمون بالبراقع والجاويشية والسعاة والجوخدارية، وعليه كرك صوف سنجابي مطرز مخيش وعلى رأسه شلنج بفصوص الماس، وخلفه اثنان عن يمينه وشماله ينثرون دراهم الفضة البيضا ضربخانة إسلامبول على المتفرجين من النسا والرجال، وخلفه أيضًا العدة الوافرة من أكابر أتباعه، وبعدهم الكثير من عسكر الأرنؤد وموكب الخازندار، وخلفه النوبة التركية المختصة به، ثم المدافع وعربات الجبخانات.

وعملوا وقت الموكب شنكًا ضربوا فيه مدافع كثيرة، فكان ذلك اليوم يومًا مشهودًا وموسمًا وبهجة وعيدًا عمت المسلمين فيه المسرات، ونزلت في قلوب الكافرين الحسرات، ودقت البشاير وقرت النواظر، وأمروا بوقود المنارات سبع ليالٍ متواليات، فلله الحمد والمنة على هذه النعمة، ونرجو من فضله أن يصلح فساد القلوب ويوفق أولي الأمر للخير والعدل المطلوب، ويلهمهم سلوك سواء السبيل القويم، ويهديهم إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، آمين.

وممن قدم بصحبة ركاب المشار إليه من أكابر دولتهم إبراهيم باشا والي حلب، وإبراهيم باشا شيخ أوغلي، ومحمد باشا المعروف بأبي مرق، وخليل أفندي الرجائي الدفتردار، ومحمود أفندي ريس الكتاب، وشريف أغا نزله أمين، ومحمد أغا جبجي باشا الشهير بطوسون، ووقع الاختيار بأن يكون سكن المشار إليه ببيت رشوان بك بحارة عابدين تجاه بيت عبد الرحمن كتخدا القازدغلي.

وفي يوم الجمعة نودي بإبطال كلف القلقات وإبطال شرك العسكر لأرباب الحرف إلا من شارك برضاه وسماحة نفسه، فلم يمتثلوا لذلك واستمر أكثرهم على الطلب من الناس.

وفي يوم الأحد نودي بأن لا أحد يتعرض بالأذية لنصراني ولا يهودي، سوا كان قبطيًّا أو روميًّا أو شاميًّا فإنهم من رعايا السلطان، والماضي لا يعاد.

والعجب أن بعض نصارى الأروام الذين كانوا بعسكر الفرنسيس تزيوا بزي العثمانية، وتسلحوا بالأسلحة واليقطانات، ودخلوا في ضمنهم وشمخوا بآنافهم وتعرضوا بالأذية للمسلمين في الطرقات بالضرب والسب باللغة التركية، ويقولون في ضمن سبهم للمسلم «فرنسيس كافر»، ولا يميزهم إلا النطق الحاذق أو يكون له بهم معرفة سابقة.

وفيه أرسلوا هجانًا إلى الحجاز ومعه فرمان بخبر الفتح والنصر، وارتحال الفرنساوية من أرض مصر، ودخول العثمانية، ومكاتبات من التجار لشركاهم بإرسال المتاجر إلى مصر.

وفيه أرسلوا فرمانات أيضًا إلى الأقاليم المصرية والقرى بعدم دفع المال إلى الملتزمين، ولا يدفعون شيًّا إلا بفرمان من الوزير.

وفي يوم الاثنين قتلوا شخصًا بالرميلة يسمى حجاجًا كان متولي الأحكام ببولاق أيام الفرنسيس وجار وعسف، وقُتِل معه آخر يقال إنه أخوه.

وفيه أيضًا قتلوا أشخاصًا بالأزبكية وجهات مصر.

وفيه ركب الوزير بثياب التخفيف وشق المدينة، وتأمل في الأسواق وأمر بمنع العسكر من الجلوس على حوانيت الباعة وأرباب الصنايع ومشاركتهم في أرزاقهم، ثم توجه إلى المشهد الحسيني فزاره ثم عبر إلى دار السيد المحروقي وشرفه بدخوله إليه فجلس ساعة، ثم ركب وأعطى أتباعه عشرين دينارًا، وذكر له أنه إنما قصد بحضوره إليه تشريفه وتشريف أقرانه، وتكون له منقبة، وذلك على مر الأزمان.

وأما العسكر فلم يمتثلوا ذلك الأمر إلا أيامًا قليلة، ووقع بسبب ذلك شكاوى ومشاكلات ومرافعات عند العظما.

وفي يوم الثلاثا وصل قاصد من دار السلطنة وعلى يده شال (مثال) شريف من حضرة الهنكار السلطان سليم خان خطابًا لحضرة الوزير ومعه خنجر مرصع بفصوص الماس وهو جواب عن رسالته بدخول بلبيس.

وفيه نودي بتزيين الأسواق من الغد تعظيمًا ليوم المولد النبوي الشريف، فلما أصبح يوم الأربعا كررت المناداة الأمر بالكنس والرش، فحصل الاعتنا وبذل الناس جهدهم وزينوا حوانيتهم بالشقق الحرير والزردخان والتفاصيل الهندية مع تخوفهم من العسكر.

وركب المشار إليه عصر ذلك اليوم، وشق المدينة وشاهد الشوارع، وعند المسا أوقدوا المصابيح والشموع ومنارات المساجد، وحصل الجمع بتكية الكلشني على العادة، وتردد الناس ليلًا للفرجة وعملوا مغاني ومزامير في عدة جهات وقراءة قرآن وضجت الصغار في الأسواق، وعم ذلك ساير أخطاط المدينة العامرة ومصر وبولاق، وكان من المعتاد القديم أن لا يُعتنَى بذلك إلا بجهة الأزبكية وبولاق فقط حيث سكن الشيخ البكري؛ لأن عمل المولد من وظايفه.

وفي يوم الخميس ثاني عاشره سافر سليمان أغا وكيل دار السعادة وصحبته عدة هجانة إلى ناحية الشام لإحضار المحمل الشريف وحريمات الأمرا إلى مصر.

وفيه افتتحوا ديوان مزاد الأعشار والمكوس وذلك ببيت الدفتردار، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

وفيه حضر اليسرجي الذي جلب مملوك الشيخ البكري الذي تقدم ذكره إلى بيت القاضي، وأحضروا الشيخ خليل البكري وادَّعى عليه أنه قهره في أخذ المملوك بالفرنسيس وأخذه منه بدون القيمة، وأنه كان أحضره على ذمة مراد بك وطال بينهما النزاع وآل الأمر بينهما إلى انتزاع المملوك من المذكور، وقد كان أعتقه وعقد له على ابنته، فأبطلوا العتق وفسخوا النكاح، وأخذ المملوك عثمان بك الطنبرجي المرادي ودفع للشيخ دراهمه ولجلَّابه باقي الثمن وتجرع فراقه.

وفي يوم الجمعة ركب الوزير وحضر إلى الجامع الأزهر، وصلَّى به الجمعة وخلع على الخطيب فرجية صوف.

وفي ذلك اليوم احترق جامع قايتباي الكاين بالروضة المعروف بجامع السيوطي، والسبب في ذلك أن الفرنسيس كانوا يصنعون البارود بالجنينة المجاورة للجامع، فجعلوا ذلك الجامع مخزنًا لما يصنعونه، فبقي ذلك بالمسجد وذهب الفرنسيس وتركوه كما هو وجانب كبريت في أنخاخ أيضًا، فدخل رجل فلاح ومعه غلام وبيده قصبة يشرب بها الدخان وكأنه فتح ماعونًا من ظروف البارود ليأخذ منه شيًّا، ونسي المسكين القصبة بيده فأصابت البارود فاشتغل جميعه وخرج له صوت هايل ودخان عظيم، واحترق المسجد واستمرت النار في سقفه بطول النهار، واحترق الرجل والغلام.

وفي يوم الأحد خامس عشره أشيع بأنه كتب فرمان على النصارى أنهم لا يلبسون الملونات، ويقتصرون على لبس الأزرق والأسود فقط، فبمجرد الإشاعة وسماع ذلك ترصد جماعة القلقات لمن يمر عليهم من النصارى، ومن لم يجدوه بثياب ملونة يأخذوا طربوشه ومداسه الأحمر، ويتركوا له الطاقية والشد الأزرق، وليس القصد من أوليك القلقات الانتصار للدين، بل استغنام السلب وأخذ الثياب، ثم إن النصارى صرخوا إلى عظماهم فأنهوا شكواهم، فنودي بعدم التعرض لهم وأن كل فريق يمشي على طريقته المعتادة.

وفي يوم الاثنين طلب الوزير من التجار ماية كيس وعشرة أكياس سلفة من عشور البهار، وألزمهم بإحضارها من الغد، فاجتمع المستعدون لجمع الفردة في أيام الفرنساوية كالسيد أحمد الزرو وكاتب البهار، وأرادوا توزيعها على المحترفين كعادتهم، فاجتمع أرباب الحرف الدنية وذهبوا إلى بيت الوزير والدفتردار، واستغاثوا وبكوا فرفعوا عنهم الطلب وألزموا بها المياسير.

وفيه قلدوا محمد أغا تابع قاسم بك موسقو الإبراهيمي، وجعلوه واليًا عوضًا عن علي أغا الشعراوي.

وفي ثامن عشرينه الموافق لثالث مسرى القبطي كان وفا النيل المبارك، وركب محمد باشا المعروف بأبي مرق المرشح لولاية مصر في صبحها إلى قنطرة السد، وكسروا جسر الخليج بحضرته، وفرق العوايد وخلع الخلع ونثر الذهب والفضة.

وفيه عزل الوزير القاضي، وهو قاضي العرضي الذي كان ولاه الوزير قاضي العسكر بمصر نايبًا عمن يؤول إليه القضا بإسلامبول، فلما تولى ذلك حصل منه تعنت في الأحكام وطمع فاحش وضيق على نواب القضا بالمحاكم، ومنعهم من سماع الدعاوى، ولم يجرِهم على عوايدهم وأراد أن يفتح بابًا في الأملاك والعقار ويقول إنها صارت كلها ملكًا للسلطان؛ لأن مصر قد ملكها الحربيون وبفتحها صارت ملكًا للسلطان، فيحتاج أن أربابها يشترونها من الميري ثانيًا، ووقع بينه وبين الفقها المصرية مباحثات ومناقشات وفتاوى وظهروا عليه، ثم تحامل عليه بعض أهل الدولة وشكوه إلى الوزير فعزله وقلد مكانه قدسي أفندي نقيب الأشراف بحلب سابقًا، ونقل المعزول متاعه من المحكمة، فكانت مدة ولايته خمسة عشر يومًا.

وفي ذلك اليوم أيضًا خلع الوزير على الأمير محمد بك الألفي فروة سمور وقلده إمارة الصعيد ليرسل المال والغلال، ويضبط مواريث من مات بالصعيد بالطاعون، فبرز خيامه من يومه إلى ناحية الآثار وأسكن داره بالأزبكية ريس أفندي.

وفي يوم الجمعة حضر الوزير إلى جامع المؤيد وصلى به الجمعة.

وفيه قبضوا على عرفة بن المسيري وحبس ببيت الوزير بسبب أخيه إبراهيم كان شيخ مرجوش، وتقيد بقبض فردة الفرنسيس ثم ذهب إلى المحلة وتوفي بها، فغمزوا على أخيه عرفة المذكور وقبضوا عليه وحبسوه، وأرسلوا فرمانًا إلى المحلة بضبط ماله، وما يتعلق به وبأخيه عند شركاهما ثم نهبوا بيت المذكور.

وفي يوم الثلاثا رابع عشرينه طلبت ابنة الشيخ البكري، وكانت ممن تبرج مع الفرنسيس بمعينين من طرف الوزير، فحضروا إلى دار أمها بالجودرية بعد المغرب وأحضروها ووالدها، فسألوها عما كانت تفعله؟ فقالت: إني تبت من ذلك، فقالوا لوالدها: ما تقول أنت؟ فقال: أقول إني بري منها، فكسروا رقبتها، وكذلك المرأة التي تسمى هوى التي كانت تزوجت نقولا القبطان، ثم أقامت بالقلعة وهربت بمتاعها وطلبها الفرنساوية وفتش عليها عبد العال وهجم بسببها عدة أماكن كما تقدم ذكر ذلك، فلما دخل المسلمون وحضر زوجها مع من حضر وهو إسماعيل كاشف المعروف بالشامي أمَّنها وطمنها، وأقامت معه أيامًا فاستأذن الوزير في قتلها فأذنه فخنقها في ذلك اليوم أيضًا ومعها جاريتها البيضا أم ولده، وقتلوا أيضًا امرأتين من أشباههن.

وفي يوم الأربعا أرسلوا طايفة معينين من طرف محمد باشا أبي مرق إلى أخي الشواربي شيخ قليوب، فأحضروه على غير صورة ماشيًا مكتوفًا مسحوبًا مضروبًا من قليوب إلى مصر فحبسوه ببيت الوزير، ثم حضر أخوه وصالح عليه بعشرة أكياس قام بدفعها وأطلق، قيل إن السبب في ذلك أن جماعة من أتباع محمد باشا ذهبوا إلى قليوب، وطلبوا تبنًا فطردهم وشتمهم وردهم من غير شي، وقيل إن ذلك بإغرا ابن المحروقي لضغين بينه وبينه قديم.

وفي آخره تحرر ديوان العشور فكان المتحصل ستة عشر ألف كيس.

وفيه تشاجر طايفة من الينكجرية مع طايفة من الإنكليز بالجيزة، وقتل بينهما أشخاص فنودي على الينكجرية، ومنعوا من التعدي إلى بر الجيزة.

وفيه كثر اشتغال طايفة العسكر بالبيع والشرا في أصناف المأكولات، وتسلطوا على الناس بطلب الكلف، ورتبوا على السوقة وأرباب الحوانيت دراهم يأخذونها منهم في كل يوم، ويأخذون من الخابز الخبز من غير ثمن، وكذلك يشربون القهوة من القهاوي ويحتكرون ما يريدون من الأصناف ويبيعونها بأغلى الأثمان، ولا يسري عليهم حكم المحتسب.

وكذلك تسلطوا على الناس بالأذية بأدنى سبب، وتعرضوا للسكان في منازلهم فتأتي منهم الطايفة ويدخلون الدار ويأمرون أهلها بالخروج منها ليسكنوها، فإن لاطفهم الساكن وأعطاهم دراهم ذهبوا عنه وتركوه، وإن عاند سبوه وضربوه ولو عظيمًا، وإن شكا إلى كبيرهم قوبل بالتبكيت، ويقال له: ألا تفسحون لإخوانكم المجاهدين الذين حاربوا عنكم وأنقذوكم من الكفار الذين كانوا يسومونكم سو العذاب، ويأخذون أموالكم ويفجرون بنساكم وينهبون بيوتكم، وهم ضيوفكم أيامًا قليلة، فما يسع المسكين إلا أن يكلفهم بما قدر عليه، وإن أسعفته العناية وانصرفوا عنه بأي وجه فيأتي إليه خلافهم، وإن سكنوا دارًا أخربوها.

وأما القلقات والينكجرية الذين تقيدوا بحارات النصارى، فإنهم كلفوهم أضعاف ما كلفوا به المسلمين، ويطلبون منهم بعد كلف المأكل واللوازم مصروف الجيب وأجرة الحمام وغير ذلك، وتسلطت عليهم المسلمون بالدعاوى والشكاوى على أيدي أوليك القلقات فيخلصون منهم ما لزمهم بأدنى شبهة ولا يعطون المدعي إلا القليل من ذلك، والمدعي يكتفي بما حصل له من التشفي والظفر بعدوه، وإذا تداعى شخص على شخص أو امرأة مع زوجها ذهب معهم أتباع القلق إلى المحكمة إن كانت الدعوى شرعية، فإذا تمت الدعوى أخذ القاضي محصوله، ويأخذ مثله أتباع القلق على قدر تحمل الدعوى.

واستهل شهر ربيع الثاني بيوم الثلاثا سنة ١٢١٦

فيه أُفرِج عن عرفة بن المسيري وصولح عليه بخمسة عشر كيسًا، وكتب له فرمان برد منهوباته وعدم التعرض لتعلقاته بالمحلة.

وفي يوم الأربعا ثانيه أمر الوزير الوجاقلية بلبس القواويق على عادتهم القديمة، فأخبروا إبراهيم بك، فقال: الأمر عام لنا ولكم أو لكم فقط؟ فقالوا: لا ندري، فسأل إبراهيم بك الوزير المشار إليه، فقال له: بل ذلك عام، فلما كان يوم الجمعة حادي عشره لبس الوجاقلية والأمرا المصرية زيهم من القواويق المختلفة الأشكال على عادتهم القديمة حسب الأمر بذلك، وكذلك الأمرا الصناجق، وحضروا في يوم الجمعة بديوان الوزير، ونظر إليهم وأعجب بهيئاتهم واستحسن زيهم ودعا لهم وأثنى عليهم وأمرهم أن يستمروا على هيئتهم، وذلك على ما هم فيه من التفليس وغالبهم لا يملك عشا ليلته فضلًا عن كونه يقتني حصانًا وشنشارًا وخدمًا ولوازم لا بد منها ولا غنى للمظهر عنها.

وفيه حضر جماعة من عسكر القبط الذين كانوا ذهبوا بصحبة الفرنساوية، فتخلفوا عنهم ورجعوا إلى مصر.

وفيه أرسلوا تنابيه للملتزمين بطلب بواقي مال سنة ثلاث عشرة وأربع عشرة، فاعتذروا بأنهم ممنوعون من التصرف، فمن أين يدفعون البواقي.

وفي يوم الخميس نبهوا على العساكر المتداخلة في الينكجرية وغيرهم بالسفر.

وفيه كتبت فرمانات باللغة العربية بترصيف صاحبنا العلامة السيد إسماعيل الوهبي المعروف بالخشاب، وأرسلت إلى البلاد الشرقية والمنوفية والغربية مضمونها الكف عن أذية النصارى واليهود أهل الذمة، وعدم التعرض لهم وفي ضمنه آيات قرآنية وأحاديث نبوية، والاعتذار عنهم بأن الحامل لهم على تداخلهم مع الفرنساوية صيانة أعراضهم وأموالهم.

وفي يوم الجمعة أحضروا رمة زوجة إبراهيم بك وعملوا لها قبرًا بجانب أخيها محمد بك أبي الدهب بمدرسته المقابلة للجامع الأزهر ودفنوها به.

وفي يوم السبت خامسه ورد الخبر بوفاة أحمد بك حسن أحد الأمرا الذين توجهوا صحبة حسين باشا القبطان والفرنساوية، وكان القبطان وجَّهه إلى عرب الهنادي الذين يحملون الميرة إلى الفرنسيس المحصورين بإسكندرية وضم إليه عدة من العسكر، فحاربهم وقاتلهم عدة مرار فأصابته رصاصة دخلت في جوفه فرجع إلى مخيمه ومات من ليلته، وكان يضاهي سيده في الشجاعة والفروسية.

وفيه أطلقوا للملتزمين التصرف في سنة خمس عشرة ليقضوا ما لهم وما عليهم من البواقي ومال الميري والمضاف، ويدفعوا جميع ذلك إلى الخزينة بأوراق مختومة من إبراهيم بك وعثمان بك، والقصد من ذلك اطمينانهم بالجبابة والرجا بالتصرف في المستقبل، ووعدهم بذلك سنة تاريخه بعد دفعهم الحلوان، مع أن الفرنساوية لما استقر أمرهم بمصر ونظروا في الأموال الميرية والخراج فوجدوا ولاة الأمور يقبضون سنة معجلة، ونظروا في الدفاتر القديمة واطلعوا على العوايد السالفة ورأوا أن ذلك كان يقبض أثلاثًا مع المراعاة في ري الأراضي وعدمه، فاختاروا الأصلح في أسباب العمار، وقالوا: ليس من الإنصاف المطالبة بالخراج قبل الزراعة بسنة، وأهملوا وتركوا سنة خمس عشرة فلم يطالبوا الملتزمين بالأموال الميرية ولا الفلاحين بالخراج، فتنفست الفلاحون وراج حالهم، وتراجعت أرواحهم مع عدم تكليفهم كثرة المغارم والكلف وحق طرق المعينين ونحو ذلك.

وفي يوم الثلاثا ثامنه وصلت قافلة شامية وبها بضايع وصابون ودخان، وحضر السيد بدر الدين المقدسي والحاج سعودي الحناوي وآخرون، وتراجع سعر الصابون والقناديل الخليلي والدخان.

وفيه ورد الخبر بسفر الفرنساوية ونزولهم المراكب من ساحل أبي قير.

وفي يوم الأحد حبس حسن أغا محرم المنفصل عن الحسبة وطولب بمايتي كيس، وذلك معتاد الحسبة في الثلاث سنوات التي تولاها أيام الفرنساوية، فإنه لما تقلد أمر الحسبة في أيامهم منعوه من أخذ العوايد والمشاهرات من السوقة، وجعلوا له مرتبًا في كل يوم يأخذه من الأموال الديوانية نظير خدمته، وكذلك أتباعه وطالبوه أيضًا بأربعة آلاف غرش كان أعطاها له نزله أمين عند حضورهم في العام الماضي لمشتروات الذخيرة، ثم نقض الصلح عقيب ذلك وخرجوا من مصر وبقيت بذمته، فأخبر أن الفرنساوية علموا بها وأخذوها منه وأعطوه ورقة بوصول ذلك إليهم، فلم يقبلوا منه ذلك وبقي معتقلًا وادعوا عليه أيضًا بتركة الأغا الذي كان نزيله ومات عنده واحتوى على موجوده، فأخبر أيضًا أن الفرنسيس أخذوا منه ذلك أيضًا وأعطوه سندًا فلم يقبلوا منه ذلك واستمر محبوسًا.

وفي يوم الاثنين رابع عشره نودي على أن أهل البلدة لا يصاهرون العساكر العثمانية ولا يزوجونهم النسا، وكان هذا الأمر كثر بينهم وبين أهل البلد وأكثرهم النسا اللاتي دُرْن مع الفرنساوية، ولما حضر العثمانية تحجبن وتنقبن وتوسط لهن أشباههن من الرجال والنسا، وحسنوهن للطلاب ورغبوا فيهن الخطاب، فأمهروهن المهور الغالية وأنزلوهن المناصب العالية، وفي ذلك اليوم أيضًا نودي على أهل الذمة بالأمن والأمان، وأن المطلوب منهم جزية أربع سنوات.

وفيه قُبِض على جربجي موسى الجيزاوي وعُمِل عليه عشرون كيسًا.

وفيه قبض محمد باشا أبو مرق على مقدمه مصطفى الطاراتي، وضربه علقة وحبسه وألزمه بمبلغ دراهم.

وفيه سافر الإنكليزية الذين بالجيزة والروضة إلى جهة الإسكندرية، وأشيع أن الحرب قايم بين العساكر والفرنسيس الإسكندرانية من يوم الاثنين سابعه، فطلبوا المراكب حتى شح وجودها وضاق الحال بالمسافرين، واستمر طلبهم ونزولهم عدة أيام وكذلك نبهوا على الكثير من العساكر الإسلامية بالسفر.

وفي يوم الخميس نقضت الأوامر بتصرف الملتزمين في البلاد، وقيدت صيارف من نصارى القبط بالنزول إلى البلاد لقبض الأموال في غير أوانها لطرف الدولة.

وفي يوم الجمعة ثامن عشره لبس الأمرا الكبار القواويق على روسهم.

وفيه قُبِض من مصطفى الطاراتي المعتقل المتقدم ذكره خمسة عشر ألف ريال ولم يزل معتقلًا، وقيل إنه غمز عليه فوُجِد له في مكانٍ صندوقان ضمنهما ذهب نقد عين، ومصطفى هذا كان كلارجيًّا عند قايد أغا حين كان بمصر، فلما خرج الأمرا تقيد مقدمًا عند بونابارته ثم عند كليبر، فلما وقعت الفتنة السابقة وظهر يعقوب القبطي وتولى أمر الفردة وجمع المال تقيد بخدمته وتولى أمر اعتقال المسلمين وحبسهم وعقوبتهم وضربهم، فكان يجلس على الكرسي وقت القايلة ويأمر أعوانه بإحضار أفراد المحبوسين من التجار وأولاد الناس، فيمثل بين يديه ويطالبه بإحضار ما فرض عليه مما لا طاقة له به ولا قدرة له على تحصيله، فيعتذر بخلو يده ويترجى إمهاله، فيزجره ويسبه ويأمر بضربه فيبطحونه، ويضرب بين يديه ويرده إلى السجن بعد أن يأمر أحد أعوانه أن يذهب إلى داره وصحبته الجماعة من عسكر الفرنسيس، ويهجمون على حريمه وأمثال ذلك.

وفي يوم الأحد وردت أخبار من إسكندرية بتملك العساكر الإسلامية والإنجليزية متاريس الفرنساوية، وأخذهم المتاريس التي جهة العجمي وباب رشيد وجانبًا من إسكندرية القديمة، وتخطت المراكب وعبرت إلى المينة، وأن الفرنساوية انحصروا داخل الأبراج وأخذ منهم نحو الماية وسبعين أسيرًا، وقتل منهم عدة وافرة ووقعت بين الفريقين مقتلة عظيمة لم يقع نظيرها، وقتل الكثير من عسكر قبطان باشا، وكذلك من الإنجليز ثم انجلت الحرب عما ذكر، فلما ورد الخبر بذلك ضربوا عدة مدافع وسُرَّ الناس بذلك.

وفيه ورد الخبر بوصول سليمان صالح بك إلى بلبيس وصحبته المحمل والحريمات، وأحضر معه رمة سيده صالح بك ليدفنها بمصر بالقرافة، فخرج أناس لملاقاتهم وأخذوا معهم حمير مكارية لكراوي النسا وهدية.

وفي يوم الاثنين وصل سليمان أغا إلى بركة الحاج وصحبته المحمل ونسا الأمرا القادمين من الشام، ومعه أيضًا رمة صالح بك ليدفنها بقرافة مصر، فخرج الناس لملاقاتهم، وأخذوا معهم حمير مكارية لركوب النسا وهديات ونودي في عصريته بعمل موكب من الغد، وطاف ألاي جاويش بزيه المعتاد وخلفه القابجية وهم ينادون باللغة التركية بقولهم: «يارن ألاي»، فلما أصبح يوم الثلاثا ثاني عشرينه عمل الموكب، وانجر الألاي ودخل المحمل من باب النصر وشقوا به من الشارع الأعظم.

وصادف ذلك اليوم يوم مولد المشهد الحسيني والأسواق مزينة، وعلى الحوانيت الشقق الحرير والزردخان والتفاصيل وتعاليق القناديل، ومشى في الموكب رسوم الوجاقلية والأوده باشية وأكثر الأمرا والمشايخ والعلما ونقيب الأشراف، ونُبِّه على جميع الأشراف تلك الليلة بالحضور في صبح ذلك اليوم للمشي في ذلك الموكب، فمشى كل من كان له عمامة خضرا يكبرون ويهللون فكانوا عددًا كثيرًا.

وكل من وجدوه بالطريق وعلى رأسه خضار جذبوه وسحبوه قهرًا، وأمروه بالمشي وإن أبى ضربوه وسبُّوه وبكَّتوه بقولهم: ألست من المسلمين؟ وكذلك تجمَّع أرباب الأشاير ومشوا على عادتهم بطبولهم وزمورهم وخباطهم وخرقهم وخورهم وصياحهم.

فلم يزالوا حتى وصلوا إلى قراميدان، وتسلم المحمل محمد باشا أبو مرق من سليمان أغا الذي وصل به، ولكونه عوضًا عن سيده أمير الحاج صالح بك، ثم صعدوا به إلى القلعة وأودعوه هناك وعملت وقدة وشنك تلك الليلة.

وفي ذلك اليوم شرعوا في فتح باب الفتوح، وكان القصد إدخال المحمل منه لضيق باب الاستثنا الثاني الذي جدده الفرنساوية عند باب النصر، فلم يتأتَّ ذلك لمتانة البنا، واستمروا ثلاثة أيام يهدمون في البنا الذي على الباب من داخل فلم يمكن.

ودفنوا صالح بك بتربة أعدت له بقرافة المجاورين، والعجب أن الناس من القديم يتمنون أن يقبروا بالأرض المقدسة لكونها عش الأنبيا والصديقين، وهؤلا الثلاثة بالعكس فما هو إلا لتطهيرها منهم.

وفيه ورد خبر بإسكندرية بانقضا الحرب وطلب الفرنسيس الصلح بعد وقوع الغلبة عليهم وهزيمتهم، وأخذ منهم عدة أسرى وانحصروا في الأبراج، فأمَّنوهم وأجَّلوهم خمسة أيام آخرها يوم الخميس سابع عشرينه.

وفيه ألزموا حسن أغا المحتسب بالنقلة من داره وهو في الحبس فأرسل إلى حريمه وأتباعه فانتقلوا إلى مكان آخر.

وفيه ورد الخبر أيضًا بورود عثمان كتخدا الدولة الذي كان بمصر في العام السابق، وباشر الحروب بمصر وصحبته آخر يقال له شريف أفندي.

وفي سادس عشرينه قدم محمد أفندي المعروف بشريف أفندي الدفتردار، وقدم بصحبته عثمان كتخدا الدولة وسكن شريف أفندي بدرب الجماميز، وسكن الكتخدا بمنزل حسن أغا المحتسب سابقًا بسويقة اللالا.

وفي غايته عُمِل شنك ومدافع كثيرة، وذلك لوصول خبر بتسليم الإسكندرية، وسبب تأخرهم إلى هذه المدة بعد وقوع الصلح انتظار الأمر بالانتقال من بونابارته، وذلك أنه لما وقع الصلح المتقدم أرسل ساري عسكر منو تطريدة إلى فرنسا بالخبر إلى بونابارته، وانتظر الجواب فورد عليه الأمر بالانتقال والحضور، فعند ذلك أنزلوا متاعهم إلى المراكب وسافروا إلى بلادهم.

شهر جمادى الأولى استهل بيوم الخميس سنة ١٢١٦

فيه قريت فرمانات صحبة عثمان كتخدا، وفيها التنويه بذكر أعيان الكتبة الأقباط والوصية بهم، مثل جرجس الجوهري وواصف وملطي ومقدمهم في تحرير الأموال الميرية.

وفيه انفصل مولانا السيد محمد المعروف بقدسي أفندي عن القضا وسافر ذلك اليوم، وذلك بمراده واستعفايه وطلبه، وتقلد القضا عوضه عبد الله أفندي قاضي الميري وكاتب الجمرك، وحضر في ذلك اليوم إلى المحكمة.

وفي يوم الخميس ثالثه أفرج عن حسن أغا المحتسب بشفاعة عثمان كتخدا وحسن أغا وكيل قبطان باشا من غير شي وتوجه إلى دار بجوار داره.

وفيه تجمع النسا والفلاحون والملتزمون والوجاقلية ببيت الوزير بسبب الالتزام والمنع من التصرف وحضور الفلاحين للضيق عليهم بطلب المال إلى ملتزميهم ومطالبتهم إياهم بما قبضوه منهم، فلما اجتمعوا وصرخوا سأل الوزير عن ذلك، فأخبروه فأمر بكتابة فرمان بالإطلاق والإذن للملتزمين بالتصرف، ووجهوا الأمر إلى الدفتردار فكتب عليه ثم إلى الروزنامجي كذلك، ثم توجهوا به إلى دفتردار الدولة فتوقف، وبقي الأمر رجاجًا أيامًا وذلك أن القوم يريدون أمورًا مبطونة في نفوسهم وأطماعًا مركوزة في طباعهم.

وفي يوم الاثنين نودي بالزينة ثلاثة أيام: أولها الأربعا، وآخرها الجمعة تاسعه سرورًا بتسليم الإسكندرية، فزينت المدينة وعملت الوقدات بالأسواق والمغاني للفرجة ليلًا ونهارًا، وكل ليلة يعمل شنك نفوط وسواريخ وبارود ببركة الغرابين المطل عليها بيت الوزير.

وفيه حضر نحو ستة أنفار من أعيان الإنكليز وصحبتهم جماعة من العثمانية يفرجونهم على مواطن مزارت المسلمين، فدخلوا إلى المشهد الحسيني وغيره بمداساتهم فتفرجوا وخرجوا.

وفيه تحاسب السيد أحمد المحروقي مع السيد أحمد الزرو على شركة بينهما، فتأخر على الزرو أحد وعشرون كيسًا، فألزمه بإحضارها وحبسه بسجن قواس باشا وأمره بالتضييق عليه.

ولما أصبح يوم السبت لغط الناس باستمرار الزينة سبعة أيام، وانتظروا الإذن في رفع التعاليق فلم يؤذن لهم بشي، فاستمروا طول النهار في اختلاف وحل وربط، ثم أذن لهم قبيل الغروب برفعها بعدما عمروا القناديل، وكان النسا يبتن سهارى بالحوانيت والقلقات يطوفون بالأسواق، فمن وجدوه نايمًا نبهوه بإزعاج.

وفي يوم الاثنين ثاني عشره وقع من طوايف العسكر عربدة بالأسواق، وتخطفوا أمتعة الناس ومن باعة المآكل كالشوا والفطير والبطيخ والبلح، فانزعجت الناس ورفعوا متاعهم من الحوانيت وأخلوا منها وأغلقوها، فحضر إليهم بعض أكابرهم وراطنهم فانكفوا، وراق الحال وتبين أن السبب في ذلك تأخير علايفهم، وذلك أن من عادتهم القبيحة أنه إذا تأخرت عنهم علايفهم فعلوا مثل ذلك بالرعية وأثاروا الشرور، فعند ذلك يطيبون خواطرهم ويوعدونهم أو يدفعون لهم.

وفيه ورد الخبر بتولية محمد باشا خسرو على مصر، وهو كتخدا حسين باشا القبودان فألبس الوزير وكيله خلعة عوضًا عنه، وأشيع عزل محمد باشا أبي مرق وسفره إلى بلاده، وحضر السفار أيضًا من جهة رشيد وإسكندرية، وأخبروا بأن الفرنساوية لم يزالوا بإسكندرية وبنديراتهم على الأبراج، وأن القبطان ومن معه لم يدخلوها وإنما يدخلها معهم الإنكليزية وأنهم ينتظرون إلى الآن الجواب والإذن من مشيختهم، وما أشيع قبل ذلك فلا أصل له، وأما الطايفة الأخرى التي سافرت من مصر، فإنهم نزلوا وسافروا على وفق الشرط من أبي قير كما تقدم.

وفي يوم الخميس ثاني عشرينه وردت مكاتبة من قبطان باشا بطلب عثمان بك المرادي وعثمان بك البرديسي وإبراهيم كتخدا السناري والحاج سلامة تابعه وآخرين، فسافروا في يوم السبت رابع عشرينه.

وفي ليلة السبت المذكور قتلوا شخصًا يسمى مصطفى الصيرفي من خط الصاغة قطعوا رأسه تحت داره عند حانوته، وسبب ذلك أنه كان يتداخل في نصارى القبط والذين يتعاطون الفِرَد ويوزعونها، وتولى فردة أهل الصاغة وسوق السلاح وتجاهر بأمور نقمت عليه، وأضر أشخاصًا وأُغرِي به فحبس أيامًا، ثم قتل بأمر الوزير وترك مرميًّا ثلاث ليالٍ ثم دفن، وفي صبيحة قتله طاف المشاعلي بالخطة ودوايرها مثل الجمالية والضبيبة والنحاسين وباب الزهومة وخان الخليلي، فجبى من أرباب الحوانيت دراهم ما بين خمسة أنصاف فضة وعشرة، وعند شيله جبى القلقات أيضًا ما يزيد على الماية قرش، وذلك من جملة عوايدهم القبيحة.

وفيه هرب السيد أحمد الزرو فلم يعلم له خبر وذلك بعدما أطلق بضمانة السيد أسعد وابن محرم، فكتب الوزير عدة فرمانات وأرسلها صحبة هجانة إلى جهة الشام، وختموا على دوره، ولم يعلم هروبه إلا بعد أربعة أيام لما داخله من الخوف بقتل الصيرفي المذكور.

وفي يوم الخميس تاسع عشرينه عقد إبراهيم بك الكبير عقد ابنته عديلة هانم التي كانت تحت إبراهيم بك الصغير المعروف بالوالي الذي غرق بواقعة الفرنسيس بإنبابة — على الأمير سليمان كاشف مملوك زوجها الأول على صداق ألفي ريال، وحضر العقد الشيخ السادات والسيد عمر النقيب والفيومي وبعض الأعيان.

وفي يوم الجمعة غايته قُتِل شخص أيضًا بسوق السلاح، وهو من ناحية المنصورة، وجبى المشاعلية والقلقات دراهم من أرباب الحوانيت مثل ذلك المذكور فيما تقدم.

وانقضى هذا الشهر وحوادثه التي منها الارتباك في أمر حصص الالتزام والمزاد في المحلول، وعدم الراحة والاستقرار على شي يرتاح الناس عليه، ومثل ذلك الرزق الأحباسية والأوقاف.

وحضر شخص تولى النظر والتفتيش على جميع الأوقاف المصرية السلطانية وغيرها وبيده دفاتر ذلك، فجمع المباشرين واستملاهم، وكذلك كاتب المحاسبة وبث المعينين لإحضار النظار بين يديه وحسابهم على الإيراد والمصرف، وأظهر أنه يريد بذلك تعمير المساجد الكاينة بالقرى المصرية، وانضمت إليه الأغوات وطلب كل من كان له أدنى علاقة بذلك، واستمروا على ذلك بطول السنة، ثم انكشف الأمر وظهر أن المراد من ذلك ليس إلا تحصيل الدراهم فقط، وأخذ المصالحات والرشوات بقدر الإمكان بعد التعنت في التحرير والتعلل بإثبات المدعي في الإيراد والمصرف، خصوصًا إذا كان الشخص ضعيفًا وليس من أرباب الوجاهة والمتوجهين أو بينه وبين الكتبة حزازة باطنية، ثم يحررون دفترًا ويحررون الفايظ، ثم يطلبون منه إيراد ثلاث سنوات أو أربع ولم يزل حتى يصالح على نفسه بما أمكنه، ثم يختمون له ذلك الدفتر ويتركونه وما يدين إن شاء عمر، وإن شاء أخَّر، فإن انتهت إليهم بعد ذلك شكوى في ناظر وقف سبقت له مصالحة لا تُسمع شكوى الشاكي، ولا يُلتفت إليها ويفعلون هذا الفعل في كل سنة.

ومنها زيادة النيل الزيادة المفرطة عن المعتاد وعن العام الماضي أيضًا حتى غطى الذراع الذي زاده الفرنساوية على عامود المقياس، فإن الفرنساوية لما غيروا معالم المقياس رفعوا الخشبة المركبة على العامود، وزادوا فوق العامود قطعة رخام مربعة مهندمة، وجعلوا ارتفاعها مقدار ذراع مقسوم بأربعة وعشرين قيراطًا، وركبوا عليها الخشبة فسترها الماء أيضًا، ودخل الماء بيوت الجيزة ومصر القديمة وغرقت الروضة، ولم يقع في هذا النيل حظوظ ولا نزهة للناس كعادتهم في البرك والخلجان والمراكب، وذلك لاشتغال الناس بالهموم المتوالية، وخصوصًا الخوف من أذى العسكر وانحراف طباعهم وأوضاعهم وعدم المراكب وتخريب الفرنسيس أماكن النزاهة وقطع الأشجار وتلف المقاصف التي كانت تجلس بها أولاد البلد مثل دهليز الملك والجسر والرصيف وغير ذلك مثل الكازروني والمغربي وناحية قنطرة السد وقصر العيني والقصور.

ومنها أن محمد بك المعروف بالمنفوخ المرادي حصل عنده وحشة من قبطان باشا، فحضر إلى ناحية الأهرام بالجيزة، وطلب الحضور عند الوزير يستجير به، فذهب إليه خشداشه عثمان بك البرديسي وحادثه وأشار عليه بالرجوع إلى جهة القبطان فأقام أيامًا ثم رجع إلى ناحية إسكندرية، والسبب في ذلك ما حصل في الوقعة التي قتل بها أحمد بك الحسيني، قيل إن ذلك بنفاقه عليه، واتضح ذلك للقبطان، وأحضرت العرب مراسلته إليهم بذلك فانحرف عليه القبطان، فلما علم ذلك داخله الخوف ثم أرسل إليه الأمرا والقبطان أمانًا فرجع بعد أيام.

ومنها حضور الجمع الكثير من أهالي الصعيد هروبًا من الألفي وما أوقعه بهم من الجور والمظالم والتقارير والضرايب والغرايم، وحضر أيضًا الشيخ عبد المنعم الجرجاوي والشيخ العارف وخلافهم يتشكون مما أنزله على بلادهم، وطلب متروكات الأموات وأحضر ورثتهم وأولادهم وأطفالهم ومن توسط أو ضبط أو تعاطى شيًّا من القضاة والفقها وحبسهم وعاقبهم وطالبهم وطلب استئصال ما بأيديهم ونحو ذلك، كل ذلك بأمر من الدولة وغير ذلك معين، فحضروا فصالحوا على تركة سليم كاشف باثنين وعشرين ألف ريال بعد أن ختموا على دوره، وبعد أن أزعجوا حريمه وعياله ونطوا من الحيطان، ثم حضروا إلى مصر وأمثال ذلك.

ومنها كثرة تعدي العسكر بالأذية للعامة وأرباب الحرف فيأتي الشخص منهم ويجلس على بعض الحوانيت، ثم يقوم فيدعي ضياع كيسه أو سقوط شي منه، وإن أمكنه اختلاس شي فعل، أو يبدلون الدنانير الزيوف الناقصة النقص الفاحش بالدراهم الفضة قهرًا، أو يلاقشون النسا في مجامع الأسواق من غير احتشام ولا حيا، وإذا صرفوا دراهم أو أبدلوها اختلسوا منها، وانتشروا في القرى والبلدان ففعلوا كل قبيح، فتذهب الجماعة منهم إلى القرية وبيدهم ورقة مكتوبة باللغة التركية، ويوهمونهم أنهم حضروا إليهم بأوامر إما رفع المظالم أو ما يبتدعونه من الكلام المزور، ويطلبون حق طريقهم مبلغًا عظيمًا ويقبضون على مشايخ القرية، ويلزمونهم بالكلف الفاحشة ويخطفون الأغنام، ويهجمون على النسا وغير ذلك مما لا يحيط به العلم، فطفشت الفلاحون وحضر أكثرهم إلى المدينة حتى امتلأت الطرق والأزقة منهم، أو يركب العسكري حمار المكاري قهرًا ويخرج به إلى جهة الخلا فيقتل المكاري ويذهب بالحمار فيبيعه بساحة الحمير، وإذا انفردوا بشخص أو بشخصين خارج المدينة أخذوا دراهمهم أو شلحوهم ثيابهم أو قتلوهم بعد ذلك، وتسلطوا على الناس بالسب والشتم ويجعلونهم كفرة وفرنسيس وغير ذلك، وتمنى أكثر الناس وخصوصًا الفلاحين أحكام الفرنساوية.

ومنها أن أكثرهم تسبب في المبيعات وساير أصناف المأكولات والخضارات، ويبيعونها بما أحبوا من الأسعار ولا يسري عليهم حكم المحتسب ولا غيره، وكذلك من تولى منهم رياسة حرفة من الحرف كالمعمارجية أو غيرهم قبض من أهل الحرفة معلوم أربع سنوات وتركهم وما يدينون، فيسعرون كل صنف بمرادهم وليس له هو التفات لشي سوى ما يأخذه من دراهم الشكاوى، فغلا بسبب ذلك الجبس والجير وأجر الفعلة والبنايين خصوصًا، وقد احتاج الناس لبِنَا ما هدمه الفرنسيس وما تخرب في الحروب بمصر وبولاق وجهات خارج البلد، حتى وصل الإردب الجبس إلى ماية وعشرين نصف فضة، والجير بخمسين نصف فضة، وأجرة البنَّا أربعين فضة، والفاعل عشرين، وأما الغلة فرخيصة، وكذلك باقي الحبوب بكثرتها مع أن الرغيف ثلاث أواقٍ بنصف لما ذكر من عدم الالتفات إلى الأحكام والتسعيرات.

واستهل جمادى الثانية بيوم السبت سنة ١٢١٦

فيه تفكك الجسر الكبير المنصوب من الروضة إلى الجيزة؛ وذلك من شدة الماء وقوته فتحللت رباطاته وانتزعت مراسيه، وانتشرت أخشابه وتفرقت سفنه وانحدرت إلى بحري.

وفي ليلة الأحد ثانيه حصلت زلزلة في ثالث ساعة من الليل.

وفي يوم الاثنين ثالثه قطعوا رأس مصطفى المقدم المعروف بالطاراتي بين المفارق بباب الشعرية، وذلك بعد حبسه أيامًا عديدة وضربه وعقابه حتى تورمت قدماه، وطاف مع المعينين عدة أيام يتداين بواقي ما قرر عليه، ودخل دارًا نافذة وأجلس الملازمين له ببابها وهم لا يعلمون بنفوذها، وأوهم أنه يريد التداين من صاحب الدار، ونَفَذَ من الجهة الأخرى واختفى في بعض الزوايا، فاستعوقه الجماعة ودخلوا إلى الدار فلم يجدوه وعلموا بنفوذها، فقبضوا على خدمة الدار وضربوهم فلم يجدوا عندهم علمًا منه، فأطلقوهم وأوقعوا عليه الفحص والتفتيش فرآه شخص ممن صادره في أيام الفردة، فصادفه في صبحها خارج باب القرافة فقبض عليه وأحضره بين يدي جماعة القلق فدل عليه، فقبضوا عليه وقتلوه بعد القبض عليه بثلاثة أيام، وتركوه مرميًّا تحت الأرجل وسط الطريق وكثرة الازدحام ثلاث ليالٍ، وفعلوا عادتهم في جبي الدراهم من تلك الخطة.

وفيه ورد فرمان من محمد باشا والي مصر بأن يتأهبوا لموكبه على القانون القديم، فكتبوا تنابيه للوجاقلية والأجناد بالتهي للموكب.

وفي يوم الثلاثا وصل شمس الدين بك أميراخور كبير ومرجان أغا دار السعادة، فأرسلوا تنابيه إلى الوجاقلية والأمرا والمشايخ ومحمد باشا وإبراهيم باشا، فاجتمعوا ببيت الوزير، وحضر المذكوران بعد الظهر فخرج الوزير ولاقاهما من المجلس الخارج فسلماه كيسًا بداخله خط شريف، فأخذه وقبله وأحضرا له بقجة بداخلها خلعة سمور عظيمة فلبسها، وسيفًا تقلد به، وشلنج جوهر وضعه على رأسه ودخل صحبتهما إلى القاعة حيث الجمع، ففتح الكيس وأخرج منه الفرمان ففتحه وأخرج منه ورقة صغيرة فسلمها للريس أفندي فقراها باللغة التركية والقوم قيام على أقدامهم، مضمونها الخطاب لحضرة الوزير الحاج يوسف باشا وحسين باشا القبطان والباشات والأمرا والعساكر المجاهدين والثنا عليهم والشكر لصنيعهم وما فتحه الله على يديهم وإخراجهم الفرنسيس ونحو ذلك، ثم وعظ بعض الأفندية بكلمات معتادة ودعوا للسلطان والوزير والعساكر الإسلامية، وتقدم إبراهيم باشا ومحمد باشا وطاهر باشا وباقي الأمرا فقبَّلوا ذيل الخلعة وانصرفوا، وضربوا مدافع كثيرة من القلعة في ذلك الوقت، وفي ذلك اليوم ألبس الوزير الأمرا والباشات فراوي وخلعًا وشلنجات ذهب على روسهم.

وفيه حضرت أطواخ بولاية جدة لمحمد باشا توسون أغات الجبجية، وهو إنسان لا بأس به.

وفيه حضر القاضي الجديد من الروم ووصل إلى بولاق وهو صاحب المنصب، فأقام ثلاثة أيام وصحبته عياله وحريمه، فلما كان يوم السبت ثامنه حضر بموكبه إلى المحكمة، وذهب إليه الأعيان في صبحها وسلموا عليه وله مسيس بالعلم.

وفي يوم الثلاثا حادي عشره عمل الوزير الديوان وحضر عنده الأمرا، فقبض على إبراهيم بك الكبير وباقي الأمرا الصناجق وحبسهم، وأرسل طاهر باشا بطايفة من العسكر الأرنؤد إلى محمد بك الألفي بالصعيد، وكان أشيع هروبه إلى جهة الواحات.

وذهبت طايفة إلى سليم بك أبي دياب وكان مقيمًا بالمنيل، فلما أخذ الخبر طلب الهرب وترك حملته، فلما حضرت العسكر إليه فلم يجدوه، فنهبوا القرية وأخذوا جماله وهي نحو السبعين وهجنه وهي نيف وثلاثون هجينًا، وذهبت إليه طايفة بناحية طرا فقاتلهم ووقع بينهم بعض قتلى ومجاريح، ثم هرب إلى جهة قبلي من على الحاجر، ووقفت طايفة العسكر والأرنؤد بالأخطاط والجهات، وخارج البلد يقبضون على من يصادفونه من المماليك والأجناد.

ونودي في ذلك اليوم بالأمن والأمان على الرعية والوجاقلية، وأطلق الوزير مرزوق بك ورضوان كتخدا إبراهيم بك وسليمان أغا كتخداه المسمى بالحنفي.

وأحاطت العسكر بالأمرا المعتقلين واختفى باقيهم، ونودي عليهم وبالتوعد لمن أخفاهم أو آواهم، وباتوا بليلة كانت أسوأ عليهم من ليلة كسرتهم وهزيمتهم من الفرنسيس، وخاب أملهم وضاع تعبهم وطمعهم وكان في ظنهم أن العثملي يرجع إلى بلاده، ويترك لهم مصر ويعودون إلى حالتهم الأولى يتصرفون في الأقاليم كيفما شاءوا، فاستمروا في الحبس.

ثم تبين أن سليم بك أبا دياب ذهب إلى عند الإنكليز، والتجا إليهم بالجيزة وألبس الوزير سليمان أغا تابع صالح أغا زِيَّ العثمانيين، وجعله سلخور، وأمره أن يتهيأ ليسافر إلى إسلامبول في عرض الدولة.

وفي يوم الاثنين سابع عشره سافر إسماعيل أفندي قبون كاتب حوالة إلى رشيد باستدعاء من الباشا والي مصر، وورد الخبر بوصول كسوة للكعبة من حضرة السلطان، فلما كان يوم الأربعا حضر واحد أفندي وآخرون وصحبتهم الكسوة، فنادوا بمرورها في صبحها يوم الخميس، فلما أصبح يوم الخميس المذكور ركب الأعيان والمشايخ والأشاير وعثمان كتخدا المنوه بذكره لإمارة الحج، وجمع من الجاويشية والعساكر والقاضي ونقيب الأشراف وأعيان الفقها، وذهبوا إلى بولاق وأحضروها وهم أمامها وفردوا قطع الحزام المصنوع من المخيش ثلاث قطع والخمسة مطوية، وكذلك البرقع ومقام الخليل، كل ذلك مصنوع بالمخيش العال والكتابة غليظة مجوفة متقنة، وباقي الكسوة في سحاحير على الجمال وعليها أغطية جوخ أخضر، ففرح الناس بذلك وكان يومًا مشهودًا.

وأخبر من حضر أنه عندما وصل الخبر بفتح مصر أمر حضرة السلطان بعملها، فصنعت في ثلاثين يومًا، وعند فراغها أمرهم بالسير ليلًا وكان الريح مخالفًا، فعندما حلوا المراسي اعتدل الريح بمشيئة الله تعالى، وحضروا إلى إسكندرية في أحد عشر يومًا.

وفيه وردت الأخبار بأن حسين باشا القبطان لم يزل يتحيل وينصب الفخاخ للأمرا الذين عنده، وهم محترزون منه وخايفون من الوقوع في حباله، فكانوا لا يأتون إليه إلا وهم متسلحون ومحترزون وهو يلاطفهم ويبش في وجوههم إلى أن كان اليوم الموعود به عزم عليهم في الغليون الكبير الذي يقال له أزج عنبرلي، فلما طلعوا إلى الغليون وجلسوا فلم يجدوا القبودان فأحسوا بالشر، وقيل إنه كان بصحبتهم فحضر إليه رسول وأخبره أنه حضر معه ثلاثة من السعاة بمكاتبة، فقام ليرى تلك المراسلة فما هو إلا أن حضر إليهم بعض الأمرا، وأعلمهم أنه ورد خط شريف باستدعاهم إلى حضرة مولانا السلطان، وأمرهم بنزع السلاح فأبوا، ونهض محمد بك المنفوخ وسل سيفه وضرب ذلك الكبير فقتله، فما وسع البقية إلا أنهم فعلوا كفعله، وقاتلوا مَن بالغليون من العساكر وقصدوا الفرار فقتل عثمان بك المرادي الكبير وعثمان بك الأشقر ومراد بك الصغير وعلي بك أيوب ومحمد بك المنفوخ ومحمد بك الحسيني الذي تأمر عوضًا عن أحمد بك الحسيني وإبراهيم كتخدا السناري، وقبض على الكثير منهم وأنزلوهم المراكب، وفر البقية مجروحين إلى عند الإنكليز، وكانوا واقعين عليهم من ابتدا الأمر فاغتاظ الإنكليز وانحازوا إلى إسكندرية، وطردوا من بها من العثمانيين وأغلقوا أبواب الأبراج، وحضر منهم عدة وافرة وهم طوابير بالسلاح والمدافع، واحتاطوا بقبطان باشا من البر والبحر، فتهيا عساكره لحربهم فمنعهم، فطلب الإنجليز بروزه بعساكره لحربهم، فقال: لم يكن بيننا وبينكم حرب، واستمر جالسًا في صيوانه فحضر إليه كبير الإنكليز، وتكلم معه كثيرًا وصمم على أخذ بقية الأمرا المسجونين، فأطلقهم له فتسلمهم وأخذ أيضًا المقتولين ونقل عرضي الأمرا من محطتهم إلى جهة الإسكندرية، وعملوا مشهدًا للقتلى مشى به عساكر الإنجليز على طريقتهم في موتى عظماهم، ووصل الخبر إلى من بالجيزة من الإنكليز، وذلك ثاني يوم من قبض الوزير على الأمرا، ففعلوا كفعلهم وأخذوا حذرهم وضربوا بعض المدافع ليلًا، وشرعوا في ترتيب آلة الحرب.

وفي ذلك اليوم طلع محمد باشا طوسون والي جدة الساكن ببيت طرا إلى القلعة، وصعد معه جملة من العسكر وشرعوا في نقل قمح ودقيق وقومانية وملوا الصهاريج، وشاع ذلك بين الناس فارتاعوا وداخلهم الوسواس من ذلك، واستمروا ينقلون إلى القلعة مدافع وبارودًا وآلات حرب.

وفي يوم الاثنين رابع عشرينه حضر كبير الإنجليز الذي بالجيزة، فألبسه الوزير فروة وشلنجًا، وفي ذلك اليوم خلع الوزير على عثمان أغا المعروف بقبي كتخدا، وقلده على إمارة الحج.

وفي ذلك اليوم وقع بين عسكر المغاربة والإنكشارية فتنة ووقفوا قبالة بعضهم ما بين الغورية والفحامين، وأغلقت الناس حوانيتهم بسوق الغورية والعقادين والصاغة والنحاسين، ولم يزالوا على ذلك حتى حضر أغات الإنكشارية، وسكنت الفتنة بين الفريقين.

وفي الخميس سابع عشرينه مروا بزفة عروس بسوق النحاسين وبها بعض الإنكشارية، فحصلت فيهم ضجة ووقع فيهم فشل، فخطفوا ما على العروس وبعض النسا من المصاغ المزينات به، وفي أثنا ذلك مر شخص مغربي فضربه عسكري رومي ببارودة فسقط ميتًا عند الأشرفية، فبلغ ذلك عسكر المغاربة فأخذوا سلاحهم وسلوا سيوفهم، وهاجت حماقتهم وطلعوا يرمحون من كل جهة وهم يضربون البندق ويصرخون، فأغلقت الناس الحوانيت وهرب قلق الأشرفية بجماعته وكذلك قلق الصنادقية، وفزعت الناس ولم يزالوا على ذلك من وقت الظهر إلى الغروب، ثم حال بينهم الليل وقتل المغاربة أربعة أشخاص وأصبحوا محترسين من بعضهم، فحضر أغات الإنكشارية على تخوف، وجلس بسبيل الغورية وحضر الكثير من عقلا الإنكشارية، وأقاموا بالغورية وحوالي جهة الكعكيين والشوايين حيث سكن المغاربة واستمر السوق مغلوقًا ذلك اليوم، ورجعت القلقات إلى مراكزها، وبردت القضية وكأنهم اصطلحوا وراحت على من راح.

•••

وانقضى هذا الشهر بحوادثه التي منها استمرار نقل الأدوات إلى القلعة، وكذلك مراكز باقي القلاع مع أنهم خربوا أكثرها.

ومنها زيادة تعدي العسكر على السوقة والمحترفين والنسا، وأخذ ثياب من ينفردون به من الناس في أيام قليلة.

ومنها استمرار مكث النيل على الأرض وعدم هبوطه حتى دخل شهر هاتور وفات أوان الزراعة، وعدم تصرف الملتزمين وهجاج الفلاحين من الأرياف لما نزل بهم من جور العسكر وعسفهم في البلاد، حتى امتلأت المدينة من الفلاحين، ونودي عليهم عدة مرار بذهابهم إلى بلادهم.

ومنها أن الوزير أمر المصرلية بتغيير زيهم، وأن يلبسوا زي العثمانية فلبس أرباب الأقلام والأفندية والقلقات القواويق الخضر والعنتريات، وضيقوا أكمامهم، ولبس مصطفى أغا وكيل دار السعادة سابقًا وسليمان أغا تابع صالح أغا وخلافهما.

واستهل شهر رجب الفرد سنة ١٢١٦

فكان أوله يوم الأحد، في ثانيه سافر سليمان أغا تابع صالح أغا إلى إسلامبول، وفيه أمر الوزير الأمرا المحبوسين بأن يكتبوا كتابًا إلى الإنكليز بأنهم أتباع السلطان وتحت طاعته، وأمره إن شاء أبقاهم في إمارتهم، وإن شاء قلدهم مناصب في ولايات أخرى، وإن شاء طلبهم يذهبون إليه، فلا دخل لكم بيننا وبينه وكلام في معنى ذلك، فأرسلوا يقولون إن هذا الكلام لا عبرة به فإنهم مسجونون وتحت أمركم ومكتوب المقهور المكره لا يُعمَل به، فإن كان ولا بد فأرسلوهم إلينا لنخاطبهم ونعلم ضميرهم وحقيقة حالهم.

فلما كان ليلة الاثنين تاسعه أحضر الوزير إبراهيم بك والأمرا، وأعلمهم أن قصده إرسالهم إلى بر الجيزة عند الإنجليز ليتفسحوا ذلك اليوم ويخبروهم أنهم مطيعون للسلطان وتحت أوامره، وأن المراسلة التي أرسلوها عن طيب قلب منهم وليسوا مكرهين في ذلك، فأظهر إبراهيم بك التمنع عن الذهاب، وأنه لا غرض له في الذهاب إلى مخالفي الدين فجزم عليه ووعده خيرًا، وعاهدهم وحلفهم.

فنزلوا وركبوا من عنده في الصباح وما صدقوا بالخلاص، وعدوا إلى الجيزة وذهبوا إلى عند الإنجليز، فتبعهم أتباعهم ومماليكهم يرمحون إليهم ويلحقون بهم فأقاموا هناك ولم يرجعوا، فانتظر الوزير رجوعهم خمسة أيام وأرسل إليهم يدعوهم إلى الرجوع حكم عهدهم، فامتنع إبراهيم بك وتكلم بما في ضميره من قهره من الوزير وخيانته له.

وفي يوم السبت عملوا جمعية ببيت الشيخ السادات، واجتمع المشايخ والوجاقلية وذلك بأمر من الوزير، وأرسل إليهم مكاتبة وفي ضمنها النصيحة والرجوع إلى الطاعة، فأرسلوا في جواب الرسالة يقولون إنهم ليسوا مخالفين ولا عاصين وإنهم مطيعون لأمر الدولة، وإنما تأخرهم بسبب خوفهم وخصوصًا ما وقع لإخوانهم بإسكندرية، وإنهم لم يذهبوا إلى عند الإنجليز إلا لعلمهم أنهم عسكر السلطان ومن المساعدين له على أعدايه، ومتى ظهر لهم أمر يرتاحون فيه رجعوا إلى الطاعة ونحو ذلك من الكلام.

وفي يوم الجمعة سابع عشرينه حضر عابدي بك نسيب مولانا الوزير، فخرج إليه غالب أعيان العثمانية والجاويشية وطاهر باشا وعسكر الأرنؤد وتلقوه، ودخل بحموله في موكب جليل، وكان حضرة الوزير حاصلًا عنده توعك، وغالب أوقاته محتجب عن ملاقاة الناس.

وفيه ورد الخبر بسفر قبطان باشا من ساحل أبي قير إلى الديار الرومية في منتصف الشهر، وأما محمد باشا الوالي على مصر، فإنه لم يزل مقيمًا بأبي قير وحضر خازنداره وسكن ببيت البكري بالأزبكية.

واستهل شهر شعبان بيوم الثلاثا سنة ١٢١٦

فيه حضر يوسف أفندي وبيده مرسوم بولايته على نقابة الأشراف، فبات ببولاق وأرسل ناسًا يعلمون بحضوره فلم يخرج لملاقاته أحد، ثم إن بعض الناس أحضر إليه فرسًا فركبه في ثاني يوم وحضر إلى مصر، وأشاع أنه متولي نقابة الإشراف ومشيخة المدرسة الحبانية.

وخبر ذلك الإنسان أنه كان يبيع الخردة واليميش بحانوت بخان الخليلي، وهو من متصوفة الأتراك الذين يتعاطون الوعظ والإقرا باللغة التركية، فمات شيخ رواق الأروام بالأزهر، فاشتاقت نفسه للمشيخة على الرواق المذكور فتولاها بمعونة بعض سفهاهم، فنقم عليه الطايفة أمورًا واختلاسات من الوقف فتعصبوا عليه وعزلوه وولوا مكانه السيد حسين أفندي المولَّى الآن، فحنق من ذلك وداخله قهر عظيم وحقد على حسين أفندي المذكور، وأضمر له في نفسه المكروه فدعاه يومًا إلى داره ودس له سمًّا في شرابه، فنجاه الله من ذلك، وشربت ابنة يوسف أفندي الداعي تلك الكاسة المسمومة غلطًا وماتت وشاع ذلك، وتواترت حكايته بين الناس ورجع كيده عليه وذاق وبال أمره، كما قيل:

ومن يحتفر بيرًا ليوقع غيره
سيُوقَع بالبير الذي هو حافر

ثم إنه سافر إلى إسلامبول وأقام هناك مدة إقامة الفرنسيس بمصر، ولم يزل يتحيل ويتداخل في بعض حواشي الدولة، وأعرض بطلب النقابة ومشيخة الحبانية فأعطوه ذلك لعدم علمهم بشأنه، وظنهم أنه أهل لذلك بقوله لهم إنه كان شيخًا على الأزهر ومعرفته بالعلم.

فلما حصل بمصر وظهر أمره تجمعت أعيان الأشراف، وقالوا: لا يكون هذا حاكمًا ولا نقيبًا علينا أبدًا، وتُنُوقِل خبره وظهر حاله لأكابر الدولة وحضرة الصدر الأعظم فلم يصغوا إليه ولم يسعفوه وأهمل أمره، وهكذا شأن رويسا الدولة أدام الله بقاهم، إذا تبين لهم الصواب في قضية لا يعدلون إلى خلافه.

وفيه من الحوادث أنه تقيد بأبواب القاهرة بعض من نصارى القبط، ومعهم بعض من العسكر فصاروا يأخذون دراهم من كل من وجدوا معهم شيًّا سوا كان داخلًا أو خارجًا بحسب اجتهادهم، وكذلك ما يجلب من الأرياف وزاد تعديهم فعم الضرر وعظم الخطب، وغلت الأسعار وكل من ورد بشي يبيعه يشتط في ثمنه، ويحتج بأنه دفع عليه كذا وكذا من دراهم المكس، فلا يسع المشتري إلا التسليم لقوله والتصديق له وقبول عذره.

والسبب في ذلك أن الذين تقيدوا بديوان العشور بساحل بولاق دس عليهم بعض المتقيدين معهم من الأقباط أن كثيرًا من المتاجر التي يؤخذ عليها العشور يذهب بها أربابها من طريق البر ويدخلون بها في أوقات الغفلة تحاشيًا عن دفع ما عليها، وبذلك لا يجتمع المال المقرر بالديوان من ذلك، فأذن كبرا الديوان بذلك فانفتح لهم بذلك الباب، فولجوه ولم يحسبوا للعاقبة من حساب وزادوا في الجور والفضايح، وأظهروا ما في نفوسهم من القبايح، فساءت الظنون واستغاث المستغيثون، وأكثر سخاف الأحلام بما لا طايل تحته من الكلام كما قيل في هذا المعنى:

وكنا نستطب إذا مَرِضنا
فصار الداء من قِبَل الطبيب

إلى أن زاد التشكي وأُنهِيَ الأمر إلى الوزير فأمر بإبطال ذلك وانجلت تلك الغمة.

وفيه أيضًا أعرض طايفة القبانية، وتشكوا مما رُتِّبَ عليهم من الجمرك السنوي، فأطلق لهم الأمر برفعه عنهم.

وفيه قبضوا على رجل من المفسدين بإقليم المنوفية يقال له راضي النجار، وأحضروه إلى مصر وقطعت رأسه بالرميلة.

وفيه كتب فرمان إلى ناحية البحرية وصورته:

صدر الفرمان العالي السلطاني، وأمرنا الجليل الخاقاني إلى قدوة النواب المتشرعين نايب البحيرة زيد علمه، وإلى كامل المشايخ من عربان الهنادي والأفراد والجمعيات والبهجة وبني عونة عمومًا زيد في عشيرتهم، بعد وصول التوقيع الرفيع الهمايوني الحكمي، تحيطون علمًا أنكم أنهيتم إلى ديواننا الهمايوني أنكم من قديم الزمان منازلكم أبًا عن جد في فيافي البحيرة وفدافدها، وأنكم تحت قدم الطاعة والمحافظة للرعايا والطرقات الواقعة بناحية البحيرة، والتمستم من عواطف مراحم سلطنتنا السنية ودولتنا الخاقانية استقراركم في منازلكم القديمة، كما كنتم حكم السنين الخوالي، فحيث إنه جرت العادة أن قبايل العربان في الديار المصرية، كل قبيلة لها منزلة مخصوصة بهم لا ينازعهم فيها غيرهم.

ومنزلة البحيرة من قديم الزمان منزلكم، فبحسب التماسكم من مراحم دولتنا العلية قد أقررناكم في منازلكم المزبورة كما كنتم قديمًا نازلين بها من غير منازع لكم بالشروط التي تعهدتهم بها وقبلتموها في حضور صدرنا الأعظم، وكتبتم بها سندًا عليكم، وهي أن توفوا بعدم التعدي وإيصال الرزية والمضرة ولو مقدار ذرة إلى الرعايا وديعة خالق البرايا، والمحافظة على الطرقات، وعدم إتلاف شي من مزروعات أهل البلاد وإضاعة مواشيهم.

وأن لا تُسكِنوا عندكم شقيًّا من اللصوص وقطاع الطريق ونهب أموالى الناس وقتل النفوس بغير حق شرعي.

وقد نذرتم على أنفسكم أنه متى اختل شرط من هذه الشروط المذكورة، تقومون بدفع مايتي ألف قرش إلى خزينة مصر.

فبنا على ذلك أصدرنا فرماننا الشريف، وأمرنا العالي المنيف؛ ليكون معلومكم أنه من قاعدة الديار المصرية كل قبيلة من العربان لها منزلة تنزلها مخصوصة بها.

وقد أقررناكم في منازلكم القديمة في فيافي البحيرة، وفدافدها بالشروط السابقة الذكر التي التزمتموها، والنذور التي قبلتموها وتعهدتم بها، وكتبتم على أنفسكم سندًا أنه متى اختل شرط من الشروط المذكورة بعد بيان دفعكم المايتي ألف قرش يكون إخراجكم من البحيرة وبلادها وفيافها، والطلوع من حقكم.

فاعلموا بموجب مضمون أمرنا الشريف كما هو مشروح، وتجنبوا خلاف ما هو مسطور وموضوح، اعلموه واعتمدوه غاية الاعتماد والحذر ثم الحذر من المخالفة.

وكتب بمضمونه حجة وأمضى عليها قاضي العسكر وقيدت بالسجل، وهي من إنشا صاحبنا اللبيب الأديب النظام الناثر جامع فضايل المآثر السيد إسماعيل الشهير بالخشاب، ونصه:

لما ورد الفرمان الشريف الواجب القبول والإجلال والإعظام والتشاريف، اليانعة أزاهر رياض فصاحته، المحلاة بعقود البلاغة أجياد معاني عبارته، المشتمل على فصول من الترغيب والترهيب، التي يعجز كل بليغ لبيب عن سلوك أسلوبها العجيب.

من حضرة مولانا الصدر الأعظم والمشير المفخم عضد الدولة العلية، ولسانها وحسامها الماضي وسنانها، من انجلى عنا ظلام الشرك بصباح غرته السنية، وأشرق ضيا حسن سيرته المرضية، مولانا الوزير يوسف باشا بلغه الله من المرادات ما شا.

خطابًا إلى ساير الحكام والمتشرعين والنواب وسكان إقليم البحيرة من قبايل الأعراب، ومن التحق بهم من الأبنا والذراري والعشاير المنجمعين معهم في تلك الفدافد والبراري، وما تضمنه من تأمينهم في منازلهم وأوطانهم وعشيرتهم وجيرانهم، والنظر إليهم بعين الإحسان والرعاية، وإدخالهم سرادق الحفظ والوقاية بشرط أن يكونوا على قدم الطاعة، وأن يسلكوا سبيل السنة والجماعة، وأن يتجنبوا الخلاف، ويعاملوا من يمر بهم بالإكرام والإعزاز والإنصاف، واردين مشرب الوفاق بالاتفاق، غير مثيرين للفتن والنزاع والشقاق، وأن لا يتجمعوا على الضلال ويتحزبوا، ولا يقطعوا الطريق على من يمر بهم ويتعصبوا إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا.

وأقطع حضرة مولانا الصدر الأعظم المشار إليه، خلَّد الله جزيل نعمه وفضله عليه، كل قبيلة منهم منازلهم المخصوصة بهم المعهودة، وأظلهم بظلال زمانه الظليلة الممدودة حين التمسوا ذلك من مراحم دولته، وعوارف عواطف رأفته، بعد التزامهم بما سلف من الشروط على الوجه المشروح المحرر المضبوط، وعلى أنهم إن عصوا أمره وخالفوه، ونسوا ما تُلِيَ عليهم أو نسخوه أو قطعوا الطريق ونهبوا الأموال، أو آووا شقيًّا ممن يفعل ذلك بحال من الأحوال، أخذتهم صاعقة العذاب الهون، وحلَّ بهم من العذاب ما لا يطيقون، ووقعوا من غضب هذه الدولة العلية عليهم في العذاب الشديد، ذلك بما قدمت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد، بعد أن تسلب أموالهم، ويتلاشى حالهم حتى يصيروا لا عين ولا أثر، ولا مخبر ولا خبر، ولا معالم ولا معاهد، ولا مشارع ولا موارد، جزا بما أسلفوا، وعقابًا على ما اقترفوا إذا خالفوا، وعاهد ريساهم حضرة مولانا الصدر الأعظم المشار إليه على ما تقدم ذكره، وكتب لهم بذلك التوقيع السلطاني، والأمر الخاقاني المتضمن لما تقدم من المعاني، المتوج بالعلامة الشريفة والطرة السلطانية المنيفة المبدا بذكره، المؤرخ بتاريخه، وحضر به إلى حضرة مولانا شيخ الإسلام المومَى إليه أعلاه كل من فلان وفلان، وهم مشايخ عربان البحيرة المرقومون.

ولما تأمل فيه فأحاط علمه الكريم ببديع معانيه ونزه طرفه في رياض فصوله، ورآه جاريًا على قواعد الشرع وأصوله، والتمس منه الجماعة المذكورون كتابة حجة متضمنة لفحواه، مؤكدة له مقوية لمعناه، أمر بكتابة هذا المرسوم على الوجه المشروح المرقوم، وقيد ذلك بالسجل المحفوظ ليراجع عند الاحتياج إليه والاحتجاج به، انتهى.

وفي خامسه نزل محمد باشا توسون والي جدة من القلعة في موكب، وتوجه إلى العادلية قاصدًا السفر إلى جدة.

وفي يوم الأربعا تاسعه قبضوا على ثلاثة من النصارى الأروام المتزيين بزي العساكر الإنكشارية، ويعملون القبايح بالرعية، فرموا رقابهم، أحدهم بالدرب الأحمر والثاني بسوق السلاح عند الرفاعي والثالث بالرميلة.

وفي يوم الخميس عاشره أيضًا قطعوا راس علي جلبي تابع حسين أغا شنن بباب الخرق بين المفارق بأمر من الوزير، والسبب في ذلك أن المرحوم يوسف باشا المذكور الكبير المتوفى بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، كان أودع عنده حسين أغا شنن وديعة، فلما ملك الفرنسيس مصر وجرى ما جرى من ورود العرضي والصلح ونقضه، فاعتقد قصار العقول أن الأمر انتهى للفرنسيس، فتجاوزوا الحد وأغروا ببعضهم وتتبعوا العورات، وكشفوا عن المستورات، ودلوا الفرنسيس على المخبآت، وتقربوا إليهم بكل ما وصلت إليه همتهم، وراجت به سلعتهم والمسكين المقتول مد يده إلى بعض ودايع سيده، فاختلس منها وتوسع في نفسه وركب الخيول، واتخذ له خدمًا وتداخل مع الفرنسيس وحواشيهم، فاستخفوا عقله واستفسروا منه فأخبرهم بالودايع والخبايا فاستخرجوها ونقلوها، وكانت شيًّا كثيرًا جدًّا، وأظهر أن ذلك لم يكن بواسطته ليواري ما اختلسه لنفسه؛ ليكون له عذر في ذلك، فلما حضر له سيده صحبة العرضي ذهب إليه، وتملق وربط في رقبته منديلًا، فأهمل أمره إلى هذا الوقت حتى اطمأن خاطره، ثم إنه أخبر بقصته الوزير لعلمه أنه سيطالب بوديعة يوسف باشا، فأمره بأن يرفع قصته إلى القاضي، ويثبت تلك الدعوى لتبرأ ساحته عند الدولة ففعل، ثم أمر الوزير بقتل علي جلبي المذكور فقتل وترك من مرميًّا ثلاثة أيام بلياليها.

شهر رمضان المعظم سنة ١٢١٦

استهل بيوم الأربعا ولم يعمل فيه شنك الرؤيا على العادة خوفًا من عربدة العساكر، والمحتسب كان غايبًا، فركب كتخداه بدلًا عنه بموكبه فقط، ولم يركب معه مشايخ الحرف فذهب إلى المحكمة وثبت الهلال تلك الليلة ونودي بالصوم من الغد.

وفيه أمر الوزير محمد باشا العربي بالسفر إلى البلاد الشامية، فبرز خيامه إلى خارج باب النصر، وخرج هو في ثالثه وسافر وأشيع سفر الوزير أيضًا، وذلك بعد أن حضرت أجوبة من الباب الأعلى، وفي ثالثه ارتحل محمد باشا المذكور.

وفي خامسه انتقل ريس أفندي من بيت الألفي، وسكن في بيت إسماعيل بك، وشرعوا في تعميره وإصلاحه لسكن والي مصر.

وفي ثاني عشره وصل محمد باشا والي مصر إلى شلقان.

وفي ثالث عشره ضربت عدة مدافع من الجيزة صباحًا ومسا، فقيل إنه حضر ستة قناصل إلى الجيزة.

وخامس عشره حضر القناصل المذكورون إلى بيت الوزير وقابلوه، فخلع عليهم خلعًا ورجعوا إلى أماكنهم بالجيزة.

وفي ذلك اليوم وصل محمد باشا والي مصر إلى جهة بولاق ونصب وطاقه بالقرب من المكان المعروف بالحلي، ثم انتقل إلى جهة قبة النصر، فلما كان يوم الجمعة سابع عشره وصل إلى المدينة من باب النصر في موكبه وطوايفه على غير الهيئة المعتادة، ولم يلبس الطلخان تأدبًا مع الوزير لحصوله بمصر، فتوجه إلى بيت الوزير وأفطر معه، وفي تلك الليلة عزل خليل أفندي الرجائي من دفتردارية الدولة، وقلد عوضه حسن أفندي باش محاسب، وسببه أن الوزير طلب خلعًا ليخلعها على والي مصر وقناصل الإنكليز فتأخر حضورها فحنق، وسأل عن سبب تأخير المطلوب، فقال الرسول: إن الخازندار قال حتى استأذن الدفتردار، فحنق الوزير وأمر بحبس الخازندار، وعزل الدفتردار وهرب السفير الذي كان بينهما.

وفيه انتقل الأمرا المصرلية المرادية من الجيزة إلى جزيرة الذهب ونصبوا وطاقهم بها، وأرسلوا ما كان عندهم من الحريم إلى دورهم بمصر، واستمر إبراهيم بك وعثمان بك الحسيني ومحمد بك المبدول وقاسم بك أبو سيف بالجيزة، ولم يعلم حقيقة حالهم، ثم في ثاني يوم لحق إبراهيم بك وباقي الجماعة بالآخرين، وخرج إليهم طلبهم ومتاعهم وأغراضهم.

فلما كان ليلة الاثنين تاسع عشره ركبوا ليلًا بأجمعهم إلى الصعيد من الجهة الغربية، وتخلف عنهم قاسم بك أبو سيف لمرضه، وكذلك تخلف عنهم محمد أغا أغات المتفرقة وآخرون.

وفي عشرينه نودي بالأمان على المماليك وأتباعهم، ومن تخلف عنهم أو انقطع منهم وكذلك في ثاني يوم، وفيه قلد محمد باشا والي مصر حسن أغا وألبسه على جرجا.

وفي ثامن عشرينه عزل الباشا محمد أغا المعروف بالزربة من الكتخداية، وهو من المصرلية وولاه كشوفية الغربية، وتقلد عوضه في الكتخداية يوسف أغا أمين الضربخانة سابقًا، وتقلد كشوفية المنوفية وتقلد كشوفية القليوبية.

وفي ليلة الأربعا تاسع عشرينه ذهب يوسف أفندي إلى عند والي مصر، فقلده نقابة الأشراف وألبسه فروة بعد أن كان أهمل أمره.

وفيه عزل أغات الإنكشارية، وتولى آخر عوضه من العثمانية، ونزل المعزول إلى بولاق ليسافر إلى جهة الصعيد.

شهر شوال سنة ١٢١٦

استهل بيوم الخميس، في ثالثه يوم السبت خرج جاليش الوزير إلى قبة النصر، ونُودي بخروج العساكر ويكون آخر خروجهم يوم الاثنين، فشرعوا في الخروج بأجمالهم ودوابهم، فلما كان يوم الاثنين خامسه خرج الوزير على حين غفلة إلى قبة النصر، وتتابع خروج الأثقال والأحمال والعساكر، وحصل منهم في الناس عربدة وأذية.

وأخذ بعضهم من عطارين القصرين ثلاثة أرطال بن ثمنها ماية وعشرون نصفًا فرمى له عشرين نصفًا، فصرخ الرجل، وقال: أعطني حقي فضربه وقتله؛ فأغلق الناس الحوانيت وانكفوا في دورهم، فاستمرت جميع حوانيت البلدة مغلوقة حتى سافرت العساكر وانتقلت من قبة النصر.

ولازم حضرة محمد باشا والي مصر وطاهر باشا على المرور والطواف بالشوارع بالتبديل وثياب التخفيف ليلًا ونهارًا، ولولا ذلك لحصل من العسكر ما لا خير فيه.

وفيه كتبت فرمانات وألصقت بالشوارع ومفارق الطرق، مضمونها: بأن لا أحد يتعرض بالأذية لغيره، وكل من كان له دعوة أو شكية فليرفع قصته إلى الباشا.

وكل إنسان يمشي في زيه وقانونه القديم.

ويلازموا على الصلوات بالجماعة في المساجد، ويوقدون قناديل ليلًا على البيوت والمساجد والوكايل والخانات التي بالشوارع.

ولا يمر أحد من العسكر من بعد الغروب، والذي يمشي بعد الغروب من أهل البلد يكون معه فانوس أو سراج.

ويبيعون ويشترون بالحظ والمصلحة، ولا أحد يُخفِي عنده أحدًا من عسكر العرضي، والذي يبقى منهم بعد سفر الوزير من غير ورقة بيده يعاقب.

وإن القهاوي المحدثة جميعها تغلق، ولا يفتح إلا القهاوي القديمة الكبار، ولا يبيت أحد من العسكر في قهوة، ولا يبيعون المسكرات ولا يشترونها إلا الكفرة سرًّا وأمثال ذلك، فانسرت القلوب بتلك الفرمانات واستبشروا بالعدل.

وفيه خرجت عساكر وسافرت إلى جهة قبلي وعدتهم ستة آلاف، وذلك بسبب الأمرا المصرلية الهربانين، وقرر لهم بأن من أتى برأس صنجق فله ألف دينار، أو كاشف فله ثلثماية، أو جندي أو مملوك فله ماية.

وفي يوم السبت ركب الوزير من قبة النصر، وارتحل العرضي إلى الخانكة وعند ركوبه حضر إليه السيد عمر أفندي النقيب وبعض المتعممين لوداعه، فأعطاهم صررًا وقروا له الفاتحة.

وركب وخرج أيضًا في ذلك اليوم بقية المشايخ، وذهبوا إلى الخانكة أيضًا وودعوه ورجعوا.

وفي يوم الاثنين ثاني عشره أحضر الباشا محمد أغا الوالي وسليم أغا المحتسب وأمر برمي رقابهما، فقطعوا رأس الوالي تحت بيت الباشا على الجسر، والمحتسب عند باب الهوا، وختم على دورهما في تلك الساعة، وشاع الخبر في البلد فارتاع الناس لذلك واستعظموه، وداخل الخوف أهل الحرف مثل الجزارين والخبازين وغيرهم، وعلقوا اللحم الكثير بحوانيتهم، وباعوه بتسعة أنصاف بعد أن كانوا يبيعونه بأحد عشر مع قلته واحتكاره، وكانوا نبهوا عليهم قبل ذلك فلم يستمعوا.

وفي صبحها يوم الثلاثا قلد علي أغا الشعراوي الزعامة عوضًا عن محمد أغا المقتول، وزين الفقار كتخدا أمين احتساب عوضًا عن سليم أغا أرنؤد المقتول أيضًا.

واجتمعوا ببيت القاضي وحضر أرباب الحرف، وعملوا قايمة تسعيرة لجميع المبيعات من المأكولات وغيرها، فعملوا اللحم الضاني بثمانية أنصاف، والماعز بسبعة، والجاموس بستة، وأن لا يباع فيه شي من السقط مثل الكبدة والقلب وغير ذلك، والسمن المسلى بماية وثمانين نصفًا العشرة أرطال، بعد أن كانت بثلثماية وأربعين، والزبد العشرة بماية وستين بعد أن كانت بمايتين وأربعين، وجميع الخضراوات تباع بالرطل حتى الفجل والليمون والجبن الذي بخيره بثلاثة أنصاف بعد عشرة، والخبز رطل بنصف فضة، وكذلك جميع الأشيا العطرية والأقمشة العشرة أحد عشر، والراوية الما بعشرة أنصاف بعد عشرين وغير ذلك.

ورسموا بأن الرطل في الأوزان مطلقًا يكون قباني اثنتي عشرة وقية، وأبطلوا الرطل الزياتي الذي يوزن به الأدهان والأجبان والخضراوات، وهو أربع عشرة وقية، فلم يستمر من هذه الأوامر بعد ذلك سوى نقص الأرطال.

ولما برزت هذه الرسوم هرع الناس لشرا اللحم والمأكولات حتى فرغ الخبز من الأفران، وشق المحتسب فقبض على جماعة من الخبازين، وخزم آنافهم وعلق فيها الخبز، كذلك الجزارون خزمهم وعلق في آنافهم اللحم، وأكثر حضرة الباشا وعظما أتباعه من التجسس وتبديل الشكل والملبوس والمرور والمشي في الأزقة والأسواق، حتى أخافوا الناس وانكف العسكر عن الأذية ولزموا الأدب، ومشى كل أحد في طريقته وأدبه، ومشت النسا كعادتهن في الأسواق لقضا أشغالهن، فلم يتعرض لهن أحد من العسكر كما كانوا يفعلون.

وفي يوم الخميس خامس عشره ارتحل الوزير من بلبيس، وفي يوم السبت سابع عشره سافر خليل أفندي الرجائي الدفتردار المعزول في البحر من طريق دمياط، وانتقل شريف أفندي الدفتردار إلى الدار التي كان بها الأول، وهي دار البارودي بباب الخرق.

وفي يوم الاثنين تاسع عشره كان موكب أمير الحاج عثمان بك، وصحبته المحمل على العادة وخرج في أبهة ورونق وانسرت القلوب في ذلك اليوم إلى لقاه، ونجز له جميع اللوازم مثل الصرة وعوايد العربان وغير ذلك، وكان المتقيد بتشهيل ذلك وبجميع اللوازم حضرة شريف محمد أفندي الدفتردار.

وفي يوم الثلاثا سابع عشرينه شنقوا ثلاثة أنفار في جهات مختلفة تزيوا بزي العسكر يقال إنهم من الفرنسيس افتقدوهم من العسكر المتوجه إلى الحج.

وفي ذلك اليوم عمل حضرة الباشا ديوانًا، وأرسل الجاويشية إلى جميع المشايخ والعلما، وخلع عليهم خلعًا سنية زيادة على العادة أكثر من سبعين خلعة، وكذلك على الوجاقلية والأفندية وجبر خاطر الجميع، وكانت العادة في هذا التلبيس أن يكون عند قدومه، والسبب في تأخيره لهذا الوقت تعويق حضور المراكب التي بها تلك الخلع.

وفي يوم الخميس تاسع عشرينه انتقل أمير الحاج بالركب من الحصوة إلى البركة، وفيه ركب حضرة محمد باشا إلى الإمام الشافعي، فزاره وأنعم على الخَدَمة بستين ألف فضة، وألبسهم خلعًا وفرق دنانير ودراهم كثيرة في غير محلها، وكذلك يوم الجمعة ركب وتوجه إلى المشهد الحسيني فصلى الجمعة، وخلع على الإمام الراتب والخطيب وكبير الخدمة فراوي وفرق دراهم كثيرة في طريقه، ورجع من ناحية الجمالية وكان في موكب جليل على الغاية.

وفيه أمر المشار إليه بنصب عدة مشانق عند أبواب المدينة برسم الباعة والمتسببين والخبازين وغيرهم، وأكثر أرباب الدرك من المرور والتجسس والتخويف، وعلقوا عدة أناس من الباعة على حوانيتهم وخزموهم من آنافهم، فرخص السعر وكثرت البضايع والمأكولات.

وحصل الأمن في الطرق وانكفت العربان وقطاع الطريق، فحضرت الفلاحون من البلاد وكثر السمن والجبن والأغنام وكبر العيش وكثر وجوده، وانحط سعر السمن عن التسعيرة عشرين نصفًا لكثرته، ولله الحمد.

وهاب الناس هذا الباشا وخافوه، وصاروا يترنمون به في البلاد والأرياف، ويغنون بذكره حتى الصبيان في الأسواق، ويقولون: سيدي يا محمد باشا يا صاحب الدهب الأصفر وغير ذلك، وكان في مبتدأ أمره يظنه الظمآن ما.

شهر القعدة سنة ١٢١٦

استهل بيوم السبت، فيه نهبت العربان قافلة التجار الواصلة من السويس، وفي ثانيه حضر السيد أحمد الزرو الخليلي التاجر بوكالة الصابون بديوان الباشا، وتداعى على جماعة من التجار، وثبت له عليهم عشرة آلاف ريال فأمر الباشا بسجنهم.

وفي رابعه يوم الثلاثا حضر السيد أحمد المذكور إلى بيت الباشا، فأمر بقتله فقبض عليه جماعة من العسكر، وقطعوا رأسه عند المشنقة حيث قنطرة المغربي على قارعة الطريق، وختموا على موجوده، وأخذ الباشا ما ثبت له على المحبوسين، والسبب في ذلك أن بعضهم أوشى إلى الباشا أنه كان يحب الفرنسيس ويميل إليهم ويسالمهم، وعند خروجهم هرب إلى الطور خوفًا من العثمانية، ثم حضر بأمان من الوزير.

وفي يوم الجمعة حضر المشار إليه إلى الجامع الأزهر بالموكب، فصلى به الجمعة وخلع على الخطيب فروة سمور، وفرَّق ونثر دراهم ودنانير على الناس في ذهابه وإيابه، وتقيد قبى كتخداه وإسماعيل أفندي شقبون بتوزيع دراهم على الطلبة والمجاوِرِين بالأروقة والعميان والفقرا، ففرقوا فيهم نحو خمسة أكياس.

وفيه عمل الشيخ عبد الله الشرقاوي وليمة لزواج ابنه ودعا حضرة المشار إليه، فحضر في يوم الأحد ثانيه، وحضر أيضًا شريف أفندي وعثمان كتخدا الدولة فتغدوا عنده، وأنعم على ولد الشيخ بخمسة أكياس رومية وألبسه فروة سمور، وفرق على الخدم والفراشين والقراء دنانير ودراهم بكثرة، وكذلك دفع عثمان كتخدا وشريف أفندي كل واحد منهم كيسًا وانصرفوا.

وفي يوم الأربعا خامسه حضر الباشا محمد أغا المعروف بالوسيع أغات المغاربة، وأمر بقتله فقطعوا راسه على الجسر ببركة الأزبكية قبالة بيت الباشا لأمور نقمها عليه، وكتبت في ورقة وضعت عند راسه.

وفي يوم الخميس سادسه توفي قاسم بك أبو سيف على فراشه، وفي منتصفه وردت الأخبار من الجهة البحرية بضياع نحو الخمسين مركبًا حلت مراسيها من ثغر إسكندرية مشحونة بمتاجر وبضايع، وكانت معوقة بكرنتيلة الإنكليز، فلما أذنوا لهم بالسراح فما صدقوا بذلك فصادفتهم فرتونة خرجت عليهم فضاعوا بأجمعهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وفيه طلب الباشا المشايخ، وتكلم معهم في شأن الشيخ خليل البكري، وعزله عن وظيفته وسأل رأيهم في ذلك، فقالوا له: الرأي لحضرتكم، فقال: إن الشيخ خليل لا يصلح لسجادة الصديق، وأريد عزله عنها من غير ضرر عليه بل أعطيه أقطاعًا لنفقته، والقصد أن تروا رأيكم فيمن يصلح لذلك ومن يستحق، فطلبوا المهلة إلى غد وانحط الرأي بعد اختلاف كثير على تقليد ذلك لمحمد سعد من أولاد جلال الدين، فلما حضروا في اليوم الثاني أخبروه بذلك وأنه يستحقها إلا أنه فقير، فقال: إن الفقر ليس بعيب، فأحضروه وألبسه فروة سمور وأركبه فرسًا بعباءة مزركشة وأنعم عليه بثماني ألف درهم، وكان من الفقرا المحتاجين للدرهم الفرد، ولما ذهب للسلام على الشيخ السادات خلع أيضًا فروة سمور عليه.

وفي يوم الاثنين رابع عشرينه توفي إلى رحمة الله الشيخ مصطفى الصاوي الشافعي، وكان عالمًا نجيبًا وشاعرًا لبيبًا وقد ناهز الستين.

وفيه جهزت عدة من العسكر إلى قبلي.

وفيه نودي بأن خراج الفدان ماية وعشرون نصفًا، وكذلك نودي برفع عوايد القاضي والأفندي التي كانت تؤخذ على إثبات الجامكية والجراية والرفق بعوايد تقاسيط الالتزام والأقطاع، وكتبوا بذلك أوراقًا وألصقت بالأسواق وفي آخرها لا ظلم اليوم، أي مما تقرر إلا قبل اليوم.

فإن الفدان بلغ في بعض القرى بمصاريفه ومغارمه أربعة آلاف نصف فضة، وأما بدعة القاضي وعوايد التقاسيط فزادت عن أيام الوزير، وزاد على ذلك إهمال الأوراق ببيت الباشا لأجل العلامة شهرين وأربعة حتى يسأم صاحبها، وتحفى أقدامه من كثرة الذهاب والمجي، ومقاساة الذل من الخدم والأتباع، ودفع البقشيش، والرشوة على التعجيل أو يتركها، وربما ضاعت بعد طول المدة فيحتاج إلى استيناف العمل.

شهر ذي الحجة الحرام سنة ١٢١٦

استهل بيوم الأحد، في رابعه حضر خمسة أشخاص من الكشاف القبالي من أتباع إبراهيم بك الوالي إلى مصر بأمان، فقابلوا حضرة والي مصر وأنعم عليهم وألبسهم خلعًا، وفيه أنعم على خدامهم.

وفيه عمل الإنكليز كرنتيلة بالجيزة ومنعوا من يدخلها ومن يخرج منها، وذلك لتوهم وقوع الطاعون وورود الأخبار بكثرته في جهة قبلي وبعض البلاد البحرية، وأما المدينة ففيها بعض تنقير.

وفي يوم الاثنين تاسعه كان يوم الوقوف بعرفة، وعملوا في ذلك اليوم شنكًا ومدافع وحضرت أغنام وعجول كثيرة للأضحية، حتى امتلت منها الطرقات وازدحمت الناس وأفراد العسكر على الشرا.

وغيمت السما في ذلك اليوم وأمطرت مطرًا كثيرًا حتى توحلت الأزقة.

ونودي بفتح الحوانيت والقهاوي والمزينين ليلًا، وإظهار الفرح والسرو وإظهار بهجة العيد، واستمر ضرب المدافع في الأوقات الخمسة، ونودي أيضًا بالمواظبة على الاجتماع للصلوات في المساجد، وحضور الجمعة من قبل الصلاة بنصف ساعة.

وأن يسقوا العطاش من الأسبلة ولا يبيعون ماها.

وأشيع سفر الإنكليز وسفر عثمان كتخدا الدولة وتشهيل الخزينة، وفي خامس عشره حضر قاصد من الديار الرومية بمكاتبات وتقرير نقابة الأشراف للسيد عمر أفندي مكرم وعزل يوسف أفندي، فلما كان في صبحها يوم الأحد ركب السيد عمر المذكور وتوجه إلى عند الباشا فألبسه خلعة سمور ثم حضر إلى عند الدفتردار كذلك، وكانت مدة ولاية يوسف أفندي المعزول شهرين ونصفًا.

وفي يوم الأربعا ثامن عشره خرج أحمد أغا خورشيد أمير الإسكندرية إلى بولاق قاصدًا السفر إلى منصبه، وركب الباشا لوداعه في عصريته، وضربوا عدة مدافع من بولاق وبر إنبابة.

ونودي في ذلك اليوم بأن لا أحدًا يواري أحدًا من الإنكليز أو يخبيه وكل من فعل ذلك عوقب.

وفي خامس عشرينه قبضوا على امرأة سرقت أمتعة من حمام وشنقوها عند باب زويلة.

موجز أحداث هذا العام

وانقضت هذه السنة وما تجدد بها من الحوادث التي من جملتها أن شريف أفندي الدفتردار أحدث على الرزق الأحباسية المرصدة على الخيرات والمساجد وغيرها مال حماية على كل فدان عشرة أنصاف فضة وأقل وأكثر في جميع الأراضي المصرية القبلية والبحرية، وحرروا بذلك دفاتر فكل من كان تحت يده شي من ذلك قل أو كثر يُكتَب له عرضحال، ويذهب به إلى ديوان الدفتردار فيعلم عليه علامته، وهي قوله «قيد» بمعنى أنه يطلب قيوده من محله التي تثبت دعواه، ثم يذهب بذلك العرضحال إلى كاتب الرزق، فيكشف عليها في الدفاتر المختصة بالإقليم الذي فيه الإرصاد بموجب الإذن بتلك العلامة، فيكتب له ذلك تحتها بعد أن يأخذ منه دراهم ويطيب خاطره بحسب كثرة الطين وقلته وحال الطالب، ويكتب تحته علامته، فيرجع به إلى الدفتردار فيكتب تحته علامة غير الأولى، فيذهب به إلى كاتب الميري فيطالبه حينئذ بسنداته وحجج تصرفه ومن أين وصل إليه ذلك.

فإن سهلت عليه الدنيا ودفع له ما أرضاه كتب له تحت ذلك عبارة بالتركي لثبوت ذلك، وإلا تعنت على الطالب بضروب من العلل وكلفه بثبوت كل دقيقة يراها في سنداته وعطل شغله، فما يسع ذلك الشخص إلا بذل همته في تتميم غرضه بأي وجه كان، إما أن يستدين أو يبيع ثيابه ويدفع ما لزمه.

فإن ترك ذلك وأهمله بعد اطلاعهم عليه حلوه عنه ورفعوه وكتبوه لمن يدفع حلوانه ثلاث سنوات أو أكثر، وكتبوا له سندًا جديدًا يكون هو المعول عليه بعد، ويقيد بالدفاتر ويبطل اسم الأول وما بيده من الوقفيات والحجج والإفراجات القديمة، ولو كانت عن أسلافه.

ثم يرجع كذلك إلى الدفتردار فيكتب له علامة لكتابة الأعلام، فيذهب به إلى الإعلامجي فيكتب له عبارة أيضًا في معنى ما تقدم، ويختم تحتها بختم كبير فيه اسم الدفتردار، ويأخذ على ذلك دراهم أيضًا.

وبعد ذلك يرجع إلى الدفتردار فيقرر ما يقرره عليها من المال يقال له «مال الحماية» ثم يذهب بها إلى بيت الباشا ليصحح عليها بعلامته.

ويطول عند ذلك انتظاره لذلك ويتفق إهمالها الشهرين والثلاثة عند الفرمانجي، وصاحبها يغدو ويروح في كل يوم حتى تحفى قدماه، ولا يسهل به تركها بعد ما قاساه من التعب وصرفه من الدراهم.

فإذا تمت علامتها دفع أيضًا المعتاد الذي على ذلك، ورجع بها إلى بيت الدفتردار، فعند ذلك يطلبون منه ما تقرر عليها فيدفعه عن تلك السنة.

ثم يكتبون له سندًا جديدًا ويطالب بمصروفه أيضًا، وهو شي له صرة أيضًا فلا يجد بدًّا من دفعه ولا يزال كذلك يغدو ويروح مدة أيام حتى يتم له المراد.

ومنها المعروف بالجامكية ومرتبات الغلال بالأنبار، وذلك أن من جملة الأسباب في رواج حال أهل مصر المتوسطين وغناهم ومدار حال معاشهم وإيرادهم في السابق هذين الشيئين وهما الجامكية والغلال التي يقال لها الجرايات رتبها الملوك السالفة من الأموال الميرية للعساكر المنتسبة للوجاقات والمرابطين بالقلاع الكاينة حوالي الإقليم.

ومنها ما هو للأيتام والمشايخ والمتقاعدين ونحوهم، وكانت من أرواج الإيراد لأهل مصر وخصوصًا أهل الطبقة الذين ليس لهم إقطاع ولا زراعات ولا تجارات، كأهل العلم ومساتير أولاد البلد والأرامل ونحوهم، وثبت وتقرر إيرادها وصرفها في كل ثلاثة أشهر من أول القرن العاشر إلى أواخر الثاني عشر بحيث تقرر في الأذهان عدم اختلالها أصلًا.

ولما صارت بهذه المثابة تناقلوها بالبيع والشرا والفراغ، وتغالوا في أثمانها ورغبوا فيها، وخصوصًا لسلامتها من عوارض الهدم والبنا كما في العقار، وأوقفوها وأرصدوها ورتبوها على جهات الخيرات والصهاريج والمكاتب ومصالح المساجد ونفقات أهل الحرمين وبيت أهل المقدس.

وأفتى العلما بصحة وقفها لعلة عدم تطرق الخلل، فلما اختلت الأحوال وحدثت الفتن وطمع الحكام والولاة في الأموال الميرية ضعف شأنها ورخص سعرها وانحط قدرها وافتقر أربابها، ولم تزل في الانحطاط والتسفل حتى بيع الأصل والإيراد بالغبن الفاحش جدًّا، وتعطل بسبب ذلك متعلقاتها، ولم يزل حالها في اضطراب إلى أن وصل هولا القادمون، وجلس شريف أفندي الدفتردار المذكور، ورأى الناس فيه مخايل الخير لما شاهدوه فيه من البشاشة وإظهار الرفق والمكارم عرض الناس عليه شأن العلوفة المذكورة والغلال فلم يمانع في ذلك.

وكتب الإذن على الأوراق كعادته وذهب بها أربابها إلى ديوان الكتبة، وكبيرهم يسمى حسن أفندي باش محاسب وهو من العثمانيين عارض في حسابها، وقال: إن العثماني اسم لواحد الأقجة وصرفه عندنا بالروم كل ثلاث أقجات بنصف فضة، وما في دفاتركم يزيد في الحساب الثلث، فعورض وقيل له: إن الأقجة المصري كل اثنين بنصف بخلاف اصطلاح الروم وهذا أمر تداولنا عليه من قديم، ولم يزل حتى فقد ذلك المشروع، ومشوا على فقد الثلاث ورضي الناس بذلك لظنهم رواج الباقي.

وعند استقرار الأمر بذلك أخذوا يتعنتون على الناس في الثبوت، وقد كان الناس اصطلحوا في أكثرها عند فراغها على عدم تغيير الأسما التي رقمت بها، وخصوصًا بعد ضعفها فيبيعها البايع ويأخذها المشتري بتمسك البيع فقط، ويترك سند الأصل بما فيه من الاسم القديم عنده أو تكون باسم الشخص ويموت وتبقى عند أولاده، فجعلوا معظمها بهذه الصورة، وأخذوه لأنفسهم وأعطوا منهم لأغراضهم بعد رفع الثلث الأصل وثلث الإيراد، وضاعت على أربابها مع كونهم فقرا.

وكذلك فعلوا في أوراق الغلال وجعلوها بدراهم عن كل إردب خمسون نصفًا غلا أو رخص، وزادوا في القيود التي تكتب على العرضحالات المصطلحين عليها بأن يكتب عليها أيضًا قاضي العسكر بعد حسابهم مقدار العلوفة والغلال، ويأخذ على كل عثماني نصفين أو أقل أو أكثر وعلى كل إردب قرشًا روميًّا.

وكل ذلك حيلة على أخذ المال بطريق شيطاني، وحرروا ما حرروه ودفعوا للناس ما دفعوه مقسطًا على الجمع والشهور، ورضوا بذلك وفرحوا به لظنهم دوامه، واستعوضوا الله فيما ذهب لهم، وختموا الدفتر على مقدار ما عرض عليهم، وما ظهر بعد ذلك لا يعمل به ويذهب في المحلول.

ولما انقضت هذه السنة الأخرى وافتتح الناس الطلب قيل لهم: إن الذي أخذتموه هو عن السنة القابلة وقد قبضتموها معجلة، وعزل شريف أفندي الدفتردار في إثرها، ووصل خليل أفندي الرجائي، واضطربت الأحوال ولم ينفع القيل والقال كما يأتي.

وأما من مات في هذه السنة

فمات الشيخ العمدة الإمام خاتمة العلما الأعلام، ومسك ختام الجهابذة ذوي الأفهام، ومن افتخر به عصره على الأعصار، وصاح بلبل فصاحته في الأمصار، يتيمة الدهر وشامة وجه أهل العصر، العالم المحقق والنحرير المدقق بديع الزمان والتاج المرصع على روس الأقران، الناظم الناثر الفصيح الباهر الشيخ مصطفى بن أحمد المعروف بالصاوي، والده كان من أعيان التجار بمصر، وأصل مرباهم بالسويس بساحل القلزم، وصاوي نسبة إلى بلدة بشرقية بلبيس تسمى الصوة وهي على غير القياس، وهي بلدة والده ثم انتقل منها إلى السويس وكان يبيع بها الما، وولد له بها المترجم فارتحل به إلى مصر وسكن بحارة الحسينية مدة، وأتى بولده المترجم إلى الجامع الأزهر واشتغل بالقراءة فحفظ القرآن والمتون، واشتغل بالعلم وحضر دروس الأشياخ ولازم الشيخ عيسى البراوي وتخرج به ومهر، وأنجب وأقرا الدروس وختم الختوم وشهد له الفضلا، وكان لطيف الذات مليح الصفات رقيق حواشي الطبع مشارًا إليه في الأفراد والجمع، مهذب الأخلاق جميل الأعراق، اللطف حشو إهابه، والفضل لا يلبس غير جلبابه.

لو مثل اللطف جسمًا
لكان للُّطف روحًا

إذا نزل بنادٍ ارتحلت الهموم، وارتضع من أخلاف أخلاقه بنت الكروم، تقاريره عذبة رايقة، وتحاريره فايقة، ذهنه وقاد ونظمه مستجاد «فمن نظمه قوله»:

أقبل الأنس يجتلي بسرور
وتولى الحزن الذي نحن فيه
وتناءت همومنا بعد قرب
وتناهت لذات ما نرتجيه
واجتمعنا بليلة هي تَزْري
بالضحى إذ صحا وما قد يليه
ودت الشمس أن يكون لها مثـ
ـل ضيا حسنها فما ترتضيه
واجتلونا المدام أشهى مدام
مَعْ نديم يا حسن ما نجتليه
حيث كانت أكوابنا كنجوم
كلما قد شربتها قلت إيه
واحتسينا كاساتها فطربنا
بشذاها وراق ما نحتسيه
واجتنينا من نظم دُر حبيب
نثره رايق كخمرة فيه
فرعى الله ليلة قد تقضَّت
بالهنا والمنا وعِزٍّ وتيه
وسقى الله عهدنا قطر سُحب
رايقات تجلو المرابع تيه
مذ صفا ودُّنا برغم حسود
مع كيد العذول ذي التشويه
يا لها ليلة حكت جنة الخلـ
ـد وفيها ما نفسُنا تشتهيه
ليلة الأنس هل تعودي لصبٍّ
صبة الوجد دايمًا تعتريه
تجمعي شمله بأحمد من قد
حمد الله فعل ما يصطفيه
هاك تجلى إليك خود عروس
ثوبها العز والبَهَا ترتديه
وهْيَ تتلو عليك يا خير مولى
ليس مهري سوى الرضا فاعطنيه

وله:

نزلنا بهذا القصر والنيل تحته
فلله قصر قد تعاظم بالمد
مع العالِم النحرير أكرم ماجد
إمام همام جامع عَلَم فرد
فأين ابن هاني من فصاحة نطقه
وأين أويس لا يضاهيه في الزهد
تأمل فما أثر كعين مشاهد
وأبصر فما قرب لديه كما البعد
وما هي إلا البحر لكنه حلا
وما هو إلا البر بالدين والعهد
وأعني به شيخي البراوي من به
تحلى زمان العز في الجيد بالعقد
أقول لمن رام الوصول لقدره
تمنيت أمرًا مستحيلًا بلا حد
فهذا مقام ليس يُعطَى لغيره
وحاشاه أن يحصى بسرد ولا عد
فيا أيها الملتاذ إن رُمْت علمه
تحدث عن البحر المحيط عن الجهد
ومن لي وقد قَصَّرت في مدح سيدي
ومعظم إسنادي وذي الحل والعقد
كذلك مولانا الشريف محمد
هو العلوي الأصل قد فاز بالسعد
وينسب للمختار أشرف مُرسَل
عليه صلاة الله طابت كما الند

وله:

لحاظك تُزري بالحسام المهند
وريقك لا يرويه غير المبرد
وطرفك ذا السفاك قد سفك الدما
وقَدُّك ذا السفاح في الصب معتدي
فيا وجهه كم قد هديت لحسنه
ويا شعره كم قد أضليت مهتدي
وما ليَ لا أصبو بضوء جبينه
وثغر شهي باللآلي منضد
ولام عذاريه تدور بخده
كتمام آس مع بنفسجه الندي
وخضرة ريحان بعارضه الذي
يعارض قلبي في هواه وأكبدي
يريك ربيعًا بالبهاء بنانه
على ورد خديه الزهي المورد
أروم حياة وهو يطلب قتلتي
بسيف معد للقتال ومرصد
فيا حسن لولاك ما كان محسن
فأحسن لمضنى ساهر الجفن مسهد
يبيت يعاني أعظم السقم دايمًا
سلوا ليله واستشهدوا الشهب تشهد
ويسند إرسال السحاب لدمعه
مسلسل أحزان بوجد مجدد
يقول العذول ارجع فإنيَ ناصح
ورأييَ لا يروي سوى عن مسدد
فقلت له دعني فرأيك فاسد
وقولك بهتان بزُور مفند

وله:

من لمضنى أحشاؤه تتلاهب
ما الفضا مثلها ولا يتقارب
جفنه ساهر وحزن جفاه
مستمر ودمعه يتساكب
يا خليليه من حوادث دهر
حاربته فصار يُدعَى المحارب
لو رآه المتيمون لصاحوا
ما لهذا الصدود ود يعاقب
فرعاه الإله من مستهام
ما أراد الوصال إلا يراقب
وحبيب ممنع ذو جمال
وطبيب لمهجة الصب ما طب
حسن محسن بذات وفعل
كل حسن لذاته يتناسب
حيثما وجهه له حسنات
إن جنى الذنب فهْو ليس يحاسب
يا غزالًا رفقًا بصب كئيبٍ
قد نآه الزمان ممن يحابب
وخفِ الله في محبيك وارحم
من تلظى وغير شكلك ما حب

ولما عمر الفقير جامع هذه الشوارد داره التي بالصنادقية بالقرب من الأزهر في سنة إحدى وتسعين وماية وألف، عمل المترجم أبياتًا وتاريخًا رقمت بطراز مجلس العقد الداخل وهي:

خليلَيَّ هذا الروض فاحت زهوره
ولاح على الأكوان حقًّا ظهوره
وزاد ثناء عبق الجو طيبه
فمنه عبير المسك طاب عبوره
سما في سماء الكون فانتهج العلا
برفعته وازداد سرًّا سروره
ألم تر أجسام الوجود تراقصت
وجاء التهاني باسمات ثغوره
مكان على التقوى تأسس مجده
ومن سور التوفيق والهدي سوره
وفردوس عدن فاح فوح نسيمه
وحفته ولدان النعيم وحوره
ومجلس أنس كل ما فيه مشرق
ومقعد صدق قد تسامى حبوره
بناء يروق العين حسن جماله
ورونقه يشفي الصدور صدوره
ومن مجد بانيه تزايد بهجة
وقلد من در المعالي نحوره
عزيز بني بيت المكارم فانثنت
تغني به حمدًا ومدحًا طيوره
وأحيا رسوم المجد والفخر والتقى
وزانت بأعلام الكمال سطوره
فلا زال فيه الفضل تسمو شموسه
وتنمو على كل البدور بدوره
ودام به سعد السعود مؤرخًا
حمى العز بالمولى الجبرتي نوره

وله في صيوان:

وصيوان حوى عزًا وفخرًا
عليه من البها حسن متمم
كروض الأنس فيه الورق غنت
وبلبال السرور لها ترنم
على الإيوان يزهو بارتفاع
ويهزو بالخيام وبالمخيم
فتحسبه وذا الإشراق فيه
سماء الجود قد ظلت مكرم
يقول السعد في تاريخه بي
على مجد الوزير العز خَيَّم
ومن نثره ما كتبه تقريظًا على المولَّف الذي ألفه العلامة الشيخ محمد عبد اللطيف الطحلاوي الذي ضاها به عنوان الشرف للعلامة السيوطي قوله:

حمد المولى يضيق نطاق المنطق عن شكره، ويعجز لسان اللسن عن الإفصاح بذكره، يدني لب الموحد إلى فهم مقامات التوحيد، ويعرفه سبل التهجد والتحميد، ويسعده بنهاية الوصول إلى مقاصد فقه الأصول، وصلاةً وسلامًا على المحمود بأكمل ثنا الممدوح بأجمل ضيا وسنا، وعلى آله وصحبه وأتباعه وأحبابه ما ألف كتاب، وكللت تيجان الربى بلآلئ السحاب.

أما بعد قد سرحت طرفي في رياض هذا التأليف الرايق، وفرحت بصري بالمشاهدة لمحاسن هذا التصنيف الفايق، واقتطفت بيدي ثمرات أوراقه واستضأت بأنوار إشراقه، وحليت سمعي بدرر فوايده، وفكري بغرر عوايده، وعرضت على فهمي لآلي جواهره، فلاحت لعيني بدور زواهره، فإذا هو عقد نظم من درر العلوم وتحلت به غواني الفهوم، رشيق الألفاظ والمعاني، رقيق التراكيب والمباني، لم ينسج ناسج على منواله، ولم يأت بليغ بمثاله، قد أفحم فصحا الرجال وألقت له البلغا العصي والحبال، وأعجز الفصحا كبيرًا وصغيرًا، فلا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، يفوق بحسنه كل مولف ويروق برونقه على كل مصنف، جمع فيه من العلوم أشرفها وأشرقها، ومن المعارف أرقَّها وأروقها، فهو مجموع جامع مانع، وروض يافع يانع، فلا شك أنه صنعة قادر وصبغة لبيب ماهر، وكيف لا وهو العلامة الإمام الفهامة الهمام المحقق الفاضل المدقق الكامل، جامع شمل المعارف حايز أنواع اللطايف، وحيد الكمالات اللدنية ومزيد المحاسن الخِلْقية والخُلُقية مولانا الشيخ محمد عبد اللطيف الطحلاوى قابل الله صنيعه بحسن القبول، وبلَّغه من خير الدارين كل مأمول، وأدام الكريم النفع بوجوده، وأقام لديه جزيل إحسانه وجوده، ما كرت الليالي ومرت الأيام وقطر غيث الغمام، والحمد لله وحده وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده.

ومن نثره أيضًا هذه المراسلة:

بسم الله الرحمن الرحيم نحمدك يا من أجريت المقادير على وفق الإرادة، وجعلت المطالب سببًا للإفادة والاستفادة، ونشكرك على ما أوليتنا من سوابغ الإحسان، ومنحتنا من سوابق الفضل والامتنان، ونصلي ونسلم على نبيك سيد ولد عدنان، إلى آخره.

وأيضًا إن أحلى ما تحلت به تيجان الرسايل، وأعلى ما تجلت به مظاهر المقاصد والوسايل، وأبهى ما رقمه البنان من بديع المعاني والبيان، وأشهر ما فاهت به الأقلام وفاحت به نوافح مسك الختام، إهداء تسليم تفوح فوايح المسك من طيب نشره، وتلوح لوايح الإقبال من وجوه بشره، وتبتسم ثغور الأماني من شمايل شموله، وتتنسم نسمات التهاني من إقباله وقبوله، وإسداء تحيات يعبق شذاها ويشرق نورها وضياها، تفوق الشموس نورًا وتروق الخواطر منها سرورًا، نقدم ذلك ونهديه ونظهره ونبديه لحضرة ذوي المهابة والفخار والعلو والاقتدار، الجامعين بين المتاجر والمفاخر، الحايزين لجمال الأول والآخر، القاطنين بخير البلاد القايمين بمصالح العباد، مصابيح الدنيا وبهجتها، وكواكب البلاد وتحفتها، حماة حرم يجبى إليه الثمرات، وزينة محل تُقضَى به الحاجات، عين أعيان المكاسب والتجارة، وزين أبنا المطالب والإشارة، نعني بذلك فلانًا وفلانًا أسبغ الله عليهم سوابغ الإنعام، وأسبل عليهم حلل الجود والإكرام، وأصلح لهم الأحوال، وبلغهم الأماني والآمال، وبسط لهم الأرزاق، وحباهم بلطفه الخلاق.

أما بعد بسط كف الرجا، ومد سواعد القصد والالتجا بدعوات مقرونة بالإنابة، ليس لها حاجب عن أبواب الإجابة، فمما يعرض عليكم وينهى بعد السلام إليكم، أنه قد وصل إلينا رقيمكم المكنون، المحتوي على الدر المصون، فشممنا منه نفحات مكية حرمية، ونسيمات سحرية بهية، فتعطرنا بطيب مسكها الأذفر، وتطيبنا بعبير عنبرها الأزهر، ذكرتم أنكم بذلتم المجهود في طلب المقصود، إلى آخره.

وله غير ذلك كثير، وحاله وفضله شهير، ولم يزل يملي ويفيد، ويقرر ويعيد، حتى قطفت يد الأجل نواره، وأطفأت رياح المنية أنواره، وذلك يوم الاثنين رابع عشرين شهر القعدة من السنة.

ورثاه الشيخ إسماعيل الزرقاني بقوله:

تداولت الأيام بالعسر واليسر
وتلك شئون الحق في مطلق الدهر
فكيف أرى قلبي على فقد إلفه
حزينًا ودمع العين من فيضه يجري
فقال لنا في سيد الخلق أسوة
فقد دمعت عيناه حزنًا كما تدري
وهذا الذي أمسى حليف ضريحه
إلى فضله تصبو الأنام مدى العمر
إمام له فضل الرواية والحجا
فمن نقله يملي ومن عقله يقري
قوى فهمه صارت بنور معيدها
ترى من مبادي الحال عاقبة الأمر
عتبت على الأيام في نثر عقدها
وقد غاب من أثنائه معدن الدر
فقالت وما لي ذاك حبر موفق
أحب لقا الله أسرع للأجر
تلقته أملاك النعيم تحفه
وتنقله من ورد نهر إلى قصر
إلى أن يرى وجه العزيز مكانه
ويبقى حميدًا في الترقي مع البشر
بمقعد صدق صار عند مليكه
فيا مصطفاه فزت مرتفع القدر

ومات الأمير عثمان بك الأشقر الإبراهيمي، وهو من مماليك إبراهيم بك الكبير الموجود الآن، اشتراه ورباه وأعتقه وجعله خازنداره مدة، ثم قلده الإمارة والصنجقية في سنة اثنتين وتسعين وماية وألف، وعرف بالأشقر لشقرته.

ولما انتقل أستاذه إلى بيت سيده محمد بك بعطفة قوصون سكن مكانه بدرب الجماميز، وصار له مماليك وأتباع وانتظم في عداد الأمرا.

وخرج مع سيده في الحوادث وتغرب معه في البلاد القبلية، وطلع أميرًا بالحج في سنة عشر ومايتين وألف، وعاد في أمن وأمان.

ولما حصلت حادثة الفرنسيس كان هو مع من كان بالبر الغربي وذهب إلى الصعيد، ثم مر من خلف الجبل ولحق بأستاذه ببر الشام، ولم يزل حتى رجع مع أستاذه والأمرا بصحبة عرضي الوزير في المرة الثانية.

ثم سافر مع حسين باشا القبودان فقتل مع من قتل بأبي قير، ودفن بالإسكندرية، وكان ذا حشمة وسكون وحسن عشرة مع ما فيه من الشح.

ومات الأمير عثمان بك الجوخدار المعروف بالطنبرجي المرادي، وهو من مماليك مراد بك، اشتراه ورباه ورقاه وقلده الإمارة والصنجقية في سنة سبع وتسعين وماية وألف.

ولما وصل حسن باشا الجزايرلي إلى مصر، وخرج مع سيده وباقي الأمرا من مصر على الصورة المتقدمة، ووقع بينهم ما وقع من الحروب والمهادنة، حضر هو وحسين بك المعروف بشفت وعبد الرحمن بك الإبراهيمي إلى مصر رهاين.

ولما سافر حسن باشا إلى الروم أخذهم صحبته بإغرا إسماعيل بك فأقاموا هناك، ثم نفوهم إلى ليميا فاستمروا بها، ومات بها حسين بك خشداشه المذكور.

ثم رجع المترجم وعبد الرحمن بك بعد وقوع الطاعون وموت إسماعيل بك وأتباعهما إلى مصر، فلم يزالوا حتى حصل ما حصل من ورود الفرنسيس وموت مراد بك في أخريات أيامهم، فوقع اختيار المرادية على تأميره عوضًا عن سيده بإشارة خشداشه محمد بك الألفي، وانتقل بعشيرته إلى الجهة البحرية وانضموا إلى عرضي الوزير ووصلوا إلى مصر.

فكان هو وإبراهيم بك الألفي ثاني اثنين يركبان معًا وينزلان معًا، ولم يزل حتى سافر القبودان بعد ما مكر مكره مع الوزير سرًّا على خيانة المصريين، فأرسل يستدعيه هو وعثمان بك البرديسي، فسافرا امتثالًا للأمر فأوقع بهما ما تقدم، وقتل المترجم ونجا البرديسي ودفن بالإسكندرية.

وكان أميرًا لا بأس به وجيه الشكل عظيم اللحية ساكن الجأش فيه تؤدة وعقل، وسبب تلقبه بالطنبرجي أنه كان في عنفوان أمره مولعًا بسماع الآلات وضرب الطنبور، وربما باشر ضربه بيديه مع الإتقان لذلك، فغلبت عليه الشهرة بذلك.

ومات الأمير مراد بك المعروف بالصغير، وهو من مماليك محمد بك أبي الدهب وانتمى إلى سليمان بك الأغا واستمر ملازمًا له ومنسوبًا إليه مدة أعوام، وكان يعرف بمراد كاشف، وله إيراد واسع ومماليك.

تقلد الإمارة والصنجقية في سنة ست ومايتين وألف، فزادت وجاهته، ولم يزل كذلك حتى سافر مع عثمان بك الأشقر وأحمد بك الحسني مع القبودان، وقتل كذلك بأبي قير ودفن بالإسكندرية.

ومات الأمير قاسم بك أبو سيف وهو مملوك عثمان بك أبي سيف الذي سافر بالخزينة، ومات بالروم وذلك سنة ثمانين وماية وألف، وهي آخر خزينة رأيناها سافرت إلى إسلامبول على الوضع القديم.

وعثمان بك هذا مملوك عثمان بك أبي سيف الذي كان من جملة القاتلين لعلي بك الدمياطي وخليل بك قطامش ومحمد بك قطامش في ولاية راغب باشا كما تقدم، وخدم المترجم مراد بك وكان يعرف بقاسم كاشف أبي سيف.

وكان له أقطاع والتزام وإيراد، واشتهر ذكره في أيام مراد بك، وبنى داره التي بالناصرية وأنفق عليها أموالًا جمة.

وكان له ملَكَة وفكرة في هندسة البنا، واستأجر قطعة عظيمة من أراضي البركة الناصرية تجاه داره من وقف المولوية، وسورها بالبنا وبنى في داخلها قصرًا مزخرفًا برحبة متسعة، وقسم تلك الأرض بتقاسيم المزارع، وحولها طرق ممهدة مستطيلة ومجارٍ للمياه التي تصل إليها أيام النيل ومجارٍ أخرى عالية مبنية بالمون والخافقي من داخلها تجري فيها المياه من السواقي، ويحيط بذلك جميعه أشجار الصفصاف المتدانية القطاف، وبداخل تلك البركة المنقسمة النخيل والأشجار ومزارع المقاثي والبرسيم والغلة وغيرها يسرح فيها النظر من ساير جهاتها، وتنشرح النفوس في أرجاها ومساحاتها، وجعل السواقي في ناحية تجتمع مياهها في حوض، وبأسفله أنابيب تتدفق منها المياه إلى حوض أسفل منه.

وعنده مجلس ومساطب للجلوس وتجري منه المياه إلى المجاري المخففة المرتفعة، ومنها تنصب من مصبات من حجر إلى أحواض أسفل منها صغار، وتجري إلى مساقي المزارع، وعند كل مصب منها محل للجلوس وعليه أشجار تظله وبوسطه أيضًا ساقية بفوهتين تجري منها المياه أيضًا، والقصر يشرف على ذلك كله وحول رحبة القصر وطرق المشاة كروم العنب والتكاعيب.

وأباح للناس الدخول إليها والتنزه في رياضها والتفسح في غياضها، والسروح في خلالها والتفيوء في ظلالها، وسماها «حديقة الصفصاف والآس لمن يريد الحظ والايناس»، ونقش ذلك في لوح من الرخام وسمره في أصل شجرة يقراها الداخلون إليها، فأقبل الناس على الذهاب إليها للنزهة ووردوا عليها من كل جهة، وعملوا فيها قهاوي ومساقي ومفارش وأنخاخًا يفرشها القهوجية للعامة وقللًا وأباريق.

واجتمع بها الخاص والعام، وصار بها مغانٍ وآلات وغوانٍ ومطربات، والكل يرى بعضهم بعضًا وجعل بها كراسي للجلوس وكنيفات لقضا الحاجة، وجعل للقصر فرشًا ومساند ولوازم ومخادع لنفسه ولمن يأتي إليه بقصد النزاهة من أعيان الأمرا والأكابر، فيبيتون به الليالي ولا يحتاجون لسوى الطعام، فيأتي إليهم من دورهم.

وزاد بها الحال حتى امتنع من الدخول إليها أهل الحيا والحشمة، وأنشا تجاهها أيضًا على يسار السالك إلى طريق الخلا بستانًا آخر على خلاف وضعها، وأخبرني المترجم أيضًا من لفظه أنه أنشا بستانًا بناحية قبلي أعجب وأغرب من ذلك.

ولما حضر حسن باشا الجزايرلي إلى مصر، وخرج منها أُمَرَاها تخلف المترجم عن مخدومه، واستقر بمصر فقلدوه الإمارة والصنجقية في سنة إحدى ومايتين وألف، فعظمت إمرته وزادت شهرته، وتقلد إمارة الحج مرتين.

ولما أوقع العثمانية بالأمرا المصرلية ما أوقعوه، وانفصلوا من حبس الوزير وانضموا إلى الإنكليز بالجيزة، ثم انتقلوا إلى جزيرة الدهب وارتحلوا منها إلى قبلي تخلف عنهم المترجم لمرض اعتراه، وحضر إلى مصر ولازم الفراش ولم يزل حتى مات في يوم الخميس سادس القعدة من السنة، وكان يخضب لحيته بالسواد مدة سنين رحمه الله.

ومات إبراهيم كتخدا السناري الأسود وأصله من برابرة دنقلة، وكان بوابًا في مدينة المنصورة وفيه نباهة فتداخل في الغز القاطنين هناك مثل الشابوري وغيره بكتابة الرقى وضرب الرمل ونحو ذلك، ولبس ثيابًا بيضا، ثم تعاشر مع بعضهم وركب فرسًا وانتقل إلى الصعيد مع من اختلط بهم، وتداخل في أتباع مصطفى بك الكبير.

ولم يزل حتى اعتشر بالأمير المذكور وتعلم اللغة التركية، فاستعمله في مراسلاته وقضاياه فنقل فتنة ونميمة بين الأمرا، فأراد مراد بك قتله فالتجا إلى حسين بك وخدمه مدة، ثم تحيل والتجا إلى مراد بك وعاشره وأحبه ولازمه في الغربة والأسفار.

واشتهر ذكره وكثر ماله وصار له التزام وإيراد، وبنى داره التي بالناصرية وصرف عليها أموالًا، واشترى المماليك الحسان والسراري البيض، وتداخل في القضايا والمهمات العظيمة والأمور الجسيمة، وصار من أعظم الأعيان المشار إليهم بمصر، ونما ذكره وعظم شأنه وباشر بنفسه الأمور من غير مشورة الأمرا، فكان يحل ما يعقده الأمرا الكبار.

ولما تحجب مخدومه بقصر الجيزة كان المترجم لسان حاله في الأمر والنهي، وبيده مقاليد الأشيا الكلية والجزئية ولا يحجب عن ملاقاة مخدومه في أي وقت شا، فينهي إليه ما يريد تنفيذه بحسب غرضه، واتخذ له أتباعًا وخدمًا يقضون القضايا ويسعون في المهمات، ويتوسطون لأرباب الحاجات ويصانعهم الناس حتى الأكابر، ويسعون إلى دورهم وصاروا من أرباب الوجاهات والثروات.

ولم يزل ظاهر الأمر نامي الذكر حتى وقعت الحوادث، وسافر الفرنساوية ودخل العثمانية ورجع قبودان باشا إلى أبي قير، فأرسل يطلبه في جملة مَن استدعاهم إليه، وقتل مع من قتل ودفن بالإسكندرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤