الفصل الخامس

في ذكر عشق الظرفاء والفتيان للأوجه الحسان

يجب أن نقدم أمام غرضنا في هذا الفصل مقدمات أربعا:
  • إحداها: أن كل واحدة من القوى النفسانية مهما انضم إليها قوة أعلى منها في الشرف احتازت بانضمامها إليها وسريان بهائها فيها زيادة صقولةٍ وزينةٍ حتى تصير بذلك أفاعيلها البارزة عنها زائدة على ما يكون لها بانفرادها، إما بالعدد وإما بحسن الإتقان ولطف المأخذ والوخي في الانتهاء إلى الغرض، إذ كل واحدة من عالاها لها قوة على تأييد الآخر وتقويته وذبِّ الضرر عنه تأييدًا وذبًّا يؤتيها من جهة قبولها له زيادة بهاء وكمالا، وكذلك تصريفاتها إياها في وجوه الاستعانات فيما يفيدها الحسن والسناء والتلذذ، كتقوية الشهوانية من الحيوان النباتية، وذب الغضبية عنها من أن ينقص مادته دون منتهاها الغريزي في الذبول أو الإضرار بها، وكتوفيق النطقية للحيوانية في مقاصدها، وكإفادتها لها اللطافة والبهاء في الاستعانة بها في أغراضها؛ ولهذا ما توجد القوة الحسية والشوقية في الإنسان قد يتعدى طورها في أفعالها، حتى إنها قد يتعاطى في أفاعيلها مقاصدَ لن يقوم بالوفاء بها إلا صريحُ القوة النطقية، ومثال ذلك في القوة الوهمية أن القوة النطقية قد يستعين بها في بعض وجوه دَرْك مطلوبها بوجه استعانة يستفيد من انعطاف النطقية عليها قوة وجسور، حتى إنها تفرج بنيل المطلوب دونها، بل تستعصي عليها، وتتحلى بسمتها وتدَّعي دعواها، وتوهم من فوزها بتصور المعقولات ما تسكن إليه النفس ويطمئن إليه الذهن، كعبد السوء يوعز إليه مولاه بإعانته في سانحة له مهمة عظيمة الفائدة عند النيل، فيرى أنه ظفر بالمطلوب دون مولاه، وأن مولاه قاصر عن ذلك، بل هو المولى في الحقيقة من غير أن يكون ظفر البتة بالمرام الذي يُكلفه مولاه تحصيله ولا شعر به، وكذلك الحال في القوة الشوقية من الإنس، وهذا أحد علل الفساد، إلا إنه ضروري الوجود في الوضع المطلوب في الخير، وليس من الحكمة ترك خير كثير لأجل عادية شر يسير بالإضافة إليه.
  • والثانية: أن الإنسان قد يصدر من مفرد نفسه الحيوانية أمور، وينفعل بمفردها انفعالات كالإحساس والتخيل والجماع والمواثبة والمحاربة، إلا إن نفسه الحيوانية لما اكتسبت من البهاء بمجاورة الناطقة تفعل هذه الأفاعيل بنوع أشرف وألطف فيستأثر من المحسوسات ما كان على أحسن مزاج وأقوم تركيب، ويتنبه لما لا تتنبه له الحيوانات الأخر، فضلًا عن أشياء يستأثرها، وكذلك يتصرف بقوته المتخيلة في أمور لطيفة بديعة، حتى يكاد يضاهي بذلك صريح الصفاء للعقل، ويتخيل لموافقة أهل الكمال في الاعتدال، ويحتال في الأفاعيل الغضبية حيلًا متنوعة؛ ليسهل له بها إحراز التغلب والظفر، وقد يظهر عن ذاته آثارًا وأفاعيل بحسب اشتراك بين النطقية والحيوانية، كتصريف قوته النطقية قوته الحسية لينزع من الجزئيات بطريقة الاستقراء أمورًا كلية، وكاستعانته بالقوة المتخيلة في تفكره، حتى يتوصل بذلك إلى إدراك غرضه في الأمور العقلية، وكتكليفه القوة الشهوانية المباضعة من غير قصد ذاتي إلى مفرد اللذة؛ للتشبه بالعلة الأولى في استبقاء الأنواع، وخصوصًا أفضلها أعني النوع الإنساني، وكتكليفه إياها الطعم والشرب لا كيف اتفق بل على الوجه الأصوب، من غير قصد إلى مجرد اللذة، لكن لإعانة الطبيعة المسخرة على استبقاء شخص أفضل الأنواع أعني الشخص الإنساني، وكتكليفه القوة الغضبية مبارزة الأبطال واعتناق القتال لأجل الذب عن مدينة فاضلة وأمة صالحة، وقد تظهر منه أفاعيل عن صميم قوته النطقية مثل حب المعقولات والنزاع إلى الممات، وحُب الدار الآخرة، وجوار الرحمن.
  • والثالثة: أن في كل واحد من الأوضاع الإلهية خيرية، وكل واحدة من الخيرات مأثورة، لكن من الأمور الخيرية ما ربما يضر إيثاره لما يعلوه من الشرِّيَّة، مثال في الأمور المتعارفة أن الاستلذاذ بالتوسعة في الإنفاق وإن كان مأثورًا فإنه يجتنب لإضراره بمأثورٍ فوقه، وهو خصب ذات اليد ووفور المال، ومثالٌ آخر من مصالح الأبدان شرب أوقية من الأفيون، وإن كان مأثورًا وخيرًا لتسكين الرعاف، فإنه مطرح لأجل إضراره بمأثور فوقه وهو الصحة المطلقة والحياة، وكذلك الأمور الخاصة بالنفس الحيوانية إذا اعتبرت في الحيوان الغير الناطق بنوع الإفراط، وإن لم يُعد من جملة الشر، بل عُدَّ ذلك فضلة في قواها، فلإضراره بالقوة النطقية كما أشرنا إليه في رسالتنا الموسمة «التحفة» معدودة من جملة المثالب في الإنسان ويستحق الاجتناب والهجران.
  • والرابعة: أن النفس النطقية والحيوانية أيضًا لجوار النطقية أبدًا تعشقان كل شيء حسن النظم والتأليف والاعتدال، مثل المسموعات الموزونة وزنًا متناسبًا والمذوقات المركبة من أطعمة مختلفة بحسب التناسب وما شابه ذلك، أما النفس الحيوانية فبنوع تقليدي طبيعي، وأما النفس الناطقة فإنها إذا سعدت بتصور المعاني العالية على الطبيعة، وعرفت أن كل ما قرب من المعشوق الأول فهو أقوم قوامًا ونظامًا وأحسن اعتدالًا وبالعكس، إذ ما يليه أفوز بالوحدة وتوابعها كالاعتدال والاتفاق وما بعد عنه أقرب إلى الكثرة وتوابعها، كالتفاوت والاختلاف على ما أوضحه الإلهيون، فمهما ظفرت بشيء حسن التركيب لاحظته بعين المقة.

فإذا تقررت هذه المقدمات فنقول: إن من شأن العاقل الولوع بالمنظر الحسن من الناس، وقد يُعدُّ ذلك منه في بعض الأحايين تظرُّفًا وفتوَّةً، وهذا الشأن إما أن يختص بالقوة الحيوانية، وإما أن يختص بالقوة النطقية، وإما أن يكون بحسب التركيب، لكنه لو كان مختصًّا بالقوة الحيوانية لما عدَّه العقلاء تظرفًا وفتوةً، إذ من الحق أن الشهوات الحيوانية إذا تناولها الإنسان تناولًا حيوانيًّا فهو متعرض للنقيصة ومضر بالنفس الناطقة، ولا هو مما يختص بالقوة النطقية، إذ موضوعات شغلها هي الكليات العقلية الأبدية لا الجزئيات الحسية الفاسدة، وإذن ذلك بحسب الشركة.

وبيان ذلك بوجه آخر أن الإنسان إذا أحبَّ الصور المستحسنة لأجل لذة حيوانية، فهو مستحق اللوم والإيلام، مثل الفرقة الزانية والمتلوِّطة، وبالجملة الأمة الفاسقة، ومهما أحبَّ الصورة المليحة باعتبار عقلي على ما أوضحناه عُدَّ ذلك وسيلة إلى الرفعة والتناهي في الخيرية لولوعه بما هو أقرب في التأثير من المؤثر الأول والمعشوق المحض، وأشبه بالأمور العالية الشريفة، وذلك مما يؤهله لأن يكون ظريفًا وفتًى لطيفًا؛ ولذلك لا يكاد أهل الفطنة من الظرفاء والحكماء ممن لا يسلك طريقة المتعشقين والأنحاح يوجد خاليًا عن شغل قلب بصورة حسنة إنسانية، وذلك أن الإنسان مع ما فيه من زيادة فضيلة الإنسانية إذا وجد فائزًا بفضيلة اعتدال الصورة التي هي مستفادة من تقويم الطبيعة واعتدالها، وظهور أثر إلهي فيها جدًّا استحق لأن ينتحل من ثمرة الفؤاد مخزونها، ومن صفيِّ صفاء الوداد أطيبه؛ ولذلك قال عليه السلام: «اطلبوا الحوائج عند حسان الوجوه»، تيقنًا منه أن حسن الصورة لن يوجد إلا عند جودة التركيب الطبيعي، وأن جودة الاعتدال والتركيب مما يفيد طيبًا في الشمائل وعذوبة في السجايا.

وقد يوجد أيضًا واحد من الناس قبيح الصورة حسن الشمائل، وذلك لا يخلو من عذرين، إما أن يكون قبح الصورة لم يحصل بحصول قبح الاعتدال في أول الأمر داخلًا، بل لفساد عارض خارجًا، وإما أن يكون حسن الشمائل لا بحسب الطباع، بل بحسب الاعتياد، كذلك قد يوجد حسن الصورة قبيح الشمائل، وذلك أيضًا لا يخلو من عذرين، إما أن يكون قبح الشمائل عارضًا لعوارض في الطباع بعد استحكام التركيب، أو يكون ذلك لاعتياد قوي.

وعشق الصورة الحسنة من الإنسان قد تتبعه أمور ثلاثة؛ أحدها: حب معانقته، والثاني: حب تقبيله، والثالث: حب مباضعته، فأما حب المباضعة فمما يتيقن عنده أن هذا العشق ليس خاصًّا إلا بالنفس الحيوانية، وأن حصتها فيه زائدة، وأنها فيه على مقام الشريك، بل المستخدم لأعلى مقام الآلة، وذلك قبيح جدًّا، بل لن يخلص العشق النطقي ما لم تنقمع القوة الحيوانية غاية الانقماع؛ ولذلك بالحري أن يتهم العاشق إذا راود معشوقه بهذه الحاجة، اللهم إلا أن تكون هذه الحاجة منه بضرب نطقي به يُعلم إن قَصد به توليد المثل، وذلك في الذكر من الناس محال، وفي الأنثى المحرمة في الشرع قبيح، بل لا ينساغ هذا القصد ولا يستحسن إلا للرجل في امرأته أو مملوكته.

وأما المعانقة والتقبيل فإذا كان الغرض فيهما هو التقارب أو الاتحاد؛ وذلك لأن النفس تود أن تنال معشوقها بحسِّها اللمسي نيلها بحسها البصريِّ، فتشتاق إلى معانقته وتنزع إلى أن يختلط نسيم مبدأ أفاعيله النفسانية وهو القلب بنسيم مثله من المعشوق، فتشتاق إلى تقبيله، فليسا بمنكرين في ذاتيهما، لكن استتباعهما بالعرض أعني أمورًا شهوانية فاحشة توجب التوقِّي عنهما، إلا إذا تيقن من متوليهما خمود الشهوة والبراءة من التهمة؛ ولذلك لم يستنكر تقبيل الأولاد، وإن كان مبدؤه مزعجًا لتلك، إذ كان الغرض فيه التداني والاتحاد لا الهمة بالفحش والفساد.

فمن عشق هذا الضرب من العشق فهو فتًى ظريف، وهذا العشق هو المنسوب إلى الفتيان والظرفاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤