تقديم

حين ألَّف ألكسندر فندلاي كتابه «الكيمياء في خدمة الإنسان» عام ١٩١٦، كانت ثمة حاجة ملحَّة للإعلانِ عن المنافع التي جلبتها الكيمياء للعالم ونَشْرِها. وبعد مرور تسعة عقود، ربما يأمل مَن يكتبون عن الكيمياء أن لو تحرروا من وطأة هذا العبء الثقيل. ولكن الأمر ليس كذلك؛ فرغم أهم ما أسهمت به الكيمياء في المجتمع — وهو إطالة العُمر بفضل الرعاية الصحية القائمة على المعالجة الكيميائية — فإن كلمات فندلاي لا يزال وقعها على آذاننا مألوفًا:

إن الناس بصفة عامة — بسبب جهلهم بالعلوم وفوائدها — ينظرون بعين الشك والارتياب تجاه أولئك الذين يستطيعون وحدهم توسيع نطاق صناعاتهم وزيادة كفاءة أعمالهم.

ليس من المُستَبْعَد غالبًا أن تكون نفس هذه النبرة الشديدة كامنة وراء الجهود التي تبذلها الصناعات الكيميائية ومؤيدوها في سبيل الدفاع عن الكيمياء ضد ما يوجهه إليها العامة من ازدراء واستهجان. لكن ثمة مشكلة؛ ففي حين تُؤخذ المواد الكيميائية التي تعود بالنفع على الناس على أنها أشياء مسلَّم بها بمجرد تداولها في الأسواق، فإن المواد الكيميائية الضارة تبقى في الأذهان لسنوات. لا أحدَ ينكر أن ما تبذله شركات الصناعات الكيميائية والحكومات من جهود للتنصل من مسئوليتها عن مآسٍ سببتها مواد كيميائية مثل الثاليدوميد والبوبال، أو كوارث قريبة مثل استنزاف طبقة الأوزون؛ قد قلَّلت كثيرًا من مصداقيتها وقدرتها على الدفاع عن نفسها وتبرير أعمالها.

ومن ثمَّ، فإننا ندخل القرن الحادي والعشرين ويراودنا شعور قوي بأن ما يُسمى «كيميائي» أو «اصطناعي» سيئ، وما يُسمى «طبيعي» جيد.

الحل التقليدي أن نضع قائمة بالمنافع التي منحتنا إياها الكيمياءُ، وهي قائمة طويلة بالفعل. لعلَّ الذين ينتقدون الكيمياء الصناعية يستمتعون بكثير من منتجاتها، ولكني أعتقد أن عبارة «الكيمياء في خدمة الإنسان» لم تَعُد الشيءَ الذي نحتاجه، وهذا لأسباب؛ منها أنها تُرسِّخ الانطباع بأن المشروعات العلمية والتكنولوجية ذات النظرة الأحادية الصلدة لديها التزام عمومًا بخدمة أغراضها الخاصة. فأي ثقافة، تبدو في أعين غير المنتمين إليها ثقافةً ذاتَ نظرة أحادية صلدة؛ ومن ثمَّ فمِن المحتمَل أن تكون لها مخاطرها. سيكون من الرائع أن يأتي اليوم الذي يدرك فيه عامة الناس ما يقع بين الكيمائيين من مجادلاتٍ شديدة حول إن كان يجب حظر هذا المنتج الكيميائي أو ذاك أو تقييد إنتاجه، أو اليوم الذي يدركون فيه الحقيقة القائلة بأن بعض الكيميائيين يعملون في منشآت عسكرية صارمة، بينما يعمل آخرون خارجها لأهداف مغايرة تمامًا. ربما سنبدأ حينئذٍ في النظر إلى العلم بوصفه نشاطًا بشريًّا.

لكنْ، ثاني أمر علينا أن نَعْلمه هو أن الكيمياء ليست مجرد شيء يمكن ترويضه أو تجنيده قسرًا لخدمة الإنسان؛ فالكيمياء هي ما تمنح الإنسان — رجلًا كان أو امرأةً — وسائرَ ما في الطبيعة، هويتَه المميزةَ. يصعب حاليًّا أن نتجاهل المفاهيم السلبية لمصطلحَي «كيميائي» و«اصطناعي»، لكن هذه المفاهيم لم تُلقِ بظلالها بعدُ على مصطلح «جزيئي». وربما نستطيع من خلال فهمنا لطبيعتنا الجزيئية البدءَ في تقديرِ ما تقدمه الكيمياء، فضلًا عن إدراك السبب في أن بعض المواد (طبيعيةً كانت أو اصطناعيةً) تصيبنا بالتسمُّم والبعض الآخر يشفينا.

لهذا السبب، يُحتمَل أن يعارضني بعض الكيميائيين لكتابة دليل عن الجزيئات، يركِّز بقدر كبير على جزيئات الحياة؛ أي على علم الكيمياء الحيوية. فما أردت أن أوضِّحه هو أن العمليات الجزيئية التي تتحكَّم في أجسادنا لا تختلف كثيرًا عن تلك التي ينشد الكيميائيون — وأفضِّل أن أسمِّيَهم «علماء الجزيئات» — استحداثَها. في الواقع، تزداد الحدود ضبابيةً؛ فنحن نستخدم بالفعل الجزيئات الطبيعية في مجال التكنولوجيا، كما نستخدم الجزيئات الاصطناعية في الحفاظ على ما نعتبره «طبيعيًّا».

لقد استفدتُ كثيرًا — في خضمِّ حديثِي هذا عن الجزيئات — من نصائح بعض الخبراء؛ وهم: كريج بيسون، وبول كالفرت، وجو هوارد، وإريك كول، وتوم مور، وجوناثان سكولي؛ الذين أتوجَّه إليهم بخالص الشكر والتقدير.

بدأ هذا الكتاب مسيرته، كما سيُنْهيها، بوصفه مساهمة في سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا» التي تصدرها مطبعة جامعة أكسفورد، وإنني لشديد الامتنان لِشيلي كوكس؛ لِمَا أبدته من تأييد لهذا الكتاب ساعد في إخراجه إلى النور خلال فترة قصيرة.

فيليب بول
لندن
يناير ٢٠٠١

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤