الفصل السادس عشر

الأسباب والإحصاءات

فكِّر في السيناريو التالي ولاحظ إجابتك الحدسية عن السؤال:
صدمت إحدى سيارات الأجرة شخصًا ليلًا وهربت. تعمل شركتا سيارات الأجرة، الخضراء والزرقاء، في المدينة. عُرضت عليك البيانات التالية:
  • ٨٥٪ من سيارات الأجرة في المدينة خضراء و١٥٪ منها زرقاء.

  • أشار أحد شهود الحادث أن لون سيارة الأجرة كان أزرق. أجرت المحكمة اختبارًا لمدى مصداقية الشاهد وفق الظروف نفسها التي كانت متوفرة ليلة الحادث، وخلصت إلى أن الشاهد استطاع التعرف على كل لون من اللونين بصورة صحيحة بنسبة ٨٠٪ وفشل في التعرف على اللونين بنسبة ٢٠٪.

ما احتمالية أن سيارة الأجرة التي تسببت في الحادث كانت سيارة زرقاء لا خضراء؟

هذه مسألة تقليدية من مسائل الاستدلال البايزي. هناك معلومتان: معدل أساسي وشهادة غير موثوق بها بشكل كامل لشاهد. في غياب الشهود، تبلغ احتمالية كون السيارة الضالعة في الحادث هي السيارة الزرقاء ١٥٪، وهو المعدل الأساسي لذلك السيناريو. لو كانت شركتا سيارات الأجرة متساويتين في الحجم، لكان المعدل الأساسي سيصبح أقل دلالة، وكان سيتوجب عليك التفكير فقط في مدى مصداقية الشاهد، مستنتجًا أن الاحتمالية تساوي ٨٠٪. يمكن الجمع بين مصدري المعلومات من خلال قاعدة بايز. وستكون الإجابة الصحيحة هي ٤١٪. مع ذلك، يمكنك تخمين ما يمكن أن يفعله الناس عندما يتم عرض هذه المسألة عليهم: فهم يتجاهلون المعدل الأساسي ويسيرون مع شهادة الشاهد؛ لذلك، فإن الإجابة الأكثر شيوعًا هي ٨٠٪.

الصور النمطية السببية

فكِّر الآن في نسخة أخرى من نفس القصة، والتي بها جرى تغيير تمثيل المعدل الأساسي فقط:
عُرضت عليك البيانات التالية:
  • تسيِّر شركتا سيارات الأجرة نفس عدد السيارات، لكن تتسبب السيارات الخضراء في ٨٥٪ من الحوادث.

  • المعلومات عن الشاهد هي نفسها مثلما في النسخة السابقة من القصة.

بينما لا يمكن التمييز بين نسختي القصة رياضيًّا، تختلف النسختان كثيرًا من الناحية النفسية. فلا يعرف من يقرأ النسخة الأولى من القصة كيفية استخدام المعدل الأساسي، وغالبًا ما يتجاهله. في المقابل، يولي من يقرأ النسخة الثانية ثقلًا أكبر للمعدل الأساسي، ولا يبعد متوسط حكمه كثيرًا عن الحل البايزي. لماذا؟

في النسخة الأولى، يمثِّل المعدل الأساسي لسيارات الأجرة الزرقاء حقيقة إحصائية حول سيارات الأجرة في المدينة. لا يجد العقل النهم إلى القصص السببية شيئًا يستطيع الإمساك به: كيف يتسبب عدد السيارات الخضراء والزرقاء في المدينة في أن يصدم سائق سيارة الأجرة محل السؤال شخصًا ويسرع هاربًا؟

في المقابل، في النسخة الثانية، يتسبب سائقو سيارات الأجرة الخضراء في حوادث بمقدار خمس مرات أكثر من سائقي سيارات الأجرة الزرقاء. الاستنتاج الفوري: لا بد أن سائقي سيارات الأجرة الخضراء ليسوا سوى حفنة من الرجال الطائشين! كونت الآن صورة نمطية حول طيش سائقي سيارات الأجرة الخضراء، وهي صورة تطبِّقها على سائقين غير معروفين لك في الشركة. تتلاءم هذه الصورة النمطية بسهولة مع نموذج قصة سببية؛ نظرًا لأن الطيش يمثِّل حقيقة مهمة سببيًّا تتعلق بسائقي سيارات الأجرة. في هذه النسخة، هناك قصتان سببيتان بحاجة إلى المزج أو التوفيق بينهما. هناك قصة الاصطدام والهروب سريعًا، وهي قصة تستحضر الفكرة القائلة إن أحد سائقي سيارات الأجرة الخضراء كان مسئولًا عن الحادث. وهناك قصة شهادة الشاهد، التي تشير بقوة إلى أن سيارة الأجرة الضالعة في الحادث كانت زرقاء. يتعارض الاستدلالان من القصتين حول لون السيارة، ويلغي أحدهما الآخر تقريبًا. تتساوى حظوظ اللونين (تبلغ نسبة التقدير البايزي هنا ٤١٪، وهو ما يعكس حقيقة أن المعدل الأساسي للسيارات الخضراء يمثِّل أسلوبًا أكثر تطرفًا قليلًا من الأسلوب الذي يعتمد على مدى مصداقية الشاهد الذي أكد مشاهدة سيارة زرقاء).

يشير مثال سيارة الأجرة إلى نوعين من المعدلات الأساسية. فبينما تمثِّل «المعدلات الأساسية الإحصائية» حقائق حول مجتمع عينة تنتمي إليه حالة ما، لا تعتبر هذه المعدلات ذات أهمية بالنسبة للحالات الفردية. تغيِّر «المعدلات الأساسية السببية» من وجهة نظرك حيال الكيفية التي آلت بها الحالة الفردية إلى ما آلت إليه. يجري التعامل مع المعلومات التي تعتمد على نوعي المعدلات الأساسية هذين بصورة مختلفة:
  • لا تُولى المعدلات الأساسية الإحصائية بصورة عامة الثقل الكافي، وفي بعض الأحيان يجري تجاهلها كليةً، عندما تتوفر معلومات محددة حول الحالة القائمة.

  • يجري التعامل مع المعدلات الأساسية السببية باعتبارها معلومات تدور حول الحالة الفردية؛ ومن ثم يسهل مزجها مع المعلومات الأخرى التي تدور حول الحالة.

تتخذ النسخة السببية من مسألة سيارة الأجرة شكل الصورة النمطية: سائقو السيارات الخضراء خطرون. الصور النمطية هي عبارات تدور حول مجموعة ويجري قبولها (على الأقل بشكل غير نهائي) باعتبارها حقائق تتصل بكل عضو في المجموعة. هاك مثالين:
معظم خريجي هذه المدرسة التي توجد في وسط المدينة يذهبون إلى الجامعة.
ينتشر الاهتمام برياضة ركوب الدراجات في فرنسا.

تُفسَّر هذه العبارات على الفور باعتبارها ترسِّخ ميلًا محددًا لأعضاء المجموعة، فضلًا عن كونها تتلاءم مع بنية قصة سببية. يتحمس بل يستطيع كثير من خريجي هذه المدرسة تحديدًا التي توجد في وسط المدينة الالتحاق بالجامعة؛ ربما نظرًا لتوفر بعض مزايا الحياة في تلك المدرسة. هناك قوى في الثقافة والحياة الاجتماعية الفرنسية تجعل الكثير من الفرنسيين يهتمون بممارسة رياضة ركوب الدراجات. سيجري تذكيرك بهذه الحقائق عندما تفكِّر في احتمالية التحاق خريج معين من المدرسة بالجامعة، أو عندما تفكِّر فيما إذا كان من الممكن الإشارة إلى سباق الدراجات تور دي فرانس خلال محادثة مع رجل فرنسي التقيته توًّا.

•••

بينما يعتبر مصطلح «الصور النمطية» تعبيرًا سيئًا في ثقافتنا، فهو يُعد محايدًا في استخدامي له هنا. إحدى الخصائص الأساسية للنظام ١ هي أنه يمثِّل فئات الأحداث المختلفة باعتبارها معايير ونماذج مثلى نمطية. تُعد هذه هي الطريقة التي نفكِّر بها في الخيول، والثلاجات، وضباط شرطة نيويورك. فنحن نحمل في ذاكرتنا تمثيلًا لواحد أو أكثر من العناصر «العادية» لكل فئة من هذه الفئات. عندما تكون الفئات اجتماعية، يُطلق على هذه التمثيلات صور نمطية. بينما تُعد بعض هذه الصور خاطئة تمامًا، وقد يترتب عليها عواقب وخيمة، فلا يمكن تفادي الحقائق النفسية: تمثِّل الصور النمطية، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة، طريقة تفكيرنا في الفئات.

ربما تلاحظ المفارقة هنا. في سياق مسألة سيارة الأجرة، يمثِّل تجاهل المعلومات القائمة على المعدلات الأساسية خطأً إدراكيًّا، وفشلًا للتفكير البايزي، ويعتبر الاعتماد على المعدلات الأساسية السببية أمرًا مرغوبًا. فيُحسِّن عمل صورة نمطية لسائقي سيارات الأجرة الخضراء من دقة إصدار الأحكام. في المقابل، في سياقات أخرى، مثل تعيين الموظفين الجدد أو تصنيف الخصائص النفسية والسلوكية للأفراد، يوجد معيار اجتماعي قوي ضد عمل الصور النمطية، وهو ما يتضمنه القانون أيضًا. هذا ما يجب أن يكون الأمر عليه. في السياقات الاجتماعية الحساسة، لا نرغب في استخلاص استنتاجات ربما مغلوطة حول الأفراد من خلال الإحصاءات حول المجموعة. إننا نعتبر من قبيل الأمور المرغوبة أخلاقيًّا بالنسبة إلى المعدلات الأساسية أن يجري التعامل معها باعتبارها حقائق إحصائية حول المجموعة أكثر منها حقائق افتراضية حول الأفراد. بعبارة أخرى، نحن نرفض المعدلات الأساسية السببية.

كان المعيار الاجتماعي المناهض للصور النمطية، بما في ذلك معارضة عمل تصنيفات للخصائص النفسية والسلوكية للأفراد، ذا فائدة كبيرة في خلق مجتمع أكثر تحضرًا ومساواة. في المقابل، من المفيد بمكان تذكُّر أن تجاهل الصور النمطية الصحيحة يفضي حتمًا إلى أحكام غير مثالية. بينما تمثِّل معارضة عملية عمل الصور النمطية موقفًا أخلاقيًّا يستدعي الثناء، تعتبر الفكرة التبسيطية القائلة إن عملية المعارضة غير مكلفة فكرة خاطئة. فرغم أن التكاليف تستحق دفعها بغرض خلق مجتمع أفضل، إلا أن تجاهل وجود التكاليف لا سبيل إلى الدفاع عنه من الناحية العلمية، مهما كان مرضيًا للنفس وصحيحًا من الناحية السياسية. يعتبر الاعتماد على الاستدلال العاطفي شائعًا في المناقشات المشحونة سياسيًّا. فبينما لا توجد عيوب للمواقف التي نفضل اتخاذها، لا توجد أي فوائد للمواقف التي نعارضها. يبدو أننا يجب أن نكون أكثر إنصافًا.

المواقف السببية

بينما بنينا أنا وعاموس النسخ المتعددة لمسألة سيارة الأجرة، لم نبتدع فكرة المعدلات الأساسية السببية القوية بل اقترضناها من عالم النفس إيتشيك آيسين. عرض على المشاركين في تجربته مقاطع مصورة قصيرة تصف بعض الطلاب الذين أجروا اختبارًا في جامعة ييل، وطلب من المشاركين في التجربة الحكم حول احتمالية أن يكون كل طالب قد نجح في الاختبار. كان التدخل الخاص بالمعدلات الأساسية السببية مباشرًا: قال آيسين لإحدى مجموعات المشاركين إن الطلاب الذين رأوهم كانوا ضمن صف نجح ٧٥٪ ممن فيه في الاختبار، وقال لمجموعة أخرى إن الطلاب أنفسهم كانوا ينتمون لصف نجح ٢٥٪ فقط ممن فيه في الاختبار. يعتبر هذا نموذجًا قويًّا للتدخل؛ نظرًا لأن المعدل الأساسي للنجاح في الامتحان يفضي إلى الاستدلال المباشر الذي يشير إلى أن الاختبار الذي نجح فيه ٢٥٪ فقط من الطلاب كان اختبارًا شديد الصعوبة. بالطبع، تعتبر الصعوبة في الاختبار أحد العوامل السببية التي تحدد نتيجة كل طالب. مثلما كان متوقعًا، كان المشاركون في التجربة متأثرين تأثرًا كبيرًا بالمعدلات الأساسية السببية، وحظي كل طالب في المجموعة ذات ظروف النجاح المرتفعة باحتمالية نجاح أعلى من كل طالب في المجموعة ذات ظروف الرسوب المرتفعة.

استخدم آيسين أسلوبًا مبتكرًا للتعبير عن المعدل الأساسي غير السببي. فقال للمشاركين في التجربة إن الطلاب الذين رأوهم كانوا جزءًا من عينة، وهي عينة تكوَّنت بدورها من خلال اختيار طلاب كانوا قد نجحوا أو رسبوا في الاختبار. على سبيل المثال، كانت المعلومات حول المجموعة ذات معدل الرسوب المرتفع كالآتي:

كان القائم على التجربة مهتمًّا بصورة أساسية بأسباب الرسوب، فاختار عينة رسب ٧٥٪ من الطلاب فيها في الاختبار.

لاحظ الفرق. يمثِّل المعدل الأساسي هنا حقيقة إحصائية محضة حول العينة التي أُخذت منها الحالات المختلفة، وليس له أي علاقة بالسؤال الذي جرى توجيهه، وهو ما إذا كان الطلاب الأفراد نجحوا أو رسبوا في الاختبار. مثلما كان متوقعًا، بينما يكون للمعدلات الأساسية المذكورة صراحةً بعض التأثير على عملية إصدار الأحكام، يقل تأثيرها كثيرًا عن المعدلات الأساسية السببية المكافئة لها إحصائيًّا. فبينما يستطيع النظام ١ التعامل مع القصص التي ترتبط العناصر فيها سببيًّا، لا يمتلك القدرة على التفكير الإحصائي. وبالطبع، بالنسبة إلى شخص يفكر بالطريقة البايزية، تتساوى النسختان. لعل من المغري في هذا المقام أن نخلص إلى أننا بلغنا نتيجة مرضية؛ ألا وهي أنه تم استخدام المعدلات الأساسية السببية وإغفال الحقائق الإحصائية المحضة (بصورة أو بأخرى). تُظهر الدراسة التالية، وهي إحدى الدراسات المفضلة لديَّ على الإطلاق، أن الموقف معقد بشكل أكبر.

هل يمكن تعليم الأمور النفسية؟

تشير تجربتا سائقي سيارات الأجرة المتهورين والاختبار شديد الصعوبة إلى استدلالين يمكن أن يستنبطهما الناس من خلال المعدلات الأساسية السببية؛ ألا وهما سمة خاصة بصورة نمطية تُنسب إلى أحد الأشخاص، وملمح بارز لأحد المواقف يؤثر على نتيجة الفرد. قام المشاركون في التجربتين بالاستدلالات الصحيحة وتحسن إصدارهم للأحكام. ولكن لسوء الحظ، لا تمضي الأمور على ما يرام دائمًا. تبين التجربة الكلاسيكية التي سأعرضها فيما يلي أن الأشخاص لا يقومون باستدلالات بناءً على معلومات تعتمد على المعدلات الأساسية التي تتعارض مع معتقدات أخرى. تؤيد هذه التجربة أيضًا الاستخلاص غير المريح تمامًا بأن عملية تعليم علم النفس تعتبر بشكل عام إهدارًا للوقت.

أجرى التجربة منذ وقت طويل عالم النفس ريتشارد نيسبت وأحد طلابه يوجين بورجيدا في جامعة ميشيجان. أخبر نيسبت وبورجيدا المشاركين في التجربة عن «تجربة المساعدة» الشهيرة التي أُجريت قبل سنوات قليلة في جامعة نيويورك. اقتيد المشاركون في تلك التجربة إلى كبائن منفردة، وطُلب منهم التحدث عبر جهاز الاتصال الداخلي عن حيواتهم ومشكلاتهم الشخصية. كان على المشاركين الحديث واحدًا تلو الآخر مدة دقيقتين تقريبًا. لم يكن هناك سوى ميكروفون واحد يعمل في المرة الواحدة التي كان يتحدث فيها أحد المشاركين. كان هناك ستة مشاركين في كل مجموعة، كان أحدهم عميلًا لنا. تحدَّث الشخص العميل أولًا، وهو يسير وفق نص مُعد سلفًا من قبل القائمين على التجربة. كان ذلك الشخص يصف مشكلاته في التكيف مع الحياة في مدينة نيويورك، وأقر في حرج واضح بتعرضه لنوبات صرع، خاصةً عندما يتعرض لضغوط. جاء الدور على المشاركين بعد ذلك الواحد تلو الآخر. عندما جاء دور الشخص العميل مرة أخرى، صار حديثه متوترًا وغير متماسك، وقال إنه يشعر بقرب تعرضه لنوبة صرع، وطلب المساعدة. كانت آخر الكلمات التي سُمعت يتلفَّظ بها هي: «ههل-يساعدني-آم-آم-أحد-آم-آه-آه [أصوات حشرجة]. أنا … أنا سأموت-آم-آم-آم أنا … سأموت-آم-آم أنا نوبة صرع-آه [حشرجات، ثم هدوء].» بعد ذلك، جرى تشغيل ميكروفون المشارك التالي آليًّا، ولم يُسمع أي شيء مرة أخرى من الشخص الذي ربما كان يحتضر.

في رأيك ماذا فعل المشاركون في التجربة؟ بقدر ما كان المشاركون يعرفون، انتابت أحدهم نوبة صرع وطلب المساعدة. لكن كان هناك أشخاص عديدون آخرون يمكنهم الاستجابة إلى طلب المساعدة؛ لذا ربما يستطيع المرء البقاء في كابينته دون أن يتحرك. كانت هذه هي النتائج: لم يستجب سوى أربعة مشاركين فقط من بين خمسة عشر مشتركًا على الفور لاستغاثة طلب المساعدة. لم يخرج ستة مشاركين من كبائنهم على الإطلاق، بينما خرج خمسة آخرون فقط بعد أن اختنق «ضحية نوبة الصرع» بالفعل. تُظهر التجربة أن الأشخاص يشعرون بتحللهم من المسئولية عندما يعرفون أن آخرين سمعوا نداء المساعدة نفسه.

هل تُدهشك النتائج؟ محتمل جدًّا. يظن معظمنا بأنفسهم أنهم أشخاص صالحون سيهرعون إلى المساعدة في موقف مثل ذلك، ونتوقع من الأشخاص الصالحين الآخرين أن يفعلوا بالمثل. بالطبع، كان الهدف من التجربة الإشارة إلى أن هذا التوقع خاطئ. حتى الأشخاص العاديون الصالحون لا يهرعون إلى المساعدة عندما يتوقعون من الآخرين التعامل مع موقف نوبة صرع غير سار. وهذا يشير إليك، أنت أيضًا.

هل ترغب في التصديق على صحة العبارة التالية؟ «عندما قرأت إجراءات تجربة المساعدة ظننت أنني سأهرع إلى مساعدة ذلك الشخص الغريب في الحال، مثلما ربما كنت سأفعل إذا وجدت نفسي وحدي مع ضحية نوبة صرع. ربما كنت مخطئًا. إذا وجدت نفسي في موقف توفرت فيه فرصة للآخرين للمساعدة، فربما لن أتقدَّم للمساعدة. كان وجود الآخرين سيقلل من شعوري بالمسئولية الشخصية أكثر مما كنت أظن في البداية.» هذا هو ما يأمل أستاذ علم نفس في أن تتعلمه. هل كنت ستصل إلى الاستنتاجات نفسها بنفسك؟

يريد أستاذ علم النفس الذي يصف تجربة المساعدة من الطلاب أن ينظروا إلى المعدل الأساسي المنخفض باعتباره سببيًّا، مثلما هو الحال في حالة الاختبار المفترض لجامعة ييل. يريد الأستاذ، في كلتا الحالتين، أن يستنتج الطلاب أن معدل رسوب مرتفعًا بصورة مدهشة إنما يشير إلى صعوبة الاختبار صعوبة بالغة. يتمثَّل الدرس الذي قُصد استفادة الطلاب منه في أن سمة بارزة في الموقف، مثل شيوع المسئولية، تفضي إلى أن يتصرف أشخاص عاديون وصالحون مثلهم بصورة غير معاونة على الإطلاق.

يعتبر تغيير المرء لرأيه حول الطبيعة الإنسانية أمرًا صعبًا، كما يعتبر تغيير المرء رأيه للأسوأ حول نفسه مسألة أكثر صعوبة. كان نيسبت وبورجيدا يظنان أن الطلاب سيقاومون نتائج التجربة وما يرتبط بها من نتائج غير سارة. بالطبع، يستطيع الطلاب، بل سيريدون، ذكر تفاصيل تجربة المساعدة في أحد الاختبارات، وسيكررون التفسير «الرسمي» في إطار شيوع المسئولية. لكن هل تغيَّرت معتقداتهم حقًّا حول الطبيعة الإنسانية؟ للإجابة عن السؤال، عرض نيسبت وبورجيدا على الطلاب مقاطع فيديو لمقابلات قصيرة ادَّعوا أنها أُجريت مع شخصين ممن شاركوا في دراسة جامعة نيويورك. كانت المقابلات قصيرة وعادية. بدا الشخصان اللذان أُجريت معهما المقابلات لطيفَين، وعاديَّين، وصالحَين. أشارا إلى هواياتهما، وإلى أنشطتهما في أوقات فراغهما، وخططهما المستقبلية، التي كانت خططًا تقليدية للغاية. بعد الانتهاء من مشاهدة فيديو إحدى المقابلتين، كان على الطلاب تخمين مدى سرعة الشخص المُستضاف في مساعدة الشخص الغريب المُصاب بنوبة الصرع.

•••

لتطبيق طرق التفكير البايزية على المهمة الموكلة للطلاب في التجربة، يجب أولًا أن تسأل نفسك عما كنت ستخمنه حول المشاركين في التجربة لو لم تشاهد مقابلاتهما. يُجاب عن هذا السؤال من خلال الرجوع إلى المعدل الأساسي. قيل لنا إن ٤ فقط من بين ١٥ مشاركًا في التجربة هرعوا إلى المساعدة بعد نداء المساعدة الأول. تمثل نسبة الاحتمالية إذن في أن يهرع أحد المشاركين غير المحددين إلى المساعدة على الفور ٢٧٪. من هنا، سيكون اعتقادك المبدئي حيال أي مشارك غير محدد هو أنه لم يهرع إلى المساعدة. ثم، يتطلب المنطق البايزي منك أن تعدِّل أحكامك في ضوء أي معلومات ذات صلة عن الشخص المقصود. في المقابل، صُممت الفيديوهات جيدًا بحيث لا تكون دالة. فلم توفِّر الفيديوهات سببًا في اعتبار أن الشخصين المُستضافين سيكونان أكثر أو أقل عونًا من طالب جرى اختياره عشوائيًّا. وفي غياب معلومات جديدة مفيدة، يلتزم الحل البايزي بالمعدلات الأساسية.

طلب نيسبت وبورجيدا من مجموعتين من الطلاب مشاهدة الفيديوهات وتوقع سلوك الشخصين. أُخبر الطلاب في المجموعة الأولى عن إجراءات تجربة المساعدة فقط، لا عن نتائجها. كانت توقعات هذه المجموعة تعكس آراءهم حول الطبيعة الإنسانية وفهمهم للموقف. مثلما توقعت ربما، تنبأ طلاب هذه المجموعة بأن الشخصين كليهما سيهرعان على الفور إلى مساعدة الضحية. كانت المجموعة الثانية من الطلاب تعلم إجراءات التجربة ونتائجها. تقدِّم المقارنة بين توقعات المجموعتين إجابة عن سؤال مهم: هل تعلَّم الطلاب من نتائج تجربة المساعدة أي شيء ساهم في تغيير طريقة تفكيرهم بصورة كبيرة؟ الإجابة مباشرة: لم يتعلم الطلاب شيئًا. كانت توقعات طلاب المجموعة الثانية حول الشخصين غير مختلفة عن توقعات الطلاب الذين لم تُعرض عليهم النتائج الإحصائية للتجربة. بينما كان الطلاب يعرفون المعدل الأساسي في المجموعة التي جرى اختيار الشخصين منها، ظلوا مقتنعين أن الأشخاص الذين رأوهم في الفيديو هرعوا إلى مساعدة الشخص المصاب بنوبة الصرع.

بالنسبة إلى أساتذة علم النفس، تعتبر تداعيات هذه الدراسة مثبطة للهمم. فعندما نعلِّم طلابنا سلوك الأشخاص في تجربة المساعدة، نتوقع منهم أن يتعلموا شيئًا لم يعرفوه قبلًا. فنحن نرغب في حقيقة الأمر في تغيير طريقة تفكيرهم حول سلوك الأشخاص في موقف محدد. لم يتحقق هذا الهدف في دراسة نيسبت وبورجيدا، ولا يوجد سبب في الاعتقاد أن النتائج كانت ستختلف إذا كانا قد اختارا تجربة نفسية مدهشة أخرى. في حقيقة الأمر، نشر نيسبت وبورجيدا نتائج مماثلة عند تدريس تجربة أخرى، تسببت الضغوط الاجتماعية الطفيفة فيها إلى تحمُّل الأفراد صدمات كهربائية مؤلمة أكثر مما كان معظمنا يتوقع (وهم كذلك). لم يتعلَّم الطلاب الذين لم تتطور لديهم حساسية جديدة تجاه قوة تأثير البيئة الاجتماعية أي شيء ذي قيمة من التجربة. تشير توقعاتهم حول الغرباء العشوائيين، أو حول سلوكهم، إلى أنهم لم يغيروا آراءهم حول طريقة تصرفهم. باستخدام عبارة نيسبت وبورجيدا، «يستثني [الطلاب] في هدوءٍ أنفسهم» (وأصدقاءهم ومعارفهم) من نتائج التجارب التي تدهشهم. لكن لا يجب أن ييأس أساتذة علم النفس؛ حيث إن نيسبت وبورجيدا يشيران إلى طريقة لجعل طلابهم يفهمون الغرض من تجربة المساعدة. انتقى نيسبت وبورجيدا مجموعة جديدة من الطلاب وأخبروهم بإجراءات التجربة لكنهم لم يخبروهم بنتائجها. عرض نيسبت وبورجيدا الفيديوهين على الطلاب وقالوا للطلاب ببساطة إن الشخصين فيهما لم يساعدوا الغريب المُصاب، ثم طلبوا منهم أن يخمنوا النتائج النهائية. كانت النتيجة درامية؛ إذ كانت تخمينات الطلاب غاية في الدقة.

حتى تعلِّم الطلاب أي جوانب نفسية لا يعرفون أي شيء عنها من قبل، يجب أن تُدهشهم. لكن أي المفاجآت ستنجح؟ وجد نيسبت وبورجيدا أنه عند عرض حقيقة إحصائية مدهشة على الطلاب، لم يتعلم الطلاب أي شيء على الإطلاق. في المقابل، عندما عُرضت حالات فردية مدهشة على الطلاب — شخصان لطيفان لم يساعدا الشخص المصاب بنوبة الصرع — سرعان ما كانوا يصلون إلى تعميم ويستخلصون أن مساعدة الآخرين أكثر صعوبة مما كانوا يظنون. يلخص نيسبت وبورجيدا النتائج في عبارة خالدة لا تُنسى:

لا تضاهي عدم رغبة الطلاب في استنتاج الخاص من العام إلا رغبتهم في استخلاص العام من الخاص.

هذه نتيجة شديدة الأهمية. ربما ينبهر الأشخاص الذين يعلمون حقائق إحصائية مدهشة حول الطبيعة الإنسانية إلى الدرجة التي تجعلهم يخبرون أصدقاءهم بما سمعوه، لكن ذلك لا يعني أن فهمهم للعالم قد تغير حقيقةً. يتمثَّل اختبار تعلم الجوانب النفسية فيما إذا كان فهمك للمواقف التي تصادفها قد تغير أم لا، لا فيما إذا كنت تعلمت حقيقة جديدة. هناك فجوة كبيرة بين تفكيرنا حول الإحصاءات وتفكيرنا حول الحالات الفردية. تحظى النتائج الإحصائية ذات التفسير السببي بأثر أكبر على طريقة تفكيرنا من المعلومات غير السببية. في المقابل، حتى الإحصاءات السببية القوية لن تغيِّر المعتقدات الراسخة أو المعتقدات المتأصلة في الخبرات الشخصية. على الجانب الآخر، تحظى الحالات الفردية المدهشة بتأثير قوي، وتُعد أداة أكثر فاعلية لتعليم الجوانب النفسية؛ نظرًا لأن أي عدم اتساق يجب تسويته وتضمينه في قصة سببية. لهذا السبب يتضمن هذا الكتاب أسئلة تُوجه بصورة شخصية إلى القارئ. ومن المحتمل أكثر أن تتعلم شيئًا من خلال اكتشاف مفاجآت في سلوكك من سماع حقائق مدهشة حول الناس بصورة عامة.

في الحديث عن الأسباب والإحصاءات

«لا يمكننا أن نفترض أنهم سيتعلمون شيئًا من الإحصاءات المحضة. دعنا نعرض عليهم حالة أو حالتين فرديتين ممثلتين للتأثير على النظام ١ الخاص بهم.»

«لا داعي للقلق حيال تجاهل هذه المعلومة الإحصائية. على العكس، فهي ستُستخدم على الفور لدعم صورة نمطية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤