الفصل السابع عشر

الارتداد إلى المتوسط

مررت بأحد أكثر التجارب الكاشفة المرضية خلال مسيرتي المهنية بينما كنت أدرِّس لمجموعة من مدربي الطيران في القوات الجوية الإسرائيلية الجوانب النفسية للتدريب الفعَّال. كنت أخبرهم عن مبدأ مهم في التدريب على المهارات؛ ألا وهو أن منح المكافآت مقابل تطوير الأداء أفضل من العقاب على ارتكاب الأخطاء. يدعم هذا الافتراض دلائل كثيرة من بحوث أُجريت على الحمام، والجرذان، والبشر، وحيوانات أخرى.

عندما انتهيت من محاضرتي الحماسية، رفع أحد أكثر المدربين خبرة بين المجموعة يده وألقى كلمة قصيرة. بدأ المدرب بالإقرار بأنه بينما تعتبر مكافأة الأداء الأفضل شيئًا جيدًا للطيور، أنكر أن يكون ذلك مثاليًّا في حالة متدربي الطيران. هذا هو ما قاله: «في مناسبات عديدة امتدحت المتدربين للتنفيذ الذي لا تشوبه شائبة لإحدى المناورات الجوية. كان بلاؤهم في المرة التالية التي فيها يحاولون تنفيذ المناورة نفسها في الغالب أسوأ. على الجانب الآخر، كنت أصرخ عادةً في سماعة المتدرب محتجًا على التنفيذ السيئ للمهمة التي يقوم بها، وكان بلاؤه بشكل عام أفضل في المرة التالية التي يحاول فيها تنفيذ تلك المهمة؛ لذا، رجاءً لا تخبرنا أن المكافأة تنجح بينما العقاب لا ينجح؛ لأن العكس هو الصحيح.»

كانت تلك لحظة كاشفة جديدة، عندما رأيت بشكل مختلف أحد مبادئ الإحصاء الذي كنت أدرسه لسنوات. كان المدرب على صواب، لكنه كان مخطئًا تمامًا! كانت ملاحظته دقيقة وصحيحة: كان يلي المناسبات التي كان يمتدح فيها أداء أحد المتدربين في الغالب أداء مخيبًا، وكان يلي الإجراءات العقابية عادةً تحسنًا في الأداء. في المقابل، كان الاستدلال الذي استخلصه حول فاعلية الثواب والعقاب بعيدًا كل البعد عن الصواب. يُشار إلى ما لاحظه ذلك المدرب باسم «الارتداد إلى المتوسط»، وهو ما يرجع في تلك الحالة إلى التذبذبات العشوائية في جودة الأداء. بداهةً، كان المدرب يمتدح المتدرب الذي يتجاوز أداؤه المتوسط فقط. في المقابل، ربما كان المتدرب محظوظًا أثناء تلك المحاولة، ومن ثم كان من المحتمل أن يتدهور أداؤه بغض النظر عما إذا كان قد جرى مدحه أم لا. بالمثل، كان المدرب يصرخ في سماعة المتدرب فقط عندما يكون أداء المتدرب أقل جدًّا من المتوسط، ومن ثم من المحتمل أن يتحسن بغض النظر عما فعله المدرب. وقد ألصق المدرب تفسيرًا سببيًّا للتذبذبات الحتمية في عملية عشوائية.

استدعى هذا التحدي استجابة، لكن لم أعتقد أن الحاضرين كانوا سيتلقون درسًا في أسس التوقع بحماسة شديدة. بدلًا من ذلك، استخدمت إصبع طباشير لتحديد هدف على الأرض. طلبت من جميع الضباط في الغرفة إدارة ظهورهم للهدف وإلقاء عملتين معدنيتين عليه على التوالي، دون أن ينظروا إلى الهدف. قسنا مسافات سقوط القطع المعدنية والهدف وكتبنا نتيجة كل ضابط على السبورة. ثم، أعدنا كتابة النتائج بالترتيب، من الأفضل إلى الأسوأ في المحاولة الأولى. كان واضحًا أن معظم (لكن ليس كل) أولئك الذين أبلوا أفضل بلاء في المحاولة الأولى تدهور أداؤهم في المحاولة الثانية، فيما تحسَّن أداء الذين كان أداؤهم سيئًا في المرة الأولى بشكل عام. أشرت إلى المدربين إلى أن ما رأيناه من نتائج على السبورة تطابق مع ما سمعناه عن أداء المناورات الجوية في محاولات متتابعة. فقد كان يتبع الأداء السيئ في إحدى المحاولات تحسنًا في المحاولة اللاحقة، فيما تبع الأداء الجيد في محاولة تدهور في الأداء في محاولة تالية، في ظل غياب أي ثواب أو عقاب.

تمثَّل الاكتشاف الذي صادفته في ذلك اليوم في أن مدربي الطيران كانوا واقعين في مأزق: فنظرًا لأنهم كانوا يعاقبون المتدربين عندما كان أداؤهم سيئًا، كان هؤلاء في الغالب يثابون بأداء أفضل في محاولة تالية، حتى لو كان العقاب غير فعَّال حقيقةً. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن المدربون وحدهم في هذا المأزق. لقد اكتشفت حقيقة مهمة حول الطبيعة الإنسانية: وهي أن رد الفعل الذي نتعرض له من خلال تجاربنا في الحياة عكسي وغير منطقي. فنظرًا لأننا نميل أن نتصرف بلطف تجاه الآخرين عندما يدخلون السرور علينا ونتصرف عكس ذلك عندما يفعلون عكس ذلك، فإحصائيًّا نحن نُعاقَب لكوننا لطفاء ونثاب لكوننا غير لطفاء.

الموهبة والحظ

منذ سنوات قليلة مضت، طلب جون بروكمان، محرر مجلة «إيدج» الإلكترونية، من عدد من العلماء عرض «المعادلات المفضلة» لديهم. كانت هذه هي معادلاتي المفضلة:
النجاح = موهبة + حظ
النجاح العظيم = موهبة أكبر قليلًا + حظ كبير

يترتب على الفكرة غير المدهشة القائلة إن الحظ يسهم عادةً في النجاح تداعيات مدهشة عندما نطبِّقها على اليومين الأولين في مسابقة جولف رفيعة المستوى. حتى نبسط الأمور، هب أن متوسط ضربات المتنافسين لإكمال كل حفر الملعب في اليومين الأولين كان ٧٢ ضربة. نركِّز على لاعب أبلى بلاءً حسنًا للغاية في اليوم الأول، منهيًا اليوم بنتيجة ٦٦ ضربة. ماذا يمكن أن نتعلم من هذه النتيجة الرائعة؟ يتمثل الاستنتاج المباشر هنا في أن لاعب الجولف أكثر موهبة من لاعب الجولف المتوسط في هذه المنافسة. تشير معادلة النجاح إلى أن ثمة استنتاجًا آخر له ما يبرره أيضًا؛ ربما كان حظ لاعب الجولف الذي أبلى بلاءً أكثر من جيد في اليوم الأول لديه حظ أعلى من المتوسط في ذلك اليوم. فإذا قبلت بأن الموهبة والحظ يسهمان معًا في النجاح، فستعتبر نتيجة أن لاعب الجولف الناجح كان محظوظًا مؤكدة قدر نتيجة أن لاعب الجولف موهوب.

وفق المنطق نفسه، إذا ركزت على لاعب زاد على العدد المفترض لإكمال كل حفر الملعب بخمس ضربات في ذلك اليوم، فسيتوفر لديك سبب لاستنتاج أن اللاعب ضعيف «وأيضًا» كان حظه سيئًا. بالطبع، تعلم أن كلا الاستنتاجين غير مؤكد. من المحتمل جدًّا أن اللاعب الذي حقق نتيجة قيمتها ٧٧ ضربة كان موهوبًا جدًّا لكن يومه كان سيئًا للغاية. على الرغم من أنها غير مؤكدة، تعتبر الاستنتاجات التالية التي تعتمد على نتيجة اليوم الأول مقبولة وستكون صحيحة أكثر عادةً مما تكون خطأ:
نتيجة فوق المتوسطة في اليوم الأول = موهبة فوق المتوسطة  + حظ في اليوم الأول
و
نتيجة تحت المتوسطة في اليوم الأول = موهبة تحت المتوسطة  + سوء حظ في اليوم الأول
هب الآن أنك تعرف نتيجة لاعب جولف في اليوم الأول، وطُلب منك توقع نتيجته في اليوم الثاني. تتوقع أن يحافظ اللاعب على المستوى نفسه من الموهبة في اليوم الثاني؛ لذا ستكون أفضل تخميناتك «فوق المتوسط» بالنسبة إلى اللاعب الأول، و«تحت المتوسط» بالنسبة إلى اللاعب الثاني. يعتبر الحظ، بالطبع، أمرًا مختلفًا. بما أنك ليس لديك طريقة للتنبؤ بحظ اللاعبين في اليوم الثاني (أو في أي يوم آخر)، فستدور أفضل تخميناتك في إطار المتوسط، لا جيد ولا سيئ، وهو ما يعني أن في غياب أي معلومات أخرى، يجب ألا تكون أفضل تخميناتك حول نتيجة اللاعبين في اليوم تكرارًا لأدائهم في اليوم الأول. هذا أقصى ما يمكن أن تقوله:
  • من المحتمل أن لاعب الجولف الذي أبلى بلاءً حسنًا في اليوم الأول سيبلي بلاءً حسنًا في اليوم الثاني أيضًا، وإن كان أداؤه سيكون أقل مما في اليوم الأول؛ نظرًا لعدم احتمال استمرار الحظ الاستثنائي الذي صادفه في اليوم الأول.

  • من المحتمل أن يقع لاعب الجولف الذي أبلى بلاءً سيئًا في اليوم الأول في مرتبة أقل من المتوسط في اليوم الثاني، لكنه سيتحسن؛ نظرًا لعدم احتمال استمرار الحظ السيئ في اليوم الثاني.

نتوقع أيضًا أن يتقلص الفارق بين لاعبي الجولف في اليوم الثاني، على الرغم من أن أفضل تخميناتنا تتمثل في أن لاعب الجولف الأول سيظل يبلي بلاءً أفضل من اللاعب الثاني.

كان طلابي يدهشون دومًا عند سماع أن أفضل أداء يجري توقعه في اليوم الثاني أكثر توسطًا؛ أي أقرب إلى المتوسط من الدلائل التي يعتمد عليها (النتيجة في اليوم الأول). لهذا السبب يُطلق على هذا النمط «الارتداد إلى المتوسط». وكلما كانت النتيجة الأولى أكثر تطرفًا، نتوقع ارتدادًا أكثر؛ نظرًا لأن النتيجة الجيدة أكثر مما ينبغي إنما تشير إلى يوم حظ عظيم. وبينما يعتبر التوقع الارتدادي منطقيًّا، فإنه لا يمكن ضمان دقته. سيُبلي بضعة لاعبي جولف حققوا نتيجة قيمتها ٦٦ في اليوم الأول بلاءً أفضل في اليوم الثاني، إذا تحسَّن حظهم. وسيبلي معظم اللاعبين بلاءً أسوأ؛ نظرًا لأن حظهم لن يتجاوز المتوسط في اليوم التالي.

لنجرِ التجربة الآن في عكس الاتجاه الزمني. رتِّب اللاعبين وفق أدائهم في اليوم الثاني وارصد أداءهم في اليوم الأول. ستجد بالضبط النمط نفسه من الارتداد للمتوسط. ربما كان اللاعبون الذين أبلوا أفضل بلاء في اليوم الثاني محظوظين في ذلك اليوم، وربما كان أفضل التخمينات هو أنهم كانوا أقل حظًّا وأبلوا بلاء أقل في اليوم الأول. يجب أن تسهم حقيقة ملاحظتك للارتداد، عندما كنت تتنبأ بحدث سابق من خلال حدث لاحق، في إقناعك بأن الارتداد ليس له تفسير سببي.

تظهر آثار الارتداد في كل شيء، وهكذا الحال بالنسبة للقصص السببية غير الصحيحة التي تفسرها. من الأمثلة المعروفة في هذا المجال «شؤم مجلة سبورتس إيلستريتد»، وهو الزعم أن الرياضي الذي تظهر صورته على غلاف هذه المجلة سيؤدي حتمًا أداءً سيئًا في الموسم التالي. تقدَّم الثقة المفرطة وضغوط تحقيق التوقعات المرتفعة المنتظرة عادةً كتفسيرات لذلك. في المقابل، هناك تفسير أبسط لمسألة الشؤم هذه؛ ألا وهو أن الرياضي الذي يظهر على غلاف المجلة من المفترض أنه أبلى بلاءً استثنائيًّا في الموسم السابق، ربما بمساعدة دفعة من الحظ، والحظ متقلب دائمًا.

صادف أن شاهدت منافسة للقفز التزلجي للرجال في الأولمبياد الشتوية عندما كنا أنا وعاموس نكتب بحثًا حول التوقع الحدسي. كان كل رياضي يحظى بقفزتين في المنافسة، وكانت نتيجتا كل متسابق تُدمج في النتيجة النهائية. جفلت عند سماع المعلق يقول عندما كان المتسابقون يستعدون لأداء القفزة الثانية: «حققت النرويج قفزة عظيمة في المرة الأولى. لا بد أن المتسابق سيشعر بالتوتر، آملًا في الحفاظ على تقدمه وربما سيؤدي قفزة أسوأ»، أو «حققت السويد قفزة أولى سيئة ويعرف متسابقها أن ليس لديه ما يخسره وسيشعر بالاسترخاء، وهو ما يجب أن يساعده على القفز بصورة أفضل.» من الواضح أن المعلق قد قام بالارتداد إلى المتوسط وابتدع قصة سببية لم يكن لها ما يبرهنها. ربما كانت القصة نفسها صحيحة. ربما لو قسنا نبض اللاعبين قبل كل قفزة، لكنَّا سنجد أنهم يشعرون بالاسترخاء فعلًا بعد قفزة أولى سيئة. وربما لا. لعل ما يجب تذكره هنا هو أن التغير من القفزة الأولى إلى الثانية لا يحتاج إلى تفسير سببي؛ إذ يعتبر من قبيل النتيجة الرياضية الحتمية أن الحظ لعب دورًا في نتيجة القفزة الأولى. ورغم أن هذه القصة قد لا تكون مقنعة تمامًا — نظرًا لتفضيلنا جميعًا تفسيرًا سببيًّا — إلا أن هذه هي حقيقة الأمر بالفعل.

فهم الارتداد

سواء لم تُرصَد ظاهرة الارتداد أو فُسِّرت تفسيرًا خطأ، فإنها ظاهرة غريبة على العقل الإنساني، غريبة إلى درجة التعرف عليها وفهمها لأول مرة بعد مائتي عام من ظهور نظرية الجاذبية والتفاضل والتكامل. بالإضافة إلى ذلك، تطلَّب الأمر توفر أحد أفضل العقول في بريطانيا في القرن التاسع العاشر لتفسيرها، وكان ذلك بصعوبة بالغة.

اكتُشفت ظاهرة الارتداد إلى المتوسط وسميت بهذا الاسم في أواخر القرن التاسع عشر على يد سير فرانسيس جالتون؛ ابن عم غير شقيق لتشارلز داروين وعالم موسوعي مشهور. تستطيع استشعار مدى الإثارة عند اكتشاف الظاهرة في بحث نُشر في عام ١٨٨٦ بعنوان «الارتداد إلى المتوسط في الطول الوراثي»، وهي دراسة تشير إلى قياسات الحجم في أجيال متتابعة من البذور وفي مقارنات لأطوال الأبناء بالنسبة لأطوال آبائهم. كتب جالتون حول دراساته للبذور قائلًا:

أفضت الدراسات إلى نتائج بدت لافتة للغاية، واستخدمتُها كأساس لمحاضرة أمام المعهد الملكي في ٩ فبراير، ١٨٧٧. اتضح من خلال هذه التجارب أن الثمرات «لا» تميل إلى التشابه مع البذور الأم في الحجم بل تميل إلى أن تكون دائمًا أكثر توسطًا منها؛ أي أن تكون أصغر حجمًا من البذور الأم إذا كانت تلك البذور كبيرة الحجم، وإلى أن تكون أكبر حجمًا من البذور الأم إذا كانت تلك البذور صغيرة الحجم جدًّا … أظهرت التجارب أيضًا أن ارتداد الثمرات تجاه المتوسط يتناسب بشكل مباشر مع انحراف البذور الأم عنها.

كان جالتون يتوقع أن يُفاجأ الجمهور المثقَّف في المعهد الملكي — أقدم صرح بحثي مستقل في العالم — «بملاحظته اللافتة» مثلما فوجئ هو. لعل ما هو لافت حقًّا هو أن جالتون فوجئ بملاحظة إحصائية اعتيادية شائعة شيوع الهواء الذي نتنفسه. بينما يمكن العثور على آثار الارتداد في كل مكان، فإننا لا ندركها على حقيقتها. فهي شديدة الوضوح لدرجة أنك لا تلاحظها. استغرق الأمر من جالتون سنوات عديدة للانتقال من اكتشافه لارتداد البذور في الحجم إلى الفكرة الأعم، القائلة إن الارتداد يحدث حتميًّا عندما تكون العلاقة الترابطية بين مقياسين متباعدة، وهو ما تطلب استعانة جالتون بألمع الإحصائيين في زمانه ليصل إلى تلك النتيجة.

كانت إحدى العقبات التي كان على جالتون تخطيها مشكلة قياس الارتداد بين المتغيرات التي يجري قياسها على مقاييس مختلفة، مثل الوزن وعزف البيانو. يجري ذلك من خلال الاستعانة بمجتمع العينة باعتباره مرجعًا قياسيًّا. تصوَّر أن الوزن وعزف البيانو جرى قياسهما لعدد ١٠٠ طفل في جميع صفوف المرحلة الابتدائية، كما صُنف الأطفال من مرتفع إلى منخفض لكل مقياس. إذا صُنِّفت جين الثالثة في عزف البيانو والسابعة والعشرين في الوزن، فمن الملائم القول إنها عازفة بيانو أفضل منها طويلة. دعنا نضع بعض الافتراضات التي تبسِّط الأمور:

في أي عمر:
  • يعتمد النجاح في عزف البيانو على عدد ساعات التدريب الأسبوعية؟

  • يعتمد الوزن فقط على تناول الآيس كريم؟

  • لا يرتبط تناول الآيس كريم بعدد ساعات التدريب الأسبوعية على عزف البيانو؟

نستطيع الآن، باستخدام التصنيفات (أو «النتائج القياسية» التي يفضلها علماء الإحصاء)، كتابة بعض المعادلات:
الوزن = العمر + تناول الآيس كريم
عزف البيانو = العمر + عدد ساعات التدريب الأسبوعية

يمكنك أن تلاحظ وقوع ارتداد إلى المتوسط عندما نتوقع القدرة على عزف البيانو من خلال الوزن، أو العكس. إذا كان كل ما تعرفه عن توم هو أنه مصنَّف في المرتبة الثانية عشرة في الوزن (وهو ما يتجاوز المتوسط كثيرًا)، فيمكنك الاستنتاج (إحصائيًّا) أن توم ربما أكبر سنًّا من متوسط الأعمار، وأيضًا أن توم ربما يتناول آيس كريم أكثر من الأطفال الآخرين. إذا كان كل ما تعرفه عن باربارا أنها مصنفة في المرتبة الخامسة والثمانين في عزف البيانو (وهو ما يقل كثيرًا من متوسط المجموعة)، فربما تستنتج أن باربارا على الأرجح صغيرة السن أو أنها على الأرجح تتدرب على عزف البيانو أقل من معظم الأطفال الآخرين.

يمثِّل معامل الترابط بين المقياسين، الذي يتراوح بين صفر وواحد، مقياسًا للوزن النسبي للعوامل التي يتشاركها. على سبيل المثال، نشترك جميعًا في نصف جيناتنا مع كل من أبوينا، وبالنسبة إلى السمات التي لا تؤثر العوامل البيئية عليها تأثيرًا كبيرًا، مثل الطول، لا يبتعد معامل الترابط بين الأب والطفل عن ٠٫٥٠. حتى يتسنى فهم معنى معامل الترابط، ها هي بعض الأمثلة عليه:
  • يبلغ معامل الترابط بين حجم الأشياء المُقاسة بدقة بوحدات القياس الإنجليزية أو بالوحدات المترية ١؛ فأي عامل يؤثر على أحد القياسات يؤثر أيضًا على الآخر. تعتبر ١٠٠٪ من العوامل المحددة مشتركة.

  • يبلغ معامل الترابط بين الطول والوزن كما يقيسه أصحابه بين الذكور الأمريكيين البالغين ٠٫٤١. إذا ضمنت النساء والأطفال، فسيبلغ معامل الترابط قيمة أكبر؛ نظرًا لأن جنس وعمر الأفراد يؤثر على طولهم ووزنهم، وهو ما يدعم الوزن النسبي للعوامل المشتركة.

  • يبلغ معامل الترابط بين نتائج اختبارات السات ومتوسط الدرجات التراكمي لجامعة ٠٫٦٠ تقريبًا. في المقابل، يبلغ معامل الترابط بين اختبارات القدرات والنجاح في كليات الدراسات العليا قيمة أقل بكثير، ويرجع ذلك بصورة كبيرة إلى أن القدرات المُقاسة تختلف قليلًا في هذه المجموعة المُختارة. إذا كان الجميع يمتلكون القدرات نفسها، فمن غير المحتمل أن تلعب الاختلافات في هذا النوع من القياس دورًا كبيرًا في قياسات النجاح.

  • يبلغ معامل الترابط بين الدخل ومستوى التعليم في الولايات المتحدة ٠٫٤٠ تقريبًا.

  • يبلغ معامل الترابط بين دخل العائلة والأربعة أرقام الأخيرة من رقم هاتفهم صفرًا.

استغرق الأمر من فرانسيس جالتون سنوات عديدة لاستجلاء أن الترابط والارتداد ليسا مفهومين؛ بل منظوران مختلفان للمفهوم نفسه. ورغم أن القاعدة العامة مباشرة، يترتب عليها نتائج مدهشة. فمتى كانت العلاقة الترابطية بين نتيجتين غير كاملة، سيكون هناك ارتداد إلى المتوسط. لتوضيح اكتشاف جالتون، خذ مثلًا الافتراض التالي الذي يجده معظم الناس شائقًا:

تميل النساء شديدات الذكاء إلى الزواج من رجال أقل ذكاءً منهن.

تستطيع البدء في محادثة في حفل عن طريق طلب تقديم تفسير، وسيلتزم أصدقاؤك بذلك دون تردد. حتى هؤلاء الذين تعرضوا بصورة أو بأخرى للإحصاء سيفسِّرون هذه العبارة تلقائيًّا في إطار سببي. ربما يعتقد البعض أن النساء شديداتِ الذكاء يردن تفادي المنافسة مع أزواج أذكياء مثلهن، أو أنهن مجبورات على التنازل في اختيارهن للأزواج؛ نظرًا لأن الرجال الأذكياء لا يريدون الدخول في تنافس مع نساء ذكيات. سترد تفسيرات متطرفة أخرى في حفل ممتع. فكِّر الآن في هذه العبارة:

ليست العلاقة الترابطية بين نتائج ذكاء الأزواج كاملة.

هذه عبارة صحيحة تمامًا وليست شائقة على الإطلاق. من عساه يتوقع أن تكون العلاقة الترابطية هنا كاملة؟ لا يوجد شيء يمكن تفسيره هنا. في المقابل، تعتبر العبارة التي وجدتها شائقة والعبارة التي وجدتها تافهة متكافئتين رياضيًّا. إذا كانت العلاقة الترابطية بين ذكاء الأزواج غير كاملة (وإذا كان الرجال والنساء في المتوسط لا يختلفون في الذكاء)، إذن من قبيل الحتمية الرياضية أن تتزوج نساء شديدات الذكاء من أزواج هم في المتوسط أقل ذكاءً منهن (والعكس صحيح، بالطبع). لا يمكن أن يكون الارتداد إلى المتوسط المُلاحظ أكثر تشويقًا أو قابلية للتفسير من العلاقة الترابطية غير الكاملة.

ربما تتعاطف مع صراع جالتون مع مفهوم الارتداد. في حقيقة الأمر، اعتاد عالم الإحصاء ديفيد فريدمان القول إنه إذا ظهر موضوع الارتداد في محاكمة جنائية أو مدنية، فسيخسر الطرفُ الذي يتوجَّب عليه تفسير حدوث الارتداد للمحلفين القضيةَ. لماذا يُعد ذلك أمرًا في منتهى الصعوبة؟ يظهر السبب الرئيسي صعوبة في ذلك على نحو متكرر في هذا الكتاب. فعقلنا منحاز بقوة تجاه التفسيرات السببية ولا يتعامل جيدًا مع «الإحصاءات المحضة». فعندما يُستدعى انتباهنا إلى أحد الأحداث، ستبحث الذاكرة الترابطية عن سبب له، بصورة أكثر دقة، ستمتد عملية التنشيط آليًّا إلى أي سبب مخزَّن بالفعل في الذاكرة. بينما ستستثار التفسيرات السببية عندما يجري تحديد حالة ارتداد، ستكون هذه التفسيرات خاطئة لأن حقيقة الأمر أن الارتداد إلى المتوسط يحظى بتفسير، لكنه ليس له سبب. يتمثَّل الحدث الذي يجذب انتباهنا في مثال الجولف في التدهور المتكرر لأداء اللاعبين الذين أبلوا بلاءً حسنًا في اليوم الأول. لعل أفضل التفسيرات لذلك يتمثَّل في أن أولئك اللاعبين كانوا غير محظوظين على الإطلاق ذلك اليوم، غير أن هذا التفسير يفتقر إلى القوة السببية التي تفضلها عقولنا. في حقيقة الأمر، ندفع أموالًا كثيرة مقابل تقديم تفسيرات شائقة لآثار الارتداد. من المحتمل أن المعلق المتخصص في شئون الأعمال الذي يعلن عن حق قائلًا إن «الشركة أبلت بلاءً حسنًا هذا العام لأنها أبلت بلاءً سيئًا العام الماضي»؛ لن يستمر كثيرًا كمعلق في هذا المجال.

•••

ترجع الصعوبات التي نواجهها مع مفهوم الارتداد إلى نظامي ١ و٢. دون توجيه محدد، وفي بعض الحالات القليلة التي توافَّر فيها توجيه إحصائي محدود، لا تزال العلاقة بين الترابط والارتداد مبهمة. يجد النظام ٢ من الصعوبة بمكان الفهم والتعلم، وهو ما يرجع جزئيًّا إلى الحاجة الملحة لتقديم تفسيرات سببية، وهي إحدى خصائص النظام ١.

يتحسَّن الأطفال الذين يعانون من الاكتئاب الذين عولجوا من خلال تناول أحد مشروبات الطاقة كثيرًا خلال فترة ثلاثة أشهر.

بينما اختلقت هذا العنوان الصحفي، لا تزال الحقيقة التي يشير إليها صحيحة. فإذا عالجت مجموعة من الأطفال المصابين بالاكتئاب بعض الوقت باستخدام أحد مشروبات الطاقة، فسيظهر هؤلاء الأطفال تحسنًا إكلينيكيًّا كبيرًا، وهو ما يحدث أيضًا في حالة الأطفال المصابين بالاكتئاب الذين يقضون بعض الوقت واقفين على رءوسهم أو يحتضنون قطة مدة عشرين دقيقة كل يوم. بينما سيستنتج معظم القراء الذين يقرءون مثل هذه العناوين تلقائيًّا أن مشروب الطاقة أو احتضان القطة تسبب في تحسن حالة الأطفال، ليس هذا الاستنتاج مبررًا على الإطلاق. يعتبر الأطفال المصابون بالاكتئاب مجموعة تتسم بالتطرف — فهم أكثر اكتئابًا من معظم الأطفال الآخرين — ومن المألوف أن ترتد المجموعات المتطرفة إلى المتوسط عبر الوقت. ليست العلاقة الترابطية بين نتائج الاكتئاب في حالات متتابعة من الاختبار كاملة؛ لذا سيحدث ارتداد إلى المتوسط. فسيتحسن الأطفال المصابون بالاكتئاب نوعًا ما عبر الوقت حتى إذا لم يحتضنوا قططًا أو يشربوا مشروب طاقة. حتى يتسنى استنتاج أن أي مشروب طاقة — أو أي علاج آخر — فعَّال، يجب مقارنة مجموعة من المرضى الذين يتلقون هذا العلاج ﺑ «مجموعة ضابطة» لم تتلقَهُ (أو، من الأفضل، أن تتلقى دواءً وهميًّا). من المتوقع أن تتحسن المجموعة الضابطة عبر الارتداد وحده، وتهدف التجربة إلى تحديد ما إذا كان المرضى المُعالجون يتحسنون أكثر مما يستطيع الارتداد تفسيره.

لا تقتصر التفسيرات السببية غير الصحيحة لآثار الارتداد على قراء الصحافة الرسمية. أعد عالم الإحصاء هوارد وينر قائمة طويلة بباحثين بارزين ارتكبوا الخطأ نفسه — وهو الخلط بين الترابط المحض والسببية. تعتبر آثار الارتداد مصدرًا شائعًا للمشكلات في البحوث، ولا غرو في وجود مشاعر الخوف الصحية لدى العلماء المخضرمين من الوقوع في شرك الاستنتاجات السببية غير المبررة.

•••

أقتبس أحد أمثلتي المفضلة على أخطاء التوقع الحدسي من كتاب ماكس بازرمان الرائع «إصدار الأحكام في عملية اتخاذ القرار الإدارية»:

أنت الشخص المسئول عن التنبؤ بالمبيعات في أحد سلاسل المتاجر الكبرى. بينما تتشابه جميع المتاجر في الحجم واختيار البضائع المعروضة، تختلف المبيعات فيها وفق الموقع، والمنافسة، وعوامل أخرى عشوائية. تُعرض عليك نتائج مبيعات عام ٢٠١١ ويُطلب منك توقُّع حجم المبيعات في عام ٢٠١٢. طُلب منك قبول التوقع الإجمالي للاقتصاديين الذي يشير إلى أن حجم المبيعات سيزيد إجمالًا بنسبة ١٠٪. كيف تملأ الجدول التالي؟

متجر ٢٠١١ ٢٠١٢
١ ١١ مليون دولار
٢ ٢٣ مليون دولار
٣ ١٨ مليون دولار
٤ ٢٩ مليون دولار
الإجمالي ٨١ مليون دولار ٨٩ مليون ومائة ألف دولار

بقراءتك هذا الفصل، تعرف أن الإجابة البديهية المتمثلة في إضافة ١٠٪ إلى مبيعات كل متجر إجابة خاطئة. يجب أن ترتد توقعاتك إلى المتوسط، وهو ما يتطلب إضافة أكثر من ١٠٪ إلى المتاجر الأقل مبيعًا، وإضافة أقل من ١٠٪ إلى المتاجر الأخرى (أو ربما طرح نسبة منها). في المقابل، إذا سألت آخرين، فمن المحتمل أن تصادف الحيرة عند الإجابة عن سؤال: لماذا أتحيَّر في الإجابة عن سؤال بديهي؟ مثلما اكتشف جالتون بعد جهد جهيد، يعتبر مفهوم الارتداد بعيدًا كل البعد عن الوضوح.

في الحديث عن الارتداد إلى المتوسط

«تقول إن التجربة علمتها أن النقد أكثر فاعلية من المدح. ما لا تفهمه أن مرد الأمر كله إلى الارتداد إلى المتوسط.»

«ربما كانت المقابلة الثانية التي أجراها أقل إبهارًا من الأولى؛ نظرًا لأنه كان خائفًا من إصابتنا بخيبة الأمل، وربما من المحتمل أكثر أن المقابلة الأولى كانت جيدة على نحو غير عادي.»

«إجراءاتنا في فحص المرشحين للوظائف جيدة لكنها غير كاملة؛ لذا يجب علينا أن نتوقع الارتداد. لا يجب أن نفاجأ أن أفضل المرشحين يفشلون كثيرًا في تلبية توقعاتنا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤