ضدُّ مجهول

قامت «لوزة» من نومها مبكرةً، ونزلَت إلى حديقة منزلهم، وأخذَت تعمل بهمَّة ونشاط في قطف مجموعة من الورد والأزهار. كانت تُعدُّ باقة لإهدائها إلى المفتش «سامي» صديقها العزيز والشرطي الشهير … فقد حدَّثَهم المفتش تليفونيًّا لأنَّه سيقوم بإجازة لمدة أسبوعَين … وكانت هذه أوَّل إجازةٍ يحصُل عليها منذ فترةٍ طويلة.

واتَّفق المغامرون الخمسة «تختخ» و«محب» و«عاطف» و«نوسة» و«لوزة» على زيارة المفتش، وقضاء بعض الوقت معه قبل قيامه بالإجازة … وفي التاسعة صباحًا تمامًا كان الخمسة في طريقهم إلى مديرية الأمن حيث مكتب المفتِّش … الذي استقبلَهم على الباب مرحبًا مبتسمًا … وأعطته «لوزة» باقة الورود الجميلة فتقبَّلها شاكرًا سعيدًا.

وبعد أن جلَسوا قالت لوزة: إني لا أُصدِّق أنك تستطيع الحياةَ بعيدًا عن الأحداث والمغامرات والمشاكل!

قال المفتش وهو يبتسم: أنا نفسي لا أُصدِّق ذلك … ولهذا أخذتُ معي بعض القضايا الهامة لأقرأها في الإجازة … لعلَّني أجد لها الحلول؛ فهي تحتاج إلى التفكير العميق الهادئ … أكثَر مما تحتاج إلى النشاط والحركة.

وأشار المفتش إلى مِلفٍّ أزرق اللون، كُتب عليه بالخط الأسود العريض «ضد مجهول».

كان مِلفًّا ضخمًا محشوًّا بالأوراق … وقال المفتش: إنَّه مِلفُّ القضايا والحوادث التي لم نصل فيها إلى الفاعل … ونحن عادةً نُقيِّدها في دفاتر تحت كلمتَي «ضد مجهول». وهذا يعني أن المجرم الذي ارتكب الحادث لم يُقبض عليه، أو لم تُحدَّد شخصيته بعدُ … أي إنها حوادثُ غامضة لم نتوصَّل إلى اكتشاف سِرِّها.

محب: إنَّه مِلفٌّ كبير!

المفتش: فعلًا … فهو يضم عشراتٍ من الحوادث والجرائم التي وقعَت في دوائر أقسام الشرطة بمحافظتَي القاهرة والجيزة … والقليل منها يخصُّ بعض المحافظات الأخرى.

أمسك «تختخ» المِلفَّ وأخذ يُقلِّب أوراقه، ثم قال: إنَّه مكتوبٌ على الآلة الكاتبة.

المفتش: نعم … لقد تركتُ صورةً من كل حادثٍ مع زملائي الضباط … فقد يحتاجون للرجوع إليها.

تختخ: أليست هناك نسخةٌ زائدة؟

المفتش: نعم … عندنا نسخةٌ ثالثة.

تختخ: إذا لم يكن عندك مانع …

المفتش: لا مانع مطلقًا … سأعطيكم النسخة الثالثة لعلكم تَرونَ شيئًا يستحق البحث والتحرِّي، وأذكر أن هناك حادثةً أو حادثتَين ضمن المِلف وقعَتا في «المعادي».

صفَّقَت «لوزة» بيدَيها فرحة وصاحت: «المعادي» بحثٌ وتَحرٍّ … معنى هذا أن أمامنا لغزًا للحلِّ!

عاطف: نعم … لغز المِلف الأزرق!

نوسة: عنوانٌ جميل فعلًا.

المفتش: إنها مجموعة ألغاز وليست لغزًا واحدًا؛ فكل حادثٍ لم نتوصل فيه إلى الفاعل، يكون لغزًا مُحيرًا …

عاطف: أنت إذن تؤيد «لوزة» فيما تقول.

المفتش: طبعًا … إن كلمة «ضد مجهول» معناها أن الشرطة لم تتوصَّل إلى القبض على المجرم الهارب في القضية أو الجريمة … وهذا معناه أيضًا أن هناك شيئًا أو أشياءَ غامضة تحتاج إلى البحث والتحري.

تختخ: أو هناك معلوماتٌ ناقصة.

المفتش: أو استنتاجاتٌ غير صحيحة … ولا تنسَوا أن ضابط الشرطة بشرٌ يمكن أن يُخطئ. إنه ليس عقلًا إلكترونيًّا!

نوسة: ولكن العقل الإلكتروني يُخطئ أحيانًا.

المفتش: لا … إنه لا يُخطئ، ولكن الخطأ يكون في المعلومات التي نُعطيه إياها، أو كما يقولون إنه خطأ في التغذية.

لوزة: هل العقل الإلكتروني يتغذَّى أيضًا؟

المفتش: نعم … يتغذَّى بالمعلومات.

عاطف: إذن كلَّما كانت المعلومات جيدة … كانت صحتُه أحسن!

وضحك الجميع على ملاحظة «عاطف» … وكانت أكواب عصير الليمون المثلَّج قد وصلَت ودارت عليهم …

ونظر المفتش إلى ساعته، فقالَت «نوسة» فيما يبدو إنك مرتبطٌ بموعد.

المفتش: نعم … عندي بعض الأعمال التي يجب أن أقوم بها قبل الإجازة.

تختخ: ألا تُعطينا نسخةً من المِلف الأزرق كما وعدتَنا؟

المفتش: كِدتُ أنسى.

وفتَح المفتش أحد أدراج مكتبه، وأخرج مِلفًّا من اللون نفسه، وسلَّمه إلى «تختخ» قائلًا: أرجو أن تجدوا فيه ما يُسلِّيكم في أثناء غيابي.

ووقف الأصدقاء على استعداد للانصراف … فقال المفتش: أشكركم جميعًا … وأنتِ يا «لوزة» لا أدري كيف أُعبِّر لك عن امتناني لباقة الورد الجميلة التي أهدَيتِها لي.

وخرج الأصدقاء … واقترح «تختخ» الذي لا يشبع أن يمُروا على محل «جروبي» في شارع «عدلي» لتناول بعض قطع الجاتوه … ووافق الأصدقاء … وهناك جلسوا في الحديقة، وأخذ «محب» يُقلِّب صفحات المِلَف الأزرق … على حين انهمَك «تختخ» في التهام الجاتوه، فقال «عاطف»: لقد عرفتُ الآن السبب في أزمة التموين … وأعتقد أنه يجب الإبلاغ عنكَ!

ونظر إليه «تختخ» معاتبًا دون أن يَرُد، فقد كان فمه محشوًّا بقطع الجاتوه … وفجأةً ضحك «محب» وقال: تقريرٌ طویل عريض عن سرقة … وخمِّنوا ما الذي سُرق فيها؟

نوسة: ماذا؟

محب: طبَق!

عاطف: طبَق … فقط؟

نوسة: هذا غير معقول … إلا إذا كان الطبق من النوع الثمين!

لوزة: أو من الآثار!

وصمَت «محب» وهو يقرأ التقرير، ثم قال بعد بضع لحظات: آسف … إنه طبقٌ ثمين فعلًا، طبق من «السيفر» المطعَّم بالفضَّة.

لوزة: «سيفر»! ما معنى «سيفر»؟

محب: على ما أذكُر إنه نوع من الصيني الفاخر جدًّا.

نوسة: عندما نعود إلى «المعادي» سوف أسأل والدتي … إنها من هُواة التحف وأدوات المائدة النادرة.

وانتهى «تختخ» من التهام أربع قطعٍ من الجاتوه، ثم أعلن استعدادَه للانصراف … ولكن «محب» أشار بيده قائلًا: اسمعوا سرقة من نوعٍ جديد … سرقة «بايب» … سُرق بايب من أحد الباشوات السابقين وهو جالس في محل «جروبي»!

لوزة: حيث نجلس الآن!

محب: بالضبط وفي المكان نفسه!

نوسة: مدهش!

تختخ: إن «للبايب» أنواعًا كثيرة … فمن أيِّ نوعٍ هذا الذي سُرق؟

محب: إنه «بايب» … أثري كان مِلكًا لأحد أمراء المماليك … وقد اشتراه الباشا في مزاد.

وسألَت «لوزة» وقد بدا عليها الخجل: وما هو «البايب»؟

تختخ: إنه أداةٌ للتدخين، وهو عادةً قطعة من خشبٍ خاص تُحفر، ويُوضَع فيها الدخان، واسمه باللغة العربية «الغَلْيون».

لوزة: عرفتُه … إنَّ جارنا الدكتور «إسماعيل» يُدخِّن «الغَلْيون»!

تختخ: ولكن كيف تمَّتْ سرقة هذا «الغليون»؟

محب: كان الباشا السابق قد وضع البايب بجواره … وانصرف إلى قراءة الصحف، وعندما التفت لأخذ «البايب» لم يجده.

عاطف: وهل اتَّهم أحدًا؟

تختخ: لا … ولكنَّه قال: إن شخصًا كان يجلس في الكرسي المجاور له، غادر المكان قبل أن يكتشف السرقة بلحظات.

نوسة: كم قضيةً في المِلَف يا «محب»؟

أخذ «محب» يُقلِّب الصفحات ويَعدُّ القضايا، ثم قال: نحو خمسين قضية … وفي مناطقَ مختلفةٍ من محافظتَي القاهرة والجيزة، وبعض المحافظات الأخرى كالدقهلية والإسكندرية.

تختخ: إنها تستدعي فحصًا دقيقًا … وسنُركِّز أولًا على ما تمَّ منها في المعادي!

محب: هيَّا بنا.

ودفَعوا الحساب، وساروا حتى محطة «باب اللوق» حيث استقلُّوا القِطار إلى المعادي … وتوجَّهوا إلى حديقة منزل «عاطف» … وأمسك «تختخ» بالمِلَف يقلِّبه، ثم قال: كيف نفحص هذا الملف؟

عاطف: نستطيعُ أنْ نعقدَ جلساتِ قراءةٍ، ويتولَّى كلٌّ منَّا قراءة بعض القضايا.

تختخ: وبعد أن نُتِم قراءة القضايا كلِّها؟

عاطف: يدلي كلٌّ منَّا بملاحظاته.

هزَّ «تختخ» رأسه متأملًا: سنظلُّ نتناقش حتى يعودَ المفتش دون أن نصل إلى حلٍّ لأية قضية!

نوسة: أقترحُ أن يأخذَ كلٌّ منَّا مجموعةً من القضايا لقراءتها، ثم يكتب ملاحظاته عنها.

تختخ: معقولٌ جدًّا … عندنا خمسونَ قضيةً ونحن خمسة، فعلى كلٍّ منَّا أن يقرأ عشر قضايا ويُدوِّن ملاحظاته … مع الاهتمام — بصفةٍ خاصة — بقضايا المعادي.

وفكَّ «محب» دبابيس المِلَف، وأخذ يُسلِّم كل واحدٍ عشر قضايا … وبعد أن انتهى من توزيعها، اتفقوا على أن يلتقوا في اليوم التالي، ومع كلٍّ منهم ملاحظاتُه على القضايا التي قرأها.

وأحسَّت «لوزة» بالارتباك، وهي تتسلَّم نصيبها من القضايا؛ فقد كانت هذه أول مرة تعمل وحدها، وبخاصةٍ مع قضايا مكتوبة على الورق … وفكَّرتْ أن تستفيدَ بشقيقها «عاطف»، ولكنَّها في النهاية قرَّرتْ أن تعتمد على نفسها … وعندما انصرف «تختخ» و«محب» و«نوسة»، جَلسَت وحدها في الكشك الخشبي الذي اعتادوا الاجتماع فيه … ووَضعَت القضايا جانبها، ثم أمسكَت بأول قضية … كانت سرقة مسكنِ سيدةٍ عجوز … أفاقت من النوم على صوت حركةٍ في الشقة … وأنصتَت السيدة العجوز إلى الصوت فترةً … واتضح لها أنه ليس صوت أقدام ابنها الذي يقيم معها … وأُصيبَت بالفزع … وخَشِيَت السيدة أن تتحرك أو أن تستغيث، فبَقِيَت هادئة في مكانها … ولكن فجأةً أصابتها نوبةٌ من السعال … وأخذَت تقاوم وتقاوم حتَّى لا يصدُر عنها أي صوت … ولكن في النهاية سعلَت بشدة … وسمع اللص صوتها فأسرعَت خطواته … وقفز من النافذة … وسَمِعَت السيدة صوت شيءٍ يقع من اللص على الأرض.

واتصلَت بعد ذلك بالشرطة. وبالمعاينة اتَّضح أن اللص سرق ۲۳ جنيهًا كانت في دُرْج مكتب الابن، ومُنبِّهًا، ومجموعة أقلام … أما الشيء الذي سقَط على الأرض فكان فردةَ حذاء اللص.

وقالت «لوزة» وهي تُقلِّب الصفحة: إنَّه دليلٌ هام … كيف لم يصل رجال الشرطة إلى اللص بهذا الدليل؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤