أدلة … واستنتاجات

بعد أن تناول الشاويش إفطاره وشَرِب الشاي، أصبح أحسن حالًا … فقال له «محب»: هل تستطيع أن تأتي معنا الآن إلى القصر الأخضر … لنرى كيف تمَّت السرقة؟

الشاويش: إنني على استعداد … ولكن لن أبقى معكم طويلًا … فأنا لم أنَمْ طُولَ الليل، وسكان القصر الأخضر يعرفونكم، وسيُرحِّبون بمساعدتكم!

تختخ: من حقِّكَ أن ترتاح يا شاويش «علي»، وسنذهب نحن إلى القصر … ونرى ماذا حدث، وسوف نُخبرك فيما بعدُ بما نتوصَّل إليه من استنتاجات.

وانصرف الشاويش، ورَكِب المغامرون الخمسة درَّاجاتِهم. وانطلَقوا إلى القصر الأخضر؛ فقد كانوا يعرفون مكانَه منذ حلُّوا اللغز المحيط بهذا القصر القديم … وعندما وصَلوا إلى هناك، استقبلَهم صاحب القصر الأستاذ «صبري» بالترحاب … وساروا معه إلى الغرفة التي تمَّت فيها السرقة … كانت غرفة مكتبٍ بالدور الأرضي … لها شُرفةٌ مرتفعة عن الأرض بنحوِ متر … وكان واضحًا أن اللص قد دخل من باب الشرفة … فقد نزع خشب الشرفة عند المقبض، والزجاج نُزعَت منه قطعة في شكل دائرة تتسع لدخول يدٍ لفتح الزجاج … وأخذ «تختخ» يركع على الأرض ويبحث … وقال وهو مستمر في البحث: ليس هناك أثَر لقطعةِ زجاجٍ واحدة مكسورة. إنه لصٌّ في غاية البراعة.

لوزة: كيف فتَح إذن الزجاج؟

تختخ: أولًا لجأ إلى حيلةٍ عادية … وهي نزع خشب الشرفة عند المقبض.

نوسة: وكيف عَرفَ المسافة إلى المقبض؟

تختخ: إن عدد قِطَع الخشب في «الشيش» معروفة … ومعروف أيضًا أن المسافة بين بداية الشيش والمقبض تِسعُ قِطعٍ من الخشب … وعند القطعة التاسعة يقوم اللص بنشر ثلاثِ قطعٍ من الشيش … ويمُد يده فينفتح مقبض الشيش … ثم يفتح الزجاج … واللص العادي يكسر الزجاج … أما هذا اللص فاستخدم طريقةً حديثة للغاية.

ووقف «تختخ» وأخذ يدور حول باب الشرفة … وانصرف بقيةُ الأصدقاء إلى الحديقة يفحصون الأرض … ولم يكن من الممكن رفعُ أية آثارٍ فقد كانت المياه تُغرِق الحديقة. وسار «محب» إلى خارج السور … كان يتوقع أن يجد آثار الأقدام المبتلَّة على الأرض الجافَّة ولكنه لم يجد أيَّ أثَر.

ودُهش «محب»؛ فمن المؤكَّد أن حذاء اللص تلوَّث بالطين من الأرض المروية، ولكن المدهش أنه لم يترك آثارًا على الأرض الجافَّة … وعاد «محب» إلى بقية الأصدقاء حيث دعاهم الأستاذ «صبري» إلى كوبٍ من الليمون المثلَّج.

قال «تختخ» متسائلًا: ألم تستنتج لماذا أخذ اللصُّ اللوحة والزهرية الأثَرية برغم أنهما ليسا أغلى ما في الغرفة؟

قال الأستاذ «صبري»: لقد أدليتُ بأقوالي في محضر الشرطة … ومن الواضح أنه كان يقصد سرقة اللوحة والزهرية فقط … قد يكون لصًّا فنانًا … أو مكلَّفًا من شخصٍ آخر بسرقة هذَين الأثَرَين بالذات!

تختخ: ولكن هذه اللوحة المعروفة، والزهرية الثمينة لا يمكن بيعُهما؛ فإنه من السهل تتبُّع مثل هذه الأشياء النادرة.

صبري: لعلَّه سيحتفظ بها … أو يُهرِّبهما إلى الخارج.

تختخ: لصٌّ مدهش!

لوزة: لم تقُل لي كيف كسر الزجاج بهذه الطريقة الحديثة وبدون أن يُحدِث صوتًا؟!

تختخ: المسألة بسيطة … إن معه شفَّاطةً من المطاط يلصقها بالزجاج ثم يدور حولها بقاطعٍ للزجاج، فإذا انتهى من القطع، سحب الشفَّاطة وبها دائرة الزجاج التي قطعَها … وهكذا لا يترك قطعةَ زجاجٍ واحده تقع على الأرض، ويفتح الزجاج بعد ذلك دون إحداث أي صوت.

عاطف: إنه لصٌّ عصري … ولكنَّه يسرق أشياءَ قديمة؟

محب: هل هناك شيءٌ ما خاصٌّ باللوحة والزهرية اللتَين سُرقَتا؟

الأستاذ صبري: أبدًا … لقد اشتراهما أبي منذ سنواتٍ طويلة من أحد المزادات، ودفع فيهما ثمنًا خياليًّا؛ فقد كان من هُواة التحف واللوحات القديمة.

بعد هذا الحديث القصير قام الأصدقاء، فودَّعوا الأستاذ «صبري» شاكرين، وخرجوا إلى الشارع، وقال «محب»: هذه هي فعلًا الحادثة رقم ٥١ … لكن الواضح أن اللص دبَّر العملية بمهارةٍ لا مثيل لها …

قال «تختخ»، وهو يقفز إلى درَّاجَته، وخَلْفه «زنجر»: العقل الإلكتروني؟

عاطف: ما هي حكاية العقل الإلكتروني هذه يا «تختخ»؟

تختخ: كما قلتُ لكم … لا بد من إدخال أساليب البحث العلمي في عَملِنا وبخاصة أن هذا اللص قد اتبع طريقةً عصرية في السرقة … وقد تكون ضمن الحوادث التي معنا سرقاتٌ مماثلة. وبخاصة أننا لم نقرأ كل الحوادث بعدُ.

نوسة: وأين نجد هذا العقل الإلكتروني الذي سيُساعدنا على كشف هذه السرقات؟

تختخ: في «دار المعارف» … فاستئجار عقلٍ إلكتروني لعملية يحتاج لمبلغٍ كبير، ولكن في إمكاننا الحصول على إذنٍ خاص باستخدام العقل الإلكتروني لخدمة العدالة … وأعتقد أن المسئولين في «دار المعارف» لن يتردَّدوا في تقديم هذه المساعدة لنا خدمةً العدالة.

عاطف: وماذا يفعل العقل الإلكتروني؟

تختخ: سيُوضِّح لنا بسرعة أنواع السرقات المتشابهة، والسرقات التي يكون اللص واحدًا فيها أو في بعضها، وربما يُحدِّد لنا مثلًا بعض معلوماتٍ عن هذا اللص.

عاطف: وكيف يفعل هذا كله؟

تختخ: سنعرف هذا عندما نقابل مدير العقل الإلكتروني … فربما لا تصلُح العملية كلها لتدخُّل هذا العقل!

نوسة: إني مُتشوِّقة جدًّا للذهاب إلى هناك … فمتى نذهب؟

تختخ: غدًا … نتقابل في التاسعة، وفي العاشرة نكون هناك.

•••

في صباح اليوم التالي كان المغامرون الخمسة أمام «دار المعارف» على كورنيش النيل. واستقلُّوا المِصعَد إلى الدور الخامس … واستقبلهم المدير العام للدار مُرحبًا … وبعد مناقشةٍ حول المهمة التي جاءوا من أَجْلها … رفَع المدير العام سمَّاعة التليفون الداخلي وتحدَّث إلى الدكتور «علي مختار» مدير العقل الإلكتروني … وبعد محادثةٍ قصيرة وضَع المدير العام السماعة ثم قال: الدكتور «علي» في انتظارِكم.

كانت هذه أوَّل مرةٍ يلتقون فيها بالرجل المسئول عن العقل الإلكتروني … وتوقَّفوا أمام باب مكتبه الزجاجي لحظات؛ فقد كانوا جميعًا متلهفين إلى التعرُّف على الرجل الذي يُدير العقل الجبَّار، وبخاصة «لوزة» التي كانت قد رسمَت له في خيالها صورة رجلٍ عجوز له لحية … ضخم البنية … يضع نظارةً سميكة على عينَيه.

ولكن الدكتور لم يكن كذلك … كان شابًّا أسمر طويل القامة … حليق اللحية، يلبس نظارةً طبية رقيقة ذات إطارٍ معدني. واستقبلَهم مُرحبًا مبتسمًا … ودعاهم للجلوس.

كانت الغرفة التي يجلس فيها مكيَّفة الهواء … شديدة النظافة والأناقة … ليس بها سوى مكتبٍ ومكتبة … وبعض اللافتات عليها كلماتٌ تدعو إلى عدم إضاعة الوقت وإلى إنجاز العمل في هدوء.

وفي هذه الغرفة أحسَّت «نوسة» بالراحة … ومن خلال الزجاج كان يمكنها أن ترى الغرفة الزجاجية التي تحوي العقل الإلكتروني.

وسألَت «نوسة»: ولكن هذا ليس عقلًا … إنه بعض الدوائر الحديدية والأشرطة … أين العقل؟

في هذه الأثناء كان الدكتور «علي» يتحدَّث إلى «تختخ» و«محب» وسَمِع سؤال «نوسة» فقال لها: لا بد أنك تتخيَّلين العقل الإلكتروني مثل العقل البشري؟!

نوسة: طبعًا … أليس كذلك؟

الدكتور «علي»: أولًا أحب أن أُصحِّح لكم شيئًا. إنَّه يُسمَّى الحاسب الإلكتروني وليس العقل الإلكتروني … إن كلمة العقل تُوحي دائمًا بأنه يُشبه رأس الإنسان … ولكن الحقيقة أن الحاسب الإلكتروني يقوم بعملياتٍ حسابية فقط، ولكنه لا يفكِّر فهو ليس إلا مجموعةً من الآلات الحاسبة الإلكترونية … والدوائر الكهربائية … والأشرطة المثقبة … أو الأشرطة المغناطيسية … وليس مجموعةً من الخلايا الحية كما هو الحال في الإنسان.

وبدت ملامح خيبة الأمل على وجه «نوسة»، فمضى الدكتور يقول: إن العقل البشري من خلق الله … ومهما كانت قدرة الإنسان فليس في إمكانه أن يصنع عقلًا في كفاءة العقل البشري … كل ما يمكنه أن يخترع أدواتٍ تُساعد العقل البشري على أداء مهمته، مثل الحاسب الإلكتروني … وهو كما قلتُ آلةٌ حاسبة تستوعب كميةً ضخمة من المعلومات، وتقوم بالعمليات الحسابية واستخلاص النتائج بسرعةٍ مذهلة تصل إلى جزء من مائة ألفٍ من الثانية.

كان الأصدقاء جميعًا يستمعون في اهتمامٍ إلى الدكتور «علي»؛ فقال «تختخ»: نتمنى أن تكتب بحثًا صغيرًا يا دكتور لقُرَّائنا عن الحاسب الإلكتروني.

ابتسم الدكتور «علي» وقال: إن شاء الله … والآن نمضي في المهمة التي جئتُم من أجلها.

قال «تختخ» كما شرحتُ لك؛ إنها مجموعة من الحوادث الغامضة، لم يستطع رجال الشرطة لها حلًّا … وقد قرأنا بعضها، وأعتقد أن مجموعةً منها متشابهة، بحيث يمكن القولُ إن من قام بها شخصٌ واحد، أو مجموعةٌ من الأشخاص يعملون معًا … فإذا استطَعنا أن نعثُر على أوجه التشابه بينها وضعنا يدنا على أول خيطٍ يقودنا إلى حلِّ بعض هذه الحوادث، فهل في إمكان الحاسب الإلكتروني أن يقوم بهذه المهمة؟

الدكتور «علي»: ممكن طبعًا!

تختخ: وهل لنا دور في هذا العمل؟

الدكتور «علي»: لا … إننا سنقوم بتحويل المعلومات التي في المِلَف إلى رموز، وهذه مهمة لا يقوم بها إلا الخبراء الذين يعملون معنا في الحاسب الإلكتروني … وبعد ذلك سيتم تغذية العقل بهذه الرموز، فيقوم هو باستخلاص الحوادث المتشابهة ويدُلُّنا عليها.

تختخ: وهل يمكن بعد ذلك تحديدُ شخصيةِ اللص أو اللصوص؟

الدكتور «علي»: نعم … بعد عمليةِ تغذيةٍ أخرى مماثلة للعملية الأولى، يمكن أن تؤدي إلى استخلاص نتائجَ مُحدِّدة لشخصية اللص أو اللصوص.

محب: ذلك شيءٌ مدهش جدًّا!

الدكتور «علي»: إن استخدامات الحاسبات الإلكترونية لا حدَّ لها.

عاطف: هل يمكن للحاسب الإلكتروني أن يعرف كم أحمل في جيبي؟

ابتسم الدكتور «علي» قائلًا: إن هذا ليس محتاجًا إلى حاسبٍ إلكتروني … إنه محتاج إلى نشَّال.

وضحك الأصدقاء، وقالت «نوسة»: كم يستغرق الحاسب الإلكتروني في استخلاص النتائج المطلوبة؟

الدكتور «علي»: إنه يستغرقُ ثوانيَ قليلة. ولكن المهم أولًا هو تحويل المعلومات إلى رموز، وهذا يستغرق ثلاثة أيام!

لوزة: معنى هذا أن نقضي ثلاثة أيامٍ بلا عمل!

محب: لا تنسَ أن عندنا بحثًا في سرقة القصر الأخضر!

والتفَت «محب» إلى «تختخ»، فقال «تختخ»: لقد أضفتُها إلى الحوادث الخمسين.

وتناوَل الدكتور «علي» المِلَف، وأخذ يُقلِّبه لحظات، ثم استدعَى أحد مساعديه وانهمَك معه في حديثٍ طويل.

ووقف الأصدقاء … وشكروا الدكتور على اهتمامه … ثم غادروا الغرفة ومضَوا في الدهاليز النظيفة، وهم يستمعون إلى صوت الحاسب الإلكتروني يعمل في سرعة وهدوء.

قال «تختخ»: أعتقد أننا يمكن أن ننتهز هذه الفرصة ونذهب إلى «جروبي» لتناول بعضِ قِطعِ الجاتوه … فإنني جائع.

قال «عاطف»: إنك جائعٌ طول الوقت. وأقترح أن نَعرِض حالتك على العقل الإلكتروني لعله يجد لها حلًّا …

وضحك الأصدقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤