الفصل الثامن والعشرون

الأحداث السيئة

لا شك أن تجنب الخسارة هو أهم إسهام لعلم النفس في الاقتصاد التجريبي، وهذا أمر غريب؛ لأن فكرة أن الناس يقيِّمون العديد من النتائج كخسائر ومكاسب، وأن الخسائر تبدو أكبر من المكاسب؛ لا تسبب دهشة لأي شخص. وغالبًا ما كنت أنا وعاموس نسخر من كوننا قد انخرطنا في دراسة موضوع كانت جداتنا يعرفن عنه الكثير. غير أننا في الواقع نعرف أكثر مما عرفته جداتنا، ويمكننا الآن أن نغرس تجنب الخسارة في سياق نموذج أشمل لنظامي العقل، وعلى وجه الخصوص رؤية بيولوجية وسيكولوجية تطغى فيها السلبية والهروب على الإيجابية والاقتراب. يمكننا كذلك أن نقتفي أثر عواقب تجنب الخسارة في ملاحظات متنوعة بشكل مثير للدهشة وهي: الخسائر الفعلية للبضائع هي وحدها التي يتم التعويض عنها ماليًّا حين تضيع هذه البضائع أثناء النقل، غالبا ما تفشل محاولات تنفيذ إصلاحات على نطاق واسع، لاعبو الجولف المحترفون يضربون كرة الجولف على الأرض بمزيد من الدقة من أجل إحراز عدد الضربات المحددة للحفرة وليس لإحراز ضربات أقل من المعدل المحدد. وعلى قدر مهارتها، فقد كانت جدتي ستندهش من التكهنات الخاصة المستمدة من فكرة عامة كانت تعتبرها بديهية.

سيطرة السلبية

fig12
شكل ٢٨-١

لقد تسارعت ضربات قلبك حينما نظرت إلى الشكل على الجانب الأيسر، بل إنها تسارعت حتى قبل أن تتمكن من تحديد ما هو غريب في هذه الصورة. وبعد برهة من الوقت ربما تكون قد تعرفت على العيون التي تميز شخصًا مرتعدًا. أما العينان إلى اليمين، واللتان تضيقان بفعل ارتفاع الوجنتين المصاحب للابتسام، فتعبران عن السعادة؛ وهما ليستا مثيرتين بنفس القدر. عرضت الصورتان على أشخاص في وضع استلقاء تحت جهاز لمسح المخ. عرضت كل صورة لأقل من ٢ / ١٠٠ من الثانية، وسرعان ما تم حجبها بواسطة «ضوضاء بصرية»، وهي عبارة عن عرض عشوائي لمربعات داكنة ولامعة. لم يكن أحدٌ من المشاهدين يدرك عن وعي أنه قد رأى صورًا لعيون، ولكن جزءًا من أدمغتهم أدرك ذلك بوضوح، وهو لوزة المخ، التي تضطلع بدور أساسي ﮐ «مركز التهديد» بالمخ، على الرغم من أنه ينشط أيضًا في حالات انفعالية أخرى. فقد أظهرت صور أشعات المخ استجابة قوية من اللوزة لصورة مخيفة لم يدركها المشاهد. وعلى الأرجح أن المعلومات بشأن هذا التهديد قد انتقلت عبر قناة عصبية فائقة السرعة تصب مباشرة داخل جزء من المخ يقوم بمعالجة الانفعالات والعواطف، متجنبة المرور بالقشرة البصرية التي تدعم خبرة «الرؤية» الواعية. كذلك تؤدي نفس الدائرة إلى معالجة الوجوه التخطيطية الغاضبة (بصفتها تهديدًا محتملًا) بشكل أسرع وأكثر كفاءة من الوجوه التخطيطية السعيدة. وقد أشار بعض أصحاب التجارب إلى أن الوجه الغاضب «يبرز» من وسط حشد من الوجوه السعيدة، ولكن وجهًا سعيدًا واحدًا لا يبرز وسط حشد من الوجوه الغاضبة. فأدمغة البشر والحيوانات الأخرى تحتوي على آلية مصممة لإعطاء الأولوية للأنباء السيئة. فهذه الدائرة — عن طريق اختصار بضعة أجزاء من المائة من الثانية من الوقت اللازم لاكتشاف أحد الضواري — تحسن فرص الحيوان في العيش لفترة طويلة تكفي للتناسل والتكاثر. وتعكس العمليات الآلية للنظام ١ هذا التاريخ التطوري. فلم يتم اكتشاف أي آلية ذات سرعة مماثلة لإدراك الأنباء السارة. ولا شك أننا وأبناء عمومتنا من الحيوانات سريعًا ما ننتبه لأي علامات تشير لوجود فرص للتزاوج أو الغذاء، والمعلنون يصممون اللافتات الإعلانية وفقًا لهذا المبدأ. غير أن التهديدات مقدمة على الفرص كما ينبغي أن تكون.

ويستجيب المخ سريعًا حتى للتهديدات الرمزية البحتة؛ فالكلمات المشحونة بالعواطف تجذب الانتباه سريعًا، والكلمات السيئة (مثل حرب، جريمة) تجذب الانتباه أسرع من الكلمات السارة (مثل سلام، حب). ورغم أنه لا يوجد تهديد حقيقي، إلا أن مجرد التذكير بحدث سيئ يتم التعامل معه في النظام ١ كتهديد. وكما رأينا سابقًا مع كلمة «تقيؤ»، فإن التمثيل الرمزي يستدعي — في شكل مخفف وبأسلوب التداعي — العديد من ردود الأفعال تجاه الشيء الحقيقي، بما في ذلك الدلالات الفسيولوجية للعاطفة وحتى النزعات المحدودة للتجنب أو الاقتراب، للتراجع أو التقدم للأمام. وتمتد الحساسية للتهديدات لتشمل معالجة العبارات المعبرة عن الآراء التي نختلف معها بقوة. على سبيل المثال، سوف يستغرق مخك أقل من ربع ثانية لتسجيل «التهديد» في جملة تبدأ ﺑ «أعتقد أن القتل الرحيم مقبول/غير مقبول …» وذلك اعتمادًا على موقفك تجاه فكرة القتل الرحيم.

وقد لاحظ عالم النفس بول روزين، أحد خبراء الاشمئزاز، أن صرصورًا واحدًا سوف يكون كفيلًا بتدمير الشهية لطبق من الكرز تدميرًا تامًّا، ولكن ثمرة كرز لن تفعل أي شيء مطلقًا لطبق من الصراصير. فالسلبيات، كما يشير روزين، تطغى على الإيجابيات بطرق عدة، وتجنب الخسارة يعد واحدًا من مظاهر عدة لسيطرة السلبية واسعة المدى. وقد قام علماء آخرون، في ورقة بحثية بعنوان «السيئ أقوى من الجيد»، بتلخيص الأدلة على ذلك كما يلي: «المشاعر السيئة، والآباء السيئون، والتغذية الراجعة السيئة؛ يفوق تأثيرها نظراءها الجيدين، والمعلومات السيئة تُعالَج بشكل أشمل وأعمق من المعلومات الجيدة. والنفس لديها حافز لتجنب التعريفات الذاتية السيئة أكبر من تعقب التعريفات الجيدة. والانطباعات السيئة والقوالب النمطية تتشكل أسرع وتكون أكثر مقاومة للدحض من الانطباعات الجيدة.» وفي ذلك يستشهدون بجون جوتمان، خبير العلاقات الزوجية المعروف، الذي لاحظ أن النجاح طويل المدى لأي علاقة يعتمد على تجنب السلبيات أكثر من اعتماده على البحث عن الإيجابيات. وقد قدر جوتمان أن أي علاقة مستقرة تتطلب تفوق التفاعلات الجيدة على التفاعلات السيئة من حيث العدد بمقدار ٥ إلى ١ على الأقل. وهناك تباينات أخرى في المجال الاجتماعي أكثر إثارة للدهشة. فنحن جميعًا نعرف أن أي صداقة عمرها سنوات يمكن أن يدمرها تصرف واحد.

هناك بعض الاختلافات بين الجيد والسيئ تعد جزءًا ثابتًا من تكويننا البيولوجي؛ فالأطفال الرضع يأتون إلى الحياة وهم جاهزون للاستجابة للألم كشيء سيئ، وللمذاق الحلو (لدرجة ما) كشيء جيد. غير أن الحد الفاصل بين الجيد والسيئ في مواقف عديدة يكون عبارة عن نقطة مرجعية تتغير على مدار الوقت وتعتمد على الظروف الراهنة. تخيل أنك تقضي يومًا في الريف في ليلة باردة، ولا ترتدي ملابس كافية لوقايتك من الأمطار الغزيرة وتشبَّعت ملابسك بالماء، وتأتي رياح باردة قارصة لتكتمل مأساتك، وبينما تجوب حولك، تجد صخرة كبيرة توفر لك مأوى من الطقس العنيف. كان العالم البيولوجي ميشيل كاباناك ليصف خبرة تلك اللحظة بأنها خبرة سارة بشكل حاد؛ لأنها تعمل على الإشارة لاتجاه تحسن كبير للظروف على المستوى البيولوجي، كما تفعل المتعة عادة. بالطبع لن تستمر حالة الارتياح الممتعة لفترة طويلة، وسرعان ما سوف تعاود الارتعاش ثانية خلف الصخرة، ليدفعك تجدد معاناتك للبحث عن مأوى أفضل.

الأهداف نقاط مرجعية

يشير تجنب الخسارة إلى القوة النسبية لدافعين: فنحن نملك دافعية لتجنب الخسائر أقوى من دافعيتنا لتحقيق مكاسب. أحيانًا ما تتمثل النقطة المرجعية في الوضع الراهن، ولكنها أيضًا يمكن أن تتمثل في هدف مستقبلي: فيكون عدم تحقيق هدف بمثابة خسارة، فيما يعد تجاوز الهدف بمثابة مكسب. وكما قد نتوقع من سيطرة السلبية، فإن الدافعين ليسا على نفس الدرجة من القوة. فتجنب الفشل المتمثل في عدم بلوغ الهدف أقوى بكثير من الرغبة في تجاوزه.

غالبًا ما يتبنى الناس أهدافًا قصيرة المدى يكافحون من أجل تحقيقها، ولكن ليس من أجل تجاوزها بالضرورة. ومن المحتمل أن يقللوا مما يبذلونه من جهود حين يبلغون هدفًا قريبًا ما يترتب عليه نتائج أحيانًا ما تنتهك المنطق الاقتصادي. فقد يستهدف سائقو التاكسي في نيويورك، على سبيل المثال، دخلًا معينًا للشهر أو السنة، ولكن الهدف الذي يحكم جهودهم عادة ما يكون مستهدفًا يوميًّا من الدخل. ولا شك أن الهدف اليومي يكون أسهل كثيرًا في تحقيقه (وتجاوزه) في بعض الأيام مقارنة بأيام أخرى. ففي الأيام الممطرة لا تبقى سيارات الأجرة في نيويورك خالية طويلًا، وسرعان ما يحقق السائق الدخل المستهدف، على عكس ما يحدث في الطقس الجيد، حين تجوب سيارات الأجرة الشوارع بحثًا عن ركاب. ويشير المنطق الاقتصادي ضمنًا إلى أنه ينبغي أن يعمل سائقو التاكسي لعدة ساعات في الأيام الممطرة، فيما يمنحون أنفسهم بعض الراحة في الأيام معتدلة الطقس، حينما يكون بإمكانهم «شراء» الراحة بسعر أقل. أما منطق تجنب الخسارة، فيشير إلى العكس: فالسائقون الذين لديهم مستهدف يومي ثابت سوف يعملون لساعات أكثر كثيرًا حين ينخفض عليهم الطلب، ويعودون لمنازلهم مبكرًا حين يتوسل إليهم الزبائن الغارقون بمياه الأمطار لتوصيلهم لمكان ما.

ويذهب عالما الاقتصاد ديفين بوب وموريس شفايتزر، بجامعة بنسلفانيا، إلى أن لعبة الجولف تقدم مثالًا رائعًا لنقطة مرجعية؛ ألا وهو: إحراز معدل الضربات المحددة للحفرة. فكل حفرة في ملعب الجولف لها عدد من الضربات مرتبط بها؛ والعدد المحدد للحفرة يمثل الخط القاعدي للأداء الجيد، ولكن ليس الأداء المميز. فبالنسبة للاعب جولف محترف يعد إحراز ضربة واحدة تحت معدل الحفرة مكسبًا، فيما يعد إحراز ضربة واحدة فوق معدل الحفرة خسارة. وقد قارن عالما الاقتصاد بين موقفين قد يواجههما اللاعب حين يكون بالقرب من الحفرة:

  • ضرب الكرة لتجنب إحراز ضربة واحدة فوق معدل الحفرة.

  • ضرب الكرة لإحراز ضربة واحدة تحت معدل الحفرة.

إن لكل ضربة في الجولف قيمتها، وفي الجولف الاحترافي كل ضربة تساوي الكثير. ولكن وفقًا لنظرية التوقع يكون لبعض الضربات قيمة أكبر من غيرها. فالإخفاق في إحراز معدل الحفرة يعد خسارة، ولكن ضياع ضربة تحت المعدل يعد مكسبًا ضائعًا وليس خسارة. وقد استنتج بوب وشفايتزر من تجنب الخسارة أن اللاعبين سوف يبذلون جهدًا أكثر قليلًا حين يضربون الكرة لإحراز معدل الحفرة (لتجنب إحراز ضربة فوق المعدل) مقارنة بما يفعلونه عند ضرب الكرة لإحراز ضربة تحت المعدل. وقد قاما بتحليل أكثر من ٢٫٥ مليون ضربة بتفصيل شديد لاختبار هذا التكهن.

وقد كانا على صواب؛ فسواء كانت الضربة سهلة أو صعبة، وعلى أي مسافة من الحفرة، كان اللاعبون ينجحون حين يضربون الكرة لإحراز معدل الحفرة، أكثر مما ينجحون عند الضرب لإحراز ضربة تحت المعدل. وكان الفارق في نسبة نجاحهم عند محاولة إحراز معدل الحفرة (لتجنب إحراز ضربة فوق المعدل)، أو إحراز ضربة تحت المعدل يساوي ٣٫٦٪. وهذا الفارق ليس هينًا. وقد كان تايجر وودز واحدًا من «المشاركين» في دراستهما. فلو أن تايجر وودز في أفضل سنواته ينجح في الضرب لإحراز ضربة تحت المعدل مثلما ينجح في الضرب لإحراز معدل الحفرة، كان متوسط مجموع الضربات ليتحسن بمعدل ضربة واحدة، فيما يتحسن دخله بحوالي مليون دولار للموسم الواحد. وهؤلاء المتنافسون الشرسون بالتأكيد لا يتخذون قرارًا واعيًا بالتراخي في ضربات تحت المعدل، ولكن تجنبهم الشديد لضربات فوق المعدل يساهم بشكل واضح في مزيد من التركيز على المهمة التي بين أيديهم.

توضح دراسة ضربات الجولف مدى قوة المفهوم النظري كأداة مساعدة للتفكير. من كان يعتقد أن قضاء شهور في تحليل ضربات فوق المعدل وتحت المعدل شيئًا يستحق الجهد؟ إن فكرة تجنب الخسارة، التي لا تفاجئ أي شخص عدا بعض الاقتصاديين على الأرجح، ولَّدت فرضية دقيقة وليست حدسية، وقادت الباحثين لنتيجة أدهشت الجميع، بما في ذلك لاعبو الجولف المحترفون.

الدفاع عن الوضع الراهن

إذا عزمت على البحث عن التفاوت بين دافع تجنب الخسارة ودافع تحقيق المكسب فستجده موجودًا في كل مكان تقريبًا؛ فهو سمة حاضرة دائمًا للمفاوضات، لا سيما عند إعادة التفاوض على عقد قائم بالفعل، والذي يعد الموقف المعتاد في مفاوضات العمل وفي المناقشات الدولية الخاصة بالتجارة أو الحد من الأسلحة. إن المصطلحات القائمة تحدد النقاط المرجعية، والتغيير المقترح في أي جانب من الاتفاقية ينظر إليه حتمًا باعتباره تنازلًا يقدمه طرف للآخر. وتجنب الخسارة يخلق تباينًا يجعل من الصعب الوصول إلى اتفاقيات. فالتنازلات التي تقدمها لي هي مكاسب لي، ولكنها خسائر لك؛ فهي تسبب لك ألمًا أكثر بكثير مما تمنحني السعادة والمتعة. وحتمًا ستضفي عليها قيمة أعلى مما أضفي أنا عليها. نفس الأمر ينطبق بالطبع على التنازلات المؤلمة للغاية التي تطالبني بها، والتي لا يبدو أنك تقدرها بما يكفي! والمفاوضات حول كعكة متناقصة تتسم بصعوبة خاصة؛ لأنها تتطلب توزيعًا للخسائر. ويميل الأشخاص للارتياح والهدوء أكثر بكثير حين يتفاوضون على كعكة متزايدة.

والعديد من الرسائل التي يتبادلها المتفاوضون في سياق الاتفاق هي عبارة عن محاولات لتوصيل النقطة المرجعية وتقديم نقطة ارتساء للطرف الآخر. وهذه الرسائل ليست دائمًا صادقة؛ فغالبًا ما يتظاهر المفاوضون بالتمسك الشديد بسلعة ما (ربما صواريخ موجهة من نوع معين أثناء التفاوض على خفض التسليح)، على الرغم من أنهم فعليًّا يرون هذه السلعة كورقة تفاوضية ويعتزمون التخلي عنها في النهاية مقابل شيء آخر. ولما كان المفاوضون يتأثرون بمعيار التبادلية، فإن أي تنازل يتم تقديمه باعتباره تنازلًا مؤلمًا يستدعي تنازلًا مؤلمًا بنفس القدر (وربما زائفًا بالقدر نفسه) من الطرف الآخر.

إن الحيوانات، بما فيها البشر، تقاتل بضراوة لمنع الخسائر أكثر مما تفعل لتحقيق المكاسب. وفي عالم الحيوانات ذات السلوك الإقليمي، يفسر هذا المبدأ أسباب نجاح المدافعين. فقد لاحظ أحد البيولوجيين أنه «عندما يواجه مالك لمنطقة ما تحديًا من خصم، يفوز هذا المالك بالمنافسة بشكل شبه دائم، وعادة ما يتم ذلك في غضون ثوانٍ.» وفي الأمور الإنسانية، يفسر نفس المبدأ البسيط الكثير مما يحدث حين تحاول المؤسسات إصلاح نفسها، في عمليات «إعادة التنظيم» و«إعادة الهيكلة» للشركات، وفي محاولاتها لتبرير البيروقراطية، أو تبسيط قوانين الضرائب، أو الحد من التكاليف الطبية. حسب التصور المبدئي، تخلف خطط الإصلاح بشكل شبه دائم العديد من الفائزين وبعض الخاسرين، بينما تقوم بتحقيق تحسن عام. غير أنه إذا كان للأطراف المعنية أي نفوذ سياسي، فإن الخاسرين المحتملين سيكونون أكثر نشاطًا وعزيمة من الفائزين المحتملين؛ ومن ثم سوف تصب النتيجة في صالحهم، وستكون حتمًا أكثر تكلفة وأقل فعالية مما تم التخطيط له في البداية. وتشمل الإصلاحات عادة بنود الحقوق المكتسبة التي تحمي ذوي المصلحة الحاليين؛ على سبيل المثال، حين تنخفض العمالة الحالية بفعل التناقص وليس الفصل، أو حين يسري خفض الأجور والمميزات على العاملين المستقبليين فقط. ويعد تجنب الخسارة قوة محافظة مؤثرة تنحاز لإحداث تغييرات محدودة عن الوضع الراهن في حياة كل من المؤسسات والأفراد. وهذه النزعة المحافظة تساعد على الحفاظ على استقرارنا في الحي الذي نقطنه، وفي حياتنا الزوجية، وفي أعمالنا؛ إنها القوة الجاذبة التي تعمل على تماسك حياتنا بالقرب من النقطة المرجعية.

تجنب الخسارة في القانون

خلال العام الذي قضيناه في العمل معًا في فانكوفر، استغرقنا — أنا وريتشارد تالر، وجاك نيتش — في دراسة العدالة في التعاملات والصفقات التجارية؛ وكان ذلك يرجع جزئيًّا لاهتمامنا بالموضوع، إلا أنه يرجع أيضًا لما كان لدينا من فرصة والتزام لوضع استبيان كل أسبوع. فقد كان لدى إدارة المصايد والمحيطات التابعة للحكومة الكندية برنامج للمهنيين العاطلين عن العمل في تورنتو، ممن كانوا يتلقون أجرًا لقاء إجراء استطلاعات رأي عبر الهاتف. كان فريق المحاورين الضخم يعمل كل ليلة، وكانت هناك حاجة مستمرة لأسئلة جديدة للمساعدة على استمرار العملية. وعن طريق جاك نيتش، اتفقنا على تصميم استبيان كل أسبوع في أربع نسخ مصنفة حسب اللون. كان بوسعنا السؤال عن أي شيء؛ والقيد الوحيد أنه ينبغي أن يشتمل الاستبيان على الأقل ذِكرًا واحدًا للأسماك؛ ليجعله ذا صلة بمهمة الإدارة. واستمر ذلك لعدة أشهر، واستمتعنا بالانغماس في جمع المعلومات.

قمنا بدراسة التصورات العامة لعناصر السلوك المجحف من جانب التجار، والموظفين، وملاك العقارات. وكان سؤالنا المحوري هو ما إذا كان الخزي المرتبط بالظلم يفرض قيودًا على مسألة السعي للربح، ووجدنا أنه بالفعل يقوم بذلك. ووجدنا كذلك أن القواعد الأخلاقية التي يقيِّم بها العامة ما قد تفعله الشركات أو قد لا تفعله؛ تضع فارقًا بالغ الأهمية بين الخسائر والمكاسب. والمبدأ الأساسي يتمثل في أن الأجور أو الأسعار أو الإيجارات الحالية تحدد نقطة مرجعية لها صفة استحقاق لا بد ألا ينتهك. ويعتبر من غير الإنصاف من جانب الشركة أن تفرض خسائر على عملائها أو موظفيها فيما يتعلق بالتعامل المرجعي، ما لم يكن من الضروري أن تفعل ذلك لحماية استحقاقها. تأمل هذا المثال:
متجر للأدوات والعِدد كان يبيع مجارف الثلج مقابل ١٥ دولارًا للواحد. وفي الصباح التالي لعاصفة ثلجية كبيرة، يقوم المتجر برفع السعر إلى ٢٠ دولارًا.
من فضلك قيم هذا التصرف باعتباره:
عادلًا تمامًا – مقبولًا – غير عادل – غير عادل تمامًا.
إن متجر الأدوات يتصرف وفقًا للنموذج الاقتصادي القياسي: فهو يستجيب للطلب المتزايد برفع أسعاره، ولم يوافق المشاركون في الاستطلاع على ذلك؛ فقد قيموا التصرف كتصرف غير عادل أو غير عادل للغاية. واتضح جليًّا أنهم كانوا يعتبرون السعر المعتمد قبل العاصفة الثلجية العنيفة نقطة مرجعية، وأن رفع السعر بمثابة خسارة يفرضها المتجر على عملائه؛ ليس من منطلق الاضطرار ولكن ببساطة من منطلق القدرة. فقد وجدنا أن من القواعد الأساسية للعدالة هي أن استغلال قوة السوق لفرض خسائر على الآخرين أمر غير مقبول. ويوضح المثال التالي هذه القاعدة في سياق آخر (علمًا بأنه لا بد من تعديل قيم الدولار نظرًا لوصول التضخم إلى ١٠٠٪ منذ تم جمع هذه البيانات في عام ١٩٨٤):

متجر صغير للنسخ لديه موظف عمل لمدة ستة أشهر ويتقاضى ٩ دولارات في الساعة. ظل العمل يسير بشكل مرضٍ، ولكن أحد المصانع في المنطقة أغلق أبوابه وازداد معدل البطالة. فقامت محلات صغيرة أخرى آنذاك بتعيين عمال يعتمد عليهم مقابل ٧ دولارات في الساعة لأداء وظائف مشابهة لتلك التي يقوم بها موظف متجر النسخ. فقام مالك المتجر بخفض أجر الموظف إلى ٧ دولارات.

لم يوافق المشاركون في الاستطلاع على ذلك: فقد اعتبر ٨٣٪ منهم هذا السلوك غير عادل أو غير عادل تمامًا. غير أن تعديلًا محدودًا على السؤال من شأنه أن يوضح طبيعة التزام صاحب المتجر. السيناريو الأساسي القائم على أن المتجر يدر أرباحًا في منطقة بها نسبة بطالة عالية واحد، ولكن:

ترك الموظف الحالي العمل، وقرر صاحب المتجر أن يدفع للموظف الذي سيحل محله ٧ دولارات في الساعة.

اعتبرت أغلبية كبيرة من المشاركين (٧٣٪) هذا التصرف مقبولًا. فيبدو أن صاحب العمل ليس لديه التزام أخلاقي ليدفع ٩ دولارات في الساعة. فالاستحقاق هنا شخصي: فالموظف الحالي لديه حق في الاحتفاظ بأجره حتى لو كانت ظروف السوق تسمح لصاحب العمل بفرض خفض في الأجر. أما الموظف البديل، فليس له أحقية في تقاضي الأجر المرجعي للموظف السابق، ومن ثم يمكن لصاحب العمل أن يخفض الأجر دون التعرض لخطر تصنيفه كشخص مجحف.

إن للشركة استحقاقها الخاص، المتمثل في الاحتفاظ بربحها الحالي. وإذا كانت تواجه خسارة ما، فيحق لها نقل الخسارة إلى آخرين. وقد كانت أغلبية كبيرة من المشاركين في الاستطلاع تعتقد أن من الظلم أن تقوم أي شركة بخفض أجور العاملين عند انخفاض ربحيتها. فقمنا بوصف القواعد باعتبارها تحدد استحقاقات مزدوجة للشركة وللأفراد الذين تتعامل معهم. فعند مواجهة تهديد، من العدل أن تكون الشركة أنانية، ولا يتوقع منها حتى تحمل جزء من الخسائر؛ إذ يمكنها نقلها.

ثمة قواعد مختلفة حكمت ما كان بوسع الشركة القيام به لتحسين أرباحها أو تجنب انخفاض الأرباح. فحين كانت شركة ما تواجه انخفاضًا في تكاليف الإنتاج، لم تتطلب منها قواعد العدل أن تتقاسم هذا المنجم من الثراء مع عملائها أو موظفيها. بالطبع كان المشاركون يعجبون أكثر بالشركة ويصفونها بأنها أكثر عدالة لو كانت سخية حين زادت الأرباح، ولكنهم لم يصنفوا أي شركة لم تتقاسم الأرباح كشركة غير عادلة. وكانوا يظهرون استياء وسخطًا فقط عند قيام شركة ما باستغلال نفوذها وقوتها لفسخ العقود غير الرسمية مع العاملين أو العملاء، وفرض خسارة على الآخرين من أجل زيادة أرباحها. والمهمة الأساسية للطلاب الدارسين للعدالة الاقتصادية ليست تحديد السلوك المثالي، ولكن إيجاد الخط الفاصل بين السلوك المقبول والتصرفات التي تثير الخزي وتستدعي العقاب.

لم نكن متفائلين حين تقدمنا بتقريرنا عن هذا البحث لدورية «أمريكان إيكونوميك ريفيو»؛ فقد كان مقالنا يتحدى ما كان يعد آنذاك حكمة مقبولة بين العديد من الاقتصاديين من أن السلوك الاقتصادي يحكمه المصلحة الشخصية، وأن المخاوف بشأن العدالة لا صلة لها بالأمر بشكل عام. واعتمدنا كذلك على الأدلة المستمدة من إجابات استطلاع الرأي، التي لم يكن لها اعتبار كبير لدى الاقتصاديين. غير أن محرر الجريدة أرسل المقال لاثنين من علماء الاقتصاد، لم يكونا مقيدين بتلك الأعراف لتقييمه (وقد علمنا هويتهما لاحقًا؛ وقد كانا أكثر ما استطاع المحرر إيجادهما لطفًا وبشاشة). وكان قرارًا صحيحًا من المحرر. فالمقال غالبًا ما يستشهد به، وصمدت استنتاجاته لاختبار الزمن. وأيدت أبحاث أكثر حداثة الملاحظات الخاصة بالعدالة القائمة على المرجعية، وأظهرت كذلك أن المخاوف بشأن العدالة لها أهمية على المستوى الاقتصادي، وهي حقيقة تشككنا فيها ولكننا لم نثبتها. وأصحاب العمل الذين ينتهكون قواعد العدالة يعاقبون بانخفاض الإنتاجية، فيما يمكن للتجار الذين يتبعون سياسات تسعير مجحفة أن يتوقعوا خسارة المبيعات. فالأشخاص الذين يعرفون من أحد الكتالوجات الجديدة أن التاجر يضع الآن سعرًا أقل لمنتج اشتروه مؤخرًا بسعر أعلى يقللون من مشترياتهم المستقبلية من هذا المورد بنسبة ١٥٪، بمتوسط خسارة قدره ٩٠ دولارًا للعميل الواحد. فمن الواضح أن العملاء ينظرون للسعر الأقل باعتباره النقطة المرجعية، ويعتقدون أنهم قد تحملوا خسارة ممتدة بدفع مقابل أكثر من المقابل الملائم. علاوة على ذلك، كان العملاء الذين أظهروا أقوى رد فعل تجاه ذلك هم هؤلاء الذين اشتروا أصنافًا أكثر، وبأسعار أعلى. فقد تجاوزت الخسائر المكاسب من زيادة المشتريات، والتي حدثت بفعل الأسعار الأقل الواردة في الكتالوج الجديد.

ويمكن لفرض الخسائر بشكل مجحف على الأفراد أن يكون محفوفًا بالمخاطر إذا كان الضحايا في موقع يؤهلهم للانتقام. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت التجارب أن الغرباء الذين يلاحظون سلوكًا غير عادل غالبًا ما يشاركون في العقاب. فقد استخدم علماء الاقتصاد العصبي (وهم علماء يدمجون علم الاقتصاد مع أبحاث المخ) أجهزة الفحص بالرنين المغناطيسي لفحص أدمغة الأشخاص الذين يشاركون في عقاب شخص غريب لتصرفه بشكل مجحف تجاه غريب آخر. وتبين بشكل لافت للنظر أن عقاب الآخرين يصاحبه زيادة في نشاط «مراكز المتعة» في المخ. ويبدو أن الحفاظ على النظام الاجتماعي وقواعد العدالة بهذه الطريقة هو جائزة هذا السلوك. فعقاب الغير يمكن أن يكون بمثابة المادة اللاصقة التي تعمل على تماسك وتلاحم المجتمعات معًا. غير أن أدمغتنا ليست مصممة لمكافأة السخاء والكرم على نحو موثوق مثلما تعاقب الخسة والدناءة. وها نحن نجد مرة أخرى تباينًا ملحوظًا بين الخسائر والمكاسب.

يمتد تأثير تجنب الخسارة والاستحقاقات لما وراء عالم التعاملات المالية؛ فقد كان رجال القانون يدركون سريعًا تأثيرهم على القانون وفي تطبيق العدالة. ففي إحدى الدراسات وجد ديفيد كوهين وجاك نيتش العديد من الأمثلة لوجود فارق حاد بين الخسائر الفعلية والمكاسب الحتمية في الأحكام القانونية؛ على سبيل المثال، التاجر الذي تضيع بضائعه في النقل قد يعوض عن التكاليف التي تحملها فعليًّا، ولكن من غير المحتمل أن يعوض عن الأرباح الضائعة. وتؤكد القاعدة المعروفة بأن الحيازة تسعة أعشار القانون على المكانة المعنوية للنقطة المرجعية. وفي طرح أحدث، يثير إيال زامير نقطة مثيرة وهي أن الفارق الذي يضعه القانون بين استعادة الخسائر وتعويض المكاسب الحتمية قد يبرر بتأثيراتهما المتباينة على سعادة ورخاء الفرد. وإذا كان الأشخاص الذين يخسرون يعانون أكثر من الأشخاص الذين يفشلون فقط في جني مكاسب، فقد يكونون أيضًا جديرين بمزيد من الحماية من القانون.

في الحديث عن الخسائر

«هذا التغيير لن يمر؛ فالأشخاص المحتمل تعرضهم للخسارة سوف يحاربون بضراوة أكثر من هؤلاء المحتمل أن يجنوا مكاسب.»

«كل منهم يعتقد أن تنازلات الآخر أقل إيلامًا، وكلاهما مخطئ بالطبع؛ إنها فقط تباينات الخسائر.»

«كانوا سيجدون سهولة أكبر في إعادة التفاوض حول الاتفاقية لو أدركوا أن الكعكة كبيرة بالفعل. إنهم لا يقسمون الخسائر، بل يقسمون المكاسب.»

«لقد ارتفعت أسعار الإيجارات هنا مؤخرًا، ولكن مستأجرينا لا يعتقدون أن من العدل أن نرفع إيجارهم كذلك. إنهم يشعرون بأنهم مستحقون لبنود عقودهم الحالية.»

«عملائي لا يمتعضون من ارتفاع الأسعار؛ لأنهم يعرفون أن تكاليفي قد ارتفعت أيضًا. إنهم يقرون بحقي في استمرار ربحيتي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤