الفصل العشرون

وهم الصحة

إن النظام ١ مُصمَّم للقفز إلى الاستنتاجات بناءً على دلائل قليلة، وغير مصمَّم لمعرفة حجم تلك القَفَزات. ونظرًا لتوفر مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك»، فوحدها الدلائل المتوفرة هي ذات البال، ونظرًا لتوفر الثقة من خلال التماسك، تعكس الثقة الذاتية التي نحظى بها في آرائنا تماسك القصة التي بناها النظام ١ والنظام ٢. لا يُعتبر حجم الدلائل وجودتها ذا بال؛ نظرًا لأن الدلائل غير القوية يمكن أن تصنع قصة جيدة جدًّا. بالنسبة إلى بعض أهم معتقداتنا، لا نملك أي دليل على الإطلاق عليها، بخلاف أن الأشخاص الذين نحبهم ونثق بهم يؤمنون بها. وبالنظر إلى قلة ما نعرف، تُعتبر ثقتنا في معتقداتنا عبثية، لكنها ضرورية أيضًا.

وهم الصحة

منذ عقود كثيرة مضت، قضيتُ ما بدا وقتًا طويلًا في الشمس المحرقة، أراقب مجموعات من الجنود المتعرقين أثناء حل إحدى المسائل. كنت أؤدي خدمتي العسكرية في الجيش الإسرائيلي وقتها، وكنت قد حصلت لتوي على درجتي العلمية في علم النفس، وبعد عام كضابط مشاة وُجِّهت إلى فرع علم النفس في الجيش، حيث كان من أحد مهامي بين الحين والآخر المساهمة في تقييم المرشحين للتدريب للانضمام إلى مدرسة تدريب الضباط. كنا نستخدم أساليب طورها الجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية.

أُجري اختبار يطلق عليه «تحدي مجموعة بلا قيادة»، على ميدان تدريب مجهز. جرى توجيه ثمانية مرشحين، لا يعرف أحدهم الآخر، مع نزع جميع شارات الرتبة وتعريفهم من خلال أرقام فقط، بحمل زند خشبي طويل من الأرض وسحبه إلى حائط يبلغ ارتفاعه ستة أقدام. كان على المجموعة كلها أن تعبر إلى الجانب الآخر من الحائط دون أن يلمس الزند الخشبي الأرض أو الحائط، ودون أن يلمس أي فرد الحائط. إذا حدث أيٌّ من ذلك، فعلى المجموعة إعلان فشلها والبدء مجددًا في الاختبار.

كان هناك أكثر من طريقة للتوصل إلى حل المسألة؛ فكان أحد الحلول الشائعة يتمثل في أن يرسل الفريق عدة أفراد إلى الجانب الآخر عن طريق الزحف فوق الزند عند إمالته بزاوية معينة، مثل صنارة صيد عملاقة، من خلال أعضاء الفريق الآخرين. أو ربما يصعد بعض الجنود فوق أكتاف آخرين ويقفزون عبر الحائط، ثم يكون على آخِر من يقفز أن يقفز إلى الزند، الذي جرت إمالته إلى زاوية معينة عن طريق باقي أفراد المجموعة، متسلقًا الزند بتطويقه بذراعيه وساقيه وهو يمضي متحركًا بطول الزند أثناء إبقاء الآخرين له وللزند معلقًا في الهواء، ثم يقفز في أمان إلى الجانب الآخر. كان الفشل شائعًا في هذه المرحلة، وهو ما كان يتطلب البدء من جديد.

أثناء مراقبتي وأحد الزملاء لأداء هذا التمرين، دوَّنَّا ملاحظة حول من كان يتولى قيادة المجموعة، ومن كان يحاول القيادة لكن يجري صدُّه، ودرجة تعاون كل جندي في المساهمة في جهد المجموعة. رأينا من بدا عنيدًا، أو خاضعًا، أو متغطرسًا، أو صبورًا، أو حاد الطباع، أو مثابرًا، أو مستسلمًا بسهولة. كنا نرى أحيانًا خفوتًا في المنافسة وفقدانًا للحماسة عندما تُرفَض فكرة أحدهم من قِبَل المجموعة، ورأينا ردود الأفعال تجاه الأزمة: من كان يعنِّف رفيقًا له، والذي تسبب خطؤه في فشل المجموعة بالكامل، ومن تقدَّم للقيادة عندما كان على الفريق المنهك البدء مجددًا. تحت وطأة ضغط الحدث — مثلما شعرنا — كشفت طبيعة كل فرد الحقيقية عن نفسها. كان انطباعنا عن شخصية كل مرشح مباشرًا ومثيرًا للانتباه كلون السماء.

بعد مراقبة المرشحين وهم يقومون بتنفيذ محاولات عديدة، كان علينا تلخيص انطباعاتنا حول القدرات القيادية للجنود وتحديد — من خلال نتيجة عددية — من هو مؤهل للتدريب في مدرسة تدريب الضباط. قضينا بعض الوقت نناقش كل حالة ونراجع انطباعاتنا. لم تكن المهمة صعبة؛ نظرًا لأننا شعرنا أننا قد رأينا المهارات القيادية لكل جندي. بدا بعض الجنود مثل قادة أقوياء، وبدا آخرون جبناء أو حمقى متغطرسين، بينما بدا آخرون متوسطي المستوى وإن كان ثمة أمل في تطوير مهاراتهم. بدا عدد قليل للغاية من الجنود ضعيفًا للغاية لدرجة أننا استثنيناهم كمرشحين لرتبة ضابط. عندما تقاربت ملاحظاتنا المتعددة حول كل مرشح في صورة قصة متماسكة، كنا على ثقة تامة في تقييماتنا، وشعرنا أننا كنا ننظر بوضوح إلى المستقبل. كان الجندي الذي تولى المسئولية عندما كانت المجموعة تمر بمشكلات وقاد الفريق عبر الحائط قائدًا في حينها. كان أفضل توقُّع جليٍّ حول مستوى أداء ذلك الجندي في التدريب، أو في القتال، هو أن أداءه سيكون على الدرجة نفسها من الكفاءة مثلما كان عند تمرين الحائط. بدا أي توقع آخر غير متوافق مع الدلائل التي شهدناها بأعيننا.

ولأن انطباعاتنا حول درجة أداء كل جندي كانت بصورة عامة متماسكة وواضحة، كانت توقعاتنا الرسمية محددة بالمثل. كانت نتيجة واحدة فقط ترد إلى العقل، وكنَّا نادرًا ما تنتابنا الشكوك أو نكوِّن انطباعات متناقضة. كنا على استعداد تام لأن نعلن قائلين: «هذا الجندي لن ينجح أبدًا.» «هذا الجندي متوسط الأداء، لكنه سيُبلي بلاءً لا بأس به.» أو «هذا الجندي سيكون نجمًا.» لم نشعر بحاجة إلى مساءلة توقعاتنا، أو تعديلها، أو المواربة فيها. في المقابل، إذا جاء ما يناقضها، كنا على استعداد لأن نقرَّ قائلين: «بالطبع، من الممكن أن يحدث أي شيء.» كنا على استعداد للإقرار بذلك؛ نظرًا لأننا — على الرغم من انطباعاتنا الحاسمة حول كل مرشح — كنا نعلم على وجه اليقين أن توقعاتنا كانت غير مفيدة إلى درجة كبيرة.

كانت الدلائل على أننا لم نستطع التنبؤ بنجاح المرشحين على وجه الدقة دامغة. كنا نحضر جلسة تقييم كل عدة أشهر نعرف فيها أداء المتدربين في مدرسة تدريب الضباط، وكنا نقارن بين تقييماتنا وآراء القادة الذين كانوا يراقبون أداء المتدربين لبعض الوقت. كانت القصة تتكرر كل مرة: كانت قدرتنا على التنبؤ بالأداء في المدرسة ضئيلة جدًّا. كانت توقعاتنا أفضل من التخمينات العشوائية، لكنها لم تكن أفضل كثيرًا.

شعرنا بالإحباط لفترة بعد تلقِّي الأخبار غير المشجعة هذه. لكن كان ذلك هو الجيش. وسواء كانت مفيدة أو لا، فإن ثمة إجراءات يجب تنفيذها وأوامر يجب أن تُطاع. وصلت دفعة جديدة من المرشحين في اليوم التالي. أخذنا هؤلاء إلى ميدان التدريب، وجعلنا وجوههم قبالة الحائط، وحملوا الزند الخشبي، وفي غضون دقائق قليلة تكشَّفت طبائعهم الحقيقية في وضوح مثلما كان الأمر من قبل. كانت الحقيقة المحبطة هي أن جودة توقعاتنا لم يكن لها أي أثر على الإطلاق على كيفية تقييمنا للمرشحين وتأثير ضئيل جدًّا على الثقة التي كنا نشعر بها في أحكامنا وتوقعاتنا حول الأفراد.

كان ما حدث لافتًا. كان يجب على الدلائل العامة على فشلنا السابق أن تهز ثقتنا في أحكامنا حول المرشحين، لكن ذلك لم يحدث. كان يجب أيضًا أن يتسبب هذا في تعديل توقعاتنا، لكن ذلك لم يحدث. كنا نعرف كحقيقة عامة أن توقعاتنا كانت أفضل قليلًا من التخمينات العشوائية، لكننا استمررنا في الشعور والتصرف كما لو كان كل توقع من توقعاتنا صحيحًا. ذُكِّرت بخداع مولر-لاير البصري، الذي نعرف فيه أن الخطوط متساوية الطول، لكننا نظل نراها مختلفة الطول. كنت في غاية الدهشة من المقارنة حتى إنني صغت اصطلاحًا لتجربتنا، وهو «وهم الصحة».

لقد اكتشفت أول أوهامي الإدراكية.

•••

بعدها بعقود، أستطيع أن أرى كثيرًا من الموضوعات الأساسية في تفكيري — وفي هذا الكتاب — في تلك القصة القديمة. كانت توقعاتنا بالنسبة للأداء المستقبلي للجنود مثالًا واضحًا على عملية الاستبدال، وعلى التمثيل الاستدلالي بصورة خاصة. فبملاحظة ساعة واحدة من سلوك أحد الجنود في موقف مصطنع، شعرنا أننا كنا نعرف مدى قدرته على مواجهة تحديات تدريب الضباط والقيادة أثناء القتال. كانت توقعاتنا غير ارتدادية على الإطلاق؛ فلم تتوفر أي تحفظات من جانبنا حول توقع الفشل أو النجاح المبهر من خلال الدلائل الضعيفة، وهو ما كان يشكِّل مثالًا واضحًا على مبدأ «ما تراه هو كل ما هناك». توفرت لدينا انطباعات قوية حول السلوك الذي راقبناه، ولم تتوفر لدينا أي طريقة جيدة لتمثيل جهلنا بالعوامل التي ستحدد في نهاية المطاف مستوى أداء المرشح كضابط.

بالنظر إلى الوراء، يتمثَّل أكثر جوانب القصة دهشة في أن معرفتنا بالقاعدة العامة — إننا لا نستطيع التوقع — لا أثر لها على ثقتنا في الحالات الفردية. أستطيع أن أرى الآن أن ردَّ فعلنا كان مشابهًا لذلك الخاص بطلاب نيسبت وبورجيدا عندما قيل لهم إن معظم المشاركين لم يقدموا يد المساعدة لأحد الغرباء الذي كان يعاني من نوبات مرضية. بينما صدَّق هؤلاء الطلاب الإحصاءات التي عُرضت عليهم، لم تؤثر المعدلات الأساسية على حكمهم حول ما إذا كان أحد الأشخاص، الذي شاهدوه في الفيديو، سيساعد أحد الغرباء أم لا. مثلما بيَّن نيسبت وبورجيدا، لا يميل الناس عادةً إلى استنباط الخاص من العام.

ليست الثقة الذاتية في أحد الأحكام تقييمًا عقلانيًّا لاحتمالية أن يكون هذا الحكم صحيحًا؛ فالثقة شعور، يعكس تماسك المعلومات واليسر الإدراكي في معالجتها. بينما يُعتبر من الحكمة بمكان أخذ حالات الاعتراف بعدم اليقين بجدية، تشير علامات الثقة المرتفعة بصورة رئيسية إلى أن أحد الأشخاص بنى قصة متماسكة في عقله، وهو ما لا يعني بالضرورة أن القصة صحيحة.

وهم مهارة انتقاء الأسهم

عام ١٩٨٤، زرنا — عاموس وأنا وصديقنا ريتشارد تالر — إحدى شركات وول ستريت. كان مضيفنا — أحد مديري الاستثمار الكبار في الشركة — قد دعانا إلى مناقشة دور انحيازات الأحكام في الاستثمار. كنت أعرف قليلًا للغاية عن التمويل، لدرجة أنني لم أعرف حتى ماذا أسأله، لكنني أتذكر جانبًا من المقابلة. قلت سائلًا له: «عندما تبيع سهمًا … من يشتريه؟» أجاب بإشارة غير واضحة في اتجاه النافذة، مشيرًا إلى توقعه أن يكون المشتري شخصًا يشبهه كثيرًا. كانت تلك إجابة غريبة: ما الذي يجعل أحد الأشخاص يبيع ويجعل شخصًا آخر يشتري؟ ما الذي يظن البائعون أنهم يعلمونه ولا يعلمه المشترون؟

منذ هذا الحين، تجمَّعت أسئلتي حول البورصة في صورة لغز أكبر، ألا وهو أن هذه الصناعة الكبرى يبدو أنها تعتمد بصورة كبيرة على «وهم المهارة». يجري تداول مليارات الأسهم يوميًّا، ويشتري كثيرون أسهمًا يبيعها آخرون لهم. من غير المستغرب أن يجري تداول ملكية أكثر من مائة مليون سهم لشركة واحدة في اليوم الواحد. يعرف معظم المشترين والبائعين أن لديهم المعلومات نفسها؛ فيتبادل المشترون والبائعون الأسهم بصورة رئيسية نظرًا لأنهم لديهم آراءٌ مختلفة. يعتقد المشترون أن السعر منخفض للغاية ومن المحتمل أن يرتفع، بينما يرى البائعون أن السعر مرتفع ومن المحتمل أن ينخفض. يتمثَّل اللغز هنا في السبب في أن المشترين والبائعين على حد سواء يعتقدون أن السعر الحالي غير صحيح. ما الذي يجعلهم يظنون أنهم يعرفون أكثر عما يجب أن يكون عليه السعر أكثر من السوق؟ بالنسبة إلى معظمهم، يمثِّل ذلك الاعتقاد وهمًا.

فيما يتعلق بأطرها العامة، يقبل جميع المشاركين في صناعة الأسهم النظريةَ القياسيةَ حول طريقة عمل سوق الأسهم. قرأ كلُّ من هو في مجال الاستثمار كتاب بيرتون مولكيل الرائع «تمشية عشوائية في وول ستريت». تتمثل فكرة مولكيل الرئيسية في الكتاب في أن سعر السهم يتضمَّن جميع المعلومات المتوفرة حول قيمة الشركة وأفضل التوقعات حول مستقبل السهم. إذا اعتقد بعض الأشخاص أن سعر أحد الأسهم سيرتفع غدًا، فسيشترون المزيد منه اليوم، وهو ما سيتسبَّب — بدوره — في ارتفاع سعره. إذا جرى تسعير جميع الأصول في إحدى الأسواق بصورة صحيحة، فلا يمكن لأحد أن يتوقع المكسب أو الخسارة من خلال عملية التداول. بينما لا تدع الأسعار المثلى مجالًا للمهارة، فإنها تقي الحمقى أيضًا من حماقاتهم. لكننا نعلم الآن أن هذه النظرية ليست صحيحة تمامًا. يخسر كثير من المستثمرين الأفراد بصورة منتظمة من خلال عمليات التداول. كان أول من أكد هذه النتيجة المدهشة من خلال تجربة هو تيري أودين — أستاذ المالية في جامعة كاليفورنيا ببيركلي — الذي كان أحد طلابي.

بدأ أودين بدراسة سجلات تداول ١٠٠٠٠ حساب في إحدى شركات السمسرة لمستثمرين أفراد خلال فترة سبع سنوات. استطاع أودين تحليل كل عملية تداول نفَّذها المستثمرون عبر تلك الشركة؛ تقريبًا ١٦٣٠٠٠ عملية تداول. سمحت المجموعة الثرية للبيانات هذه لأودين بتحديد كل الحالات التي باع أحد المستثمرين من خلالها بعض ممتلكاته بالنسبة لسهم ما وسرعان ما اشترى سهمًا آخر. من خلال هذه العمليات، كشف المستثمر أنه (معظم المستثمرين كانوا من الرجال) كان يمتلك فكرة محددة حول مستقبل السهمين. توقَّع المستثمر أن يؤدي السهم الذي اختار شراءه أداءً أفضل من السهم الذي اختار أن يبيعه.

حتى يتسنى تحديد ما إذا كانت تلك الأفكار تعتمد على أساس صحيح، قارن أودين عوائد السهم الذي كان المستثمر قد باعه بالسهم الذي كان قد اشتراه بدلًا منه، خلال فترة امتدت عامًا بعد إجراء العملية. كانت النتائج سيئة دون مراء. في المتوسط، أدت الأسهم التي باعها المتداولون الأفراد أفضل من تلك التي اشتروها، بهامش فرق كبير جدًّا، ٣٫٢٪ نقطة سنويًّا، بالإضافة إلى التكاليف الكبيرة لتنفيذ عمليتَي التداول.

من الأهمية بمكان تذكُّر أن العبارة السابقة تدور حول المتوسطات؛ فبينما يُبلي بعض المستثمرين بلاءً عظيمًا، يُبلي آخرون بلاءً أسوأ كثيرًا. في المقابل، يبدو واضحًا بالنسبة إلى الغالبية العظمى من المستثمرين الأفراد أن الاستحمام أو عدم عمل أي شيء كان سيصبح أفضل كثيرًا من تنفيذ الأفكار التي وردت إلى عقولهم. دعمت البحوث اللاحقة التي أجراها أودين وزميله براد باربر هذه النتيجة. في ورقة بحثية عنوانها «التداول في الأسهم خطر على ثروتك»، أظهر أودين وباربر أنه — في المتوسط — حقَّق أنشط المتداولين أسوأ النتائج، بينما حقق المتداولون الأقل نشاطًا أعلى العوائد. في ورقة بحثية أخرى، عنوانها «لن يتغير الرجال»، أظهر أودين وباربر أن الرجال غالبًا ما يتصرفون اعتمادًا على أفكارهم غير ذات القيمة بشكل أكبر من النساء، وهو ما يترتب عليه تحقيق النساء نتائج استثمارية أفضل من الرجال.

بالطبع، هناك دومًا شخص على الجانب الآخر من كل عملية تداول. عمومًا، يمثِّل هذا الجانب المؤسسات المالية والمستثمرين المحترفين، الذين هم على استعداد لاقتناص أخطاء المتداولين الأفراد التي يرتكبونها في اختيار بيع أو شراء سهم معين. سلَّطت البحوث اللاحقة التي أجراها باربر وأودين الضوء على هذه الأخطاء. يحب المستثمرون الأفراد ضمان مكاسبهم من خلال بيع «الأسهم الواعدة»، وهي الأسهم التي ترتفع قيمتها منذ جرى شراؤها، كما يستبقون على الأسهم الخاسرة. لسوء حظهم، تميل الأسهم الواعدة إلى الأداء بصورة أفضل من الأسهم الخاسرة على المدى القصير؛ لذا يبيع المستثمرون الأفراد الأسهم الخطأ. يشتري المستثمرون أيضًا الأسهم الخطأ. يتدافع المستثمرون الأفراد بصورة متوقعة إلى الاستثمار في الشركات التي تجذب انتباههم؛ نظرًا لأن أخبارها تظهر في وسائل الإعلام. تقدِّم هذه النتائج شيئًا من التبرير للتعبير «أموال ذكية» الذي يستخدمه محترفو التمويل في الإشارة إلى استثماراتهم.

على الرغم من قدرة المحترفين على استخلاص كمِّ أموال هائل من الهواة، يحظى عدد قليل من المستثمرين العاديين في الأسهم — إن وُجد مثل هؤلاء — بالمهارة اللازمة للتفوق على المستثمرين الآخرين في السوق بصورة منتظمة، عامًا بعد عام. يفشل المستثمرون المحترفون — بما في ذلك مدراء صناديق الاستثمار — في اختبار مهاريٍّ أساسي؛ ألا وهو تحقيق النجاح بشكل متصل. تتمثَّل السمة الأساسية لوجود أي نوع من المهارات في اتساق الفروق الفردية في الإنجاز. منطق ذلك بسيط: فإذا كانت الفروق الفردية في أي سنة من السنوات ترجع بصورة كاملة إلى الحظ، فسيختلف تقييم المستثمرين والصناديق بصورة غير متوقعة، وسيبلغ معامل الترابط من عام إلى عام صفرًا. في المقابل، في حال وجود مهارة، ستكون التقييمات أكثر استقرارًا. يُعتبر استمرار الفروق الفردية مقياسًا نتأكد من خلاله من وجود مهارة لدى لاعبي الجولف، أو بائعي السيارات، أو أطباء تقويم الأسنان، أو جامعي غرامات السرعة الزائدة عند بوابات الطرق السريعة.

يدير صناديق الاستثمار المشتركة محترفون يتمتعون بخبرة وجدِّيَّة عالية، وهم الذين يشترون ويبيعون الأسهم لتحقيق أفضل النتائج الممكنة لعملائهم. مع ذلك، فإن الدلائل المتوفرة على مدار أكثر من خمسين عامًا من البحوث حاسمة: بالنسبة إلى الغالبية العظمى من مديري صناديق الاستثمار، يُعتبر اختيار الأسهم أقرب إلى رمي النرد من لعب البوكر. إجمالًا، يؤدي اثنان من بين ثلاثة صناديق استثمار على الأقل أداءً أقل من متوسط الأداء الكلي للسوق في أي سنة من السنوات.

لعل الأكثر أهمية من ذلك هو أن معامل الترابط من عام إلى عام بين نتائج صناديق الاستثمار المشتركة صغير جدًّا؛ إذ يتخطى الصفر بالكاد. تعتبر الصناديق الناجحة في أي سنة من السنوات أكثر حظًّا. هناك اتفاق عام بين الباحثين على أن جميع منتخبي الأسهم تقريبًا، سواء أكانوا يعرفون ذلك أو لا — ولا يعرف إلا القليل منهم ذلك — يلعبون لعبة حظ. تتمثل التجربة الذاتية للمتداولين في أنهم يضعون تخمينات عقلانية مطلعة في أحد المواقف التي يسود فيها عدم يقين كبير. في المقابل، في الأسواق عالية الكفاءة، لا تعتبر التخمينات المطلعة أكثر دقة من التخمينات العشوائية.

•••

منذ بضع سنوات، توفرت لديَّ فرصة غير عادية لبحث وَهْم المهارة المالية عن كثب. كنت قد دُعيت لإلقاء كلمة أمام مجموعة من مستشاري الاستثمار في إحدى الشركات التي كانت تقدِّم خدمات مالية استشارية وخدمات أخرى إلى عملاء شديدي الثراء. طلبتُ بعض البيانات لإعداد عرضي التقديمي، فحصلت على كنز صغير؛ جدول يلخِّص نتائج الاستثمار لحوالي خمسة وعشرين مستشارًا ماليًّا دون تحديد أسماء، وذلك على مدار ثماني سنوات. كانت نتيجة كل مستشار في كل عام تمثِّل العمولات التي كانوا (كان معظمهم من الرجال) يحصلون عليها في آخر العام. كان أمرًا بسيطًا أن يجري تقييم المستشارين بناءً على أدائهم في كل عام وتحديد ما إذا كانت هناك فروق مستمرة في المهارة بينهم، وما إذا كان المستشارون أنفسهم يحققون بصورة منتظمة عوائد أفضل لعملائهم عامًا وراء عام.

للإجابة على السؤال، قمت بحساب معاملات الترابط بين النتائج في كل زوج من السنوات؛ السنة الأولى مع السنة الثانية، والسنة الأولى مع السنة الثالثة، وهكذا حتى السنة السابعة مع السنة الثامنة. أسفرت تلك العملية الحسابية عن ٢٨ معامل ترابط، واحد لكل زوج من السنوات. كنت أعرف النظرية، وكنت مستعدًّا لاكتشاف الدليل الضعيف على وجود مهارة خلال السنوات الثمانية. في المقابل، دُهشت أن أجد أن متوسط المعاملات جميعها يبلغ ٠٫٠١، بعبارة أخرى، صفر. لم أكتشف أي علاقات ترابطية متسقة تشير إلى وجود اختلافات في المهارة بين كل المستشارين الماليين. كانت النتيجة تشبه ما يمكن أن تتوقعه في مسابقة تعتمد على رمي النرد، لا مباراة مهارية.

لم يبدُ أن أي أحد في الشركة يعي طبيعة اللعبة التي كان المستشارون الماليون يلعبونها. كان المستشارون أنفسهم يشعرون أنهم محترفون يتمتعون بالكفاءة، وبأنهم يؤدون عملًا جادًّا، ووافقهم رؤساؤهم في ذلك. في الأمسية قبل عقد الندوة المقررة، تناولنا — ريتشارد تالر وأنا — الغداء مع بعض أكبر المسئولين في الشركة، الأشخاص الذين يقرون حجم العمولات. طلبنا من هؤلاء تخمين معامل الترابط من عام إلى عام في نتائج كل مستشار مالي. ظنوا أنهم كانوا يعرفون ما هو آتٍ، فابتسموا وهم يقولون: «غير مرتفع جدًّا.» أو «لا شك في أن الأداء يتأرجح.» لكن سرعان ما اتضح عدم توقع أي شخص أن يبلغ متوسط معاملات الترابط صفرًا.

كانت رسالتنا إلى كبار المسئولين هي أنه — على الأقل — عند إنشاء المحافظ الاستثمارية، كانت الشركة تجزي الحظ كما لو كان مهارة. كان يجب أن يكون هذا شيئًا صادمًا لهم، لكنه لم يكن كذلك. لم يكن ثمة ما يشير إلى أنهم لم يصدقونا. كيف ذلك؟ على كل حال، كنا قد حلَّلنا نتائجهم، وكانوا يتحلَّون بعقلية متطورة بما يكفي ما يجعلهم يدركون تداعيات الأمر، وهو ما أحجمنا أدبًا عن تسميته مباشرةً. مضينا في هدوء في تناول غدائنا، ولا أشك في أن النتائج التي توصلنا إليها فضلًا عن تداعيتها جرى إخفاؤها ومضت الحياة في الشركة كسابق عهدها. لا يُعتبر وهم المهارة انحرافًا فرديًّا فحسب، بل هو جزء أصيل عميق في ثقافة الصناعة نفسها. لا يجري ببساطة استيعاب الحقائق التي تدحض هذه الافتراضات الأساسية، ومن ثم تهدد معايش العاملين في هذه الصناعة وتقديرهم لذواتهم؛ فالعقل لا يستوعبها. ينطبق الأمر أيضًا بصورة خاصة على الدراسات الإحصائية للأداء، التي تقدِّم معلومات تعتمد على المعدلات الأساسية التي يتجاهلها الناس عمومًا عندما تتعارض مع انطباعاتهم الشخصية التي كونوها من خلال خبراتهم.

في صباح اليوم التالي، قدَّمنا النتائج إلى المستشارين الماليين، وكانت استجابتهم لامبالية أيضًا. كانت خبرتهم الذاتية في إصدار أحكام تتسم بالحذر في المسائل المعقدة أكثر جاذبية إليهم من حقيقة إحصائية غامضة. عندما انتهينا من عرض نتائجنا، أوصلني أحد كبار المسئولين الذين كنت قد تناولت الغداء معهم الليلة السابقة إلى المطار. أخبرني بنبرة دفاعية قائلًا: «قدَّمت خدمات جليلة للشركة ولن يستطيع أحد انتزاع ذلك مني.» ابتسمتُ ولم أقل شيئًا. في المقابل، حدثت نفسي قائلًا: «ها أنا قد انتزعت ذلك منك هذا الصباح. إذا كان نجاحك يرجع في معظمه إلى المصادفة، فما مقدار الفضل الذي تستحق أن يُنسب إليك؟»

ماذا يدعم وهمَي المهارة والصحة؟

قد تكون الأوهام الإدراكية أكثر إلحاحًا من الأوهام البصرية. بينما لم يغيِّر ما تعلمتَهُ من خداع مولر-لاير البصري الطريقة التي ترى بها الخطوط، فإنه غيَّر من سلوكك. تعرف الآن أنك لا تستطيع الثقة في انطباعك حول طول الخطوط التي تحتوي على رءوس أسهم متصلة بها، وتعرف أيضًا أنك لا تستطيع الثقة فيما ترى. فإذا سُئلت عن طول الخطوط، فستشير إلى اعتقادك الصحيح المطلع، لا إلى الخداع البصري الذي لا تزال تراه. في المقابل، عندما وجدنا — زملائي وأنا — في الجيش أن اختبارات تقييم القيادة التي وضعناها كانت درجة صحتها منخفضة، قبلنا المسألة فكريًّا، لكن ذلك لم يؤثر على مشاعرنا أو أفعالنا اللاحقة. كان رد الفعل الذي صادفناه في شركة الخدمات المالية أكثر تطرفًا. وأنا مقتنع بأن الرسالة التي بعثها تالر وأنا إلى كلٍّ من كبار المسئولين ومدراء المحافظ الاستثمارية نُحِّيت جانبًا في ركن مظلم من الذاكرة حيث لا تسبب أي ضرر.

لماذا يعتقد المستثمرون — الهواة منهم والمحترفون على حد سواء — في ثقة بالغة أنهم يستطيعون تقديم أداء أفضل من المتوسط في السوق، على عكس نظرية اقتصادية يقبلها معظمهم، وعلى عكس ما يمكن أن يتعلموه من تقييم موضوعي لخبراتهم الشخصية؟ تظهر الكثير من الموضوعات التي تناولناها في الفصول السابقة مجددًا في تفسير انتشار واستمرار وَهْم المهارة في عالم المال.

يتمثل السبب النفسي الأكثر قوة للوهم في أن الأشخاص الذين يختارون الأسهم لديهم مهارات مرتفعة المستوى. يرجع هؤلاء إلى بيانات وتوقعات اقتصادية، ويفحصون بيانات الدخول والميزانيات، ويقيِّمون كفاءة الإدارة العليا، ويقيمون المنافسة. يعتبر كل ذلك عملًا جادًّا يتطلب تدريبًا مستمرًّا، ويملك الأشخاص الذين يؤدون هذا العمل الخبرة المطلوبة (والصحيحة) لاستخدام هذه المهارات. لسوء الحظ، لا تعتبر المهارة في تقييم التوقعات المستقبلية لإحدى الشركات كافية لتداول الأسهم بنجاح؛ إذ يظل السؤال الرئيسي هو ما إذا كانت المعلومات حول الشركة مشمولة بالفعل في سعر أسهمها. بينما يفتقد المتداولون فيما يبدو إلى المهارة اللازمة للإجابة على هذا السؤال المهم، يبدو أنهم جاهلون بجهلهم. ومثلما اكتشفتُ من خلال مراقبة المتدربين في ميدان التدريب، تعد الثقة الشخصية للمتداولين شعورًا وليس حكمًا. فيؤدي فهمنا لليسر الإدراكي والتماسك الترابطي إلى وضع ثقة ذاتية بصورة كبيرة في النظام ١.

أخيرًا؛ تدعم وهمَي الصحة والمهارة ثقافةٌ مهنية قوية. نعرف أن الناس قد تحافظ على اعتقاد راسخ في أي طرح، مهما كان عبثيًّا، عندما يدعم هذا الطرح جماعة من الأشخاص من ذوي التخصص الواحد. بالنظر إلى الثقافة المهنية لعالم المال، ليس مستغربًا أن عددًا كبيرًا من الأشخاص في ذلك العالم ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم ضمن القلة المختارة التي تستطيع عمل ما يعتقدون أن غيرهم لا يستطيع عمله.

أوهام الخبراء

تتقوَّض فكرة أن المستقبل غير متوقع كل يوم من خلال السهولة التي يجري بها تفسير الماضي. مثلما أشار نسيم طالب في كتاب «البجعة السوداء»، يجعل ميلنا إلى بناء وتصديق القصص المتماسكة للماضي من الصعوبة بمكان بالنسبة لنا قبول محدودية قدرتنا على التوقع؛ فكل شيء يصبح منطقيًّا من خلال الإدراك المتأخر، وهي حقيقة يستغلها خبراء المال كل مساء عند تقديمهم تفسيرات مقنعة لأحداث اليوم. ولا يمكننا كبح الحدس القوي بأن ما هو منطقي اليوم من خلال الإدراك المتأخر كان متوقعًا بالأمس. يدعم وَهْم فهمنا للماضي ثقتنا المفرطة في قدرتنا على توقع المستقبل.

ينطوي الاستخدام المتكرر لصورة «مسيرة التاريخ» على النظام والاتجاه. ليست المسيرات — على عكس رحلات التنزه أو رياضة المشي — عشوائية. ونحن نظن أننا يجب أن نستطيع تفسير الماضي من خلال التركيز على الحركات الاجتماعية الكبرى والتطورات الثقافية والتكنولوجية أو نوايا وقدرات حفنة من الرجال العظام. تعتبر فكرة أن الأحداث التاريخية الكبرى يحددها الحظ فكرة صادمة للغاية، على الرغم من أنها صحيحة وقابلة للإثبات. فمن الصعوبة بمكان النظر في تاريخ القرن العشرين — بما في ذلك الحركات الاجتماعية الكبرى فيه — دون استحضار دور هتلر، وستالين، وماو تسي تونج. في المقابل، كانت هناك لحظة، قبل تخصيب البويضة، كان فيها احتمال بنسبة ٥٠٪ أن الجنين الذي صار هتلر كان سيصبح أنثى. مع أخذ أحداث ظهور هتلر، وستالين، وماو تسي تونج الثلاثة في الاعتبار، كان هناك احتمال يبلغ الثُّمن أن تجري الأحداث في القرن العشرين دون وجود أيٍّ من هؤلاء الأشرار الثلاثة، ومن المستحيل بمكان الدفع بأن التاريخ كان سيصبح هو نفسه في غيابهم. لقد ترتَّب على تخصيب هذه البويضات الثلاث آثار هائلة، وهي فكرة تجعل من مسألة توقع التطورات بعيدة المدى مسألة تدعو إلى السخرية.

ومع ذلك، يبقى وهم صحة التوقع كما هو، وهي حقيقة يستغلها الأشخاص الذين يتمثَّل عملهم في التوقع، ليس فقط الخبراء الماليون، بل الخبراء في الأعمال والسياسة أيضًا. لدى المحطات التليفزيونية والإذاعية والصحف قائمة من الخبراء يتمثَّل عملهم في التعليق على أحداث الماضي القريب والتنبؤ بأحداث المستقبل. يتولَّد لدى المشاهدين والقراء انطباع أنهم يتلقَّون معلومات حصرية بشكل ما، أو على الأقل معلومات تنم عن قدر كبير من التبصر. ولا شك في أن الخبراء ومن يروِّجون لهم يعتقدون أنهم يقدِّمون هذه المعلومات. فسَّر فيليب تيتلوك — أستاذ علم النفس في جامعة بنسلفانيا — ما يُطلَق عليه «توقعات الخبراء» في دراسة فارقة استغرقت عشرين عامًا، نشرها في كتابه الذي طُرح في الأسواق عام ٢٠٠٥ بعنوان «أحكام الخبراء السياسية: كم هي دقيقة؟ كيف نعرف؟» وضع تيتلوك بهذا الكتاب أسس أي مناقشة مستقبلية للموضوع.

عقد تيتلوك مقابلات مع ٢٨٤ شخصًا كانوا يتكسَّبون معاشهم من خلال «التعليق أو تقديم المشورة حول الاتجاهات السياسية والاقتصادية». طلب تيتلوك من المشاركين في الدراسة تقييم احتمالات أن أحداثًا محددة ربما تقع في المستقبل غير البعيد جدًّا، سواءٌ في المجالات التي يتخصَّصون فيها أو في المجالات التي لا يعرفون عنها كثيرًا. هل كان جورباتشوف سيزاح عن السلطة في انقلاب؟ هل ستشن الولايات المتحدة حربًا في منطقة الخليج العربي؟ أي دولة ستصبح السوق الناشئة الكبرى التالية؟ من خلال جميع المقابلات، جمع تيتلوك أكثر من ٨٠٠٠٠ توقع. سأل تيتلوك أيضًا الخبراء عن طريقة توصلهم إلى نتائجهم، وردة فعلهم عند ثبوت خطئهم، وطريقة تقييمهم الدلائل المتوفرة التي لا تدعم آراءهم. طُلب من المشاركين تقييم احتمالات وقوع ثلاث نتائج بديلة في كل حالة: استمرار الحالة الراهنة، أو تحقق المزيد من أمر ما — مثل الحرية السياسية أو النمو الاقتصادي — أو تضاؤل تحقق ذلك الأمر.

كانت النتائج مفزعة. أبلى الخبراء بلاءً أسوأ مما لو كانوا قد وضعوا احتمالات متساوية لكل نتيجة من النتائج البديلة المحتملة. بعبارة أخرى، تصدر توقعات أسوأ عن الأشخاص الذين يقضون أوقاتهم، ويتكسَّبون معايشهم، من خلال دراسة موضوع محدد من الأشخاص العاديين الذين يوزعون توقعاتهم بصورة مساوية بين البدائل الثلاثة. حتى في المجال الذي يعرفون فيه أكثر من أي مجال آخر، لم يكن الخبراء أفضل حالًا من غير المتخصصين.

يتنبأ أولئك الذين يعرفون أكثر أفضل قليلًا جدًّا من أولئك الذين يعرفون أقل. لكن لا يمكن الوثوق كثيرًا في الغالب في أولئك الذين يعرفون أكثر، ويرجع ذلك إلى أن الشخص الذي يكتسب معرفة أكثر يتكون لديه وهمٌ كبير في مهارته ويصبح واثقًا ثقة مفرطة في ذاته أكثر مما ينبغي. كتب تيتلوك قائلًا: «نبلغ نقطة تضاؤل العوائد التنبئية الهامشية للمعرفة بسرعة مذهلة … في عصر التخصصات الدقيقة جدًّا هذا الذي نعيش فيه، لا يوجد سبب لافتراض أن المساهمين في الصحف والمجلات المرموقة — مثل علماء السياسة المميزين، والمتخصصين في مجالات محددة، والاقتصاديين … إلخ — أفضل بأي حال من الأحوال من الصحفيين أو القراء المطالعين لصحيفة «نيويورك تايمز» في «قراءة» المواقف الناشئة.» اكتشف تيتلوك أنه كلما كان الشخص الذي يجري عملية تنبؤ أكثر شهرة، كانت التنبؤات أكثر جرأة ووضوحًا. كتب تيتلوك قائلًا: «كان الخبراء الأكثر طلبًا … أكثر ثقة في أنفسهم بشكل مفرط من زملائهم الذين حفروا لأنفسهم مكانًا بعيدًا عن أضواء الشهرة.»

وجد تيتلوك أيضًا أن الخبراء كانوا يعارضون الاعتراف بأنهم كانوا مخطئين، وعندما كانوا مجبرين على الإقرار بالخطأ، كانت لديهم مجموعة كبيرة من الأعذار؛ مثل أنهم كانوا مخطئين فقط في توقيت آرائهم، أو أن حادثًا غير متوقع وقع، أو أنهم كانوا مخطئين فقط لأسباب وجيهة. ليس الخبراء إلا بشرًا في نهاية المطاف. تُزيغ ألمعية الخبراء أبصارهم ويكرهون أن يكونوا على خطأ. يشرد الخبراء بعيدًا في آرائهم لا من خلال ما يعتقدون فيه، بل من خلال طريقة تفكيرهم، مثلما يشير تيتلوك. يستعين تيتلوك بالتعبيرات المستخدمة في مقال أشعيا برلين حول تولستوي، «القنفذ والثعلب». إن القنافذ «تعلم شيئًا واحدًا كبيرًا» ولديها نظرية عن العالم؛ فهي تفسِّر أحداثًا محددة في إطار متماسك، وتنتصب أشواكها علامة على عدم الصبر على أولئك الذين لا يرون الأمور كما ترى، وتتمتع بالثقة في توقعاتها. لا تُقِرُّ القنافذ أيضًا إلا بصعوبة بالغة بخطئها. بالنسبة إلى القنافذ، لا يعتبر توقع فاشل دائمًا أبدًا كذلك إلا لأنه «خطأ في توقيته» أو «قريب جدًّا من الصحة». تتسم القنافذ بتصلب الرأي والوضوح، وهو تحديدًا ما يحب منتجو البرامج التليفزيونية أن يروه في برامجهم. يعتبر مشهد قنفذين، كلٌّ على رأي مختلف من موضوع ما وكل منهما يهاجم الأفكار البلهاء لخصمه، مشهدًا جديرًا بالمتابعة.

في المقابل، الثعالب كائنات معقدة التفكير. لا تعتقد الثعالب أن شيئًا واحدًا كبيرًا يحرِّك مسيرة التاريخ (على سبيل المثال، من غير المحتمل أن تقبل الثعالب فكرة أن رونالد ريجان استطاع بمفرده إنهاء الحرب الباردة من خلال الشجاعة في مواجهة الاتحاد السوفييتي). في المقابل، تدرك الثعالب أن الحقيقة تظهر تدريجيًّا من خلال تفاعلات عوامل وقوى كثيرة مختلفة، بما في ذلك المصادفة العشوائية، والتي يترتب عليها نتائج كبيرة وغير متوقعة عادةً. حققت الثعالب أفضل النتائج في دراسة تيتلوك، على الرغم من أن أداءها كان لا يزال سيئًا جدًّا. تجري دعوة الثعالب عادةً أقل من القنافذ للمشاركة في السجالات التليفزيونية.

الخلاصة

لا تتمثل الفكرة الرئيسية في هذا الفصل في أن الأشخاص الذين يحاولون توقع المستقبل يرتكبون أخطاءً كثيرة، فهذا أمر لا مراء فيه. يتمثل الدرس الأول في أن أخطاء التوقع حتمية؛ نظرًا لأن العالم غير قابل للتوقع. ويتمثل الدرس الثاني في أن الثقة الذاتية المرتفعة لا يمكن الوثوق بها باعتبارها مؤشرًا على الدقة (ربما كانت الثقة الأقل أكثر دلالة).

يمكن التنبؤ بالاتجاهات قصيرة المدى، كما يمكن التنبؤ بالسلوك والإنجازات بدرجة عالية من الدقة من خلال السلوكيات والإنجازات السابقة. في المقابل، لا يجب أن نعتقد أن يكون الأداء في تدريب الضباط وفي القتال متوقعًا من خلال السلوك في ميدان تدريب به عوائق: يجري تحديد السلوك في الاختبار وفي العالم الواقعي من خلال عوامل عديدة تختص بالموقف المحدد. كل ما عليك هو أن تستبعد أحد أعضاء الفريق الأكثر ثقةً من مجموعة المرشحين الثمانية وسيبدو أن شخصيات الجميع تتغير. دع رصاصة أحد القناصة تتحرك بمقدار بضعة سنتيمترات وسيتغير أداء أحد الضباط. لا أنكر صحة جميع الاختبارات. فإذا كان أحد الاختبارات يتنبأ بإحدى النتائج المهمة بنسبة صحة تبلغ ٠٫٢٠ أو ٠٫٣٠، فيجب تطبيق الاختبار. في المقابل، لا يجب أن تتوقع أكثر من ذلك. يجب أن تتوقع القليل أو لا شيء من منتقي الأسهم في وول ستريت الذين يأملون في أن تكون تقديراتهم أكثر دقة من السوق في توقع مستقبل الأسعار، كذلك يجب ألا تتوقع الكثير من الخبراء الذين يضعون توقعات بعيدة المدى، على الرغم من احتمال أن تكون توقعاتهم قيِّمة في المستقبل القريب. لا يزال الخط الفاصل بين المستقبل القابل للتوقع والمستقبل البعيد غير القابل للتوقع غير موجود.

في الحديث عن المهارة الوهمية

«إنه يعلم أن التاريخ الطبي يشير إلى أن تطور المرض غير قابل للتوقع تقريبًا. كيف يكون على هذا القدر من الثقة في هذه الحالة؟ يبدو الأمر أشبه بوهم صحة.»

«لديها قصة متماسكة تفسِّر كل ما تعرفه، ويجعلها التماسك تشعر شعورًا جيدًا.»

«ما الذي يجعله يعتقد أنه أكثر ذكاءً من السوق؟ هل هذا وهم مهارة؟»

«إنها قنفذ؛ لديها نظرية تفسِّر كل شيء، وهو ما يجعلها تعيش في وهم فهم العالم.»

«لا يتمثَّل السؤال فيما إذا كان هؤلاء الخبراء تلقوا تدريبًا جيدًا أم لا؛ بل فيما إذا كان عالمهم قابلًا للتوقع.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤