مقدمة لا بد منها

على الكتاب أن يكون الفأس التي تكسر البحر المتجمد فينا.

كافكا

هذه الأسطر ليست رواية من الخيال، بل إنها حقيقية بكل تفاصيلها، مثلها مثل كل الحقائق، ليس هناك من أحدٍ قادرٍ على جمعها كلها؛ لذلك ضاع الكثير جدًّا مما كان يجب ذكْرُه، وكان في نيتي أيضًا سرده. إنما يلزمني القول مشددًا: إن كل السرد الآتي ليس لأجل السرد فقط، ولا هو مثل حكايات العجائز التي تخرج مقترنةً مع دفء المواقد في ليالي الشتاء الطويلة الباردة، ولا هو حديث عن بطولات لأفراد قضَوا، ولا أبحث فيه عن إدانة لأحد.

ما مضى قد مضى لا سبيل لعودته، وما انفرط عِقدُه لا يمكن جمعه، وما سُكب امتصَّته الأرض إلى عالمها السفلي. إنه ببساطة ليس حديثًا يُروى، بل ألمًا يتلوَّى شديدًا في داخلي لا أقوى على السيطرة عليه حتى بعد مرور ما يزيد على أكثر من عقدين على مغادرتي زنزانتي لآخر مرة، رغم محاولاتي الكثيرة للفرار منه، والتي باءت جميعها بالفشل لسوء الحظ.

لم أُجهد نفسي في اختيار عنوانٍ لتجربتي هذه التي قد يحلو للبعض أن يسميَها رواية، وربما آخر ينعتها بالمذكِّرات. وإن كانت في حقيقتها ليست كذلك بالنسبة لي، وأنا أعرَفُ من غيري بما كتبتُ وبما يعتمل في نفسي. هي بُضْعةٌ مني لا أقدر على الفِكاك عنها ولا الخلاص منها. لم أفكِّر باختراع عنوان لمجموعة السطور هذه، بل جاء العنوان هكذا تلقائيًّا مثلما جاءت التجربة نفسها بلا تحضير لازم، رغم أني كنت أتوقع حصول الاثنين. انبثق العنوان مثل دافع غريزي جُبلت عليه الفطرة الإنسانية، ومَثُل أمامي مغلِقًا كلَّ المنافذ على أيِّ خيارٍ آخر.

السجن، كان مكانًا مظلمًا شديد العتمة مغلَقًا بإحكام شديد، إلى درجة لم تسنح لي ولا حتى فرصة واحدة لمغادرة الزنزانة العَفِنة برطوبتها، المظلمة بجدرانها، الرمادية الغامقة، والمزدحمة دائمًا بأجساد بشرية وكائنات أخرى من حشرات وهوام. لم يحدث لي ولسنواتٍ طويلة حتى ولا لساعة واحدة أن تنفَّستُ هواءً نقيًّا، ولا أن سطعَت شمسٌ عليَّ طيلة سبع سنوات تقريبًا، مع أني في الواقع مكثت في السجن أكثر من ذلك؛ لذا كان السجن بالفعل صندوقًا مظلمًا لا يقوى أيُّ كائن من الخارج على رؤية ما في داخله. وإذا كان كذلك فكيف يتسنَّى لي أن آخذَ القارئ إليه وأُطلعَه عما يجري فيه، إلَّا عبرَ وسيلة بدائية وحيدة، هي استراقُ النظر من شقوق صغيرة في جُدُرِه الصماء. أُدرِك — كما تُدركون — أن أشَقَّ النظر وأصعبَ الرؤية هو أن تُشخص بصرَك في صندوق مظلم تبحث فيه عما يدلُّك لما يحدث داخله.

إنها محاولة أشبه بعبث مجنون، لكن كان لزامًا عليَّ فعْلُها، ليس لأجل أحد، إنما لأجل خاطري المبرح ألمًا من جلد ذكريات تُولد معي كلَّ صباح. ألم يضطجع معي في الفراش ويسير إلى جنبي في الطرقات. وعندما يختفي ظلِّي في الفَيء يبقى هو متسمرًّا إلى جنبي، ويعلو على كتفي وهامتي. لعلي بمحاولتي هذه أنفذ إلى سبيلٍ للخلاص من أنينه المستدام ومن نشيجه الصامت في عويله وبكائه الصاخب بلسان أخرس. ذاكرتي المثقوبة هي الشقوق الوحيدة التي أملكها، وبوسع مَن هو خارج الصندوق أن يطَّلع من خلالها على ما في داخله. ومع ذلك أجزم أن لن يستشعر أحدٌ أبدًا بردَ الظلام ولا وحشتَه كما شعرت بهما. سوف تغيب عنه أشياء كثيرة جدًّا من السهل عليَّ أن أقول: إن عددَها لا يُحصى، وأعجز حتى أنا الخبير بها — لأني عاصرتُها — أن أسترجعها جميعًا. أشياء تُخفيها حلكةُ ظلام داكنة لا تزال تُخيِّم على وقائع تلك الأيام في ذاك المكان المنسي.

كلُّ ما سوف أرويه حقيقيٌّ تمامًا لا زيادة فيه ولا مبالغة، بل العكس هو الصحيح تمامًا. من الإنصاف أيضًا أن أُقدِّم اعترافًا مُسبقًا بأني فشلت في وصف الصورة الحقيقية، بل عجزت عن ذلك تمامًا. هذه الصورة حاولتُ أن أقدِّمها مرارًا لمستمعين أجبرتُهم على الإنصات إليَّ، ولسوء الحظ رأيتُ فشلي على ملامح وجوههم في كل هذه المرات. لم تسعفني براعتي في الأحاديث المسهبة أن أجعلَهم يعيشون الألم والمرارة التي عشتُها، ليس فقط ما عانيتُه من ألمٍ حين وقعَت الوقائع، بل حتى آثارها التي تتفجر وأنا أنكأُ الجروحَ حين أُحدِّثهم بها لم أقْوَ على إيصالها لهم. فكيف لي بعد هذا أن أتخيل أنهم سوف يتحسسوا ما عشتُه يومئذٍ أو أن القارئ سيفعل؟

من العسير جدًّا عليَّ أن أُثبت صحة قولي هذا، لكنه صحيح رغم ذلك. كل ما سوف يُقرأ هنا، هو صورة بالغةٌ في البهاتة لما جرى في عالم الحقيقة. وعزائي الوحيد أن هذا الكون لا يخلو من بعض الأذكياء ذوي النباهة العالية الذين سيُدققون النظر جيدًا في ثرثرتي هذه، وسوف يبذلون غاية جهدهم ليعيدوا رسم الصورة بأفضل مما فعلت. وإني على يقين أيضًا أن بعضهم ممن لا أراه هذه الأيام لنَكَد دنياي التي أعيشها سوف يجعلها صورةً ماثلة أمام عينَيه أبدًا حتى لا يعودَ أحدٌ غيري يرسم عذاباته من جديد على الورق ويخدش به جمال الحياة. لهؤلاء أكتب، وأرجو أن يَصِل إليهم صوتي المبحوح من صُراخ أستصرخ به غيرهم بلا جدوى؛ لأنهم وحدهم مَن سيحاول أن يمنع إعادة طبع قصتي هذه ثانية.

في أحد الأيام وبمناسبة عامة، التقيتُ صديقًا كان سجينًا مثلي، ولأننا نُحسن الحديث عن أيام السجون أكثر من أيِّ شيءٍ آخر فقد أُدْلِقنا في بئر الذكريات، وقال لي عبارة بليغة لامسَت شغاف قلبي، كانت تجول في داخلي خاطرةٌ ولم أجد لها منفذًا عبر الحروف والكلمات إلَّا حين أطلَقها بعفوية وبراءة لا أتوفر عليها كما يحوزها هو.

قال صديقي ونحن نجلس على رصيف تُظلِّلنا الشمس: لشدة المعاناة التي مررت بها، تمنيت من يومها ألَّا يتذوق هذا العذابَ أحدٌ غيري بعدي، ولو كان جلَّادي نفسه. ونحن بالطبع نعرف جلادينا بأسمائهم وذواتهم، ومع ذلك لم يخطر ببالنا أن نُنزل بهم العذاب الذي أنزلوه بنا.

هذه المقولة الرائعة لصديقي هي عصارة ما أريده أن يحدث للقارئ، بل هي كل ما أريد من هذا الكلام. أملي وغايتي ألَّا يسمح القارئ بتكرار ما حصل لي على أيِّ إنسان آخر، حتى لو كان جلَّادي نفسه الذي أذاقني كلَّ هذا العذاب، ولم يزَل يفعل بأقنعة جديدة. أُكرر هذا المعنى كثيرًا في مدونتي؛ لأنه ليس لي من شيء يستحق القول أفضل منه.

لن أكتب أسماء الأشخاص الذين التقيتُهم أو سمعت بهم، ولن أتحدث عن عناوين الأماكن التي مررت بها على الأغلب إلَّا قليلًا؛ لأني أريد أن أؤرخ لفعلٍ (متواصل الوقوع بدرجة متفاوتة)، لا لفاعلٍ معين لعله أصبح غبارًا أو رمادًا. وأجهد ألَّا يبدوَ الأمر صراعًا سياسيًّا بين متنافسين على سلطة، لأن ذلك لم يكن هدفي ولا غايتي أبدًا — لا اليوم ولا من قبل — بل هو عرض لمعاناة إنسان أراد أن يعيش كما ينبغي له أن يعيش، وهذا هو لبُّ المشكلة وجوهر المأزق.

الجلادون، ذِكْر أشخاصهم وأسمائهم بالتأكيد يسبِّب مزيدًا من الحقد والكراهية، وهذا ما أتجنبه في كل حين. أما الضحايا، فمن المؤكد أن كلماتي ليس بمقدورها أن تمنحهم الخلود، ولا تقوى على إسعاد أرواحهم مهما بالغتُ في كلمات الإطراء. ما ينفع حقًّا هو ألَّا تُعادَ هذه المشاهد المرعبة على أيِّ أحدٍ بعدهم مرة أخرى.

أمرٌ أخير قد يلحظه القارئ أثناء مطالعته — ولن يمرَّ عليه مرور الكرام — هو سرعة تبدُّل المشاعر بين الأسطر والصفحات؛ ولأني قررت أن أكتب مشاعري الحقيقية، لم أحفل بأيِّ تناقض قد يؤثر على بِنْية النص وجماليته؛ لأني أصلًا لم أفكر بكتابة رواية أطمع في نَيل الثناء عليها. هذا التناقضُ في المشاعر وتبدُّلُها السريع يجدر بالأطباء النفسيِّين والعلماء منهم أن يبحثوا فيه؛ لأنه واحدٌ من آثار كثيرة خلَّفَتها ظروفُ السجن والاعتقال الرهيبة، لا يجد السجين حتى بعد أن ينال حريته سببًا للخلاص منها أو السيطرة عليها. ختامًا أقتبس أبياتًا لناظم حكمت أهديها لوطني من محل الغربة الذي نُفيت إليه بإرادتي مكرهًا.

يا وطني يا وطني.
اهترأَت قُبَّعتي التي اشتريتُها من دكاكينك.
تقطَّع حذائي الذي حمل تراب شوارعك.
آخر قميص اشتريته في «بغداد»١ صار مُقطَّعَ الأوصال منذ زمن يا وطني.
لم يبقَ لديَّ منك سوى الشيب في شعري.
ما عندي منك غير خطوط من الهموم تعلو جبهتي.
يا وطني يا وطني يا وطني.
١  في النص الأصلي: «تركيا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤