قطعة الورق

لم ينتظر الشاويش ردًّا من «جلال» وقال: لقد عثَرتُ على قطعة ورقٍ مكتوبٍ عليها سطرٌ باللغة الإنجليزية، أو الفرنسية، أو الإيطالية، لا أعرف!

وسكت وقد توقَّف عن الطعام: المهم أنها بلغةٍ أجنبية. وأعتقد أنني سأجد فيها حلَّ لغز اللوحة المسروقة.

جلال: إنها لم تعُد مسروقةً يا عمي، لقد أعادها اللص إلى مكانها!

الشاويش: ولكنه لم يُعِد الزهرية، وحتى لو أعادها هي الأخرى، فقد تمَّت عملية السرقة بالفعل.

جلال: وأين عثَرتَ على هذه الورقة؟

الشاويش: لن أقول لك! فأنت سوف تُخبر هؤلاء الأولاد ليحلُّوا اللغز قبلي!

جلال: ولكنكَ طلبتَ مساعدتَهم يا عمي.

انفجر الشاويش غاضبًا: إنني لا أطلب مساعدةً من أحد. هم الذين … قاطعه «جلال» بهدوء: لا داعي للغضب يا عمي. المهمُّ ماذا في هذه الورقة؟

عاد الشاويش يضع ملعقةً من الأرز في فمه، وصمت وهو يمضغ ويفكِّر، ثم أضاف قطعةً من اللحم، وبدا واضحًا أنه سيُفكِّر طويلًا. وقرَّر «جلال» أن يتظاهر بعدم الاهتمام فقام واتجه إلى غرفته … ولكن الشاويش صاح من فمٍ ممتلئ بالطعام: إلى أين أنت ذاهب؟ … إني أريد أن أتحدَّث معك عن الورقة.

قال «جلال» بلا اهتمام: فيما بعدُ يا عمي. إنني مُتعَبٌ وأريد أن أرتاح قليلًا.

عاد الشاويش يصيح: أُريدُكَ الآن. إنني سأحُلُّ اللغز بعد معرفةِ ما بهذه الورقة!

ومسح الشاويش أصابعه، ومد يده في جيبه وأخرج قطعةً صغيرة من الورق المقوَّى. وأخذ يقرأ بصوتٍ مرتفع: ﻓ… ﻓ… ثم توقَّف واحمرَّ وجهه وهو ينظر إلى الكلمات … لقد كان «جلال» في الإجازات يُعلِّمه بعض الكلمات البسيطة. ولكن هذه الكلمة التي أمامه كلمةٌ صعبة. وأخذ يُتمتِم بالحرف الأول ﻓ… ﻓ… فا… فا… فالس.

ثم نظر إلى «جلال» قائلًا: ما معنى كلمة «فالس» … بالإنجليزية؟

جلال: «فالس». إنها اسم رقصة!

ازداد احمرار وجه الشاويش وقال: رقصة؟! إنكَ تسخر مني!

جلال: أبدًا يا عمي! إنها رقصةٌ مشهورة!

أخذ الشاويش ينظر إلى الورقة، وقد بدا على وجهه أنه يبذلُ مجهودًا هائلًا ليربط بين كلمة رقص وبين اللغز، ولكنه لم يصل إلى شيء؛ فقد أغمض عينَيه، وأخذ يمضغ الطعام في بطء وكأنه يحلُم.

قال «جلال»: هاتِ الورقة يا عمي، وسوف أقرأ لك الكلمة وأُترجِمها!

ردَّ الشاويش: لا … إنك ستقول لهؤلاء الأولاد. وسيحُلُّون اللغز قبلي.

جلال: إن هذه الكلمة يمكن أن تكون بلغةٍ أخرى.

الشاويش: ما معناها بالفرنسية؟

جلال: لا أعرف.

الشاويش: وبالإيطالية؟

جلال: لا أعرف.

صاح الشاويش بصوتٍ كالرعد: إنك لا تعرف شيئا على الإطلاق؟! إنك تسخر مني، إنك لا تريد مساعدتي.

وصمت «جلال» أمام سيل الاتهامات، ولكنه قال بضيق: إنكَ يا عمي لا تريد مساعدة نفسك!

وزاد ضيق الشاويش فتَرك الغداء وقام، ودخل «جلال» غرفته وجلس يفكِّر. إن ما سمعه من الشاويش لا يكفي … ماذا تعني كلمة «فالس»؟ ماذا تعني رقصة بالنسبة لحادث سرقة لوحةٍ فنية؟!

وفجأةً قال في نفسه: لعل اللوحة تُمثِّل رقصة … إني لم أرَ الورقة ولا أعرف ما بها. وقرَّر أن ينقل معلوماته القليلة واستنتاجاته إلى المغامرين الخمسة عندما يقابلهم في المساء. وأَحسَّ بسعادة لأنه لم يأخذ الورقة أو يعرف ما بها، حتى إذا نقل شيئا إلى الأصدقاء لا يُحِس بوخز الضمير.

وفي المساء … عندما أخذَت الشمس تقطع بقية رحلتها النهارية. كان «جلال» يجلس بين المغامرين يروي لهم ما حدث بينه وبين عمه قائلًا: لقد حاول عمي أن يخدعَني ويقول إن الكلام الذي في الورقة مكتوب بإحدى اللغات الإنجليزية أو الفرنسية أو الإيطالية، ولكن من أين له أن يعرف هذا؟ إن كل ما يعلَمه من اللغات، هو حروف اللغة الإنجليزية التي علَّمتُها له في الإجازات السابقة وبعض الكلمات التي تُستخدم في الحياة اليومية. وليس بينها على كل حال كلمة «فالس» بالإنجليزية.

ومضى «جلال» يروي بقية القصة، وكانت «نوسة» تستمع وهي مستغرقة في تفكيرٍ عميق، ثم مالت على «لوزة»، وهمَسَت في أُذنها ببضع كلمات، وقامت «لوزة»، وعادت وهي تحمل قاموس اللغة الإنجليزية، أمسكَت به «نوسة» وأخذَت تتصفَّحه بسرعة، ثم توقَّفَت عند صفحةٍ معينة وأخذَت تقرأ بإمعان … وقالت فجأة: من المؤكَّد أن الشاويش أخطأ في نطق الكلمة. فقد نطق حرف «a» الإنجليزي بالألف … ولكن في هذه الكلمة يُنطق ،«o» والكلمة في هذه الحالة تُنطق «فولس» وتعني بالإنجليزية زائف.

صاح «تختخ» زائف … معقول جدًّا … إن اسم رقصة في لوحة للمسيح لا تعني شيئًا … ولكن إذا قلنا إنها لوحةٌ زائفة … فهذا يعني الكثير!

قال «عاطف»: هذه هي الأستاذة «نوسة» تنفَحُنا ببركاتها، فهل حلَلْنا اللغز؟

محب: إن هذا يُقرِّبنا من الحل.

جلال: لوحةٌ زائفة! وهل هذا يعني شيئًا؟!

تختخ: بالتأكيد! لقد سرق اللص اللوحة على أنها لوحةٌ عظيمةُ القيمة من رسم «بلليني» ولكن اكتشف أنها لوحةٌ زائفة فردَّها!

ابتسم «عاطف» وقال: إنه لصٌّ من طرازٍ جديدٍ. إنه يسرق على «الذوق» كما يقول أولاد البلد، فهو يتذوَّق ما يسرقه، فإذا أعجَبه أخذه، وإذا لم يُعجبه أعاده.

كان «تختخ» ينظر إلى تعليق «عاطف» الساخر وذهنُه يعمل بسرعة، لصٌّ يسرق لوحةً عالمية ثم يعيدها إلى مكانها بعد يومٍ واحد لأنها زائفة! إنه لصٌّ غريب. كيف اكتشف التزييف؟! وبهذه السرعة! لماذا يُعيد اللوحة مُعرِّضًا نفسه لخطر القبض عليه؟ إنه جريء … على قدْرٍ كبيرٍ من ثبات الأعصاب. وبعد النظر … فهو متأكد أنْ لا أحد يتصوَّر أن يعود مرةً أخرى في الليلة التالية.

وتمنَّى «تختخ» أن يأخذ الورقة التي مع الشاويش «فرقع» ليرى ما كتَبه اللص، وهل هي كلمةٌ واحدة أو أكثر.

والتفَت «تختخ» إلى «جلال» قائلًا: ألم ترَ ما في الورقة ولو من بعيد؟ وهل هي كلمة واحدة أم عدة كلمات؟

جلال: لا … إني رأيتُ الورقة من الخلف فقط … وهي ورقة في حجم ورقة الكوتشينة ومن الورق المقوى الفاخر، لونها أصفرُ جميل!

تختخ: ورقٌ مقوًّى فاخر … لونٌ جميل … يا له من لصٍّ!

وطلب «تختخ» من عاطف أن يُحضِر له التليفون، وطلب صديقه الصحفي «علاء» وتحدَّث معه عن سرقة اللوحة والزهرية، وكيف أن اللص أعاد اللوحة. وسأل «تختخ» صديقه: هل وصلَت الحادثة إلى الصحيفة؟!

علاء: لا … حكايةُ نبأ إعادة اللوحة لم تصل إلينا بعدُ!

تختخ: لقد اكتُشفَت اليوم فقط.

علاء: سأُكلِّف أحد زملائي المحرِّرين بتغطية هذه الحادثة!

تختخ: لقد سمعُت أن اللص ترك ورقة مع اللوحة، ويهمُّني أن أعرف ما بها.

علاء: سأتصل بك بمجرد أن يعود المحرر بالمعلومات المطلوبة.

تختخ: سأكون في المنزل بعد ساعة!

وجلس الأصدقاء يتحدَّثون، وقال «محب»: إننا أمام لغزٍ محيِّر! ولكن هل لهذا اللغز علاقة بما في المِلَف الأزرق من حوادثَ غامضة.

ردَّت «نوسة»: أُحس أن بعض الحوادث في المِلَف لها علاقة بهذا السرقة.

تختخ: عندي الإحساس نفسه، هذا برغم أننا لم نقرأ كل الحوادث، ولكن هذه السرقة لها طابعٌ خاص. وأذكُر أن بعض الحوادث التي قرأتُها تشبهها … وإن كنتُ لا أدري كيف!

لوزة: أليس من المهم أن نُبلغَ الدكتور «علي مختار» بهذه المعلومات ليضُمَّها إلى ما في المِلَف!

تختخ: طبعًا … سنُبلغُه صباحًا … عندما يكون في مكتبه.

وانصرف الأصدقاء. فاتَّجه «جلال» إلى منزل عمه … وسار «محب» و«نوسة» معًا، وركب «تختخ» درَّاجتَه ومعه «زنجر» واتجها إلى المنزل.

استلقى «تختخ» على فراشه في انتظار مكالمة صديقه الصحفي «علاء» … وفي الثامنة مساءً، اتصل «علاء» وقال: إن زميله المحرِّر حصل على نص الكلام المكتوب في الورقة؛ فقد أرسل الشاويش الورقة إلى النيابة لتكون ضمن أدلة التحقيق.

وقال «علاء»: إن الكلمات هي: «إنها لوحة زائفة … وآسف لإزعاجك وإنني أَردُّها لأنها لا تخصُّني.»

قال «تختخ» مندهشًا: إنها كلماتٌ في غاية الغَرابة.

علاء: فعلًا … بل هي أول حادثةٍ من نوعها. وقد طلبَت منَّا سلطاتُ التحقيق ألَّا نشير إلى ما فيها؛ لأن رجال الشرطة يُحاوِلون معرفة السارق من خطِّه ومن نوع الورقة.

تختخ: شكرًا لكَ … إنها معلوماتٌ على جانبٍ كبير من الأهمية بالنسبة لنا!

ووضع «تختخ» سماعة التليفون، واستغرق في تفكيرٍ عميق. إن الكلمات التي تركها اللص فيها أشياءُ غريبة … إنه آسف … ومعنى ذلك أنه رجلٌ مهذَّب وليس لصًّا عاديًّا … ثانيًا إن اللوحة لا تخصُّه … ما معنى لا تخصُّه؟ … هل كان يمتلكُها من قبلُ وسُرقَت منه؟ … والزهرية هل تخصُّه؟

كان «تختخ» يهزُّ رأسه. وهو يدوِّن المعلومات في مفكرته … وفي نيته أن يبلغها كلها للدكتور «علي» لعلها تساعد على توضيح شخصية هذا اللص العجيب …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤