مي تتنهَّد

مي ابنة في الثامنة من عمرها، ذات بشرة سمراءَ زاهية كسنابل القمح، وخدين حمراوين بلون الشقيق، وفم وردي عجيب في صغره نحيف لطيف، حتى يحسب الناظر عن بُعدٍ إلى مي أن هنالك حبة كرز حمراء في صفحة وجهها البيضاء.

وحاجبا مي قوسان مشدودتان مقفلتان فوق أنفها الصغير، وعيناها … آه من عينيها الصغيرتين كلوزتينِ، الكبيرتينِ كهذا الوجود، بما في هذا الوجود من كواكب وأقمار، وأزهار وأنوار، وشواهق وبحور …!

أما شعرها فأسود لمَّاع متجعد غزير، قصير إلى ما فوق عنقها الصغير. ولو ترك شعر مي مذ ولدت لكان اليوم كالحبال المدلاة لقوة الحياة في أصوله، ولكن المقص لا يبرح يمر فوق تلك الذؤابات الجميلة؛ ذلك لأن قلب أم مي — كقلوب الملايين من الشرقيات — ما كان مرَّة طفلًا، بل حُمِّل هموم الحياة في العاشرة، وشاخ وذَوَى في العشرين؛ لذا تعمل أمُّ مي على إبقاء ابنتها طفلة طفلة، إلى أن ترتوي ضحكًا ولعبًا وقفزًا وركضًا، فكأنها بهذا تريد أن تعطيها كل ما حرمته هي في فجر الحياة.

وهنالك عامل ثانٍ يحمل أمَّ مي على التمسك بتلك الطفولية كما بسعادة قريبة الزوال … نظرت يومًا إلى ثوب مي القصير فقالت ضاحكة: كبرتِ يا ولدي! أجابت: لا أريد أن أكبر.

– ولماذا لا تريدين أن تكبري؟

– ذلك لأنني عندما أكبر لا أعود أجلس على ركبتيك.

ومنذُ، زادت أم مي تعلقًا بالأيام المسرعة في المسير، وأخذت تنظر بخوف إلى الأثواب الآخذة بالقصر شهرًا فشهرًا … وتفكر بذعر باليوم القريب «يوم تكف مي عن الجلوس على ركبتيها».

وربما نظلم أم مي إذا قلنا: إنها مسيرة بالأنانية؛ فهنالك عامل ثالث يحملها على إبقاء ابنتها طفلة، ذلك أن دماغ مي أكبر من سنها، فلو أنها سُلمت إلى المعلمين والمعلمات كباقي الأولاد لكانت اليوم تقرأ شكسبير وسبنسر، ولكانت قليلة النوم، صفراء نحيلة، غائرة العينين، مقوسة الظهر، بطيئة الحركة، ولكن أم مي تكره بكل قلبها الأطفال الهرمين، فمَيُّ تدخل سريرها الساعة السابعة، وكثيرًا ما يقهرها سلطان النوم قبل أن تنتهي من صلاتها الصغيرة، وهي طروبة ترن ضحكتها العالية في جوانب الدار كأجراس العيد، لعوبة لا تعرف الراحة إلى أن يجيء أوان النوم. هي لا تقرأ شوقي ولا حافظ، ولكنها تعرف أسماء شواهق وينابيع لبنان، فتصف رأس العين ونبع العسل ووادي العرائش، وكأكابر الشعراء تتغزَّل بألوان الشروق والغروب، وقصف العاصفة، وهدير البحر، وهديل الحمام …

•••

قصدت أن أصف مي وهي تتنهد، فما لي أسترسل وأسترسل إلى أن يملَّ المطالع؟

أيها الكتَّاب! ما بالكم تكلمونا عن الأطفال؟ تقول الشبيبة: كلمونا عن مسرات الحياة، عن الحور المسترسلات الشعور المتجردات كتماثيل أفروديت وعشتروت.

ولكن الأطفال، أيها الناس، هم نصف الوجود، هم هذه التماثيل التي تعبدون فيها الشباب، فإذا بان لكم الهرم الباكر انقلبتم يائسين.

أيها الناس، من منكم يدخل إلى نفسيَّة الأطفال فيعيش عمره مرتين؟ من منكم يصور لنا حزن الأطفال، وحب الأطفال، وغيرة الأطفال؟ تهملونهم فيشبون كما يشاءون، وعندما يأتي زمن الحصاد تجدون أمامكم شبيبة هرمة، متجعدة، ذاوية كأوراق الخريف، ونخرة كأخشاب أكلها السوس.

كان لوالدة مي صديقة لها ابنة تدعى هند، فانتقلت محبة الأمهات إلى البنات، وصارت هند تبكي لبكاء مي، ومي تضحك لضحك هند، وكان في بيت مي خادمة تدعى مريم، جاءتها أمها يومًا زائرة، فدهشت مي الصغيرة، وأخذت تدور حول الزائرة تتفحص أسنانها، وضفائرها الصناعية، وثوبها الواسع، واستأنست فأصغت إلى عبارات الحنان بين مريم وأمها، ولم تتمالك أن سألت هل «للكبار» أمهات؟ فأجيبت أن لكل الناس أمهات.

ولم يأت المساء إلا وفكرة الأمومة تملأ دماغ مي الصغير، فأتت وجلست على ركبتي أمها وسألت: يا أمي، أين أمك؟

– ليس لي أم.

– لي أم، ولهند أم، ولمريم أم، ولكل الناس أمهات، وأنت أين أمك؟

– في السماء يا ولدي.

فحزنت مي الصغيرة، ولمع في عينيها بريق ألم عميق، فتنهدت وصرخت بصوت مرتجف: آه … يا أمي، لماذا أنت بدون أم؟! وللمرة الأولى بكت مي على أمها ووحدة أمها!

•••

عندما اشتعلت الأرض بالحرب الكونيَّة، عُلِّمت مي أن تصلي في كل مساء وصباح هذه العبارة: «يا يسوع الصغير، ضع حدًّا لهذه الحرب، اشفِ المرضى، وأرسل خبزًا للفقراء الصغار.»

وهجمت النائبات، ومنها التيفوس، فأصيبت أم هند وقضت في أسبوع، وفي ذلك اليوم المشئوم تنبهت مي لوقع الأقدام على السلالم، وشاهدت الصندوق الخشبي وخلفه الصليب الكبير، وجوق الكهنة يرنمون بأصوات شجيَّة، فصمتت صمتًا مهيبًا كأن نفسها الصغيرة شعرت برهبة الموت، ولما وضعوها مساءً في فراشها شبكت يديها على صدرها، وقالت: إنها «زعلانة» من يسوع الصغير، ولا تريد أن تصلي له.

– ولماذا أنت «زعلانة»؟

– أما رأيتِ كيف أنه أمات والدة هند؟ من سيحب هند بعد اليوم؟

وتنهدت مي وأرسل صدرها الصغير زفرة طويلة عميقة، ولأول مرة في حياتها بكت على الناس ومصائب الناس!

كانت مي صغيرة عندما أرسل لها «يسوع الصغير» أختًا. من عساه يصف محبتها لذلك الكائن الضعيف، تلك المحبة الممزوجة بالشفقة والحنان، والعطف والغيرة المحرقة القتَّالة؟ من عساه يصف نفسها وقد أصبحت ساحة لمعترك العواطف المختلفة.

هل صرخت الطفلة؟ كانت مي تسرع وتقول بلغة الأطفال: احملوها ولا تتركوها تبكي، أرضعوها؛ إنها تموت من الجوع، أدفئوها؛ إنها باردة كالثلج، لعلكم تظنون أن يسوع الصغير سيرسل لي كل يوم أختًا!

آه من قلب مي الصغير! كيف كان يطفح بعواطف الأخوة العذبة، ولكن تلك المحبة كانت مقرونة بغيرة قاتلة ظهرت بوادرها في عينيِّ مي؛ لأن عيون الأطفال لا تعرف الكذب، هل نظرتم في عيني امرأة ما صورة الأمل الضائع، والحياة الذاوية، والحب البائس، والشباب الباكي! هكذا كانت نظرات مي يوم تصارعت المحبة والغيرة في فؤادها فهوى كيانها الصغير تحت أثقال الحب.

ما كانت مي محبة لنفسها، فلم تؤذ الطفل، ولا سألت مرة إنزاله عن صدر أمه كما يفعل الصغار، بل انسحبت بذل تاركة مكانها للكائن الجديد، كأنه صاحب الحق وكأنها لا شيء، ولم تمض أيام إلا وقد غارت عيناها وذبُل ورد خديها، فكانت تنزوي وترسل التنهدات ثلاث ورباع إلى أن كان أحد الأمساء، فاقتربت ببطئ من أمها، وتغلغلت في الملاءات الدافئة، وكمن ضاق صدره عن وسع ما فيه، باحت مي بسر عذابها المستقر في عينيها الذاويتين الجامدتين، فسألت: أين أمي أنا؟

– أنا أمك.

– والطفل، أين أمه؟

– أنا أمه.

– إذن أنت أمه «هو» لا أمي «أنا».

وعبثًا تعبت الأم في تفهيم مي أنها أم للاثنين معًا، فلم تكن لتصدق، بل كانت تبكي على الحب الضائع، وتختبط في يأسها وتتنهَّد وتقول: يا لذلِّي! ليس لي أم، ليس لي أم …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤