مقدمة الطبعة الثانية

هذا الكتاب ليس فكرتي. في نوفمبر عام ١٩٩٧، اتصل بي ناشرٌ بريطاني لم أسمع به من قبلُ في بنجالور (كما كان اسمها في ذلك الوقت). لقد قرأ مقالًا لي في الدورية التاريخية الخاصة بجامعة أكسفورد التي تُسمَّى «باست آند بريزنت» وأراد مقابلتي. كان سيأتي قريبًا إلى دلهي، فهل سيكون بإمكاني لقاؤه هناك؟

ما حدث هو أنني كان لديَّ اجتماع في دلهي في الأسبوع الذي كان فيه الناشر في المدينة. التقينا في فندقه، في ردهةٍ مفتوحةٍ كبيرة كانت بمنزلة مقهًى. كان اسمه بيتر شتراوس، وكان يدير دار نشر بيكادور التي نشرت أعمالًا لفي إس نايبور ومايكل أونداتشي وغيرهما. كان يحمل نسخة من عدد الدورية الذي كان به مقالي. سألني عن المشروع الذي كنت أعمل عليه في ذلك الوقت.

أشرت إلى الدورية التي كانت بين يديه. وقلت له إنني كنت أطوِّر المقال الذي كان يقرؤه (والذي كان يدور حول التاريخ الاجتماعي للرياضة في الهند في أثناء فترة الاحتلال البريطاني) بحيث يخرج في شكل كتاب. سألني إن كان بإمكاني أن أترك هذا المشروع وأكتب كتابًا عن تاريخ الهند المستقلة.

الجزء الثاني من السؤال عقد لساني. بدا أن نطاق وحجم الكتاب الذي كان يقترحه يتجاوز طموحي، وتدريبي. كنت قد بدأت أكتب من آنٍ لآخر في الصحف، ولكني كنت لا أزال أرى نفسي على نحوٍ أساسي باعتباري مؤرخًا أكاديميًّا يكتب لأقرانه وللطلاب الجامعيين. كانت الكتب التي ألَّفتها في السابق تدور حول موضوعات اخترتُها بنفسي؛ كتاب عن التأريخ الاجتماعي لاحتجاجات الفلاحين في الهيمالايا وكتابان شاركتُ في تأليفهما مع كُتابٍ آخرين عن الصراعات البيئية وسيرة ذاتية لعالم الأنثروبولوجيا المستقل فريير إلوين. لقد نُشرت كل هذه الأعمال من قِبل مطابعَ جامعية، وكانت جميعها متخصصة جدًّا ومركزة على موضوعٍ محدد و/أو منطقةٍ معينة. كيف أستطيع أن أكتب عملًا موجَّهًا لعامة القراء عن تاريخ بلدٍ كبير ومتنوع مثل الهند في كتابٍ واحد فقط؟

أنا في الغالب لا تُعوِزني الكلمات سواء في الحوارات أو الأعمال المنشورة. لكن الصمت حينها تملَّك مني، لذا، طرح عليَّ الناشر الزائر مزيدًا من الأسئلة. أليس من الصحيح أن مؤرخي الهند يتوقف سردهم لتاريخ بلدهم عند عام ١٩٤٧؟ وفي ظل احتفال البلد حينها بالعيد الخامس عشر لتأسيسه، ألن يكون إلقاء نظرة على تاريخه المعقد والمضطرب موضوعًا جديرًا بالتحليل الأكاديمي؟ ألن يهم ذلك الكُتاب الهنود الأصغر سنًّا، إن لم يكن العالم أجمع؟ ألم أستمتع بشدة (كما اتضح من مقالي في الدورية) بقراءة المخطوطات والرسائل غير المنشورة، إلى جانب الصحف الموجودة على الميكروفيلم؟

أومأتُ بالإيجاب على كل هذه الأسئلة. لذا حينها، قال الناشر إنني أتفق معه على أن هذا التأريخ من المهم كتابته. فلماذا لا أبحث في الموضوع وأكتب فيه بنفسي؟ لماذا على الأقل لا أفكر في الأمر؟

تُرك الأمر على هذا الوضع. بعد شهر، اتصل بي بيتر شتراوس في بنجالور، وسألني إن كنت قد أعطيت الفكرة بعض التفكير. كنت بالفعل قد فعلت ذلك، وأدركت مدى وجاهتها. طُلب مني حينها أن أُرسل عرضًا رسميًّا، وهو الأمر الذي فعلته، وبمقتضى ذلك، جرى توقيع عقد في مارس من عام ١٩٩٨، بموعد تسليم حُدِّد له شهر مارس من عام ٢٠٠٢؛ أي، بعد أربعة أعوام.

بما أن تلك المهمة كان يتعيَّن القيام بها، فقد بدأت عملية البحث. لكن من أين سأبدأ؟ كما أوضحت في مقدمة الطبعة الأولى من الكتاب، لو كنت مؤرخًا لأوروبا أو إحدى دولها، وكنت مكلفًا بكتابة تأريخ لبلده أو قارته منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لكنت قد حصلت على مئات الكتب من المكتبة؛ دراساتٍ أكاديمية عن السياسة والثقافة والقانون والسياسة الاقتصادية والتغير الاجتماعي، مع سيرٍ ذاتية لكبار أو أبرز السياسيين ذوي الصلة. وعندما تكون معي تلك المصادر، كنت سأسعى لوضع عملٍ تجميعي.

في الهند، لم تكن تلك الأعمال الفرعية متاحة؛ إذ لم يكن التاريخ المعاصر باعتباره فرعًا من أفرع التاريخ قد ظهر للوجود بعدُ. كان عليَّ إذن تجميع المواد الأساسية ذات الصلة بنفسي. كانت الأرشيفات الوطنية زاخرة بالسجلات الحكومية الخاصة بالحقبة الاستعمارية، لكن كانت هناك سجلاتٌ قليلةٌ قيِّمة للفترة منذ عام ١٩٤٧. لحسن الحظ، كان هناك متحف ومكتبة نهرو التَّذكاريان اللذان توجد بهما الأوراق الخاصة بمئات الشخصيات الهندية المهمة والمؤثرة. كان هذا الصرح يضم أيضًا مجموعةً هائلة من الصحف والدوريات على الميكروفيلم.

لقد قضيت العديد من الشهور الممتعة في هذا المكان، أفحص مجموعته الغنية على نحوٍ غير عادي من المواد (التي لم تُمس في الغالب) عن الفترة التالية لعام ١٩٤٧. توفر الملاحظات الختامية الخاصة بهذا الكتاب مزيدًا من التفاصيل عن المجموعات المتعددة التي اطلعت عليها. ومن بين تلك المجموعات، كانت المجموعتان اللتان ربما كانتا الأكثر كشفًا للأمور هما أوراق سي جوبالاتشاري، الناقد العظيم لنهرو والذي تحول إلى صديق له، وتلك الخاصة ﺑ «بي إن هاكسر»، المستشار السياسي المقرب لإنديرا غاندي فيما بين عامي ١٩٦٧ و١٩٧٤.

ضم هذا المكان أيضًا الصحف القديمة التي تتبعتُ أو تعرفتُ على مزيد من التفاصيل من خلالها عن كبرى الأحداث والأمور الخلافية، وكذلك سجلات البرلمان الهندي، إلى جانب مجموعات من الدوريات التابعة لتيار اليمين وتيار اليسار (وكذلك تيار الوسط)، التي تَنقُل روح وطابع النقاشات السياسية العديدة والمتنوعة لهذه الفترة. تلك المكتبة ذات الطبيعة الأرشيفية كانت الأساس الذي قام عليه بحثي، لكني وجدت أيضًا موادَّ قيِّمة في أرشيفاتٍ موجودة في أماكنَ أخرى في الهند والمملكة المتحدة.

يعرف من يقرأ أعمدتي الصحفية أنني رجلٌ ذو آراء قوية. لكن عندما يتعلق الأمر بعملي الأكاديمي، أحاول أن أجعل بحثي يتحدث بالنيابة عني. لا يمكن لأي كاتب أن يُخفيَ أو يكبت بالكامل تحيزاته، لكني رغبت بالفعل في كتابة هذا الكتاب بطريقة غير أيديولوجية قدر الإمكان. فقد كنت أسعى للفَهم وليس لإصدار الأحكام. كنت أرغب في سرد التاريخ المليء بالصراعات لتلك الأمة غير الطبيعية والديمقراطية غير المحتملة، بأقصى قدرٍ ممكن من التفصيل. أردت أيضًا للكتاب أن يكون شاملًا في نطاقه؛ فأردته أن يتناول السياسة والاقتصاد والدين واللغة والطوائف الاجتماعية والجنس، على الرغم من أن حدود كتابٍ واحد وقيود وجود باحثٍ واحد بالتأكيد يعني أن حدودي قد تجاوزت النطاق الذي يمكنني الوصول إليه.

كنت أضع هذا الكتاب في العَقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حينما كان هناك الكثير من الكلام، مع تنامي اقتصاد الهند، عن أنها ستصبح قوةً عظمى. كانت المواد التي كنت أجدها في الأرشيفات تقول قصةً مختلفة تمامًا. فمع معاناة الأمَّة الجديدة من آثار التقسيم، ومن المشكلات التي تولدت عن توطين اللاجئين واندماج الولايات الأميرية، ومن تصاعد الأصولية الهندوسية وحدوث تمردٍ شيوعي، اعتقد قليلون أن الهند سوف تستمر. إذ كيف يمكن للديمقراطية والتعددية أن تتأصل في بلد كهذا فقير بشدة ومنقسم على نحوٍ عميق ومتعدد ثقافيًّا؟

في الأعوام الأولى للاستقلال، كُتب الكثير من المرثيات للأمة الجديدة، التي كانت بها توقعاتٌ واثقة من أن الجمهورية الهندية سينتهي بها الحال إلى حربٍ أهلية أو تنقسم مثل دول البلقان إلى أجزاءٍ متعددة، أو تعاني من مجاعةٍ شاملة أو تصبح دكتاتوريةً عسكرية. في العقود التالية، استمرت تلك المرثيات في الظهور؛ فكلما فشِل موسما رياحٍ موسمية متتاليان أو تُوفي رئيس وزراء أو حدثت حالة شغب كبيرة، كان يَخلُص كاتبٌ غربي يدَّعي الجدية إلى أن مشروع الهند الموحدة والديمقراطية قد فشل.

لكنه لم يفشل. إن بقاء الهند رغم التحديات الهائلة التي واجهتها جعلني أُقدر، حتى أكثر مما كنت أفعل في السابق، الصفات التي تحلَّى بها الجيل الأول من قادتنا السياسيين — نهرو وباتيل وأمبيدكار وراجا جوبالاتشاري ومن هم على شاكلتهم — والشجاعة التي واجهوا بها تلك التحديات والحكمة التي تغلَّبوا بها عليها. على الأرجح، لم تُولد أمة في ظل ظروفٍ معاكسة أكثر من الأمة الهندية؛ وعلى الأرجح لم يكن لدى أي أمة جديدة مثل هذه الكوكبة المتميزة من القادة الذين استطاعوا تجاوز الصعاب التي واجهتها في أعوامها الأولى. لو لم يكونوا على الساحة، أو لو لم يتصرفوا على النحو الذي تصرفوا به، لكانت قد تحققت بالتأكيد تلك التوقعات بالهلاك.

لقد كنت معجبًا بهؤلاء القادة، لكن لم يكن لهذا الكتاب أن يكون مجالًا للاحتفاء بهم. إذ رغم بقاء الهند، فطَوال تاريخها كأمة، استمرت بها الانقسامات العميقة. كان عليَّ أن أكتب عن مشكلة كشمير، لكن في سياقٍ بحثي، وجدت أنه، حتى قبل الكشميريين، كان قطاع من قبائل الناجا قد رفضوا السيادة الهندية. الصراع في ناجالاند مثَّل نظيرًا للصراع في كشمير؛ طرفا الهيمالايا الهندية حيث لم يتقبَّل الكثير من الناس فكرة أن يصبحوا مواطنين في الجمهورية الهندية. في تلك الأثناء، كان عليَّ أيضًا أن أبحث وأكتب عن المسألة الحساسة الخاصة بالداليت والمسلمين والقبائل، وهم الفئات المجتمعية الثلاث التي عانت بشدة ولفترةٍ طويلة لتحقيق المساواة مع الهندوس من الطائفة العليا، رغم تحقيقهم لنتائج متفاوتة بالطبع في هذا الشأن.

لقد استمتعت بالبحث كثيرًا. وقد تراكمت الدفاتر (إذ لم أكن قد اشتريت كمبيوترًا محمولًا حينها بعد)، التي كان كل منها ممتلئًا من البداية وحتى النهاية، وقد كانت المجموعة تغطي رفًّا كبيرًا في غرفة مكتبي في بنجالور. واحتوت رفوفٌ أخرى على كتب لم تَعُد تُطبع وكتيبات حصلت عليها من متاجر كتبٍ مستعملة حول العالم، والتي كانت ذات صلة ببحثي. لكن كيف يمكن أن أبدأ في تنظيم هذا الجبل من المواد التي جمعتها؟

لقد استغرقتُ وقتًا طويلًا للغاية من أجل الوصول إلى هيكل ملائم للكتاب وتحديد الموضوعات التي سيتناولها كل فصل والترتيب الذي ستظهر به الفصول نفسها والاستقرار عليها. في تلك الأثناء، كان موعد التسليم الذي اتفقتُ عليه قد حان ومرَّ. لقد فتحت مجلدًا على سطح مكتبي وضعت فيه مُسوَّدات الفصول التي كنت أكتبها، الواحدة تلو الأخرى. سميت هذا المجلد «كتاب التاريخ الخيالي»؛ إذ لم أكن أعرف هل سيكتمل يومًا أم لا. لكني في النهاية أكملته، وذلك بعد مرور أربع سنواتٍ كاملة من موعد التسليم الرسمي، حيث أرسلت لبيتر شتراوس أخيرًا مجلدًا جرى تغيير اسمه ليكون «كتاب التاريخ المُراجع».

جرى تسليم الكتاب متأخرًا جدًّا. وقد استغرق هذا أيضًا وقتًا أطول مما كان يتمناه الناشر أو يتوقعه. قال لي صديق على نحوٍ شخصي يعرف العقلية الأمريكية (والسوق الأمريكي) إن كتابي يجب ألا يزيد عدد صفحاته بأي حال من الأحوال على خمسمائة صفحة. واعتقد صديقٌ آخر ذو معرفة بالمجال في المملكة المتحدة أن الطول المناسب لكتاب من هذا النوع هو أربعمائة صفحة. لم يكن من المعروف عن الهنود أنفسهم ولعهم بالكتب الكبيرة، ما لم تكن أدبية (أو متعلقة بالأساطير). كانت الاعتقادات السائدة ضدي، لكن لحسن الحظ استطاع المحررون اختصار خمسة آلاف كلمة فقط من مُسوَّدة كتابي؛ لذا كان الناتج كتابًا ضخمًا عدد صفحاته تسعمائة.

نُشرت الطبعة الأولى من الكتاب في عام ٢٠٠٧. مع ذلك، ورغم كل الموضوعات التي غطَّاها وحجمه الكبير، لم يكن من المتوقع تحليل كل ما هو مهم أو جدير بالاهتمام في حياة الهند أو الهنود. لحسن الحظ، حدث منذ ذلك الحين نموٌّ سريع في الاهتمام بالتاريخ المعاصر، مع قيام العديد من الباحثين الشباب، سواء الأجانب أو الهنود منهم، بكتابة أطروحات وكتب جيدة عن جوانبَ معينة من تاريخ الهند منذ الاستقلال.

لقد مرَّ الآن عشر سنوات على ظهور الكتاب. في تلك الفترة، شهِدَت الجمهورية اثنين من الانتخابات العامة؛ سقوط حزب المؤتمر وصعود نريندرا مودي، وحركةً كبيرة ضد الفساد، ومزيدًا من العنف تجاه النساء والداليت والأقليات الدينية، وموجةً من الرخاء في بعض الولايات والمناطق والطبقات مع استمرار الفقر بالنسبة لآخرين، وسلامًا نسبيًّا في ناجالاند لكن استياءً أكبر (وربما أكبر من أي وقت مضى) في كشمير، وغير ذلك الكثير. ولكي أغطي كل هذا، أعددت تلك الطبعة المنقَّحة والموسَّعة، والتي قامت بتحديث السرد. لقد أعدت تنظيم الجزء الخامس (الذي كان يقوم في الطبعة السابقة على الأسلوب الموضوعي) مستخدمًا أسلوب التسلسل الزمني، وأضفتُ فصلَين يتضمنان مادةً جديدة تمامًا، وأعدت كتابة الخاتمة.

كل الكتب التي ألَّفتها (أو سأؤلفها) كنت أنا صاحب فكرتها. باستثناء هذا الكتاب. أنا ممتن بشدة لناشري الحالم؛ لمنحي فرصة الكتابة عن تاريخ بلدي ولقيامي بهذا في الوقت الذي قمت فيه به. إذ لم أكن سأستطيع تأليف هذا الكتاب وأنا في الثلاثينيات من عمري، عندما لم تكن لديَّ الخبرة الكافية لذلك، ولا في الخمسينيات منه، عندما قد لا تكون لديَّ القدرة على ذلك.

راماتشاندرا جوها، بنجالور، ٢١ أغسطس ٢٠١٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤