إعادة تعريف القرآن١

(١) إعادة تعريف القرآن

هذه هي المحاضرة الختامية في هذا البرنامج، أرجو ألا تكون الأخيرة، وهي بعنوان: إعادة تعريف القرآن. وأرجو أن أوضح أن هناك دائمًا لبسًا. إعادة تعريف القرآن ليست إعادة كتابة القرآن، وليست إعادة ترتيب القرآن. وإنما التعريف ينصبُّ على المفهوم، ماهية القرآن، وهو المفهوم الذي تنبني عليه كل نظريات التفسير والتأويل، وعملي كما رأيتم في المحاضرات السابقة هو محاولة الوصول إلى كُنه هذا التعريف المختبئ وراء الممارسات التأويلية والتفسيرية التي قامت بها كل الجماعات والفِرق في تاريخ الفكر الإسلامي حتى العصر الحديث. هناك محاضرة غائبة وهو اشتغالي على مناهج التفسير في العصر الحديث. بدءًا من تفسير المنار لمحمد عبده، وتفسير السيد أحمد خان في الهند، حتى ننتهي إلى ليس فقط في ظلال القرآن لسيد قطب، وإنما التفسيرات الأخيرة التي طُرحت سواء في الفضاء الثقافي الشيعي، أو الفضاء الثقافي السني. هذه محاضرة لم تُلق، لكن اليوم سوف أتعرض إلى بعض هذه الجوانب.

من النص إلى الخطاب: وهذه نقلة في التعريف، القرآن تم التعامل معه تاريخيًّا، وأنا تعاملت معه لفترة طويلة باعتباره نصًّا. وأنا الآن أكثر اقتناعًا — وهذا هو موضوع هذه المحاضرة — بأن التعامل مع القرآن من منظور أنه نص. فهذا التعامل أفضى إلى مجموعة من النتائج السلبية. في تاريخ التفسير قديمًا وحديثًا لا أستثني نفسي من هذا؛ لأني أنا جزء من الخطاب الثقافي.

قبل ما أبدأ هذه الرحلة، وهي رحلة أصطحبكم معي فيها إلى ما أسميه مع طلابي «المطبخ»؛ مطبخ عقلي. الباحث يعمل في المطبخ، يجمع المادة، يحلل المادة، يستنبط من المادة، ثم يطرح نتيجة هذا البحث في مقالٍ أو في كتاب صغير أو كذا، يطرحه في شكل وجبة. وهناك فارق شديد، كلكم تعلمون، وخاصة السيدات، الفارق بين الوجبة وبكل ما تتضمنه من شهية، وبين المطبخ وروائح البصل والثوم … وإلخ. أنا أريد قليلًا، أن آخذكم معي إلى المطبخ، وليس أن أعطيكم وجبة. السبب وراء ذلك أنني ما أزال في المطبخ. في مسألة الانتقال من مفهوم النص إلى مفهوم الخطاب لم تكتمل بعدُ بشكل أستطيع أن أقدم لكم وجبة. فمضطر أن آخذكم معي إلى المطبخ الذي أنا غارق فيه في هذه النقلة من النص إلى الخطاب.

قبل ذلك، أما قبل، عادة عبارة أما بعد. أما قبل هذه عبارة أنا مدين بها للمرحوم عز الدين إسماعيل، كان رئيس تحرير مجلة فصول، وكان يكتب مقدمة كل عدد من أعداد المجلة، وكل عدد مخصص لموضوع معين، يكتب مقالة بعنوان «أما قبل»؛ ذلك أن مقدمة أي مجلة أو أي كتاب تُكتب بعد أن ينتهي الباحث من الكتاب، وليس قبل أن ينتهي الباحث من الكتاب. فهنا «أما قبل» هي في الواقع «أما بعد»، ولكني أريد أن أطرحها قبلًا. وفيها أيضًا بلاغيًّا ما يسمى كسر التوقع. وأريد أن أتوقف دقيقة عند كسر التوقع، كسر التوقع إحدى الأدوات البلاغية الهامة جدًّا جدًّا في اللغة، والتي تبين في لغة الشعر وتبين في لغة السرد، وتبين في لغة القرآن، كسر التوقع. كسر التوقع مهمته إحداث الدهشة، ربما الصدمة، ذلك أن الشاعر أو الكاتب لا يخوض في المألوف والمعتاد، ولا يطرق الطرق المطروقة، وإنما يريد أن يقوم بمغامرة؛ الفن مغامرة، الكتابة مغامرة، البحث مغامرة. وحين نفقد مفهوم المغامرة يموت ما يسمى قوة البحث العلمي، ويموت ما يسمى قوة الإبداع الفني. الخطاب العام للأسف الشديد يجنح إلى النفور من المغامرة؛ لأن المغامرة قرينة إمكانية الوقوع في الخطأ. والوقوع في الخطأ لم يعد كما كان في التراث العربي، وكما هو في كل الفكر الإنساني الوسيلة الوحيدة إلى الصواب، وإنما الخطأ في تصورنا هو الوسيلة إلى الهلاك. وننسى هنا أن اليقين يقع بين شكين؛ شك يؤدي إلى اليقين، ثم يقين لا بد من الشك فيه أيضًا، وهكذا تطور المعرفة. النظرية العلمية تقول إن النظرية العلمية هي النظرية القابلة للدحض، كل إثبات يقابله دحض.

أما قبل فأنا أحاول أن أستخدم هذا التكنيك، أما قبل فسأتكلم فيما بعد: أنا باحث ولست صاحب مشروع فكري، ليس هذا تواضعًا وإنما هو وصف لما أقوم به. مع احترام وتبجيل لكل أصحاب المشروعات الفكرية. باحث مشغول بالأسئلة، ينقله سؤال إلى سؤال آخر، وحين تتوقف الأسئلة في ذهني أعتبر أن هذه شهادة موت. حين يتوقف العقل عن التساؤل، يختفي العقل. لست صاحب مشروع فكري، ليس عندي مشروع فكري منظم، وله بداية، وله نهاية، وله أهداف، واستراتيجيات، وبالتالي له تكتيكات للوصول إلى الاستراتيجية. ومن هنا كما ترون أنني انتقلت من مفهوم النص الذي كنت أحد الذين تبنَّوا هذا المفهوم ودافعوا عن هذا المفهوم. أنتقل الآن إلى مفهوم الخطاب كنوعٍ من النقد الذاتي، ونوع أيضًا من النقد المعرفي للمفاهيم. وليس معنى ذلك أن ما أنتقل إليه هو الصواب الكامل، الصواب الكامل سنصل إليه، تلامذتي يصححون، وأنا أومن بالمستقبل؛ لذلك أنا فخور جدًّا أني معلم أكثر مني باحثًا، كان لنا أستاذ عليه رحمة الله يقول: «نحن معلمو صِبْية.» وأنا فخور جدًّا بهذا الشعار، إنني معلم صِبْية.

لكن أُعلم الصِّبْية كيف يفكرون، لا كيف يتلقَّون المعرفة الجاهزة، حتى مني. إذا لم يكن بين طلابي من هو قادر على تجاوُز أفكاري، فهذا فشل مروع من جانبي. وهذا هو الفشل الذي تعيشه المؤسسات الأكاديمية في مجتمعاتنا. لست صاحب مشروع فكري، إنما أنا باحث، ربما بعد أن أنتقل إلى ملكوت الله يجد البعض فيما كتبته من أبحاث مشروعًا فكريًّا. ربما، لكن ليس عندي مشروع فكري، من البداية، أريد أن أصنع كذا وكذا وكذا. لست نبيًّا، أصحاب المشاريع الفكرية أحيانًا يكون عندهم مهمة رسولية، وأنا لا أدَّعي هذا.

كما طرحت في المحاضرات السابقة، انطلقت أبحاثي من السؤال. السؤال الأول ومن نتائج البحث الأول يتولد سؤال آخر، فيتم الدخول في منطقة ثانية من البحث وهكذا. من نتائج البحث الأول تتولد أسئلة جديدة هي التي يمكن أن تُتبع في الأبحاث الأخرى؛ لذلك من الصعب أن يقرأ شخص آخر بحثًا لي، دون أن يدرك هذا التتالي في الأسئلة، والتوالد من الأسئلة. يمكن جدًّا أن يُصدر أحكامًا على النتائج التي جاءت في البحث.

السؤال الأول كان حول المعنى الديني، بؤرة المعنى الديني. كما طرحت لكم؛ السؤال الأول كان: عن مفهوم المجاز في القرآن عند المعتزلة، يعني لماذا حاولتْ هذه الفرقة الإسلامية أن تعيد النظر في المعنى الديني، وهي تعيد النظر في المعنى الديني بلورتْ مفاهيم، وبلورتْ وسائل. وهذه الوسائل وسيلة مهمة جدًّا عند المعتزلة وعند الفلاسفة، بعد ذلك كان هو مفهوم المجاز. المجاز هو أداة التأويل، لكن كان على المعتزلة أن يخوضوا في الحاجة إلى التأويل، هذا هو السؤال الأول. انتهيت من بحث المعتزلة فتساءلت هؤلاء هم المعتزلة وهؤلاء هم الأشاعرة، وقد تنازعوا حول المعنى الديني؛ نزاعًا وصل إلى حتى المبنى حين يقسِّم القرآن إلى محكم ومتشابه حسب نظرية المتكلمين، وحين يكون المحكم في نظر المعتزلة هو المتشابه في نظر غير المعتزلة. إذن دخلنا في اختلاف في المبنى وليس اختلافًا في المعنى. وكانت النتيجة هذا السؤال. هذا النزاع حول المعنى ما أسبابه، وما نتائجه؟ نزاع حول بؤرة المعنى الديني الإسلامي — وأنا أقول الإسلامي؛ لأن أحد الأصدقاء قال إنه لازم حين تذكر الديني تقول الإسلامي لأن فيه ديني مسيحي لذلك عملت التخصيص المعنى الديني الإسلامي — لماذا يكون النزاع حول المعنى، يتمركز هذا النزاع حول المعنى في النص القرآن/الوحي. بؤرة المعنى الديني؛ لأن القرآن/الوحي.

وهنا لن أدخل في مشكلة ما إذا كانت السنة وحيًا يساوي القرآن أو لا، هذه مشكلة أخرى. لذلك أنا أستخدم القرآن واستخدم الوحي من أجل ألا أدخل في هذا الخلاف الآن. القرآن/الوحي معطًى أولي في الثقافة العربية الإسلامية، وبالتالي لا يمكن لأي صياغة للمعنى، حول معنى الحياة أن يتجاهل هذا المعطى الأولي. بطريقة أخرى أريد أن أقول، إنني مشغول بمعنى الحياة وليس فقط بمعنى النص الديني، لكن معنى الحياة شديد الترابط، ولا يمكن فصله عن المعنى الديني، لكني مشغول بمعنى الحياة؛ لأني وأنا أدرس المعتزلة كنت أنظر إلى معنى الحياة الذي يُعاد تشكيله في مصر، وطننا الحبيب، معنى الحياة كان يُعاد تشكيله بين الستينيات والسبعينيات، ثم أعيد تشكيله مرة أخرى في الجمهورية الثالثة. أنا عندي ثلاث جمهوريات في تاريخ مصر المعاصر؛ الجمهورية الأولى والجمهورية الثانية والجمهورية الثالثة. وربما نشهد الجمهورية الرابعة إذا طال العمر، في كل جمهورية تم تغيير المعنى. سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًا ودينيًّا، فإذن النزاع حول المعنى هو نزاع في التراث، وهو أيضًا الآن يصل إلى نزاع عنيف حول المعنى.

القرآن معطًى أولي، لا يمكن لأي بحث حول معنى الحياة في أي مجتمع من المجتمعات التي تسكنها أغلبية مسلمة أن يصوغ معنًى خارج هذه البؤرة المركزية للمعنى.

الدراسات القرآنية هذا تخصصي، مع سؤال المعنى أصبحت متخصصًا في الدراسات القرآنية كنوع من التركيز. الدراسات القرآنية علوم بينية، يعني إذا قرأت فقط الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، أو البرهان في علوم القرآن للزركشي، أو قرأت كل التفاسير، أو قرأت كل التراث، هذا لا يجعلك متخصصًا في الدراسات القرآنية؛ لأن الدراسات القرآنية تتطلب دراسة ما قبل القرآن، التاريخ، المجتمع، المجتمع الواسع جدًّا جدًّا، مجتمع الجزيرة العربية، علاقة مجتمع الجزيرة العربية بالعالم؛ قريش، مكة، المدينة. وهذه تحتاج إلى علوم كثيرة جدًّا. أنا هنا لا أقوم بهذه العلوم، هذا ادعاء أعوذ بالله منه، إنما أنا أعتمد على نتائج الدراسات التي تُقام على هذا السبيل، ما قبل القرآن.

الفضاء الدلالي للقرآن: وهو دخول في عالم النص، وفي بِنية النص، وفي تركيب النص دون إغفال ما قبل القرآن، ثم ما بعد القرآن: وما بعد القرآن؛ كيف صاغ علماء الإسلام بعد القرآن نظريات وفلسفات منشؤها القرآن كفضاء للمعنى، ومنشؤها الواقع الاجتماعي الذي يعيشون فيه كفضاء للنزاع حول المعنى. كل النزاع حول المعنى كان لا بد لكل الفِرق أن ترتد إلى القرآن.

وهذا يؤدي إلى تأسيس نظرية في التأويل حدثت كما أشرت عند المعتزلة وعند الصوفية وعند الفلاسفة. ونحن بحاجة الآن لتأسيس نظرية للتأويل قائمة على هذه الدراسات القرآنية في علاقتها بالعلوم البينية، ليست فقط علوم اللغة والبلاغة، وإنما علم الاجتماع والأنثروبولوجي، وتاريخ الثقافات … إلخ. ليست عندنا دراسات قرآنية بالمعنى الذي أتمناه في مؤسستنا.

مفهوم النص

هناك ما أسميها المخاتلة الدلالية، الخداع الدلالي، والمخاتلة ليست خداعًا مقصودًا، وإنما هي بين الخداع المقصود وبين اضطراب الفهم. من أجل هذا أسميتها المخاتلة الدلالية. معنى كلمة نص في التراث غير مفهوم النص في الدراسات الحديثة، أو في الفكر الحديث. كلمة نص في التراث تدخل في متتالية من الكلمات الدلالية، تبدأ بالنص، الواضح، المؤول، الغامض، المتشابه. فالنص أحد الأبعاد الدلالية. «النصوص عزيزة» هكذا يقول القدماء جميعًا، علماء الكلام والتصوف وعلماء أصول الفقه، النصوص بهذا المعنى، النص هو الواضح وضوحًا جليًّا يُفهم بمجرد أنك تعلم اللغة، يعني جميع الناس تفهمه، تفهم المعنى المباشر لمجرد أنهم يتحدثون اللغة. هذا هو النص. «النصوص عزيزة» أي نادرة. هناك تقسيم للنصوص إلى قطعي وظني. القطعي والظني يتراوح بين بُعدين. قطعي الثبوت أو ظني الثبوت، هذا بُعد. وقطعي الدلالة وظني الدلالة. قطعي الدلالة وهو النص، ولا أريد أن أدخل في التعريفات الكثيرة جدًّا لمعنى القطعي ومعنى الظني، ومعنى الثبوت ومعنى الدلالة. هذا التمييز الرباعي، هذا تقسيم رباعي وليس تقسيمًا ثنائيًّا؛ لأن النص قد يكون قطعي الثبوت ظني الدلالة، لا يمكن أن يكون ظني الثبوت قطعي الدلالة؛ لأنه لو كان ظني الثبوت، يعني وصلنا من طريق ظني؛ فلا يمكن أن تكون الدلالة على هذا المستوى من الثبوت. قطعي الثبوت قطعي الدلالة هو النادر جدًّا، حتى إن السيوطي — القرآن طبعًا كله في منظومة الفكر الإسلامي قطعي الثبوت، لكن ليس كله قطعي الدلالة — السيوطي وهو في القرن الحادي عشر يقول: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ ليس قطعي الدلالة، لماذا؟ لأنك لا بد أن تفترض محذوفًا في الكلام حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وما دام هناك محذوف في الكلام تنتفي قطعية الدلالة.

كما قلت كلمة «نص» تقع في هذا المحور، النص، الواضح، المؤول، الغامض أو المشكل، المتشابه. يعني بين قطبين؛ الوضوح التام والغموض التام، بينهما درجات من الوضوح والغموض. من هنا عبارة «لا اجتهاد لما فيه نص»، هذه عبارة تراثية لا يمكن أن تُفهم إلا من خلال كلمة النص في التراث، لكن تُقال أحيانًا ويُقصد بها القرآن كله، ويُقصد بها السنة كلها. هذا هو الذي أسميه التلاعب الدلالي، المخاتلة الدلالية. هي عبارة صحيحة في سياق الدلالة التراثية، ولا بد أن يوضع أيضًا جانبها «النصوص عزيزة». لا تُطلق وحدها هكذا في الفضاء، فيتوهم المستمع أو يتوهم المتكلم أن كل القرآن ليس فيه اجتهاد، وأن الاجتهاد إنما يكون في الفقه وفي آراء الفقهاء … إلخ. هذه مخاتلة دلالية وخداع دلالي ناتج عن عدم التمييز بين مجال الدلالة اللغوية لهذه الجملة، وبين مجال فهمنا الحديث حين نقول النص. نحن نُطلق النص على كتاب كامل؛ النص القصصي، النص الشعري، النص القرآني. حين نقول النص القرآني نتحدث عن مُجمل القرآن.

وأنا أقترح الانتقال من النص إلى الخطاب؛ لا بدَّ أن أضع تعريفات أولية للفرق بين النص وبين الخطاب. النص بنية مستقلة بذاتها، بنية كاملة مستقلة بذاتها، تتضمن مفهوم المؤلف، القصد، والقارئ الضمني. ولا يجب أن تستبعد مفهوم الفضاء الثقافي اللغوي الذي يُسمى السياق. لكن هناك مؤلف وهناك قصد. نفترض أن المؤلف يمتلك قصدية ما من تأليف هذا النص ومن إذاعة هذا النص ومن نشر هذا النص. لكن المؤلف، وقصدية المؤلف لا تعمل في فراغ، تعمل في الفضاء الثقافي اللغوي الذي ينتمي إليه المؤلف، وتخيل كاتب النص للقارئ الذي سيقرأ الكتاب. هذا يُسمى القارئ الضمني؛ لأن كلًّا منا، وهو يكتب، في ذهنه القارئ الضمني، سواء اعترف بذلك أم أنكر.

النص يتضمن مفهوم التناص (intertextuality) ليس هناك نص ينبع من فراغ كامل، وفراغ تام. إذا طبَّقنا هذا المفهوم على القرآن، سنجد أنفسنا في مشكلات لاهوتية، في مشكلات لغوية كثيرة جدًّا. لا نستطيع أن نقول إن الله هو مؤلف القرآن. الله مُتكلم بالقرآن، القرآن كلام، قول، وحي، تنزيل، هُدًى، بيان، يعني في تعريف القرآن بنفسه هناك تعريفات كلية، وهناك تعريفات وظيفية. وكلها تحولت إلى أسماء، التعريف الوظيفي أنه هدًى وأنه بيان. التعريف الكلي أنه قرآن، أنه كلام، أنه وحي. مفهوم التناص معناه أن هذا النص له علاقة بالنصوص السابقة عليه، سواء على مستوى البنية أو على مستوى التناص. في القرآن؛ القصص القرآني، في معظمها، هذه القصص القرآنية توجد في العهد القديم. ومشكلة التناص هي التي دفعت الباحثين الغربيين إلى أن ينشغلوا بهذه المشكلة منذ القرن السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر والتاسع عشر. ماذا أخذ القرآن من العهد القديم؟ وما هي الأخطاء — هكذا يقول المستشرقون — التي وقع فيها القرآن أو محمد حين ربط بين أحداث تاريخية لا رابط بينها وفقًا لنظريتهم؟ هذا البحث كله قائم على أن القرآن نص أيضًا. وفهم القرآن باعتباره نصًّا لا يدرك مثلًا أن القصص القرآني، في النص القرآني باستثناء سورة يوسف مُشتت في السور. القرآن لا يسرد القصة، قصة موسى وفرعون، أو قصة نوح، لا يسردها سردًا كليًّا في سياق كلي واحد. لم يتنبه الفكر، حتى المستشرقون لهذا، ولم يتنبه الكثير من المفكرين المسلمين الكلاسيكيين لهذا. وحاولوا أن يعيدوا ترتيب القصَّ القرآني بجمع هذه المتناثرات مع بعضها لكي يرَوا أو يقوموا بمقارنة بين القصص القرآني وبين القصص التوراتي. لم تُدرس هذه الظاهرة إلا مع تلميذ أمين الخولي، ومحمد أحمد خلف الله في «الفن القصصي في القرآن». وفي «الفن القصصي في القرآن» يقف محمد أحمد خلف الله متأثرًا، ضد هذا الموقف الاستشرافي، ويقول: إن كل وحدة سردية وردت في سورة هي وحدة سردية مستقلة قائمة بذاتها، وإن محاولة أن تجمع هذه الوحدات السردية لتبني منها وحدة سردية متكاملة، أنت تحاول أن ترد القرآن إلى التوراة. وهذا يطرح سؤالًا مهمًّا جدًّا، ليس عندي إجابة عنه، ونخاف من طرحه. سيأتي هذا السؤال في سياقه.

•••

الخطاب: بنية تحاورية، تجادلية، سجالية، تستدعي سياقات وليس سياقًا واحدًا، تتضمن المتكلم: والمتكلم في الخطاب متعدد الأصوات، كلمة صوت لا تعني المتكلم بالمعنى اللاهوتي، المتكلم بالمعنى اللاهوتي هو الله بالقرآن، لكن تعدد الأصوات داخل النص القرآني، ليس معناها تعدد الآلهة التي قال القرآن. مفهوم الصوت هنا هو مفهوم لغوي سيميولوجي يتحدث عن تعدُّد الأصوات داخل أي بنية سردية، وسنرى إلى أي حد ينطبق على القرآن أنه بنية سردية. فهنا تعدد الأصوات، وسأطرح أمثلة لتعدد الأصوات، هناك لا بد لدراسة الأصوات دراسة المخاطب أو المخاطبين، نمط الخطاب: هل الخطاب تهديد، هل الخطاب بشرى، هل الخطاب تقرير، هل الخطاب اعتراض، هل الخطاب نفي، هل الخطاب إزاحة؟ كل هذه آليات الخطاب، فحوى الخطاب يدخل فيها مستويات كثيرة جدًّا، ما يقوله الخطاب، وما المسكوت عنه في الخطاب ويُستنبط بالفحوى، ثم تأثير الخطاب على المتلقي ورد فعل المتلقي.

مثال لتعدد الأصوات: سورة اقرأ (العلق) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الكاف طبعًا هي كاف المخاطب الأول محمد رَبِّكَ الخطاب هنا يُقدم رب محمد لمحمد الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ المقدس في صيغة الغائب، المخاطب في صيغة المخاطب والصوت الذي يتحدث هو صوت ثالث، أحذِّر من الدخول في المناطق اللاهوتية، صوت ثالث يعني من؟ ممكن يكون جبريل. حين يقول القرآن إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا هذا هو الصوت المقدس، لكن حين يكون المقدس مُشارًا إليه بضمير الغياب، فيكون صوت المقدس حاضرًا من خلال أصوات أخرى.

•••

سورة الفاتحة: صوت المتكلم هو الإنسان، في كل نصوص الابتهالات والأدعية في القرآن، صوت المتكلم هو صوت الإنسان. والمقدس مخاطب، يمكن أن يكون في صيغة الخطاب، ويمكن أن يكون في صيغة الغياب. الغائب الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أنا المتكلم والمقدس غائب الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّين * إِيَّاكَ انتقلنا من الغياب إلى المخاطب، طبعًا القرآن كله كلام الله، لا أريد أن أؤكد هذه المسألة، وكأني أدافع عن التحليل العلمي الذي أقوله، تحليل الأصوات هنا من داخل الخطاب، تعدد الأصوات داخل النص اسمه في البلاغة شيء آخر، اسمه الالتفات. والالتفات هو أن يكون نفس الشخص، لكن يتغير الضمير فجأة. النص السردي، والقرآن نص سردي بامتياز، نص يتميز بتعدد الأصوات، أصوات الكافرين موجودة في القرآن، قالوا، أصوات المنافقين موجودة في القرآن. وهنا تأتي خاصية الجدل وخاصية السجال، وهي خاصية من خصائص الخطاب.

المخاطَبون في القرآن كثيرون، المشركون، أهل مكة، بنو إسرائيل، أهل الكتاب، اليهود. يعني ممكن أن يكون أهل الكتاب بصفة عامة، يمكن أن يكون اليهود، النصارى. تعدد المخاطبين، وتعدد أصوات المتكلم يؤدي إلى نوع من التعقد في بنية الخطاب.

نمط الخطاب كما قلت، وفحوى الخطاب. أضرب مثالًا على مسألة خلافية: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (١٧/الإسراء: ١٦) كل الخلاف اللاهوتي حول «أمر»، وهل هي من الثلاثي أم من الرباعي، لم يُتأمل الخطاب، الخطاب تهديد لأهل مكة. وفي خطاب التهديد لا يمكن أن تحول الخطاب إلى مقولات لاهوتية. وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ هذا خطاب واضح قوي. فحوى الخطاب وتأثير الخطاب. الذين آمنوا واتبعوا محمدًا عليه السلام، لم تصعقهم صاعقة من السماء فآمنوا، دخلوا في حوار، وفي جدل، وفي صخَب. وصياغة الخطاب القرآني كان لها هذا التأثير اللغوي طبعًا، كان لها هذا التأثير. فالإيمان هنا ليس اختيارًا قائمًا على غير نمط من أنماط التعقل، إنما في شكل من أشكال التعقل.

هذا كله مقروء في القرآن، في القرآن المكي، وفي القرآن المدني على السواء. تعدد الأصوات قائم من أن القرآن يقوم بنقل الأصوات، الأصوات الأخرى، من أجل الدخول معها في علاقة تحاورية — وهذا هو الخطاب — سجالية، إزاحة، نفي. كل هذه هي آليات الخطاب في التعامل، وسنأتي بعد ذلك إلى كيف تعامل القرآن مع المؤمنين مثلًا، هناك جدل مع المؤمنين، مثلًا: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ، يَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ، كل ما هو تحت يسألونك، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ السؤال يدخل في أي مناطق، من المحيض، إلى ذي القرنين، إلى الأهلة. إذن هناك خطاب في الواقع، الخطاب القرآني يتعامل معه، ويتحاور معه، أو يُلغي السؤال، مثل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ.

كل هذا يرشح في تقديري مفهوم الخطاب وليس مفهوم النص. في الجدل مع أهل الكتاب، في الجدل مع المشركين. قضية الإعجاز نشأت مما يسمى آيات التحدي، وهي اتهام مشركي قريش، اتهامات عدة؛ إنك ساحر، شاعر، فينفي القرآن، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ ولا نأخذ هذا، نظرية في الشعر من القرآن، هذا هو المجال الخصب أن هؤلاء العرب يعرفون الشعر، يعرفون سجع الكهان. وقد سمعوا خطابًا لم يقولوا لمحمد ليس من الأفق الأعلى، وإنما كما يقولون: لا بأس، أنت شاعر آخر، أنت كاهن آخر. ولما تأثير الخطاب وصل أقصاه قالوا «ساحر». والرواية التي تُروى معروفة ومشهورة، عن سحر لغة القرآن، تأثير اللغة، ونحن نسمع هذه المرويات ونعجب بها، ولكن لا ندخل في تحليل هذه المرويات.

الخطاب مع اليهود، مع أهل الكتاب، ومع اليهود، وهو خطاب يتضمن نقل قول اليهود، طوال الوقت، الخطاب مع أهل مكة كان خطابًا يقوم على هذه المجادلة، حتى وصلوا أن قالوا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا، فرد فعل القرآن، محاجة القرآن تحدي، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ هو التحدي. سألني طالب يومًا، وهذا سؤال لم أجب عنه حتى الآن: «يعني إيه يا أستاذ مثله؟»فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، كيف يأتون بمثل القرآن إلا القرآن نفسه؟ ليس هناك مماثلة، لا تستطيع أن تقلد أسلوبًا. وأصارحكم القول، الحل الذي توصلت له أن القرآن يتحداهم كنوع من التحدي الملزم، لا يمكن لأحد أن يأتي بمثل أي شيء. لو شاعر كتب قصيدة عبقرية، تحدى بها الشعراء، وقال اكتبوا قصيدة مثلها، كيف يكتب قصيدة مثلها؟ لازم يكتب قصيدة ثانية، ربما تكون على نفس المستوى، لكن مثلها لا يمكن. هذا مستحيل لغويًّا، هنا التحدي تتصاعد نغمته في القرآن، إذا رتبنا آيات التحدي حسب ترتيب السور، تتصاعد نغمته كأن النص أو الخطاب يحاول أن يفرض هيمنته. العرب حاولوا، لكن قالوا كلامًا آخر ليس له علاقة بالقرآن. لا يمكن إنتاج خطاب مثل خطاب. مَنْ علَّمنا هذا؟ الشيخ عبد القاهر الجرجاني: «لا نظم يشابه النظم إلا أن يكون تكرارًا له.» لو أخذت تركيب الجملة، ورفعت كلمة، ووضعت كلمة «فهو نظم آخر». فحين يقول بمثله، بمثله تأثيرًا، بمثله تقبلًا، مفتوح المعنى على «بمثله». وهذه من بركات أن يكون الإنسان معلمًا، ويجد طلبة يسألونه أسئلة لا يعرف إجاباتها. هذا السؤال سُئلتُه منذ أكثر من عشرين عامًا، لكنه لم يفارق ذهني، وأنا أذكر هذا الطالب، لا أذكر اسمه، ولكن أذكر شكله وملامحه، وهو يسأل ببراءة شديدة جدًّا: «يعني إيه يأتون بمثله يا أستاذ؟» فقلت له «يا بني لا أعرف.»

الخطاب مع أهل الكتاب أكثر تعقيدًا. من هذا، كل خطاب نص وليس كل نص خطابًا، لكي أميز الخطاب أميز علامات الخطاب، المتكلم المتكلمين، الأصوات المخاطب المخاطبين، فحوى الخطاب، نمط الخطاب، تقسيم القرآن إلى خطابات، هذا عمل مطلوب. لكن حين يتحدد الخطاب، وتتحدد عناصره يكون التحليل تحليلًا نصيًّا؛ لأنه في النهاية خطاب في اللغة، لكن ليست بنية القرآن كله بنية نصية.

مصادر صياغة مفهوم النص

علم الكلام: سأمر على هذه المسائل بسرعة؛ لأن مصادر صياغة مفهوم النص هي المصادر التي تحدثت معكم عنها في المحاضرتين السابقتين؛ علم الكلام والفلسفة يقفان عند المتكلم. ومفهوم الكلام الإلهي، هل هو من صفات الذات أم من صفات الفعل؟ يعني يقف عند مفهوم مؤلف، لكن المتكلم القديم أوعى من أن يستخدم كلمة مؤلف؛ لأن كلمة تأليف في اللغة العربية تعني أن يأتي بشيء من هنا وشيء من هنا ويؤلفه. لكنه وقف عند المتكلم كبؤرة الدلالة، وليس عند الخطاب كبؤرة الدلالة. من هنا فإن علم اللاهوت كله دخل في هذه المسألة، صفات الذات، هل الصفات عين الذات، أم غير الذات، وهل الكلام فعل أم صفة ذاتية، والخلاف بين المعتزلة وخصومهم حول هذه القضية؛ لأن الكلام لو هو صفة إلهية فهو قديم؛ لأن الصفات الذاتية الإلهية قديمة. وإذا قال قديمة، فهذا يدخلنا في مفهوم اللغة القديمة … إلخ.

القصدية: مادام هناك مؤلف لا بد أن نبحث عن القصدية، هل نصل إلى قصدية الكلام مسبقًا؟ بفهم المتكلم، هكذا قال المعتزلة، وهكذا يقول الفلاسفة. لكي تحكم على الكلام بأنه صادق أو بأنه كاذب، لا بد أن تعرف المتكلم. لاحظوا أن المعيار هنا يخالف أشياء أخرى في التراث الإسلامي، فأنت تعرف الشخص، القصد، المتكلم، فإذا وثقت في قصد المتكلم فيكون أي كلام يصدر عن المتكلم صادقًا، القصدية معرفة عقلية مسبقة، في فكر المعتزلة وفي فكر الفلاسفة. ولكن في فكر خصوم المعتزلة والفلاسفة أن القصدية تُعرف من الكلام، أن القصد لا يمكن الوصول إليه إلا من تحليل الكلام. والفكر الحديث كله يقول هذا، أنا لا أعرف قصد المؤلف ماذا، أنا أحلل الكلام فيمكن أن أصل إلى ما يسمى القصدية، ولكن القصدية لا تتماثل تماثلًا كليًّا مع القصدية الذهنية في عقل المؤلف، قبل أن يكتب. أنا أحاول طرح الخلافات القديمة في صيغة حديثة، وهذا ما قلت عنه في الأول: «إنني سآخذكم معي إلى المطبخ».

اللغة: هل هي وضعية اصطلاحية أو توقيفية إلهية، فإذا قلت إن الكلام من صفات الذات، فالكلام لا يفارق الذات، والكلام لغة، فاللغة مصدرها القِدم، ليست وضعية اصطلاحية. طبعًا كل علماء المسلمين قالوا، لكن البشر تواضعوا بعد ذلك، ولكن بناءً على هذه اللغة الأصلية التوقيفية؛ لأن ظاهرة تعدد اللغات، وتعدد مستويات العلاقة بين الدال والمدلول، لم يكن لأي مفكر لغوي أن يتجاهل هذا التعدد. فقالوا إن هناك لغة قديمة هي اللغة الإلهية، وبناءً على اللغة الإلهية يسهل استنباط أخرى، كأن تُعلِّم طالبًا تقول له Man في الإنجليزي تعني رجلًا في العربي، فأنت لا تحتاج إلى إشارة، ولا أن تحضر له الرجل أمامه كي يتعرف عليه.

مبدأ التأويل: عند المعتزلة وعند الفلاسفة قائم على جدلية الوضوح (المحكم)، وعلى جدلية الغموض (المتشابه). وهذا أسميته ليس نزاعًا فقط حول المعنى بل نزاع حول المبنى، ما وصلت إليه في دراسة هذا الجزء. فهذا الخطاب، وهو الآية السابعة من سورة آل عمران، وهي خطاب مستقل. إنها سجال مع النصارى، ذلك أن القرآن يتحدث عن عيسى ابن مريم بوصفه كلمة الله وروح الله، وهذا من منظور اللاهوت المسيحي — الدكتور يوسف خبير في اللاهوت الآن — يعني أبو زيد؛ يوسف زيدان — من منظور اللاهوت المسيحي اتفاق مع الأرثوذكسية. لكن أن يقال إن عيسى مخلوق، هذا يتناقض مع المسيحية الأرثوذكسية في هذا العصر. وفيه جدل حدث بين نصارى نجران، الذين أتوا إلى الرسول في المدينة، وجادلوه في هذا الأمر. هنا الطبيعة السجالية والجدلية في القرآن تتجلى، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ، فما هي مشكلتكم؟ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ. لكن في نفس الوقت نعرف أن القرآن أفاض في الميلاد المُعجزي لعيسى عليه السلام. وهذا يجعلنا نعطي أهمية بالغة لسياق السجالية والجدالية. ويأتي موقف ثانٍ يرويه ابن إسحاق، وأنا هنا آخذ الرواية فيما يسمى جوهر الحدث وليس تفاصيل الحدث؛ لأن ابن إسحاق يصف هؤلاء الرهبان الذين أتوا إلى محمد أنهم كانوا يعرفون تمامًا بأن محمدًا على حق، وأن القرآن على حق، لكن مصالحهم لم تكن تمكنهم من الاعتراف بهذا الحق، هذا ابن إسحاق. إنما الجدل يبدو أنه وصل إلى أن القرآن يمارس سلطته النصية في أن يقول: فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ (٣/آل عمران: ٦١) إلى آخره ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ، أنا لو قسيس، الحقيقة؛ أخاف، سأُرعب، هذا تحدٍّ مُرعب. تحليل الخطاب هنا يضع المخاطَب؛ لأن الخطاب هنا يتوجه لمخاطَب. وانسحبوا وأعطوا الجزية، فكيف يمارس الخطاب هذا في الجدَل؟ بعد هذا، أو في وسط ذلك، خطاب آخر يقول إن هذا الفهم الذي فهمه نصارى نجران أو غيرهم. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ (٣/آل عمران: ٧)، الآية ببساطة تقول إن هؤلاء الناس من نصارى نجران، فهموا كلمة «كلمة»، وكلمة «روح» فهمًا غبيًّا؛ لأنهم في قلوبهم مرض، «زيغ»، هذا متشابه. إذن، تعميم المتشابه والمحكم على عموم القرآن، هو ناتج من تصور القرآن كنص وليس كخطاب. الطبيعة الخطابية. الآية في سورة آل عمران، وسورة آل عمران طبعًا في معظمها تركز على النصارى.

صديقة وأستاذة ألمانية — أظن الدكتور يوسف يعرفها — «أنجليكا نويفرت» تقول لي: «لأ يا نصر، هذه الآية هي رد على المجمع المسكوني.» المجمع المسكوني في القرن الرابع. فأقول لها: يا أنجليكا، كيف وصلت قرارات المجمع المسكوني إلى الجزيرة العربية؟ هذا هو السؤال؛ لأنها مشغولة ﺑ intertextuality خاصة قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ ردٌّ على المجمع المسكوني، عليكِ أن تثبتي أن قرار المجمع المسكوني كنص وُجِد في الجزيرة العربية. مسألة التناص معناها أن القرآن كُتب، القرآن مجموعة من النصوص، ودخل فيه مجموعة من النصوص، التناص على مستوى آخر موجود، ولكنه التناص على مستوى الخطابات، وليس على مستوى النصوص. في مفهوم النص أداة التأويل هي المجاز في التعامل مع القرآن. والمجاز أداة قاصرة؛ لأنها أداة ترتبط في الغالب بالجملة، ومن هنا قلت عن انفتاح المعنى عند المتصوفة؛ لأنهم انتقلوا من المجاز إلى الرمز، ونظروا إلى القرآن كسياق سردي.

علم أصول الفقه — مرة أخرى نحن في المطبخ — البحث عن المقاصد، لكن المقاصد التشريعية؛ لأن مفهوم المقاصد الكلية كيف تُجرد معطيات هذا النص الغنية، والمليئة بالاحتمالات، كيف تجردها في النهاية للمقاصد الكلية التي تحدَّدت في خمسة مقاصد كلية عند علماء الأصول. لكن علم أصول الفقه خلافًا لعلم الكلام والفلسفة، كان مدركًا لطبيعة الخطاب، مدركًا؛ لأن هناك أسبابًا للنزول لا يمكن أن يتجاهلها في الدراسة التشريعية للنص القرآني. في أسباب النزول كان هناك سؤال: هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ أي هل نراعي في فهم الآية السياق الذي نزلت فيه، ويتحدد المعنى على هذا، أم السياق مجرد مناسبة، وننظر إلى اللفظ نفسه؟ ألفاظ اللغة بشكل عام هي ألفاظ تميل إلى التعميم، اللغة بشكل عام محدودة الألفاظ، يعني إذا أنت قلت: «أنا رأيت في الشارع سيارة حمراء قتلت طفلًا» تصلح هذه الجملة في آلاف الشوارع وآلاف السيارات تقتل طفلًا. ولا يمكن للغة أن تصل إلى التخصيص التام، إلا بما يسمى اللغة الرثة. اللغة عمومًا تعتمد على هذه الجدلية بين أن تُخصص وتُعمم، فكان السؤال: هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟ وانتصر مفهوم عموم اللفظ على خصوص السبب. وإن كان الشافعي يعطي بخصوص السبب في بعض الحالات أهمية، في بعض الحالات لو أَخذت بعموم اللفظ تقع في مشكلة.

المكي والمدني، إدراك لما يسمى ترتيب النزول.

العام والخاص، الناسخ والمنسوخ: هنا العام والخاص يخرج من سياق الخطاب ويدخل في سياق النص؛ لأن علماء الأصول يرون أن ما هو عام في سياق، خُصص في سياق آخر. يرون مثلًا أن إباحة الزواج من كتابيات؛ هنا خلاف: هل هو عام أم خاص؟ لأن هناك نصًّا آخر يقول وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ، وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا، وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وهنا علم أصول الفقه من العلوم التالية على القرآن، عمَّم مفهوم المشركين على أهل الكتاب. والبعض اعتبر أن هذه الآية عامة، لكن خُصصت بإباحة الزواج من الكتابيات. فالعام في سورة والمخصِّص في سورة أخرى، ما هي مشكلة هذا العام والخاص؟ مشكلة هذا العام والخاص في القرآن الآية التي بها الإباحة تبدأ ﺑ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وليس هناك عموم أكثر من هذا: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ. وأهم مظاهر التعايش في الحياة الاجتماعية هي المشاركة في الطعام والتزاوج، وأنا أرى هذه الافتتاحية: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُلا أستطيع أن أقبل التخصيص والتعميم؛ لأن مفاهيم العام والخاص تقع في الجملة، بالاستثناء والنفي الذي يؤدي إلى القص … إلخ.

الناسخ والمنسوخ: إحدى أدوات التأويل عند عُلماء الأصول، سأعطي مؤشرًا، الكتب الأولى في الناسخ والمنسوخ تكاثَرت مع الخلافات الفقهية، ومع الخلافات بين الفقهاء حتى ذهب البعض أن آية السيف، وهي الآية الخامسة من سورة التوبة. آيات كثيرة جدًّا، وهذا قول وارد، بل أحيانًا يصل إلى أن «عَجُز الآية قد نسخ صدرها» بالاستثناء. مفهوم الناسخ والمنسوخ قائم على مفهوم النص، لماذا؟ لأن عالم أصول الفقه نظر للقرآن باعتباره كتابًا قانونيًّا، ولأن هؤلاء العلماء كانوا علماء قانون، وفي القانون يتم البحث في الحكم، ما قالته محكمة الاستئناف سنة ألفين وثمانية يَجُبُ ما قالته محكمة الاستئناف سنة ألفين وخمسة. هذا يسجل في القانون، انبنت مسألة الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام على هذا الأساس؛ لأن مهمة عالم الأصول أن يصل إلى استنباط التشريعات من النص القرآني. فمنهجه منهج كافٍ للغاية من دراسته، لكن لا يمكن أخذ هذا المنهج باعتباره منهجًا عامًّا، طبعًا في علم أصول الفقه كان لا بد من إضافة النص الشارح الحديث النبوي. النص الشارح أصبح جزءًا من عملية التشريعات واستنباط الفروع من الأصول، لكن كل هذا يقوم على مفهوم نص، ومع إدراكٍ ما بأن القرآن خطاب، يخاطب الناس.

التصوف

هو الذي انتقل أو عمل النقلة، من المتكلم/القصد/اللغة، إلى المتلقي. هذه نقلة حدثت في الفكر الإسلامي، مفهوم النبي هو نموذج العارف في الفلسفة الإشراقية. في الفلسفة الإشراقية النبي يمثل عارفًا فيلسوفًا، لكنه فيلسوف لا يتصل بالعقل الفعال، أو بالعقل الأول بالتأمل الفكري كما هو الفيلسوف، وإنما يصل إليه بالمخيلة الإبداعية. ففي الأنبياء طاقة تستطيع أن تنشط في اليقظة كما تنشط في النوم، ويستدلون على ذلك بأنه في بداية النبوة، كان النبي عليه السلام تأتيه الرؤى، فتأتيه كفلق الصبح. بدأت النبوة بالرؤى.

التصوف أخذ من الفلسفة الإشراقية مفهوم النبي والعارف، وركز على مفهوم التلقي؛ لأن تجربة النبوة هي نموذج لتجربة التصوف، هي النموذج الأول. فيسعى الصوفي إلى السير على خُطى تجربة النبوة. أشرت إليها أن النص القرآني لم يُصبِح فقط نصًّا في اللغة، بل هناك النص الكوني. «كلمات الله المسطورة في الوجود، وكلمات الله المكتوبة في المصحف» بما أن كلمات الله المسطورة في الوجود لا تنفد، هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ. إن خلق العالم ليس عملية انتهت، بل هي عملية متجددة. إذن هناك توتر في النص الكوني، هذا التوتر في النص الكوني ينعكس على النص القرآني. وهذا لا يمكن حله إلا بالتجربة. تجربة الصوفي أيضًا متوترة، ينتقل من حالٍ إلى حال، ومن مقام إلى مقام، وينتقل من مستوًى إلى المعنى إلى مستوًى آخر، وهنا يصبح انفتاح المعنى هو نقل بؤرة التركيز إلى القارئ، وهو انفتاح المعنى.

مستويات المعنى: الظاهر والباطن والحد والمطلع. تعريفات، تختلف لهذه المستويات لكن أذكركم بما قلته عن أربعة عوالم هي وجود الكون، وعند ابن عربي هي برزخ البرازخ، عالم الأمر أو عالم المعقولات، عالم الخلق، وبعد ذلك عالم الكون والفساد. أربعة عوالم، فعالم الكون والفساد الذي نعيش فيه يقابله المعنى الظاهر في القرآن. عالم الباطن هو عالم العقلي، عالم الحد هو عالم الخلق، والمطلع هو برزخ البرازخ الذي لا يمكن الوصول إليه. مستويات المعنى مرتبطة بمستويات الكون، سواء نحب هذا التصور أو نكرهه، لكننا ندرسه، ليس معنى أنني أدرُسه أنني أتبنى هذا المنظور. إنما أنا أحاول أن أرى التراث الإسلامي في تعدُّديته وفي تشعُّبه كيف تعامل مع الظاهرة القرآنية، مع الفضاء القرآني من منظور النص، لكن كان هنا إدراك لمفهوم الخطاب.

أيضًا علوم القرآن والتفسير: مثلًا علوم القرآن عند السيوطي أنواع، وهي كذلك عند الزركشي، ويمكن تقسيمها إلى علوم تتراوح بين أن تؤكد مفهوم النص وبعض العلوم تُرِشح مفهوم الخطاب. علوم التكوين: تعرضنا لأسباب النزول الناسخ والمنسوخ، المكي والمدني، بل هناك أنواع الحضري والسفري، الشتوي والصيفي، ما نزل على لسان عمر، وما نزل على لسان الصحابة ما نزل على لسان الكافرين. هناك إدراك ما أن علوم التكوين قائمة على بنية خطابية. علوم البنية ترشح مفهوم النص، ترتيب التلاوة هو الأساس في علوم البنية. علوم المعنى: المجاز والاستعارة والكناية … إلخ. وهي كلها ترشح مفهوم النص؛ لأنها كلها مرتبطة بمعنى الجملة، ولا تثريب على التراث أن وقف بحث التراث في اللغة عند مستوى الجملة، وبالتالي عند الصورة. تاريخ التفسير من جامع البيان للطبري إلى «في ظلال القرآن» يقوم على البنية النصية؛ لأنه تفسير خط بياني، يقوم من سورة الفاتحة، وينتهي بسورة الناس. هنا يمكن للمفسر أن يقع في بعض الأخطاء الناتجة؛ لأنه لا يدرك تطور اللغة القرآنية، أي تطور مفاهيم المفردات القرآنية، من البداية إلى النهاية، مثل تطور كلمة «زكاة» وكلمة «صلاة» من معناها اللغوي إلى معناها الاصطلاحي.

سأُرجِعكم في التاريخ إلى ما يسمى الوعي المبكر بالطبيعة الخطابية للقرآن، القرآن الناطق والمصحف الصامت. الإمام علي في واقعة صفين وفي الصراع السياسي الذي نعرف تاريخه جيدًا، حين قال البعض (المحكِّمة): نحتكم إلى القرآن. قال علي: «القرآن بين دفتي المصحف لا ينطق، وإنما ينطق به الرجال.» المصحف في ذلك الوقت لم يكن نَصًّا مقروءًا؛ لأن في ذلك الوقت كانت اللغة العربية لم تُطور بعدُ، أدوات الكتابة لم يكن هناك نَقْط، ولم يكن هناك علامات للحركات، سواء الحركات القصيرة أو الحركات الطويلة، وبالتالي كان نصًّا مُصمتًا يسمونه الرسم. وأي أحد أتيح له أن يرى نسخة من المُصحف العثماني، سيرى رسمًا لا يُقرأ، إلا إذا كنت حافظًا للقرآن أصلًا. يستطيع الرسم أن يُذكرك بما تحفظه. المصحف صامت والقرآن ناطق وهذا يتم بنطق الرجال، إدراك مبكر جدًّا لمسألة الخطاب.

النقطة الثانية: في المجادلة مع المُحكِّمة، أرسل البعض قال: «لا تُحاجهم بالقرآن فإن القرآن حمَّال أوجه.» وهذه العبارات فُهمت دائمًا «حمَّال أوجه» على اعتبارات المعنى؛ لأنه لكي تُحاجَّ بالقرآن تحتاج إلى معرفة السياق، وتحتاج إلى كل هذه المعرفة (الخطاب، نمط الخطاب، سياق الخطاب، المخاطب، الأصوات … إلخ)، «ولكن حاجهم بالسُّنة». ولا نعرف أن كلمة السُّنة إذا عدنا إلى الوثائق مثل كتاب نصر بن مُزاحم عن صفين، فالمقصود بالسُّنة هي التقاليد. وكان التمييز بين السُّنة مطلقًا يعني التقاليد والأعراف، وسُنَّة النبي. بعد ذلك مع الشافعي أصبحت كلمة سُنَّة مطلقًا يُراد بها سُنَّة النبي؛ لذلك فإن صرخة المُحكِّمة كانت أنهم يريدون أن يعود الأمر للمسلمين حتى «لا يحكمنا مُضري حتى قيام الساعة». وفي نفس الوقت أنهم أرادوا الاحتكام إلى القرآن و«السُّنة العادلة المرضية». وهذا معناه أنه كانت هناك سُنة ظالمة ولا يرضى الناس عنها. وربما تكون هذه السُّنة الظالمة هي العصبية، التي كان الصراع كله يدور على أساسها؛ لأن الصراع كان صراعًا بين طرفين في قريش؛ بين البيت الهاشمي والبيت الأموي، في قريش. «لا تحاجهم بالقرآن، فإن القرآن حمَّال أوجه ولكن حاجهم بالسُّنة» وفي غمرةٍ نوع من الأسى والشجن الإمام علي يقول، يقصد بني أمية «بالأمس حاربناهم على تنزيله» باعتبار أن أبا سفيان لم يؤمن إلا مع فتح مكة، وإن كان معاوية قد آمن قبل ذلك. «بالأمس حاربناهم على تنزيله، واليوم نحاربهم على تأويله»؛ على المعنى، نزاع على المعنى. كل هذه الحروب، كل هذه النزاعات هي نزاعات حول المعنى، نزاعات حول التأويل.

الملامح الخطابية

أنا أشرت إلى بعضها؛ ترتيب النزول، خطابات، وترتيب التلاوة. هناك ترتيب النزول، هناك الظاهرة القرآنية في حيويتها، وهذا كان خطابًا شفاهيًّا، في مدة البضع والعشرين سنة، بعضها في مكة والآخر في المدينة. خطاب يأتي فيكون هناك رد فعل للناس؛ للمتلقين. فهذا رد الفعل ينعكس في الخطاب التالي تأييدًا أو نفيًا أو إزاحة أو جدلًا أو سجالًا … إلخ. هذه هي الظاهرة القرآنية الحية.

لأمرٍ ما رُتب القرآن على غير هذا الترتيب، أقول لأمرٍ ما؛ لأن السؤال في هذه المنطقة، طبعًا الإجابة جاهزة أن الله سبحانه وتعالى الذي رتبه على هذا الترتيب، وأن جبريل استعرض القرآن عدَّة مرات مع النبي، ورتبه على هذا الترتيب. وأنا لا أعترض على هذا، ولكن السؤال يظل مشروعًا لمعرفة حكمة الله من هذا الترتيب؛ السؤال البحثي أحيانًا هو ليس سؤال هرطقة، هو سؤال معرفة. ترتيب التلاوة أزاح بشكل أو بآخر إمكانية ألا نعود إلى الظاهرة القرآنية، إلا بالبحث والتدقيق وإعادة النظر … إلخ. وهذا ليس مستحيلًا، هذا ممكن، وأنا طرحت بعض الاجتهادات في التراث للنظر للقرآن كخطاب. يحتاج إلى عمل — مكتبة الإسكندرية مثلًا — لا ينفع أن يعمله واحد إذا الواحد عمل على سورة، أكثر الله خيره. هناك علم في علوم القرآن اسمه علم المناسبة بين الآيات والسور، وهذا علم يحاول إدراك ما العلاقة بين سورة الفاتحة وسورة البقرة، لماذا جاءت سورة البقرة بعد سورة الفاتحة؟ السؤال يتضمن وعيًا بأنه لا بد أن يُشرح هذا الأمر. وفي علم المناسبة بين الآيات والسور، هناك أبحاث وكتب للأسف كلها ضاعت، وأرجو أن يكون بعض هذه الكتب أو المخطوطات قد تم العثور عليها — الدكتور يوسف هو الذي يفتيني في هذا الأمر — علم المناسبة علم عظيم؛ لأنه افترض وحدة القرآن، ويدرك أن القرآن وترتيبه حسب هذا الترتيب، ترتيب التلاوة، يحتاج إلى شرح للوحدة. فمثلًا نجد محاولات مهمة جدًّا ورائعة جدًّا، أنه في نهاية اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ — ولكن خذوا بالكم هذا تأويل ما بعد القرآن — حصل تفسير للمغضوب عليهم، وتفسير للضالين. القرآن لم يقل مَن هم. قالوا: المغضوب عليهم اليهود، غضب الله عليهم ولعنهم، الضالين حسب التفسير، النصارى. سورة البقرة تتعامل بشكل كلي مع اليهود، وسورة آل عمران تتعامل مع النصارى، فالمفسر قال إذن هناك مفتاح في سورة الفاتحة يؤكد لنا العلاقة بين سورة الفاتحة والسور التي تلتها. حتى إن في إِيلَافِ قُرَيْشٍ ربط اللام بالسورة التي قبلها؛ حتى يستخدم اللام التي تبدأ بها السورة. فيه جهد، لكن الجهد كله قائم على أساس مفهوم ضمني، أنه لا بد من إيجاد تفسير لهذا الترتيب. حين نصل إلى الغزالي — أبو حامد الغزالي — يرى أن الفاتحة هي كبسولة للقرآن كله، تتضمن كلامًا عن الذات، تتضمن كلامًا عن الصفات، تتضمن كلامًا عن التشريعات، تتضمن كلامًا عن أصحاب التشريعات الأخرى، وهذا هو القرآن كله، في كتابه «جواهر القرآن».

كما قلت إن ظاهرة تعدد الملامح الخطابية، هي: تعدد الأصوات، الجدلية، المشركين، اليهود، النصارى، أعطيت هذه الأمثلة، وهناك أمثلة أخرى: التحدي والتحدي المضاد وانبثاق مفهوم الإعجاز، من تحدي المشركين ضد محمد، وما عمله القرآن كتحدٍّ مضاد ضد المشركين. هناك تحديات كثيرة؛ تساؤل اليهود، طلب المشركين من محمد أن يأتي لهم بكتاب من السماء، وطلب اليهود؛ لأن اليهود أهل كتاب. وهو في هذا الوقت ليس معه كتاب، معه قرآن، خطابي. القرآن يستجيب أحيانًا بتجاهل التحدي فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً، لكن في بعض الأحيان يقول: ذَلِكَ الْكِتَابُ، والمفسرون وقفوا طويلًا أمام الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لماذا قال ذلك؟ ولم يقل هذا؟ ولأنه لم يكن هناك كتاب كمصحف، لكن الخطابات في ترتيب التلاوة حصل لها نوع من هذا التشتت، فيمكن أن ننظر إلى التحدي والاستجابة للتحدي ذَلِكَ الْكِتَابُ تحدي المشركين وتحدي اليهود؛ لأن محمدًا لم يكن معه كتاب.

التساوي والتوازي، كلمة «إسلام» مثلًا في القرآن مفهوم مُفارق لجماعة مؤمنة بعينها، من هنا كل الأنبياء مسلمون، آدم مسلم، وأن القرآن في كثير من الخطابات يقول: إن هذا هو الذي أنزل على إسماعيل وإسحاق … إلخ. طبعًا التمييز هنا بين مفهوم الإسلام ومفهوم الإيمان. هنا نفهم مثلًا أنه يدخل اليهود والنصارى، والصابئة والمجوس مع المؤمنين، أن الله يحكم بينهم يوم القيامة. حين يقول القرآن المؤمنون أو الذين آمنوا هم أتباع محمد. هنا يحدث خطأ أحيانًا حين تقرأ كلمة إسلام، وكأنها تدل على أتباع محمد فقط؛ لأن هذا تطور متأخر، حتى القرن الثامن. يحيى الدمشقي يتحدث عن المسلمين باعتبارهم أبناء إسماعيل. الإيمان مفهوم محايد في القرآن للدلالة على أتباع محمد، كيف نصل إلى هذا؟ بتحليل القرآن بوصفه خطابًا، وليس بوصفه نصًّا. أنا أشرت إلى الهيمنة وقوة الخطاب بوصفه المخيف قُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ … … إلخ. وحين وصف القرآن نفسه بأنه فرقان، وكان هذا بداية للتمييز بعد التساوي والتوازي، أصبح هناك التمييز. وهذه لغة الهيمنة وقوة الخطاب، ولا تأخذوا الهيمنة بالمعنى السياسي. أنا أتكلم عن الخطاب، وليس الهيمنة بمعنى نظام الحكم … إلخ.

أما بعد:

فنحن قلنا «أما قبل» في الأول. أما بعد الآن، فالنظرة إلى القرآن بوصفه نصًّا، تُشجع التأويل والتأويل المضاد قديمًا وحديثًا، «مجاز، لا حقيقة»، «اختيار، لا جبر»، لماذا؟ لأننا نظرنا للقرآن بوصفه نصًّا. وأنا كتبت دراسة عن إشكالية التأويل قديمًا وحديثًا، ودخلت في التفسيرات الحديثة. تأويلات تختلف من النقيض إلى النقيض. الذي يشجع هذا التأويل والتأويل المضاد، أنك أين تحدد المحكم، وأين تحدد المتشابه؟ وهذا يخضع لأيديولوجيا المُفسر. التعامل مع القرآن كنص، سواء في علم الكلام أو الفلسفة أو في الفقه، يؤدي إلى تثبيت لفضاء معنًى ما، وإلغاء للفضاءات الأخرى. معنى هل الزواج من الكتابيات مُحرم أم مكروه أم محلل. الفقه يحاول أن يطرح معنًى نهائيًّا ومعنًى ثابتًا، بينما القرآن يطرح فضاءات للمعنى. طبعًا فضاءات المعنى لا تقف عند حدود الفقه، عند حدود التشبيه والتنزيه، تتسع لتشمل التشبيه والتنزيه. كل محاولات التأويل والتأويل المضاد قائمة على مفهوم النص، تسعى إلى تثبيت معنًى، وإلغاء معانٍ أخرى إما باعتبارها متشابهًا، أو باعتبارها أن تُؤول تأويلًا مجازيًّا.

ما المعنى الذي يسود في هذه الحالة؟ معنَى منطق القوة وليس منطق المعرفة. معنى السلطة، أين تقف السلطة من المعنى؟ السلطة السياسية. وهنا لمَّا المأمون وقف مع خلق القرآن، فرض عقيدة خلق القرآن، قوة الدولة هنا. بعد ذلك المتوكل، تغير انحياز الدولة تغير المعنى الديني، لماذا؟ لأنه لا يقوم الفهم على منطق الجدل والحوار بين الأفكار، وإنما يقوم على منطق القوة، القوة غالبًا سياسية، القوة السياسية غالبًا، ومن ثم القوة الاجتماعية والقوة الاقتصادية، ومن ثم ليس منطق المعرفة.

تجزؤ المعنى القرآني بين مجالات المعرفة، المعنى اللاهوتي أصبح يناقش عند المتكلمين والفلاسفة، المعنى التشريعي القانوني يناقش عند الفقهاء، المعنى الروحي والأخلاقي يناقش عند المتصوفة. وحصل هذا التجزؤ، هذا التشتت، وهنا غاب أن نبحث عن الرؤية القرآنية للعالم، يعني عن الروحي في التشريعي، وعن الأخلاقي في التشريعي. هذا كله صار غائبًا، بينما في منطوق الآيات نجد هذا الترابط بين الروحي والأخلاقي من جهة، والتشريعي من جهة أخرى. لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ (٢٢/الحج: ٣٧) لا يمكن فصل الأخلاقي هنا والروحي عن التشريعي، لكن علم الفقه كله قام على التشريعي (طبعًا لما أقول علم الفقه كله قام ليس معناه أني لا أستبعد تمامًا أن بعض الفقهاء تعاملوا مع الأخلاقي، وإنما الغالب بشكل عام). الرؤية القرآنية للعالم، كيف يمكن الوصول إليها؟ يمكن الوصول إليها بتحليل القرآن كخطاب، لا يميز بين التشريعي وبين اللاهوتي والروحي والأخلاقي. ثنائية العقل والنقل كلها قائمة على أن القرآن نص وليس خطابًا.

هذا المطبخ كما قلت ما زلت أعمل فيه، وشكرًا لكم والى اللقاء.

(٢) النقاط التي اعتمد عليها نصر أبو زيد في إلقاء محاضرته

إعادة تعريف القرآن: من «النص» إلى «الخطاب»

  • أما قبل.
    • باحث ولست صاحب مشروع فكري.

    • ينطلق البحث من السؤال، ومن نتائجه تتولد أسئلة جديدة.

    • السؤال الأول، وتوالد الأسئلة حول بؤرة المعنى الديني الإسلامي.

    • القرآن/الوحي بوصفه معطًى أوليًّا لإنتاج المعنى الديني.

    • الدراسات القرآنية والعلوم البينية: ما قبل القرآن، الفضاء الدلالي للقرآن، ما بعد القرآن، تأسيس نظرية في التأويل.

  • مفهوم النص: المخاتلة الدلالية.

    • كلمة «نص» في التراث ومفهوم «النص» في الفكر الحديث.

    • النصوص «عزيزة» (نادرة):

      • (١)

        القطعي والظني ثبوتًا ودلالة.

      • (٢)

        النص – الواضح – المُؤَوَّل – الغامض/المشكل – المتشابه.

    • «لا اجتهاد فيما فيه نص» قول تراثي صحيح. المعنى الذي يُراد منه الآن — كل القرآن وكل السنة الصحيحة (الوحي) — تلاعب الدلالي.

  • الفارق بين «النص» و«الخطاب».

    • النص بنية مستقلة بذاتها تتضمن مفهوم «المؤلف» و«القصد» و«القارئ الضمني»، ولا تستبعد مفهوم الفضاء الثقافي اللغوي (السياق) = مفهوم التناص intertextuality.
    • الخطاب بنية تحاورية، تجادلية، سجالية، تستدعي سياقات تتضمن: المتكلم (تعدد الأصوات) – المُخاطب (المخاطبين) – نمط الخطاب – وفحوى الخطاب – تأثير الخطاب.

    • كل خطاب نص، وليس كل نص خطابًا.

مصادر صياغة مفهوم «النص»

  • (١)

    علم الكلام والفلسفة.

    • المتكلم ومفهوم الكلام الإلهي: من صفات الذات، أم من صفات الفعل؟

    • القصدية: هل تعرف مسبقًا (معرفة عقلية)، أم تعرف من الكلام؟

    • اللغة: هل هي وضعية اصطلاحية، أم توقيفية إلهية؟

    • مبدأ التأويل: جدلية الوضوح (المحكم) والغموض (المتشابه).

    • أداة التأويل: المجاز.

  • (٢)

    علم أصول الفقه.

    • البحث عن «المقاصد» التشريعية: مفهوم المقاصد الكلية.

    • بذور علوم القرآن: أسباب النزول (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب) — المكي والمدني — العام والخاص والناسخ والمنسوخ.

    • النص الشارح: السُّنَّة النبوية.

  • (٣)

    التصوف.

    • مفهوم «النبي» ونموذج «العارف» في الفلسفة الإشراقية.

    • تجربة «النبوة» ونموذج التجربة الصوفية.

    • النص الكوني والنص القرآني: توتر الخلق المستمر.

    • نقل بؤرة التركيز إلى «القارئ»: انفتاح المعنى.

    • مستويات المعنى: الظاهر والباطن والحد والمطلع.

  • (٤)

    علوم القرآن والتفسير.

    • علوم القرآن تتراوح بين «النص» و«الخطاب».

      • (١)

        علوم التكوين.

      • (٢)

        علوم البنية.

      • (٣)

        علوم المعنى.

    • التفسير من «جامع البيان» إلى «في ظلال القرآن» يفترض البنية النصية.

  • الوعي المبكر بالطبيعة الخطابية.

    • القرآن الناطق والمصحف الصامت (الإمام علي في صفين).

    • لا تحاجهم بالقرآن؛ فإن القرآن حمَّال أوجه، ولكن حاججهم بالسنة.

    • بالأمس حاربناهم على «تنزيله»، واليوم نحاربهم على «تأويله».

  • الملامح الخطابية.

    • ترتيب النزول (خطابات/نصوص) وترتيب التلاوة (نص).

    • علم المناسبة بين الآيات والسور.

    • تعدد الأصوات.

    • الجدلية: المشركون، اليهود والنصارى.

    • السجالية: التحدي والتحدي المضاد، انبثاق مفهوم «الإعجاز».

    • التساوي والتوازي: الإسلام مفهوم مفارق، والإيمان مفهوم محايد.

    • الهيمنة وقوة الخطاب.

  • أما بعد.

    • النصية تشجع التأويل والتأويل المضاد قديمًا وحديثًا.

    • تثبيت لفضاء «معنًى» ما وإلغاء للفضاءات الأخرى.

    • امتلاك فضاء المعنى الثابت وفق منطق «القوة» لا منطق «المعرفة».

    • تجزُّؤ مجال المعنى القرآني بين مجالات المعرفة، وغياب مفهوم «الرؤية القرآنية للعالم».

    • تحليل الخطاب لا يميز بين اللاهوتي والتشريعي، ولا بين العقلي والروحي/والأخلاقي.

١  هذه هي محاضرة نصر أبو زيد الرابعة والأخيرة في هذا البرنامج وألقاها ٣٠ ديسمبر ٢٠٠٨م بمكتبة الإسكندرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤