السؤال الصعب

في هذه اللحظة دخل الشاويش «فرقع» … ووجهُه يحمل آثار تفكيرٍ عميق … واتجه إلى الأصدقاء وحيَّاهم … وأَسرعَت «لوزة» تدعوه إلى الجلوس وسألَتْه: أين «جلال»؟

ردَّ الشاويش بضيق: لقد أعَدتُه إلى البلد اليوم … إنه ولدٌ لا يصلح لشيء!

بدا الغضب على وجه «محب» وقال: لماذا يا شاويش «علي»؟ إنه ولدٌ لطيف وذكي.

الشاويش: لقد تعلَّم في المدارس … ولكنه لا يعرف شيئًا … فقد طلبتُ منه ترجمة كلمةٍ واحدة فلم يعرف.

تختخ: قد لا تكون وردَت عليه في الدروس … ففي اللغة الإنجليزية مئات الألوف وربما ملايين من الكلمات. وبعضها لا يعرفه حتَّى الأساتذة!

ضاقت عينا الشاويش وقال: وكيف عرفتَ أنها كلمةٌ إنجليزية؟

أدرك «تختخ» أنه نصب لنفسه فخًّا، ولكنه أسرع يقول: بالطبع أنت لم تسأله أن يترجم كلمة ألمانية أو روسية أو فارسية … فهو لم يدرُس إلا اللغة الإنجليزية حتى الآن.

ارتاح الشاويش لهذا التفسير، وقال: لقد كانت كلمةً إنجليزية فعلًا … وأنا أحفظ حروفها … ولكن …

قال «تختخ» مقاطعًا: اسمع يا شاويش «علي»، لقد عرفتُ الكلمة … وأين وجدتَها فلا داعي للفِّ والدوران، وإلقاء اللوم على «جلال».

احمرَّ وجه الشاويش، وقال بصوتٍ مرتفع: كيف عرفتَ؟ لا بد أن «جلال» الذي أخبرك بها … إنه ولد … ومرةً أخرى قاطعه «تختخ» قائلًا: ليس «جلال» يا حضرة الشاويش … لقد عرفتُها من المحضر الذي أرسلتَه إلى الجهات المسئولة في مديرية الأمن … وهي كلمة «فولس» بالإنجليزية ومعناها «مزيَّف»، وهذا يعني أن اللوحة التي سرقَها اللص كانت «مزيَّفة» … لهذا أعادها … هل لديك استنتاجاتٌ أو معلوماتٌ جديدة.

بدا على الشاويش كأنه أُصيب بطلقةٍ نارية، وحاول أن يقف، ولكن من الواضح أنه كان متعبًا جدًّا فقال: لقد أربكَتْني هذه الحادثة جدًّا … فهذه أوَّل مرة أقابل فيها لصًّا يعيد المسروقات مُعرِّضًا نفسه للقبض عليه … فما هو رأيكم؟

تختخ: لقد تعوَّدنا أن نتحدَّث معًا بصراحة يا حضرة الشاويش، برغم أنكَ دائمًا تُخفي عنا معلوماتك … لقد ضمَمْنا هذه السرقة إلى بقية الحوادث في المِلَف الأزرق … وقمنا بإعطاء كل هذا إلى المسئولين عن الحاسب الإلكتروني في «دار المعارف» … وقد حصَلْنا على معلوماتٍ مهمة جدًّا وجديدة عن المسروقات.

لم يَستطِع الشاويش تمالُك أعصابه هذه المرة، وقال: حاسبٌ إلكتروني … ما هذا الحاسب الإلكتروني؟! هل يعمل في إدارة البحث الجنائي؟

هزَّ «عاطف» رأسه، وقال: الحاسب الإلكتروني هو الاسم العلمي للعقل الإلكتروني … إنه حتى الآن لا يعمل في إدارة البحث الجنائي … ولكن هذا ممكن على كل حال … فهل تحب أن نُقدِّم لهم طلبًا لعلَّهم يقبلونه؟

نَسِي الشاويش تعبه أمام هذه السخرية، وقفز واقفًا، وابتعَد وهو يُطلِق من فمه كلمات الغضب، ولكن «تختخ» قام خَلْفه يودِّعه برغم كل شيء، وقال: ستحصُل على خبطة العمر يا حضرة الشاويش، وسنضع بين يدَيك أبرعَ ما قابلتَه في حياتك من لصوص.

لم يرُدَّ الشاويش بل انصرف مبتعدًا … على حين لَحِق به «زنجر»، وأخذ يُمارس هوايته الدائمة في العبث بسروال الشاويش الذي قفَز إلى دراجته، وانطلق وهو يلعن الأيام التي جعلَتْه يتعرف على هؤلاء الأولاد، وهذا الكلب المشاغب.

وعادت الجلسة إلى هدوئها. وقالت «لوزة»: إنك تقول يا «تختخ» إن اللص لم يَبِع شيئًا مطلقًا مما سَرقَه. فكيف عرفتَ؟

تختخ: المسألة في غاية البساطة … إن الشرطة تأخذ أوصاف المسروقات … وتتعقَّب أي شيءٍ منها يظهر في السوق … وكثيرٌ من اللصوص وقَعوا في أيدي الشرطة وهم يبيعون المسروقات … ولو أن هذا اللص باع بعضَ ما سرقه … وبخاصة أنها أشياءُ نادرة ومعروفة، لوقع في قبضة رجال الشرطة منذ فترةٍ طويلة … إننا إذا قرأنا نتائج العقل الإلكتروني وجدنا أن اللص ارتكب اﻟ ١٣ حادثًا في ثلاثة أعوامٍ تقريبًا … ولو باع ما سرقه في العام الأول لسقط منذ زمنٍ بعيد … وهناك فكرةٌ أخرى … كما نرى من نتائج الحاسب الإلكتروني أيضًا أن سرقاته تُغطِّي عددًا كبيرًا من البلاد … فقد سرق في القاهرة … وفي طنطا … والمنصورة … والمنيا … والأقصر وأسوان … معنى ذلك أنه لا يسرق أي شيء … إنه يسرق أشياءَ محددة … فلماذا؟

نوسة: لعلَّنا نعثُر على الإجابة عندما يصلنا تقرير الحاسب الإلكتروني عن شخصية هذا اللص العجيب.

تختخ: ولعلَّ ما يؤيد استنتاجاتي أن هذه ملاحظةٌ هامة للحاسب الإلكتروني على إعادة اللوحة … وهذه الملاحظة تقول: إن اللص يريد اللوحة لا النسخة المزيَّفة، إنه يريد الأصل. وعلى كل حالٍ بدلًا من أن نشطح وراء استنتاجاتٍ ليست مؤكَّدة، فلننتظر ما سيقوله الحاسب الإلكتروني هذا المساء … فليكن اجتماعنا التالي هنا في السابعة مساءً.

•••

في السادسة من مساء اليوم نفسه دَقَّ جرس التليفون مرةً أخرى في منزل «تختخ»، وكان المتحدث هو الدكتور «علي» … ودار الحديث بينهما عن النتائج التي وصل إليها العقل الإلكتروني عن شخصية اللص المدهش … وعرض «تختخ» الذهاب إلى منزل الدكتور للحصول على التقرير، ولكن الدكتور قال: إن التقرير مُختصَر جدًّا … وقد أعدَدْتُه في لغةٍ سهلة مُبسَّطة حتى يمكنكم الاستفادة به … أَحضِر قلمًا وورقة.

وأسرع «تختخ» يُحضِر قلمًا وورقًا، وأخذ يكتب، وبعد أن انتهى، شكر الدكتور «علي» ثم أخذ ما كتَبه وقفَز على دراجته، وانطلَق لمقابلة الأصدقاء في حديقة منزل «عاطف».

كانت «لوزة» تجلس وحدها … فلم يكن الموعد قد حان بعدُ … وقالت له «لوزة» وهي تراه مقبلًا: ماذا وراءك؟

تختخ: معلوماتٌ في غاية الطرافة!

وفي هذه اللحظة ظهر «عاطف» … وجلس «تختخ» يقرأ الورقة التي في يده دون أن يرفع صوته … ثم قال: إنه شيءٌ مدهش هذا العقل الإلكتروني … لقد رسم صورةً تقريبية للص … حتى إنني أتصوَّر لو رأيتُه الآن لعرفتُه.

قالت «لوزة» متشوقة: ماذا قال؟

تختخ: انتظري لحظاتٍ يا «لوزة» … حتى يحضُر «محب» و«نوسة».

ولم يكَد ينتهي من جملته حتى ظهرا … واكتمل شمل المغامرين وقال «تختخ»: لقد اتصل بي الدكتور «علي» في السادسة … وأملاني وصفًا مدهشًا للص … مبنيًّا على المعلومات التي توافَرتْ عنه في مختلف سرقاته … وأخذ يقرأ: «رجل بين الخمسين والخامسة والخمسين … ضئيل الجسم … شعره خَشِن … يلبس نظاراتٍ طبية … وإحدى عينَيه ٦ / ٣٦، ويلبس ملابسَ غالية ولكنها قديمة … يعرج؛ فساقه اليسرى أقصر من اليمنى … يركب سيارةً قديمة.»

والتفَت «تختخ» إلى الأصدقاء قائلًا: ما رأيكم؟

محب: ممتاز … ولكن كيف عرف العقل الإلكتروني كل هذا؟

تختخ: بناءً على المعلومات التي توافَرتْ عن الرجل في مختلف سرقاته … فقد تذكَّر أمين المكتبة التي سُرقَت منها المخطوطات، أنه بين الخمسين والخامسة والخمسين، وأنه ضئيل الجسم، وفي إحدى سرقاته وقعَت نظَّارته الطبية وانكسر زجاجها، واستطاع رجال المعمل الجنائي أن يُحدِّدوا مقاس النظارة بأنها ٦ / ٣٦ في إحدى العينَين … وفي سرقةٍ أخرى اشتبك سرواله بمسمار، وتمزَّق منه جزءٌ ضئيل … استطاع رجال المعمل مرةً أخرى أن يعرفوا أن الملابس من نسيجٍ غالٍ، ولكنه قديم، وبالنسبة للعَرَج فبعض الآثار التي تركَها تبيَّن أن إحدى قدمَيه غائصة عن الأخرى في الأرض … هذا دليلُ قِصَر ساقٍ عن الساق الأخرى، أما السيارة القديمة، فأنتم تذكُرون أن آخر سرقة في القصر الأخضر سمع أحدُ المهندسين بعدها صوت سيارةٍ قديمة تبتعد.

نوسة: إذن فالعقل الإلكتروني جمع هذه المعلومات … ونسَّقها!

تختخ: بالضبط … ولكن بقي شيءٌ هام … سرقة المخطوطات. لقد اتفقنا على أن اللص لا يسرق ليبيع … أي إنه ليس في حاجة إلى نقود … فلماذا يسرق المخطوطات الخاصة بالأُسَرِ المصرية القديمة … إنني أُرجِّح أنه من أُسرةٍ عريقة!

عاطف: لصٌّ من أُسرةٍ عريقة!

تختخ: ولمَ لا؟! … اللصوصية ليست وقفًا على فئة دون أخرى!

محب: معنى ذلك أن عندنا صورةً شبه كاملةٍ له!

نوسة: ولكن لا تؤدِّي إلى القبض عليه!

تختخ: هنا يتدخَّل الحاسب الإلكتروني مرةً ثالثة … لقد قام العقل الإلكتروني حتى الآن بعملية تجميعٍ وتوصيف للحوادث الماضية … المهمُّ الآن أن يعرف المستقبل.

عاطف: مستحيل!

تختخ: إنني لا أقول إنه سيتنبَّأ بالمستقبل؛ فلا أحد يستطيع ذلك … ولكنني أعتقد أنه بناءً على تحرُّكات اللص في الماضي يمكن أن يستنتج تحرُّكاته في المستقبل.

لوزة: تقصِد أنه سيعرف متى سيسرق مرةً أخرى؟

تختخ: بالضبط … وهذا ما سأطلُبه من الدكتور «علي».

نوسة: لقد طلبنا منه الكثير!

تختخ: إن الرجل أبدى استعداده لمساعدتنا، ولا بأس أن نُثقِل عليه للمرة الأخيرة.

واتفَق الأصدقاء على أن يذهب «تختخ» وحده في الصباح لمقابلة الدكتور «علي». وفي الموعد المناسب كان هناك … ولكنه للأسف وجد الدكتور مشغولًا بأعمالٍ كثيرة … ولم يكن «تختخ» قد حدَّد معه موعدًا سابقًا للقاء … وهكذا قرَّر «تختخ» أن يترك له رسالة …

صديقنا العزيز الدكتور «علي»…

أشكرك باسم المغامرين الخمسة … وباسم العدالة، على معاونتك لنا … إن المعلومات التي قدَّمها الحاسب الإلكتروني في المرحلتَين السابقتَين عن أسلوب اللص وعن صورته وشكله، تُمكِّن أي شرطيٍّ ماهر من تتبُّع اللص والقبض عليه … ولكن ذلك بالطبع سيستغرق وقتًا طويلًا.

لهذا … فإن المغامرين الخمسة يقترحون عليك أن تساعدنا للمرة الثالثة … وذلك برسم خريطةٍ لسرقات اللص … تشمل الأماكن والمواعيد ونوع السرقات … وأعتقد أن الحاسب الإلكتروني يُمكِنه، بناءً على هذه المعلومات، أن يضع أمامنا احتمالاتِ تحرُّكاتِ اللص في المرحلة المقبلة.

وإذا استطاع الحاسب الإلكتروني أن يُقدِّم هذه المعادلات … فإن في الإمكان وَضْع الاحتمالات لأول أو ثاني سرقةٍ تالية يقوم بها، ويُمكِنُنا بذلك القبض على اللص … فهل نطمع منك في هذه المساعدة؟

إنني في انتظار كلمةٍ منك.

«توفيق»

وبعد لحظات من دخول الورقة إلى الدكتور «علي» … وصل إلى «تختخ» ردٌّ في كلماتٍ قليلة …

سيكون رد الحاسب الإلكتروني جاهزًا صباح الغد.

فأرجو الحضور لتسلُّمه.

«علي»

وحمل «تختخ» الردَّ وهو في غاية السعادة، وعاد إلى المعادي … لقد استطاعوا في ثلاثة أيام فقط أن يصلوا إلى معلوماتٍ هامة عن اللص … فهل تؤدي هذه المعلومات إلى القبض عليه؟! وإلى حل ١٣ أو ١٤ لغزًا غامضًا … هذا ما سيَكشِف عنه التقرير الأخير للحاسب الإلكتروني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤