مواجهة في باطن الأرض!

كان سائق التاكسي، هو أحد عملاء رقم «صفر» في «باريس»، وأثناء الطريق، أخذ يشرح ﻟ «أحمد» كل ما حدث؛ اكتشاف العصابة لموجة الإرسال، وكيف توقَّع الحصار، وكيف تمَّ قطع الاتِّصال عن عميل رقم «صفر»، الذي يحمل الحرف «س»، وكيف بدأت مراقبة تحرُّكاته هو حتى اللحظة التي طلب فيها تاکسيًا. کان «أحمد» يستمع إلى كلماته في استغراق شديد، بينما كان الليل يُغطِّي الطريق بين مطار «أورلي»، و«باريس». کانت السيارة المرسيدس البيضاء تقطع الطريق على مهل؛ فقد طلب «أحمد» من عميل رقم «صفر» أن يجعل الرحلة هادئةً بعد تلك المطاردة المرعبة.

فوقف رقم «ن»، وهذا هو رقمه في قائمة أسماء العملاء عند رقم «صفر». وقال: هل تُفکِّر في شيءٍ؟ …

نظر له «أحمد» مبتسمًا، وقال: ماذا تقصد؟

قال «ن»: هل تُفكِّر في شيء خاص بالعصابة؟

ابتسم «أحمد» مرَّة أخرى، وقال: نعم. إنني أعرف أنهم الآن سوف يحاولون اللحاق بنا …

ولهذا توقَّفت لحظة عند باب المطار، لأعطيهم فرصة الشك والاستنتاج …

ابتسم «ن»، ثم تحرَّك بالسيارة، لكن إشارات ضوئية آتية من الجانب الآخر للطريق، جعلت «أحمد» يقول: انتظر لحظة؛ إن هناك رسالة ما!

توقَّف «ن»، وظلَّت الإشارات الضوئية تتردَّد. اقتربت السيارة الأخرى؛ مدَّ «أحمد» يده إلى إشارات ضوء السيارة، ثم ردَّ بإشارات، وعن طريق الإشارات المُتبادَلة أرسل إليهم رسالة. كانت هي سيارة الشياطين، وعندما تلقَّوا الرسالة الضوئيَّة استمرُّوا في طريقهم إلى مطار «أورلي». كانت الرسالة خاصَّة بأفراد العصابة، وسياراتهم.

وعندما تجاوزتهما سيارة الشياطين، قال «أحمد»: ينبغي أن نتقدَّم ببُطء.

ابتسم رقم «ن» وهو يقول: إنني أفهم؛ فكيف نتركهم يُفلتون منَّا؟! …

تقدَّما في هدوء. كان الليل هادئًا … لمعت أضواء سيارة قادمة؛ اقتربت منهما، ثم تجاوزتهما. كانت سيارة عادية. انقضى ربع ساعة، ثم فجأة شعر «أحمد» بدفء جهاز الاستقبال، فعرف أن هناك رسالةً من الشياطين. تلقَّى الرسالة التي كانت تقول: «السيارة في الطريق؛ نحن خلفها! …»

نقل «أحمد» الرسالة إلى «ن»، الذي قال: لا بأس؛ هذا شيء جيد …

لمعت من بعيدٍ أضواء قوية في الخلف، عكستها المِرآة الأمامية لسيارة «ن»، فقال: يبدو أنهم وصلوا …

قال «أحمد»: تقدَّم بسرعة عاديَّة … وصمت لحظة، ثم أضاف: لا نريد أن نشتبك معهم. إن مُهِمَّتنا أن نصل إلى مقرِّهم …

هزَّ «ن» رأسه، ثم بدأ يُنفِّذ ما قاله «أحمد» … كانت السيارة الخلفية تقترب. في نفس الوقت، ظهر ضوء سيارة أخرى، أعطت إشارة فهمها «ن»، فلفت نظر «أحمد» إليها.

قال «أحمد» بسرعة: فلنتبادل الأمكنة!

في لمح البصر، كان «أحمد» يجلس إلى عجلة القيادة. اقتربت السيارة الخلفية أكثر. كان «أحمد» يرصدها ويرصد سيارة الشياطين التي كانت تأتي خلفها. قال في نفسه: إنهم الآن بين شطرَي ساندويتش …

ابتسم ابتسامة خفيفة لمحها «ن»، فقال: لعلَّ هناك ما يُضحِك …

قال «أحمد»: نعم … إنهم الآن بين شطرَي ساندويتش!

ضحك «ن» ضحكة قوية. أصبحت سيارة العصابة خلف سيارة «ن» تمامًا.

علا صوت الكلاكس يقطع صمت الليل. وقال «أحمد»: إنه عصَبيٌّ بما يكفي …

أفسح الطريق، فسارت السيارة مندفعة بأقصى سرعة، غير أن «أحمد» كان قد استعد لها … فقد أخرج من جیبه فراشة إليكترونية صغيرة، ثم أطلقها خلف السيارة. اندفعت الفراشة، والتصقت في منطقةٍ أسفل السيارة؛ لأنها تنجذب إلى «عادم» السيارة. ولم يرفع «أحمد» سرعته، لكنَّه نظر في جهاز إليكتروني دقيق كان يتلقَّى إشارات من الفراشة، فيعرف اتجاه السيارة. قال في نفسه: يجب أن يبدأ الشياطين عملهم. أرسل رسالة سريعة إلى الشياطين الذين كانوا خلفه تمامًا. اقتربتْ سيارتهم، في نفس الوقت الذي أوقف «أحمد» سيَّارته.

نظر إلى «ن»، وقال: الشياطين يُقدِّمون تحيَّاتهم؛ لقد بدأت المعركة الآن. ثم فتح باب السيارة لينزل. تبادل التحيَّة مع «ن»، الذي جلس إلى عجلة القيادة، وانطلق.

اتجه «أحمد» إلى سيارة الشياطين، الذين أفسحوا له مكانًا بينهم، فقفز بسرعة، وانطلق «بو عمير»، الذي كان يجلس إلى عجلة القيادة. نظر الشياطين إلى «أحمد» في دهشة؛ فقد كانت هيئته متغيرة تمامًا.

قالت «ریما»: لعلك دخلت في معركة معهم …

ابتسم «أحمد»، وأخذ يقص عليهم ما حدث. في نفس الوقت، كانت عيناه على جهاز المتابعة الإليكتروني؛ ليعرف مكان سيارة العصابة. كانت الساعة قد اقتربت من الرابعة صباحًا.

قال «خالد»: هل تنتهي المغامرة الليلة؟ …

ردَّ «أحمد» بعد لحظة: إن الوقت مسألة ضرورية بالنسبة لنا، فيجب أن ننتهي من كل شيء الليلة إذا أمكن؛ فتعليمات رقم «صفر» محددة. إن كشف موجة الإرسال يعني أن العصابة قد عرفت بوجود الشياطين، وهي تستطيع عن طريق التقاط الموجة تحديد مكان المقرِّ السري؛ وهذه مسألة في منتهى الخطورة …

توقَّف لحظة عن الكلام، ثم أضاف: إن هذه العصابة ليست هي مَكمن الخطورة فقط، فهي سوف تعطى السرَّ لعصابات العالم. وساعتها سوف نقع في مأزق؛ فسوف يكون علينا أن نواجه جميع العصابات في وقت واحد؛ وهذه مسألة في غاية الصعوبة …

صمت «أحمد»، فسكت كلُّ شيء، ولم يكن يُسمَع في الليل إلا صوت موتور السيارة. كان «بو عمير» قد رفع سرعة السيارة التي انطلقت كالصاروخ، في نفس الوقت الذي كان «أحمد» يتابع فيه جهاز المتابعة، الذي يُحدِّد اتجاهات سيارة العصابة.

في نفس الوقت أيضًا، كان «خالد» يبسُط خريطة ﻟ «باريس» ويُحدِّد عليها مكان السيارة.

قال «خالد»: لقد دخلت شارع «الشانزليزيه» الآن، وتقترب من فندق «نابليون»!

ابتسم «أحمد» وهو يقول: إنهم يتصوَّرون أنني ربَّما عدت إلى هناك؛ فهم يتصرَّفون بالقاعدة التي تقول: إن المجرم يدور حول مكان جريمته؛ حتى يعرف إن كان سرُّه قد انكشف أم لا! … ابتسم ابتسامة عريضة وهو يُضيف: إنهم يتصوَّرونني مجرمًا …

بدأت أضواء «باريس» تلمع أمامهم. قال «بو عمير»: هل نتَّجِه إلى فندق «نابليون»؟ …

ردَّ «أحمد» بسرعة: لا … إنهم سوف يغادرون المكان بعد قليل. إن لم يكن الآن، وفورًا، بعد أن يتركوا مراقبًا؛ وربَّما يختارون واحدًا من الاثنين اللذَين اشتبكت معهما! …

دخلت سيارة الشياطين شارع «الشانزليزيه»، لكنَّها لم تقترب من فندق «نابليون» … فقد توقَّفت في جانب من الطريق. أطفأ «بو عمير» أضواء السيارة، ثم أوقف مُحرِّكها. ظل الشياطين ينتظرون. في نفس الوقت، كانت الإشارات في جهاز المراقبة تقول إن سيارة العصابة لا تزال في مكانها، لكنها فجأة تحرَّكت.

قال «أحمد»: إنها تتَّجِه إلى مكانٍ آخر …

انتظروا بعض الوقت، وجرَت عينا «أحمد» على الخريطة المبسوطة أمامه، ثم عَلَت الدهشة وجهه، وقال: إنها تخرج من «باريس»، وهذا يعني أن مقرَّ العصابة ليس في المدينة؛ إنه في مكانٍ آخر خارجها!

نظر إلى «بو عمير»، الذي أدار مُحرِّك السيارة بسرعة، ثم انطلق. كانت السيارة تتَّجه إلى الجنوب، فأخذ «بو عمير» نفس الاتجاه. بعد نصف ساعة، كانت سيارة الشياطين تُغادر «باريس» إلى الحقول، التي كانت تمتدُّ بلا نهاية. كان الليل مُنعِشًا، وبرودة خفيفة تُلامس وجوه الشياطين في رقة.

قالت «ریما»: إنها رحلة طيبة على كل حال؛ فالجو مُمتع …

ردَّ «مصباح»: لكن يمكن أن تمطر السماء في أي لحظة؛ فنحن في بداية الشتاء …

انقضت ساعة أخرى، وكانت السيارة تقطع الطريق بسرعة عالية.

فجأة قال «أحمد»: إنها تتَّجه إلى مدينة «رانز»، إحدى المدن الصناعية الفرنسية؛ حيث تتركز الأيدي العاملة العربية هناك، في مصانع «رينو» للسيارات وغيرها …

ولم تنقضِ نصف ساعة أخرى، حتى كانت سيارة العصابة قد دخلت شارعًا، حدَّدَه «خالد» على الخريطة بأنه شارع «جان دارك». اتجهت سيارة الشياطين إلى نفس الاتجاه. فجأةً ظهرت سيارة العصابة؛ كانت تخرج من مُنحنًی إلى الشارع الرئيسيِّ الذي تسير فيه سيارة الشياطين. أبطأ «بو عمير» سرعة السيارة، حتى أصبحت السيارة الأخرى أمامه مباشرة، وظل يتتبَّعُها. بعد قليل، دخلت السيارة في شارع جانبي. لم يتبعها «بو عمير» هذه المرة؛ فقد أطفأ أضواء سيَّارته، وتوقَّف عند نهاية الشارع. كانت سيارة العصابة تحت بصره تمامًا. توقَّفت السيارة أمام مبنًى من دورين، ثم فجأة فُتح الباب، واختفت السيارة.

همس «أحمد»: إذن لقد وصلنا …

قال «خالد»: نرجو أن يكون هذا هو المقر …

قالت «ريما» بسرعة: علينا إذن أن نبدأ؛ فنحن على أبواب الصباح …

في لحظات، كان «بو عمير» قد دخل بالسيارة في شارع جانبي.

ونزل الشياطين بسرعة.

فجأةً قال «أحمد»: سوف أبدأ العملية ومعي «خالد»، ومع إشارة لكم تتحرَّكون …

نزل بسرعة هو و«خالد»، وأخذا طريقهما إلى حيث يقع المبنى الذي اختفت فيه سيارة العصابة. كان بقيَّة الشياطين يرقبونهما، حتى اختفيا. كان المبنى مُغلقًا تمامًا.

همس «أحمد»: أتوقَّع أن يكون للمبنى مُلحقًا خلفيًّا؛ ينبغي أن ندور حوله …

أسرعا في سيرهما، ثم دارا حول المبنى.

قال «خالد»: هذا صحيح؛ إن خلف المبنى توجد مساحة أخرى …

كان هناك سور مرتفع، فقال «أحمد»: يجب أن نتسلَّق السور.

نظرا حولهما؛ لم يكن يظهر أحد … قفز «أحمد» قفزة قوية، جعلته عند مستوى السور. أمسكه بيديه، ثم أكمل تسلُّقه، وفي نفس الوقت فعل «خالد» نفس الشيء. لكن كانت المفاجأة أن هناك مساحة واسعة من الأرض خالية تمامًا، ولم يكن فيها سوى بعض الأشجار، وبعض النباتات المتسلقة، خلف المبنى مباشرة.

قال «خالد»: هذه مفاجأة!

ألقى «أحمد» نظرةً سريعةً، ثم همس: فلننزل؛ حتى لا ننكشف …

بسرعة قفزا إلى الأرض الفضاء، وبسرعة أيضًا أخذا طريقهما إلى حيث قطعة الأرض المزروعة بالنباتات المتسلقة، فوقفا خلف شجرة، وبدأ «أحمد» يدرس المبنى. كان الطابق الأرضي منه بلا نوافذ ولا أبواب. في نفس الوقت، كانت هناك شُرفة واحدة مغلقة في الطابق الثاني.

همس «أحمد»: إن هذه مسألة لافتة للنظر. فما معنى أن يكون الطابق بلا نوافذ؟ لا بد أن لذلك حكمة.

فجأة سمِعا صوتًا يتحدَّث؛ كان واحدٌ يقول للآخر: «ماتاي»، هل قدَّمت تقريرك للزعيم؟

ردَّ الآخر: ليس بعد يا «هنزي»؛ فالمراقبة لا تزال مستمرة هناك …

قال الأوَّل: لا أظن أنه سوف يعود مرَّة أخرى إلى فندق «نابليون» …

ردَّ الثاني: إننا نراقب كل الأماكن … وصمتَ لحظةً، ثم أضاف: غير أننا يجب أن ننقل الصورة الكاملة لما حدث حتى الآن إلى الزعيم!

قال الآخر بعد لحظةٍ: لا بأس …

فجأةً، ظهر الرجلان بين النباتات، من باطن الأرض، ثم اختفيا.

قال «أحمد»: إذن هناك عمل كبير في باطن الأرض. وصمت قليلًا، ثم أضاف: يبدو أن مقرَّ الزعيم هو هذا المبنى! …

سأل «خالد» بسرعة: هل نتحرَّك إلى باطن الأرض؟!

فكر «أحمد» بسرعة، ثم قال: نحتاج بقيَّة الشياطين … لكنَّه أضاف بعد لحظة: فقط بعد أن نرى ماذا هناك …

تحرَّکا بسرعة، وكانت النباتات المتسلقة تصنع سورًا أخضر، فاستطاعا أن يَنفُذا منه بصعوبة، ثم وقفا فجأة؛ لقد كان أمامهما باب يُؤدِّي إلى صالة صغيرة، ثم تنزل درجات سُلَّم.

قال «أحمد»: هذا هو طريقنا …

أسرعا يهبِطان درجات السُّلم بسرعة؛ كانت الدرجات مُضاءة بإضاءة خافتة.

همس «أحمد» ﻟ «خالد»: يجب أن نقطعها بسرعة، قبل أن يظهر أحد؛ فلا يوجد أي مكان يمكن أن نختفي فيه …

أسرعا أكثر؛ انحنت الدرجات، فانحنيا معها.

فجأةً، سمعا صوتًا يقول: لا تُرسل رسائلك الآن؛ ينبغي أن يُوقِّع عليها الزعيم!

وقفا بسرعة؛ انتظرا مصدر الصوت مرَّة أخرى.

لم تمر لحظة، حتى جاء صوت يقول: إن الرسائل كثيرة، وينبغي أن تصل إلى أصحابها في وقت مبكر … نظرا حولهما؛ لم يكن هناك ما يُشير إلى وجود أيِّ باب. لكن مصدر الصوت كان بجوارهما تمامًا. وقفا مُلتصقَين بجدار الحائط، بينما كانت درجات السُّلَّم لا تزال مُمتدَّة أمامهما.

همس «خالد»: يبدو أن هناك أكثر من طابق تحت الأرض …

ردَّ «أحمد»: هذا صحيح …

فكر لحظةً، ثم قال: يجب أن تنتهي المسألة قبل إرسال هذه الرسائل التي يتحدثان عنها؛ فربَّما تكون إلى عصابات العالم …

فجأة فُتح باب بجوارهما، فغمر الضوء المكان، وظهر رجلان؛ کانا ما زالا يتحدَّثان. لقد أصبح «أحمد» و«خالد» في مواجهة الرجلين!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤