مزيد من الغموض

عندما عاد المغامرون الخمسة إلى المعادي، كان في انتظارهم مفاجأةٌ لا تُصدَّق؛ فقد وجدوا رسالة في انتظارهم في منزل عاطف. أرسلَها الشاويش «علي» إليهم مع «جلال» ابن شقيق الشاويش … والذي كان صديقًا للمغامرين الخمسة، وقد سَبَق أن ساعدَهم في الكشف عن بعض الحوادث في الألغاز السابقة.

كان «جلال» يجلس في الحديقة في انتظارهم … وكانت مفاجأة سعيدة أن يَرَوْه بعد أن انقضى وقتٌ طويل منذ أن اشتَركَ معهم في آخر مغامرة … وتبادَلوا التحيات الحارة … ثم قال «جلال»: لقد أرسل لكم الشاويش «علي» رسالة، وقد تركتُها لكم مع الشغالة … ولكني بعد أن سلَّمتُ الرسالة إليها، فكَّرتُ أن أبقى قليلًا لعلكم تحضُرون؛ فقد كنتُ مشتاقًا لرؤيتكم.

لوزة: ومتى حضرتَ إلى المعادي؟

جلال: أمسِ ليلًا … وقد أخبَرني الشاويش أنه رآكم أمسِ، وأنكم تُساعِدونه في حل بعض المشكلات الغامضة.

محب: وهل هناك جديد؟

جلال: نعم … حدث شيءٌ في القصر الأخضر!

محب: القصر الأخضر … سرقةٌ أخرى؟

جلال: لا … لقد أعاد اللص اللوحة التي سَرقَها …

تختخ: وهل هذا ما كتَبه الشاويش في رسالته؟

جلال: نعم … وهو يرجوكم أن تذهبوا إلى القصر مرةً ثانية … إنه يكاد يُجنُّ مما حدث؛ فهذه أول مرة يرُدُّ فيها لصٌّ ما سَرقَه!

تختخ: شيءٌ مثير ومدهشٌ فعلًا … سأذهب مع «محب»، وسنعود بعد أن نرى ما حدث؛ فلا داعي لأن نذهب جميعًا!

جلال: هل أنتظركما؟

تختخ: بالطبع … يجب أن تبقى حتى نتناول طعام الغداء معًا. وقام «تختخ» و«محب» فقفزا إلى دراجتَيهما. ولَحِق بهما «زنجر» مُسْرعًا، وانطلَق الثلاثة في الطريق إلى القصر الأخضر.

كان «تختخ» مشغولًا تمامًا بما حدث … إنَّ رَدَّ اللوحة يعني أشياءَ كثيرة … وقد لا يعني شيئًا على الإطلاق … إنه شيءٌ مُحيِّر!

مسألةٌ لا تُصدَّق … لصٌّ يسرق لوحةً عالمية ثم يعيدها … مُعرِّضًا نفسه للقبض عليه، شيءٌ مذهل!

ووصل الصديقان إلى القصر الأخضر … ومرةً أخرى استقبلَهما الأستاذ «صبري» الذي كان يبتسم وهو جالس في حديقة القصر يشرب عصير الليمون، ويقرأ الجرائد. الجرائد التي ذكَرتْ قصة السرقة الأولى التي تمَّت في القصر الأخضر … وقال وهو يمُد يده مصافحًا «تختخ» و«محب»: لا أدري ماذا تقول الصحف غدًا … عندما يعرفون أن اللص أعاد اللَّوحة … إنه لصٌّ غاية في الغرابة!

محب: نسينا أن نسأل في المرة الأولى عن قيمة هذه اللوحة!

الأستاذ «صبري»: لا أدري في الحقيقة … ولكنها لوحةٌ للمسيح مصلوبًا مُوَقَّعة باسم «بلليني»، وهو من رسَّامي القرن ١٦، وكما ذكرتُ لكم من قبلُ أن أبي اشتراها منذ فترةٍ طويلة.

تختخ: إن لوحةً من القرن السادس عشر تساوي مبلغًا ضخمًا من المال، فلماذا أعادها اللص؟

الأستاذ «صبري»: الحقيقة أني لا أُصدِّق ما حدث … ولولا أنكم حضرتُم وشاهدتُم مكان اللوحة خالية، لظننتُ أن سرقتها كانت وهمًا!

تختخ: ولكنه لم يرُدَّ الزهرية؟!

صبري: لا … لم يرُدَّها!

واستغرق «تختخ» في تفكيرٍ عميق، ثم قال: وهل فتَح باب الشرفة نفسه كما فعل من قبلُ؟!

صبري: نعم … وسأُضطر لتغيير الزجاج مرةً ثانية!

تختخ: وهل ترك آثارًا خلفه؟

صبري: حسب معلوماتي لم يترُك شيئًا … لقد قام الشاويش كالعادة بالمعاينة، وأخبرني أنه لم يجد شيئًا له قيمة!

محب: شيءٌ عجيب!

صبري: عجيبٌ جدًّا … هذه أول مرة في حياتي أسمع أن لصًّا سرق شيئًا ثم أعاده … مُعرِّضًا نفسه لخطر القبض عليه!

والتفَت الأستاذ «صبري» إلى «تختخ» قائلًا: ما رأيك يا «توفيق»؟

ردَّ «تختخ» وهو يهزُّ رأسه: إني لا أقل حَيرةً عنك … لقد التقينا بعشراتٍ من الحوادث الغامضة … وحلَلْنا عشرات الألغاز … ولكن هذا لغزٌ لم يسبق له مثيل … وليس هناك أملٌ في حلِّه إلا بواسطة الحاسب الإلكتروني!

بدَت الدهشة على وجه الأستاذ «صبري» وقال: الحاسب الإلكتروني؟!

تختخ: نعم … لقد ذهبنا إلى «دار المعارف» … واتفقنا مع الدكتور «علي مختار» على أن يُحاوِل أن يُقدِّم لنا عن طريق الحاسب الإلكتروني خطوطًا نسير عليها للكشف عن هذه الحوادث الغامضة … وسوف أتصل به لإخطاره بما حدث.

ابتسَم الأستاذ «صبري» وهو يقول: إن هذه الحادثة ستُربك العقل الإلكتروني نفسه!

وقام الصديقان لمعاينة اللوحة … كانت لوحةً رائعة بألوانها الغامقة ذات التنوُّع الفني الهادئ … يُحيط بها إطارٌ فخم … ووقف «تختخ» يتأمل اللوحة في استغراقٍ، ثم قال فجأة: هل أنت متأكد أنها اللوحة نفسها التي سُرقَت؟

ردَّ الأستاذ «صبري»: طبعًا … إني أعرفها كما أعرف أصابع يدي … فهي في هذا المكان منذ وُلدتُ … أي منذ أكثر من خمسة وخمسين عامًا … وقد شاهدتُها وأنا طفل … وأنا صبي، وأنا شاب، ورجل وكهل … وأستطيع أن أؤكِّد أنها هي!

تختخ: بعض اللصوص يسرقون اللوحات لتغييرها، وقد مَرَرنا بمغامرة في لغز المتحف، قام اللص فيها بتقليد بعض اللوحات العالمية، وأخذ اللوحاتِ الأصلية ووضع مكانها اللوحاتِ المقلَّدة.

صبري: لقد طاف كل ذلك بخاطري … وفحصتُها فحصًا دقيقًا … وتأكَّدتُ أنها اللوحة نفسها التي سُرقَت … وهناك مسألةٌ أخرى … هي أن اللص لم يكن في إمكانه مطلقًا، أن يقلِّد اللوحة في ليلةٍ واحدة مهما كانت قدرته … أو حتى لو استعان بفنانٍ كبير … فذلك يستدعي وقتًا طويلًا …

تختخ: معكَ حق … ولكن هل أستطيع فحص اللوحة من الخلف؟

صبري: طبعًا.

وقام هو و«تختخ» بإنزال اللوحة من مكانها … وفحَص «تختخ» اللوحة جيدًا ثم قال: هذا ما توقَّعتُه … لقد نُزعَت اللوحة من مكانها … ثم أُعيدَت مرةً أخرى!

وانحنى الأستاذ «صبري» يفحص اللوحة هو الآخر … ثم قال: هذا صحيحٌ. هناك تمزُّق في أكثر من مكان في ورق اللصق … ومكان المسامير قد تغيَّر … ولكن ماذا يعني هذا؟!

تختخ: كما قلتُ من قبل … قد يعني أشياءَ كثيرة … وقد لا يعني شيئًا على الإطلاق.

محب: إني أتصوَّر مثلًا أن يكون خلف اللوحة سرٌّ أراد اللص أن يعرفه!

تختخ: ممكن … كتابةٌ قديمة … أو ورقةٌ مدسوسة فيها معلومات!

والتفَت «تختخ» إلى الأستاذ «صبري» وسأله: من الذي اكتشف عودة اللوحة؟

صبري: الشاويش «علي».

محب: كيف؟

صبري: لقد حضر في الصباح الباكر للقيام بمعاينةٍ ثانية، ولاستكمال بعض المعلومات، وكنتُ ما أزال نائمًا، ففتح له «شحاتة» الغرفة. وصَعِد لإيقاظي من النوم … وسمعتُ وأنا في الفراش صوت الشاويش «علي» وهو يناديني، وقد بدت في صوته اللهفة والإثارة، فنزلتُ مسرعًا. وأخبرني بعودة اللوحة!

تختخ: ألم يقل لكَ إنه لاحظ شيئًا غير عادي على اللوحة؟

صبري: لا …

وفحَص «تختخ» و«محب» باب الشرفة، كان اللص قد دخل بالطريقة السابقة نفسها، وبالدقة والمهارة نفسها فتَح ثقبةً واسعة في الزجاج … ورفع جزءًا من خشب الضلفة اليمنى، وفتح الباب ودخل، ثم أغلقه خلفه كأنه لم يدخل.

وهَزَّ «تختخ» رأسه وقال موجهًا حديثه إلى «محب»: إن لص القصر الأخضر فنان. إنه يسرق بطريقةٍ مدروسة ولا يترك شيئًا خلفه … وأعتقد أنه سيمُر وقتٌ طويل قبل أن تصل إليه يد العدالة.

وانصرف الصديقان بعد أن شكرا الأستاذ «صبري»، وعادا إلى باقي الأصدقاء … وروى لهم «محب» ما جرى في القصر الأخضر، فقال «جلال»: أعتقد أنه كانت في اللوحة رسالة!

وانتَبه الأصدقاء، وسأله «محب» بلهفة: وكيف عَرفتَ؟

قال «جلال»: لقد لاحظتُ أن عمي الشاويش «علي» عندما أعطاني الرسالة لكم أخذ يفكِّر كثيرًا فيا يكتبه … وكانت في جيبه ورقةٌ صغيرة كان يقرؤها بين الحين والحين ويهزُّ رأسه … وقد كتب لكم الرسالة بضع مرات. وفي كل مرة كان يُمزِّقها.

لوزة: معنى هذا أن الشاويش «علي» يُخفي عنَّا أدلةً!

عاطف: بالطبع … إنه يخشى كالعادة أن نسبقه إلى حل اللغز. وبخاصة أن ما في المِلَف الأزرق من حوادثَ غامضةٍ بعضُها واقعٌ في دائرة عمله.

نوسة: ولكن لماذا لم يُخبِر الأستاذ «صبري»، بما عثَر عليه في اللوحة؟

تختخ: لأن الأستاذ «صبري» كان سيُخبِرنا بذلك.

محب: وهل نسأل الشاويش؟

عاطف: سيُنكِر طبعًا … فليس من المعقول أن يتراجع ويكشف لنا أنه أخفى عنا شيئًا.

التفَت «تختخ» إلى «جلال» الذي قال: ستطلُب مني مساعدتكم، وبالطبع سوف أساعدكم. إننا جميعًا، وكذلك الشاويش نعمَل من أجل العدالة. وفي سبيل العدالة لا يصح أن نُخفي شيئًا.

تختخ: بشرطٍ واحد … ألا تُعرِّض نفسك لغضب عمك العزيز؛ فالشاويش عندما يغضب …

جلال: أعرف … أعرف … سوف يُعيدني في أول قطار.

وقضى الأصدقاء و«جلال» بعض الوقت يتحدَّثون … وفي ساعة الغَداء اجتمعوا في منزل «تختخ» على مائدةٍ عامرة، ثم انصرف «جلال» إلى منزل عمه العزيز، وظل طُولَ الطريق يفكِّر فيما يمكن عمله للحصول على الورقة التي عثَر عليها الشاويش مع اللوحة.

وعندما وصَل إلى المنزل لم يكن الشاويش قد وصل بعدُ. ولكن لم يمضِ وقتٌ طويل حتى سمع وَقْع خطواته تقترب، ثم دخل. وأَعَد له «جلال» الغَداء، ثم أخَذ يتحدَّث معه عن الحادث الأخير … كان الشاويش مهتمًّا أن يعرف ماذا استنتَج المغامرون الخمسة من إعادة اللوحة إلى مكانها، فقال «جلال»: لا شيء. إنهم مرتبكون جدًّا.

ابتسم الشاويش قائلًا: إنهم يتصوَّرون أنهم عباقرة، ولكني أتحدَّاهم أن يصلوا إلى شيء.

جلال: وهل وصلتَ أنتَ إلى شيء؟

الشاويش: سأصل.

ثم تجهَّم وجه الشاويش فجأةً، وقال: لو كنتُ فقط أعرف لغةً إنجليزية!

ودُهش «جلال»، وقال: لماذا يا عمي؟ ردَّ الشاويش: سأقول لك … لكن عِدني ألا تقول لأحد.

وصمت «جلال» … كان يريد أن يعرف، وكان يخشى أن يُخلف وعده.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤