الفصل الثاني

الانتباه والجهد

في حال تحول هذا الكتاب إلى فيلم — وهو أمر مستبعد — سيمثل النظام ٢ شخصية مساندة تظن نفسها البطل. في هذه القصة، يتمثَّل الملمح الرئيسي المحدد للنظام ٢ في أن عملياته تتطلب جهدًا، فضلًا عن أن أحد خصائصه الرئيسية هي كسله؛ أي عزوفه عن استثمار مزيد من الجهد عما هو مطلوب؛ بناءً عليه، يجري عادةً توجيه الأفكار والأفعال التي يعتقد النظام ٢ أنه اختارها من خلال الشخصية الرئيسية التي توجد في قلب القصة؛ وهي النظام ١. في المقابل، هناك مهام حيوية لا يستطيع سوى النظام ٢ تنفيذها؛ نظرًا لأنها تتطلب جهدًا وتحكمًا في الذات يجري التغلب من خلالها على الأفكار الحدسية والدوافع الخاصة بالنظام ١.

الجهد العقلي

إذا أردت أن ترى النظام ٢ الخاص بك وهو يعمل بكامل طاقته، فسيفيد التمرين التالي في ذلك. سيشحذ هذا التمرين قدراتك الإدراكية إلى حدودها القصوى خلال خمس ثوانٍ. بدايةً، ألِّف مجموعات متعددة من الأرقام بحيث تتألف كل مجموعة من أربعة أرقام، جميعها مختلف، واكتب كل مجموعة في بطاقة فهرسة، ضع بطاقة فارغة على سطح المكتب. يُطلق على المهمة التي ستقوم بها اسم «أضف ١». ها هو التمرين:

ابدأ بعمل إيقاع منتظم (أو ربما من الأفضل، اضبط بندول الإيقاع عند ١/ث). أزل البطاقة الفارغة واقرأ الأرقام الأربعة بصوت مرتفع. انتظر دقتين، ثم اكتب مجموعة من الأرقام يزداد فيها كل رقم بمقدار ١. إذا كانت الأرقام في البطاقة هي ٥٢٩٤، ستكون الإجابة الصحيحة هي ٦٣٠٥. يُعتبر الحفاظ على الإيقاع أمرًا مهمًّا.

رغم أن قلة من الناس يستطيعون التعامل مع أكثر من أربعة أرقام في هذا التمرين، فإذا كنت تريد تحديًا أكبر، فجرِّب تمرين «أضف ٣».

إذا أردت أن تعرف ما يفعله جسدك أثناء قيام عقلك بعمله في جد، فضع كومتين من الكتب على طاولة متينة، وضع كاميرا فيديو على إحدى الكومتين وضع ذقنك على الكومة الأخرى، وأدر كاميرا الفيديو، ثم حدِّق في عدسة الكاميرا بينما تؤدي تمرينَيْ «أضف ١» و«أضف ٣». لاحقًا، ستجد في حجم حدقة عينيك الذي يتغير سجلًّا أمينًا لمدى جدك في العمل.

لدي تاريخ طويل مع تمرين «أضف ١». في وقت مبكر من مسيرتي المهنية، قضيتُ عامًا في جامعة ميشيجان، باعتباري زائرًا في معمل كان يدرس التنويم المغناطيسي. بحثًا عن موضوع مفيد للبحث، عثرت على بحث في مجلة «ساينتيفيك أمريكان»، وصف فيه عالم النفس إكهارد هيس حدقة العين باعتبارها نافذة إلى النفس. أعدت قراءة البحث مؤخرًا ووجدته مُجدَّدًا بحثًا ملهمًا. يبدأ البحث بإشارة هيس إلى أن زوجته كانت لاحظت اتساع حدقة عينيه أثناء مشاهدته صورًا طبيعية جميلة، وينتهي البحث بصورتين رائعتين لامرأة واحدة جميلة، تبدو أكثر جاذبية نوعًا ما في إحدى الصورتين أكثر من الأخرى. هناك فرق واحد فقط. تبدو حدقة العين متسعة في الصورة الجذابة وضيقة في الصورة الأخرى. كتب هيس أيضًا عن بلادونا، وهي مادة تساعد على اتساع حدقة العين، وكانت تستخدم باعتبارها مادة تجميلية، كما كتب أيضًا عن متسوقِي البازارات الذين يرتدون نظارات داكنة لإخفاء درجة اهتمامهم بالمنتجات عن التجار.

جذبت إحدى نتائج بحث هيس انتباهي على وجه الخصوص. كان هيس قد لاحظ أن حدقة العين تعتبر مؤشرًا حساسًا على الجهد العقلي؛ إذ تتسع الحدقة كثيرًا عندما يُجري الأشخاص عملية ضرب رقمين، وتتسع أكثر إذا كانت المسائل أصعب مما لو كانت سهلة. أشارت ملاحظات هيس إلى أن الاستجابة للجهد العقلي يختلف عن الاستثارة الشعورية. بينما لم تكن صلة بحث هيس كبيرة بعملية التنويم المغناطيسي، خلصتُ إلى أن فكرة وجود مؤشر بصري على الجهد العقلي تعتبر موضوعًا بحثيًّا واعدًا. شاركني طالب دراسات عليا في المعمل، ويدعى جاكسون بيتي، اهتمامي وبدأنا نعمل سويًّا.

جهزنا، بيتي وأنا، مكانًا يشبه غرفة الفحص لدى طبيب العيون، حيث كان المشارك التجريبي يسند رأسه إلى حامل يلف الذقن والجبهة ويحدق في كاميرا أثناء الاستماع إلى معلومات مسجلة مسبقًا، والإجابة على أسئلة على إيقاعات مسجلة لبندول الإيقاع. كانت الإيقاعات تؤدي إلى صدور وميض للأشعة تحت الحمراء كل ثانية، وهو ما يؤدي إلى التقاط صورة. في نهاية كل جلسة تجريبية، كنا نهرع لتحميض الفيلم، وعرض صور حدقات العين على شاشة، ثم نستخدم مسطرة. كان هذا الأسلوب يناسب تمامًا الباحثين الشباب غير الصبورين. كنا نعرف نتائج تجاربنا على الفور تقريبًا، وكانت النتائج تنبئ عن قصة واضحة دومًا.

ركَّزنا على التمارين محكومة الإيقاع، مثل «أضف ١»، التي كنا نعرف فيها على وجه الدقة ماذا كان يدور في خَلَد المشارك في التجربة في أي وقت. سجَّلنا مجموعات من الأرقام على إيقاعات بندول الإيقاع، ووجهنا المشارك إلى تَكرار أو تحويل الأرقام رقمًا رقمًا، محافظًا على الإيقاع نفسه. سرعان ما اكتشفنا أن حجم حدقة العين اختلف من ثانية إلى أخرى، على نحو يعكس تغير متطلبات التمرين. كان شكل الاستجابة حرف V مقلوبًا. مثلما تمر بذلك عند محاولة ممارسة تمرين «أضف ١» أو «أضف ٣»، يزداد الجهد مع كل رقم مُضاف تسمعه، ويصل إلى ذروة غير مسموح بها عند هروعك إلى تأليف مجموعة أرقام محوَّلة أثناء التوقف وبعده مباشرةً، وينخفض تدريجيًّا عند «إفراغك» ذاكرتك قصيرة المدى. تتطابق بيانات الحدقة تمامًا مع الخبرة الذاتية. فكانت مجموعات الأرقام الأطول تتسبب في اتساع الحدقة أكثر، وكانت مهمة التحويل تضاعف الجهد، وكانت ذروة حجم الحدقة تتطابق مع أقصى درجات الجهد. أدى تمرين «أضف ١» باستخدام أربعة أرقام إلى اتساع أكبر لحدقة العين من تمرين الاحتفاظ بسبعة أرقام لتذكرها في الحال. يعتبر تمرين أضف ٣ أكثر التمارين صعوبة ضمن التمارين التي لاحظتها على الإطلاق. في الثواني الخمسة الأولى، يزداد اتساع حدقة العين بمقدار ٥٠ في المائة من حجمه الأصلي، ويزداد معدل ضربات القلب بمقدار ٧ ضربات في الدقيقة الواحدة. يعتبر ذلك أمرًا غاية في الصعوبة؛ إذ يعلن المشاركون استسلامهم إذا طُلب منهم المزيد. فعندما عرضنا عددًا أكبر من الأرقام على المشاركين من قدرتهم على تذكرها، توقفت حدقة العين عن الاتساع أو بالأحرى انكمشت.

عملنا عدة أشهر في بدروم فسيح، وضعنا فيه نظام دائرة كهربية مغلقة، كانت تسقط صورة لحدقة عين المشارك على شاشة في الممر. كنا نستطيع أيضًا سماع ما كان يجري في المعمل. كان قُطْر الحدقة المسقطة على الشاشة يبلغ قدمًا تقريبًا. كان مشهدًا مثيرًا أن نرى حدقة العين تتسع وتنكمش عندما يكون المشارك منهمكًا في عمل ما، وكان ذلك بمثابة عامل جذب إلى حد ما لزائري معملنا. أمتعنا أنفسنا وأدهشنا زوارنا من خلال قدرتنا على التنبؤ بالوقت الذي كان المشارك يستسلم فيه ويتوقف عن المضي في ممارسة التمرين. خلال إجراء عملية ضرب عقليًّا، كانت حدقة العين تتسع عادةً إلى حجم كبير خلال ثوان معدودة، وتبقى كذلك طالما ظل المشارك منهمكًا في حل المسألة. كانت حدقة العين تنكمش مباشرةً عندما كان المشارك يحل المسألة أو يستسلم. أثناء مشاهدتنا من الممر، كنا نُدهش أحيانًا صاحب الحدقة وزوارنا عندما نسأل قائلين: «لماذا توقفت عن العمل الآن؟» كانت الإجابة من داخل المعمل عادةً: «كيف عرفت؟!» وهو ما كنا نجيب عليه قائلين: «لدينا نافذة إلى روحك.»

أحيانًا كانت الملاحظات العابرة التي كنا نلقيها من الممر دالة بقدر التجارب الرسمية نفسها. اكتشفت اكتشافًا مهمًّا بينما كنت أشاهد في كسل حدقة عين امرأة خلال فترة استراحة بين تمرينين. كانت تسند رأسها إلى حامل يلف الذقن، ومن ثم، كنت أستطيع رؤية صورة عينها أثناء انشغالها بالحديث القياسي مع الشخص القائم على التجربة. شعرت بالدهشة عندما رأيت أن حدقة العين ظلت صغيرة ولم تتسع بصورة ملحوظة بينما كانت المرأة تتحدث وتستمع. على خلاف التمارين التي كنا ندرسها، من الواضح أن المحادثة العادية لم تتطلب سوى جهد قليل أو لا جهد على الإطلاق — غير الاحتفاظ بعددين أو ثلاثة. كانت هذه لحظة كاشفة؛ فأدركتُ أن التمارين التي اخترناها للدراسة كانت مجهدة بصورة استثنائية. وهنا وردت صورة إلى الذهن: تسير الحياة العقلية — أقصد حياة النظام ٢ — عادةً وفق إيقاع تمشية مريحة، تتخللها في بعض الأحيان فترات من الجري البطيء، أو عدو سريع في حالات نادرة. بينما يعتبر تمرينا «أضف ١» و«أضف ٣» بمثابة عدو سريع، تعتبر الدردشة العابرة بمثابة عملية مشي هادئة.

وجدنا أن الناس، عندما ينخرطون في عدو عقلي، ربما يصبحون عميانًا عمليًّا. جعل مؤلفا كتاب «الغوريلا الخفية» الغوريلا «خفية» من خلال الإبقاء على المشاهدين مشغولين بشدة بعد التمريرات. وجدنا مثالًا أقل درامية من مثال الغوريلا للعماء خلال ممارسة تمرين «أضف ١». كانت تُعرض على المشاركين في تجاربنا سلسلة من الأحرف الوامضة التي تمر سريعًا أثناء ممارستهم التمرين. بينما كان يجري إخبارهم أن يعطوا التمرين الأولوية القصوى، كان يُطلب منهم أيضًا، في نهاية تمرين الأرقام، أن يذكروا إذا ما كان الحرف K يظهر في أي صف في أي وقت خلال ممارسة التمرين. كانت النتيجة الرئيسية تتمثل في أن القدرة على تحديد وذكر ظهور الحرف المقصود تختلف على مدار الثواني العشر لممارسة التمرين. بينما لم يفت على المشاركين أبدًا ملاحظة ظهور حرف K في بداية أو قرب نهاية تمرين «أضف ١»، فات المشاركين ملاحظة الهدف منتصف الوقت تقريبًا عندما كان الجهد العقلي في ذروته، على الرغم من توفر صور لدينا تبين أعين واسعة تحدِّق مباشرةً في الهدف. سارت حالات الفشل في تحديد الهدف على غرار نمط حرف V المقلوب مثلما كان الحال مع حدقة العين المتسعة. كان التشابه مُطَمئنًا. كانت حدقة العين مقياسًا جيدًا للاستثارة الجسدية التي تصاحب الجهد العقلي، وكنا نستطيع المضي قدمًا واستخدامها في فهم طريقة عمل العقل.

في تشابهها الكبير مع عداد الكهرباء خارج المنزل أو الشقة، تقدِّم حدقة العين مؤشرًا على المعدل الحالي الذي يجري استخدام الطاقة العقلية عنده. يمتد وجه الشبه إلى ما هو أبعد من ذلك. يعتمد استخدام الكهرباء على ما تختار أن تفعله، سواء كان إضاءة غرفة أو تحميص قطعة خبز. عندما تدير المصباح أو جهاز تحميص الخبز، يسحب المصباح أو الجهاز الطاقة التي يحتاج إليها لا أكثر من ذلك. بالمثل، بينما نقرر ما نفعل، لا نتحكم كثيرًا في المجهود اللازم للقيام بالعمل. هب أنه جرى عرض أربعة أرقام عليك، قل، ٩٤٦٢، وقيل لك إن حياتك تعتمد على الاحتفاظ بها في الذاكرة مدة ١٠ ثوانٍ. مهما كانت رغبتك في الحياة، لن تستطيع بذل مجهود في هذا التمرين بقدر ما ستُجبر على بذله لممارسة تمرين تحويل «أضف ٣» باستخدام الأرقام نفسها.

بينما يمتلك النظام ٢ والدوائر الكهربية في منزلك قدرة محدودة، فإنهما يستجيبان بصورة مختلفة إلى تهديد الحمل الزائد. ينغلق مفتاح فصل الكهرباء تلقائيًّا عندما يكون الطلب على التيار الكهربي زائدًا؛ وهو ما يتسبب في أن تنغلق جميع الأجهزة التي تتصل بهذه الدائرة في الحال. لكن الاستجابة إلى الحمل العقلي الزائد انتقائية ودقيقة. فيتولى النظام ٢ حماية أهم الأنشطة؛ لذا يتلقى هذا النشاط الانتباه الواجب، فيما يجري تقسيم «القدرة الاحتياطية» ثانية بثانية على الأنشطة الأخرى. في نسختنا من تجربة الغوريلا، وجهنا المشاركين إلى وضع أولوية لملاحظة الرقم المستهدف. نعرف أن المشاركين اتبعوا الإرشادات؛ نظرًا لأن توقيت الهدف البصري لا أثر له على التمرين الرئيسي. وحين جرى عرض الحرف المستهدف في وقت بذل جهد عالٍ، لم يلحظ المشاركون الحرف ببساطة. فعندما كانت مهمة التحويل أقل إلحاحًا، كانت عملية تحديد الحرف المستهدف أفضل.

دعَّم عملية التقسيم المعقدة للانتباه تاريخ طويل من التطور؛ فقد حسَّن الالتفات والاستجابة بسرعة إلى أعظم المخاطر أو أكثر الفرص وعدًا؛ فرص البقاء، ولا تقتصر هذه القدرة تأكيدًا على البشر. حتى بالنسبة للإنسان الحديث، يتولى النظام ١ زمام الأمور في حالات الطوارئ ويضع أولوية قصوى لإجراءات الحماية الذاتية. تخيَّل نفسك تقود سيارة انزلقت فجأة على بقعة زيت كبيرة. ستجد أنك استجبت إلى التهديد قبل أن تصبح واعيًا تمامًا به.

عملنا — بيتي وأنا — معًا مدة عام واحد فقط، لكن كان تعاوننا ذا أثر كبير على مسارنا المهني لاحقًا. بينما صار بيتي أحد أهم المرجعيات في مجال قياس حدقة العين وعلاقته بالإدراك، كتبتُ كتابًا عنوانه «الانتباه والجهد»، وهو كتاب اعتمد إلى حد كبير على ما تعلمناه معًا وعلى البحوث التالية التي قمت بها في هارفرد العام التالي. تعلمنا الكثير عن العقل العامل — الذي أنظر إليه الآن باعتباره النظام ٢ — من خلال قياس حجم حدقة العين أثناء ممارسة مهام متنوعة.

عند إتقانك مهارة أداء مهمة ما، تقل الطاقة اللازمة لأدائه. أظهرت الدراسات حول الدماغ أن نمط النشاط المصاحب لعمل ما يتغير مع تزايد المهارة، في ظل انخراط مناطق أقل من الدماغ في الأمر. تترتب على الموهبة آثار مشابهة؛ إذ يحتاج الأفراد من ذوي الذكاء المرتفع إلى جهد أقل لحل المشكلات نفسها، مثلما يشير إلى ذلك حجم حدقة العين والنشاط الدماغي. ينطبق «قانون الجهد الأقل» العام على الجهد الإدراكي والجهد البدني على حد سواء. يشير القانون إلى أنه في حال وجود طرق عديدة لتحقيق الهدف نفسه، سيميل الناس في الغالب إلى اختيار مسار العمل الأقل إلحاحًا وجهدًا. في مجال اقتصاد الأفعال، يعتبر الجهد تكلفة، ويجري اكتساب المهارة من خلال تحقيق التوازن بين المنافع والتكاليف. إن هذا يعني أن الكسل متأصل بعمق في طبيعتنا.

تباينت التمارين التي درسناها كثيرًا في آثارها على حدقة العين. كحد أدنى، كان المشاركون في تجاربنا يقظين وواعين، وكانوا مستعدين للانخراط في ممارسة تمرين ما ربما عند مستوى أعلى بكثير من الاستعداد الإدراكي والاستثارة من المستوى المعتاد. بينما كان الاحتفاظ برقم أو رقمين في الذاكرة أو تعلم الربط بين كلمة ورقم (٣ = باب)، يؤدي إلى تحقيق آثار مضمونة على الاستثارة الآنية فوق مستوى الحد الأدنى هذا؛ كانت الآثار ضئيلة للغاية، فيما لا يزيد عن ٥ في المائة فقط من زيادة قطر حدقة العين المرتبط بممارسة تمرين «أضف ٣». كان التمرين الذي يتطلب التمييز بين درجة ارتفاع نبرتين يؤدي إلى اتساع حدقة العين كثيرًا. أظهر بحث حديث أن الحد من الميل لقراءة الكلمات التي تشتت الانتباه (مثلما في الشكل ١-١ في الفصل السابق) يشتمل أيضًا على بذل جهد متوسط. كانت اختبارات الذاكرة القصيرة المدى لتذكر ستة أو سبعة أرقام تتطلب مجهودًا أكبر. مثلما ترى ذلك عند ممارسته، يتطلب طلب استرجاع وذكر رقم هاتفك أو تاريخ ميلاد شريك حياتك بصوت عالٍ أيضًا بذل جهد لفترة قصيرة لكنه كبير في الحجم؛ نظرًا لأن مجموعة الأرقام بكاملها يجب الاحتفاظ بها في الذاكرة عند الاستعداد للإجابة على السؤال. تقترب عملية إجراء الضرب العقلية لعددين وتمرين «أضف ٣» من الحد الأقصى لما يمكن أن يقوم به معظم الناس.

ماذا يجعل بعض العمليات الإدراكية أكثر إلحاحًا وجهدًا من العمليات الأخرى؟ ما النتائج التي سنحصل عليها في مقابل جهد الانتباه؟ ما الذي يستطيع النظام ٢ عمله ولا يستطيعه النظام ١؟ تتوفر لدينا حاليًّا إجابات مبدئية على هذه الأسئلة.

يلزم الجهد للاحتفاظ آنيًّا في الذاكرة بعدة أفكار يتطلب كل منها القيام بعمل منفصل، أو التي تحتاج إلى الدمج بينها وفق قاعدة ما؛ مثل مراجعة قائمة التسوق عند دخول المتجر، أو الاختيار بين السمك واللحم البقري في مطعم، أو الجمع بين نتيجة مدهشة تولدت عن أحد الاستقصاءات ومعلومة أن العينة كانت صغيرة. يستطيع النظام ٢ العمل وفق قواعد فقط، ومقارنة أشياء بالنظر إلى عدة صفات بها، واتخاذ قرارات اختيار مقصودة بين الآراء. لا يمتلك النظام ١ الآلي هذه القدرات. بينما يحدد النظام ١ العلاقات البسيطة (مثل «إنها جميعًا متشابهة» و«الابن أطول كثيرًا من الأب») ويبرع في دمج المعلومات حول شيء واحد، فإنه لا يستطيع التعامل مع موضوعات مختلفة متعددة في آن واحد، كما لا يبرع في استخدام المعلومات الإحصائية الصرفة. بينما سيحدد النظام ١ أن الشخص الذي جرى وصفه باعتباره «شخصًا صبورًا ومرتبًا، يميل إلى النظام والتنظيم، وشغوف بالتفاصيل» يشبه شخصية كاريكاتورية لأمين مكتبة، تعتبر عملية دمج هذا الشعور الحدسي مع المعرفة بالعدد المحدود من أمناء المكتبة مهمةً لا يستطيع سوى النظام ٢ فقط تنفيذها — فقط إذا استطاع النظام ٢ معرفة كيفية تنفيذ ذلك، وهو أمر ينطبق على عدد قليل من الناس.

تتمثل إحدى القدرات المهمة في النظام ٢ في إعادة تهيئة النظام المعرفي للتعامل مع المهام الجديدة؛ أي قدرته على برمجة الذاكرة لتنفيذ أحد الأوامر التي تتجاوز الاستجابات المعتادة. تدبر مثلًا عدَّ جميع حالات ظهور حرف معين في هذه الصفحة. بينما لا يعتبر ذلك تمرينًا قمت به من قبل ولن يتأتى لك بسهولة، يستطيع النظام ٢ تولي عملية تنفيذه. سيكون مجهدًا أن تستعد لهذا التمرين، وسيكون مجهدًا أن تنفذه، على الرغم من أنك ستتحسن يقينًا مع الممارسة. يتحدث علماء النفس عن «التحكم التنفيذي» لوصف عملية تنفيذ والانتهاء من عملية إعادة التهيئة هذه، وقد حدد علماء الأعصاب المناطق الرئيسية في الدماغ التي تؤدي الوظيفة التنفيذية. تنخرط إحدى هذه المناطق في تنفيذ الوظيفة التنفيذية متى كان يجب التوصل إلى حل لأحد الصراعات. وتنخرط إحدى المناطق الأخرى في تنفيذ الوظيفة التنفيذية؛ ألا وهي المنطقة الأمامية الجبهية من الدماغ، وهي منطقة تتميز بتطورها الشديد في البشر عنها في الثدييات العليا، وهي منطقة تنخرط في العمليات التي نربطها بالذكاء.

هب أنه في نهاية الصفحة طُلب منك ممارسة تمرين آخر؛ ألا وهو عَدُّ جميع الفاصلات في الصفحة التالية. سيكون هذا التمرين أصعب؛ نظرًا لأن سيكون عليك تجاوز الميل الجديد المكتسب لتركيز الانتباه على الحرف الذي طلب منك تحديده في الصفحة السابقة. يتمثل أحد الاكتشافات المهمة لعلماء النفس الإدراكيين في العقود الأخيرة في أن الانتقال من تمرين إلى آخر مسألة مجهدة، خاصةً في ظل ضغط الوقت. تمثل الحاجة إلى الانتقال السريع أحد الأسباب في أن تمرين «أضف ٣» وإجراء عملية الضرب في العقل يعتبران غاية في الصعوبة. لإجراء تمرين «أضف ٣»، يجب الاحتفاظ بعدة أرقام في ذاكرتك العاملة في الوقت نفسه، رابطًا كلًّا منها بعملية محددة؛ مثل أن توجد بعض الأرقام في طور التحويل، أحد الأرقام قيد عملية التحويل، وأرقام أخرى جرى تحويلها بالفعل، ولا يبقى سوى الإفصاح عنها. تتطلب الاختبارات الحديثة على الذاكرة العاملة من المشاركين الانتقال أكثر من مرة بين تمرينيْن ملحَّين، مع الاحتفاظ بنتائج عملية واحدة أثناء إجراء عملية أخرى. يميل الأشخاص الذين يؤدون أداء جيدًا في هذه الاختبارات إلى الأداء بالشكل مثله في اختبارات الذكاء العام. في المقابل، لا تقتصر القدرة على التحكم في الانتباه على قياس الذكاء. فتتنبأ قياسات الكفاءة في التحكم في الانتباه بأداء المراقبين الجويين وطياري القوات الجوية فيما يتجاوز عوامل الذكاء.

يعتبر ضغط الوقت أحد العوامل الأخرى الدافعة إلى بذل الجهد. عند ممارسة تمرين «أضف ٣»، فُرِضَ الإسراع في ممارسة التمرين جزئيًّا من خلال بندول الإيقاع وجزئيًّا من خلال حِمل الذاكرة. فمثل لاعب السيرك الذي يتحكم في عدة كرات في الهواء، لا يمكنك أن تبطئ؛ يفرض المعدل الذي تضمحل به المواد في الذاكرة إيقاع العمل، وهو ما يدفعك إلى تنشيط ومراجعة المعلومات قبل فقدانها. يتميز أي تمرين يتطلب الاحتفاظ بعدة أفكار في العقل في الوقت نفسه بالطابع المتسارع ذاته. وما لم يكن حظك وافرًا في امتلاك ذاكرة عاملة كبيرة، ربما تُجبر على العمل بجد بصورة غير مريحة. تتمثل الأشكال الأكثر جهدًا للتفكير البطيء في تلك الأشكال التي تتطلب منك التفكير بسرعة.

لاحظت لا شك عند ممارسة تمرين «أضف ٣» كيف كان أمرًا غير عادي أن يعمل عقلك على هذا النحو من الجد. حتى لو كان عملك يتطلب التفكير، لا يوجد سوى قليل من التمارين العقلية التي تنخرط فيها في إطار يوم عمل تساوي في إلحاحها ممارسة تمرين «أضف ٣»، أو حتى تخزين ستة أرقام في الذاكرة من أجل استدعائها في الحال. ونحن نتجنب عادةً الحِمل العقلي الزائد من خلال تقسيم مهامنا إلى خطوات سهلة متعددة، محيلين النتائج البينية إلى الذاكرة طويلة المدى أو إلى الورق، بدلًا من إحالتها إلى ذاكرة عاملة يسهل وقوعها فريسة للحمل الزائد. إننا نقطع مسافات طويلة وفق الإيقاع الذي يناسبنا ونتحكم في حياتنا العقلية من خلال قانون الجهد الأقل.

في الحديث عن الانتباه والجهد

«لن أحاول حل هذا التمرين أثناء القيادة. هذا تمرين يؤدي إلى اتساع حدقة العين. يتطلب هذا التمرين جهدًا عقليًّا!»

«ينطبق قانون الجهد الأقل هنا، سيفكر بأقل قدر ممكن.»

«إنها لم تنسَ الاجتماع، بل كانت تركِّز تركيزًا شديدًا على شيء آخر عندما تم تحديد موعد الاجتماع ولم تستطع سماعك.»

«ما ورد إلى ذهني سريعًا كان حدسًا آتيًا من النظام ١. عليَّ أن أبدأ مجددًا وأن أبحث في ذاكرتي بشكل واعٍ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤