الفصل السادس

المعايير والمفاجآت والأسباب

جرى عرض الخصائص والوظائف الأساسية للنظام ١ والنظام ٢، مع التركيز أكثر على النظام ١. إذا استخدمنا تشبيهًا فضفاضًا، يمكن القول إننا نمتلك في رءوسنا جهاز كمبيوتر غاية في القوة، وهو ليس جهازًا سريعًا وفق معايير الأجهزة التقليدية، لكنه يستطيع تمثيل بنية عالمنا عبر أنواع مختلفة من الصلات الترابطية في شبكة هائلة من الأنواع المتنوعة للأفكار. بينما يعتبر انتشار عملية التنشيط في آلية التداعي آليًّا، نمتلك نحن (النظام ٢) بعض القدرة على التحكم في عملية البحث في الذاكرة، وأيضًا في برمجتها بحيث يؤدي تحديد أي حدث في البيئة المحيطة إلى جذب الانتباه. ننتقل بعد ذلك بمزيد من التفصيل إلى عجائب وأوجه قصور ما يمكن أن يقوم به النظام ١.

تقييم مدى اعتيادية الأمور

تتمثل الوظيفة الرئيسية للنظام ١ في الحفاظ على نموذج عالمك الشخصي وتحديثه، وهذا النموذج يمثِّل ما هو اعتيادي في عالمك. ينبني النموذج من خلال التداعيات التي تصل الأفكار حول الملابسات، والأحداث، والأفعال، والنتائج التي تتلازم معها بطريقة اعتيادية، سواءٌ في الوقت نفسه أو في غضون فترة قصيرة نسبيًّا. مع تشكيل هذه الصلات وتدعيمها، يصبح نمط الأفكار المتداعية ممثلًا لبنية الأحداث في حياتك، كما يحدد تفسيرك للحاضر فضلًا عن توقعاتك حيال المستقبل.

القدرة على التفاجُؤِ هي أحد الملامح الجوهرية لحياتنا العقلية، كما تعتبر المفاجأة نفسها أكثر المؤشرات حساسية على طريقة فهمنا لعالمنا وما نتوقعه منه. هناك نوعان رئيسيان من المفاجأة. بعض التوقعات منتظرة وواعية؛ إذ تعرف أنك تنتظر حدثًا محددًا سيقع. عندما تقترب ساعة وقوع الحدث، ربما تتوقع رنين صوت جرس الباب عند عودة طفلك من المدرسة. وعندما يُفتح الباب، تتوقع سماع صوت مألوف. ستُفاجأ إذا لم يقع حدث متوقع. في المقابل، توجد فئة أكبر بكثير من الأحداث التي لا تتوقع حدوثها؛ فهي أحداث لا تنتظرها، لكنك لا تُفاجأ عندما تقع. هذه هي الأحداث الاعتيادية في أي موقف، لكنها غير محتملة الحدوث بما يكفي بحيث يجري توقع حدوثها.

ربما يجعل تَكرار حدث واحد من هذا الحدث أقل مفاجأةً. منذ بضع سنوات، كنت أنا وزوجتي نقضي عطلة في منتجع بجزيرة صغيرة في منطقة حاجز الشعاب المرجانية الكبير بأستراليا. كانت هناك أربعون غرفة فندقية فقط في الجزيرة. عندما جئنا لتناول العشاء، فوجئنا بمقابلة أحد المعارف، عالم نفس يُدعى جون. حيَّا كلانا الآخر بحرارة وعلقنا على هذه المصادفة. ترك جون المنتجع في اليوم التالي. بعد أسبوعين تقريبًا، كنا في أحد المسارح في لندن. جلس أحد القادمين المتأخرين عن العرض إلى جانبي بعد إطفاء الأنوار. عندما أضاءت الأنوار خلال الاستراحة، كان جون إلى جانبي. علقت زوجتي وأنا لاحقًا على ذلك بأننا كنا على وعي في آنٍ واحد بحقيقتين؛ أولًا: كانت المصادفة الأخيرة أكثر لفتًا للانتباه من المصادفة الأولى. ثانيًا: كنا «أقل» تفاجُؤًا بصورة لافتة عند مقابلة جون في المرة الثانية مما كنا في المرة الأولى. من الواضح أن المصادفة الأولى غيرت من فكرتنا عن جون بطريقة ما في عقولنا. هو الآن «عالم النفس الذي يظهر عندما نكون مسافرين في الخارج.» كنا (النظام ٢) نعرف أن هذه فكرة سخيفة، لكن النظام ١ جعلها تبدو فكرة عادية تقريبًا أن نقابل جون في أماكن غريبة. ربما كنا سنُدهش أكثر إذا التقينا أحد المعارف الآخرين بخلاف جون في المقعد المجاور في أحد مسارح لندن. وفق أي مقياس للاحتمالية، بينما كان احتمال مقابلة جون في المسرح أقل بكثير من مقابلة أي من المئات من معارفنا، بدت مقابلة جون أكثر اعتيادية.

في ظل بعض الظروف، تتحول التوقعات غير المنتظرة بسرعة إلى توقعات منتظرة، مثلما رأينا في مصادفة أخرى. ففي إحدى أمسيات يوم الأحد منذ بضع سنوات، كنا نمضي في طريقنا بسيارتنا من نيويورك إلى برينستون، مثلما كنا نفعل كل أسبوع لفترة طويلة. رأينا مشهدًا غير مألوف. كانت هناك سيارة مشتعلة على جانب الطريق. عندما بلغنا النقطة نفسها من الطريق يوم الأحد التالي، كانت هناك سيارة أخرى تحترق. هنا مرة أخرى، وجدنا أننا نشعر بالدهشة أقل في المرة الثانية مما كنا في المرة الأولى. كان ذلك الآن هو «المكان الذي تحترق السيارات فيه.» نظرًا لأن ظروف تكرار الواقعة كانت متطابقة، كانت الواقعة الثانية كافية حتى تخلق نوعًا من التوقع المنتظر. لفترة امتدت شهورًا، وربما سنوات، كنا نتذكر بعد الواقعة السيارات المحترقة متى بلغنا تلك النقطة من الطريق، وكنا مستعدين إلى حد كبير لرؤية سيارة أخرى مشتعلة (لكننا لم نر أي سيارات مشتعلة على الإطلاق بعد ذلك).

كتبتُ أنا وعالم النفس ديل ميلر مقالًا حاولنا فيه تفسير كيفية إدراك الأحداث باعتبارها اعتيادية أو غير اعتيادية. سأستعين بمثال من عرضنا لما يطلق عليه «نظرية المعايير»، على الرغم من أن تفسيري لها اختلف قليلًا:

يلاحظ أحد المراقبين، الذي يراقب عفويًّا الجالسين إلى طاولة مجاورة في مطعم فاخر، أن أول هؤلاء الجالسين ممن ارتشفوا الحساء جفل من الألم. ستتغير اعتيادية مجموعة من الأحداث عن طريق هذه الواقعة. لا يبدو الأمر مدهشًا الآن بالنسبة إلى العميل الذي تذوق الحساء للمرة الأولى أن يجفل بشدة عندما يلمسه النادل، ولا يبدو أمرًا مدهشًا أيضًا بالنسبة إلى أحد رواد المطعم الآخرين أن يكتم صرخة عندما يرشف الحساء من الوعاء نفسه. بينما تبدو هذه الأحداث، وغيرها الكثير، أكثر اعتيادية مما لو كانت في أي ظرف آخر، إلا أن ذلك لا يرجع بالضرورة إلى أنها تتوافق مع توقعات مسبقة؛ بل لأنها تستدعي الحادثة الأصلية، وتسترجعها من الذاكرة، ويجري تفسير الأحداث بالارتباط معها.

تخيَّل نفسك ذلك الشخص المراقب في المطعم. دُهشت جراء ردة الفعل غير الاعتيادية من قبل العميل الأول تجاه الحساء، ودُهشت مرة أخرى جراء جفوله من لمس النادل له. سيسترجع الحدث الثاني غير الاعتيادي الحدث الأول من الذاكرة، وسيصبح لهما معنى معًا. يندرج الحدثان في نمط، يكون العميل فيه شخصًا غاية في التوتر. على الجانب الآخر، إذا كان الشيء التالي الذي سيحدث بعد عبوس العميل الأول هو رفض عميل آخر للحساء، فسيجري ربط هاتين المفاجأتين ومن سيُلقى عليه اللوم بالتأكيد هو الحساء.

«كم عدد الحيوانات من كل نوع التي حملها موسى معه في الفُلك؟» عدد من يستطيعون تحديد الخطأ في هذا السؤال قليل للغاية؛ بحيث يمكن إطلاق تعبير «خدعة موسى» عليه. لم يحمل موسى أي حيوانات معه في الفُلك. كان ذلك نوحًا. تمامًا مثل واقعة شارب الحساء الجافل، تفسر نظرية المعايير بسهولة خدعة موسى. توفِّر فكرة انتقال الحيوانات عبر الفُلك سياقًا دينيًّا، ولا يعتبر موسى غير مألوف في مثل هذا السياق. بينما لم يتوقع المرء ذكر موسى، إلا أن ذكره ليس أمرًا مدهشًا. يدعم ذلك أيضًا أن اسمَيْ موسى ونوح متقاربان من حيث عدد أحرف العلة وعدد المقاطع (في اللغة الإنجليزية). مثلما كان الأمر مع ثلاثيات الكلمات التي تُفضي إلى حالة اليسر الإدراكي، إنك تُحدد لاواعيًا التماسك الترابطي بين «موسى» و«الفُلك» ومن ثم تتقبل السؤال كما هو سريعًا. استبدل جورج دبليو بوش بموسى في هذه العبارة وسيكون لديك مزحة سياسية سخيفة دون خدعة في السؤال.

عندما لا يتلاءم شيء أسمنتي مع السياق الحالي للأفكار المنشَّطة، يشير النظام إلى وجود خلل غير اعتيادي، مثلما صادفت توًّا. بينما لا توجد لديك أي فكرة عما سيأتي بعد كلمة «شيء»، كنت تعرف أنه عند ورود كلمة «أسمنتي» في الجملة كان ذلك بمثابة أمر غير اعتيادي في الجملة. أظهرت دراسات الاستجابات الدماغية أن عملية تحديد التعارض مع ما هو معتاد تجري بسرعة ودقة مذهلتين. في تجربة حديثة، استمع المشاركون إلى عبارة «تدور الأرض حول المتاعب كل عام.» جرى تحديد نمط متميز في نشاط الدماغ في غضون عشرين جزءًا من الثانية من بداية ذكر الكلمة الغريبة. لعل الأكثر لفتًا للانتباه هو أن الاستجابة الدماغية نفسها تحدث بالسرعة نفسها عندما يتحدث صوت ذكوري قائلًا: «أعتقد أنني حامل لأنني أشعر بالغثيان كل صباح»، أو عندما يقول شخص ينتمي إلى الطبقة العليا: «لديَّ وشم كبير في ظهري.» يجب الاستعانة بكمية هائلة من المعرفة بالعالم من أجل تحديد موضع عدم الاتساق في العبارة. فيجب تحديد الصوت باعتباره صوت أحد الأشخاص الإنجليز المنتمين إلى الطبقة العليا والتعرف على التعميم القائل بأن رسوم الوشم الكبيرة تعتبر غير شائعة وسط الطبقة العليا.

نستطيع التواصل مع بعضنا؛ نظرًا لأننا نشترك بشكل كبير في معرفتنا بالعالم وفي استخدامنا للكلمات. عندما أذكر طاولة، دون مزيد من التحديد، تفهم من ذلك أنني أشير إلى طاولة عادية. وتعرف على وجه اليقين أن سطح الطاولة مستوٍ تقريبًا، وأن لها أرجلًا يقل عددها كثيرًا عن ٢٥ رجلًا. توجد لدينا «معايير» حول عدد كبير من التصنيفات، وتوفِّر هذه المعايير الخلفية اللازمة للتحديد الفوري لأوجه الشذوذ مثل الرجال الحوامل والأرستقراطيين الذي يضعون وشمًا كبيرًا.

حتى يمكن وضع دور المعايير في نصابه الصحيح في سياق عملية التواصل، خذ على سبيل المثال هذه الجملة: «تسلق الفأر الكبير خرطوم الفيل الصغير للغاية.» أستطيع الاعتماد على توفر معايير لديك بحيث لا يختلف حجم الفئران والأفيال بالنسبة لك كثيرًا عما أظنها كذلك. تحدد المعايير حجمًا متوسطًا أو نموذجيًّا لهذه الحيوانات، كما تشتمل على معلومات تتعلق بالنطاق أو مدى الاختلاف داخل الفئة نفسها. من غير المحتمل على الإطلاق أن أيًّا منا ورد إلى ذهنه صورة فأر أكبر في حجمه من فيل يركب فوق فيل أصغر منه. بدلًا من ذلك، تخيلنا جميعًا بصورة منفصلة ومعًا في آن واحد في أذهاننا صورة فأر أصغر من فردة حذاء يتسلق فيلًا أكبر من أريكة. يحظى النظام ١، الذي يفهم اللغة، بالقدرة على الاطلاع على معايير التصنيفات، التي تحدد نطاق القيم المقبولة فضلًا عن الحالات الأكثر اعتيادية.

رؤية الأسباب والمقاصد

«وصل والدا فريد متأخرين. كان من المتوقع وصول المتعهدين في الحال. كان فريد غاضبًا.» تعلم لماذا كان فريد غاضبًا، ولم يكن ذلك لأن المتعهدين كانوا على وشك الوصول. في شبكتك من التداعيات، بينما يرتبط الغضب وغياب الانضباط باعتبارهما نتيجة وسببًا ممكنًا لها، لا توجد علاقة كهذه بين الغضب وفكرة توقع وصول المتعهدين. جرى تأليف قصة متماسكة الأركان على الفور أثناء قراءتك العبارة. عرفت على الفور السبب وراء غضب فريد. يعتبر إيجاد هذه العلاقات السببية جزءًا من فهم أي قصة، كما يعتبر عملية آلية ضمن عمليات النظام ١. عُرض التفسير السببي على النظام ٢، ذاتك الواعية، وقبله.

تبين قصة في كتاب نسيم طالب «البجعة السوداء» عملية البحث الآلية هذه عن العلاقة السببية. يشير طالب إلى ارتفاع أسعار سندات الخزانة في البداية يوم اعتقال صدام حسين في مخبئه في العراق. كان يبدو أن المستثمرين يسعون إلى الاستثمار في الأصول الآمنة ذلك الصباح، وكانت خدمة بلومبرج الإخبارية تعرض هذا العنوان: «ارتفاع قيمة سندات الخزانة الأمريكية. قد لا يؤدي إلقاء القبض على حسين إلى الحد من الإرهاب.» بعدها بنصف ساعة، انخفضت قيمة السندات وكان عنوان الخبر المعدَّل كالتالي: «انخفاض قيمة سندات الخزانة الأمريكية. القبض على حسين يزيد الإقبال على شراء الأصول ذات المخاطر العالية.» من الواضح أن خبر إلقاء القبض على صدام حسين كان هو الخبر الأبرز خلال اليوم، ونظرًا للطريقة التي تشكِّل بها عملية البحث الآلية عن الأسباب طريقة تفكيرنا، قُدِّر لهذه الحادثة أن تمثل تفسيرًا لأي شيء يحدث في الأسواق في ذلك اليوم. بينما يبدو عنوانا الأخبار ظاهريًّا كما لو كانا يقدمان تفسيرًا لما كان يجري في الأسواق، لا تقدِّم العبارة التي يمكنها تفسير نتيجتين متناقضتين تفسيرًا على الإطلاق. في حقيقة الأمر، يتمثَّل جُلُّ ما تفعله عناوين الأخبار في إشباع حاجتنا إلى التماسك. فيُفترض أن يؤدي حدث كبير إلى تداعيات، كما تحتاج التداعيات إلى أسباب لتفسيرها. تتوفر لدينا معلومات محدودة حول ما يقع خلال اليوم، ويعتبر النظام ١ بارعًا في إيجاد قصة سببية متماسكة تربط أجزاء المعرفة التي تتوفر لديه.

اقرأ الجملة الآتية:

بعد قضاء يوم في استكشاف المناظر الجميلة في شوارع نيويورك المزدحمة، اكتشفت جين ضياع محفظتها.

عندما طُلب من الأشخاص الذين قرءوا هذه القصة القصيرة (فضلًا عن قصص أخرى كثيرة) إجراء اختبار تذكر مفاجِئ، كانت كلمة «نشَّال» أكثر ارتباطًا بالقصة من كلمة «مناظر»، على الرغم من ذكر الكلمة الأخيرة في القصة وعدم ذكر الكلمة الأولى. تدلنا قواعد التماسك الترابطي على ما جرى. قد تثير حادثة فقدان المحفظة أسبابًا كثيرة مختلفة لها. فربما انزلقت المحفظة من جيب جين، ربما تركتها في المطعم، إلخ. في المقابل، عندما تتجاور أفكار المحفظة المفقودة، ونيويورك، والزحام، تثير هذه الأفكار معًا تفسير النشال باعتباره سببًا في الحادث. في قصة جفول العميل جراء احتساء الحساء، تؤدي النتيجة — سواء كان ذلك عميلًا آخر يجفل عند احتساء الحساء أو كان ردة فعل العميل الأول المتطرفة عند لمس النادل إياه — إلى تقديم تفسير متماسك ترابطيًّا للمفاجأة الأولى، وهو ما يؤدي إلى اكتمال حلقات قصة مقنعة.

نشر عالم النفس البلجيكي الأرستقراطي ألبرت ميشوت كتابًا في عام ١٩٤٥ (تُرجم إلى الإنجليزية في عام ١٩٦٣) قلب افتراضات قرون من التفكير حول السببية رأسًا على عقب، راجعًا في عرضه على الأقل إلى بحث هيوم لمبدأ تداعي الأفكار. كانت الفكرة الشائعة المقبولة تتمثل في أننا نستنبط العلاقة السببية المادية من خلال الملاحظات المتكررة للعلاقات الترابطية بين الأحداث. فقد مررنا بتجارب متنوعة رأينا من خلالها جسمًا متحركًا يلامس جسمًا آخر، الذي يبدأ بدوره في الحركة على الفور، عادةً (وليس دائمًا) في الاتجاه نفسه. يحدث هذا عندما تصدم كرة بلياردو كرة بلياردو أخرى، وهو ما يحدث أيضًا عندما توقع زهرية عند تنظيفها بالفرشاة. كانت لدى ميشوت وجهة نظر أخرى. رأى ميشوت أننا «نرى» العلاقة السببية، مثلما نرى الألوان تمامًا. لتوضيح فكرته، ابتكر ميشوت مقتطفات يتحرك فيها مربع أسود مرسوم على ورقة إلى أن يلامس مربعًا آخر، الذي يبدأ في الحركة بدوره في الحال. بينما يعلم المشاركون عدم وجود أي تلامس مادي حقيقي، كان يقعون تحت تأثير قوي لما يطلق عليه «وهم السببية.» إذا بدأ الشكل الثاني في الحركة في الحال، كان المشاركون يشيرون إلى هذه الحركة باعتبارها «أُطلقت» من خلال حركة الشكل الأول. أظهرت التجارب أن الأطفال الرضع الذين تبلغ أعمارهم ستة أشهر يرون تسلسل الأحداث باعتباره يمثل سيناريو سبب ونتيجة، وأنهم يعبرون عن الدهشة عندما يجري تغيير ترتيب التسلسل. إننا نكون مستعدين منذ الميلاد لأن تكون لدينا «انطباعات» عن السببية، لكن هذه الانطباعات ليست قائمة على المنطق الذي تتحرك وفقه أنماط السببية. وهذه الانطباعات نتاج النظام ١.

في عام ١٩٤٤، في الوقت الذي نشر ميشوت تجاربه حول السببية المادية تقريبًا، استخدم عالما النفس فرتز هيدر وماري-آن سيمل أسلوبًا مشابهًا لأسلوب ميشوت لبيان عملية إدراك السببية «القصدية». صنع كلاهما فيلمًا — لم تزد مدته عن دقيقة وأربعين ثانية — يرى المشاهدون فيه مثلثًا كبيرًا، ومثلثًا صغيرًا، ودائرة تتحرك حول شكل يشبه مخططًا لمنزل بابه مفتوح. يرى المشاهدون مثلثًا كبيرًا متنمرًا يهاجم مثلثًا صغيرًا، ودائرة مرتعبة، واتحاد الدائرة والمثلث الصغير لهزيمة المثلث المتنمر. يرى المشاهدون أيضًا الكثير من التشابكات حول الباب ثم ينتهي الفيلم نهاية درامية. لا سبيل إلى مقاومة إدراك القصد والمشاعر في الفيلم. لا يوجد سوى هؤلاء ممن يعانون من مرض التوحُّد الذين لا يمرون بهذه الخبرة. بالطبع، يجري كل هذا في عقولنا. عقلك مستعد بل متلهف لتحديد الفاعلين، وتخصيص سمات شخصية ومقاصد محددة لهم، والنظر إلى أفعالهم باعتبارها تعبر عن ميول شخصية. هنا مرة أخرى، تتمثل الدلائل على كل ذلك في أننا نولد مستعدين لتخصيص صفات قصدية. فيستطيع الأطفال الرضع الذين تقل أعمارهم عن عام واحد تحديد الأشخاص المتنمرين والضحايا، وتوقع ملاحقة أحد المُطارِدين السبيل الأكثر مباشرةً في محاولة الإمساك بأيما كان يطارده.

تعتبر خبرة العمل الذي يتم بإرادة حرة منفصلة تمامًا عن السببية المادية. فعلى الرغم من أن أيدينا هي التي تلتقط الملح، فإننا لا نفكِّر في هذه الواقعة باعتبارها سلسلة من العلاقات السببية المادية. ترى تجربة التقاط الملح باعتبارها تجربة تسبب في وقوعها قرار اتخذته «ذاتك» الحرة لأنك أردت أن تضيف ملحًا إلى طعامك. يرى كثير من الناس أن من الطبيعي بمكان الإشارة إلى أرواحهم باعتبارها مصدرًا وسببًا لأفعالهم. عرض عالم النفس بول بلوم، في مقال كتبه في مجلة «ذي أتلانتيك» في عام ٢٠٠٥، طرحًا مثيرًا يقول بأن استعدادنا الفطري للفصل بين السببية المادية والقصدية يفسِّر عالمية الاعتقادات الدينية. يرى بلوم أننا «نرى عالم الأشياء باعتباره عالمًا منفصلًا بالضرورة عن عالم العقول، وهو ما يجعل من الممكن تصوُّر وجود أجساد بلا روح وأرواح بلا أجساد.» يجعل نمطا السببية اللذان نكون مستعدين للتعرف عليهما من الطبيعي بمكان بالنسبة إلينا أن نقبل الاعتقادين الأساسيين في العديد من الأديان؛ ألا وهما: الإله غير المتجسِّد هو السبب النهائي في وجود العالم المادي، والأرواح الخالدة تتحكم مؤقتًا في أجسادنا بينما نعيش ونخلفها عندما نموت. وفق وجهة نظر بلوم، جرى تشكيل مفهومَيِ السببية على نحو منفصل من خلال قوى تطورية، قوى بنت أصول الدين في بنية النظام ١.

تمثِّل أهمية الحدس السببي موضوعًا متكررًا في هذا الكتاب؛ نظرًا لأن الناس تميل إلى تطبيق التفكير السببي بطريقة غير مناسبة، على مواقف تتطلب إجراء عملية تفكير إحصائي. يستخلص التفكير الإحصائي نتائج حول حالات فردية من خصائص التصنيفات والمجموعات. لسوء الحظ، لا يمتلك النظام ١ القدرة على القيام بهذا النمط من التفكير؛ فبينما قد يستطيع النظام ٢ التفكير إحصائيًّا، لا يتلقى سوى عدد قليل من الأشخاص التدريب اللازم لذلك.

كان علم نفس السببية هو الأساس الذي اتخذتُ بناءً عليه قراري بتناول العمليات النفسية من خلال استخدام مجاز العوامل الفاعلة، دون اكتراث كبير بتحقيق الاتساق. أشير في بعض الأحيان إلى النظام ١ باعتباره عاملًا فاعلًا يمتلك سمات وتفضيلات محددة، وفي بعض الأحيان باعتباره آلية تداعٍ تمثل الواقع من خلال نمط معقَّد من الصلات. لا يعدو النظام والآلية كونهما أشياء خيالية. يرجع السبب في استخدامي لهذين المجازين إلى أنهما يتلاءمان مع الطريقة التي نفكر بها بشأن الأسباب. ليست مثلثات ودوائر هيدر عوامل فاعلة في حقيقة الأمر؛ بل يعتبر أمرًا سهلًا وطبيعيًّا أن نفكر فيهما على هذا النحو. المسألة مسألة اقتصاد عقلي. أفترض أنك (مثلي) تجد من السهولة بمكان التفكير بشأن العقل إذا أشرنا إلى ما يحدث في إطار من السمات والمقاصد (النظامين) وأحيانًا في إطار الترابطات الآلية (آلية التداعي). لا أنوي إقناعك بأن النظامين حقيقيان، مثلما لم يقصد هيدر إقناعك بأن المثلث الكبير هو شخص متنمر حقًّا.

في الحديث عن المعايير والأسباب

«عندما ظهر أن المُتقدم الثاني هو صديق قديم لي أيضًا، لم أكن متفاجئًا كثيرًا. يكفي قدر قليل من التكرار كي تبدو أي تجربة جديدة اعتيادية!»

«عندما نستطلع ردود الأفعال إزاء هذه المنتجات، دعنا نتأكد أننا لا نركِّز بصورة حصرية على المتوسطات. يجب أن نأخذ في الاعتبار النطاق الكامل لردود الأفعال الاعتيادية.»

«إنها تعجز عن تقبل حقيقة أنها كانت غير موفقة وحسب؛ فهي تحتاج إلى قصة سببية. سينتهي بها المطاف بالتفكير في أن شخصًا ما أفسد عملها عمدًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤