إلى روح أبي أمين١

يجتمع كبار الأمة اليوم لتكريم فقيدها مرة ثالثة، وفي هذا كل الإثبات على أن في الوطن من يعتقد أن أحمد مختار أتى في حياته عملًا يستحق من أجله الإكرام.

إن أبا أمين ما كان كاتبًا ولا خطيبًا ولا شاعرًا ولا مشترعًا، إنه ما كان لغويًّا يقضي السنين منحنيًا على المخطوطات القديمة ليجد فيها كلمة تضاف إلى معاجم اللغة، ولا عالمًا يفني حياته بفحص ملايين الذرَّات ليكتشف حقيقة حيوية جديدة، إنه كان عاملًا نشيطًا في سبيل النهضة النسائية.

أيها الكرام، إذا ما ذكر التاريخ رجال نهضة الشرق، فسيذكر في طليعتهم قاسم أمين وأبا أمين.

أما قاسم أمين، ربيب وادي النيل، فقد أرسل آراءه النظرية في محيط يعدُّ بين رجاله؛ أمثال محمد عبده، والمنفلوطي، وحافظ، وشوقي، والمطران، ونمر، وصروف، وزيدان وسواهم.

وأما فقيد بيروت، فبدون مقدمات أو نظريَّات تقدم وفتح باب الأمة على مصراعيه، وأخذ بيد كرائم المسلمات وقال لهن: هذه ساحة العمل، هنا أيتام تطلب الرحمة، وهنا نسوة تعيش على قشور الفاكهة، وهنا أولاد ينشئون مُتمرِّغين في الشوارع وتحت دواليب العربات، فكانت إذ ذاك الجمعية المعروفة،٢ وكان من حسناتها: النادي، ومدرسة النادي، وهذا المصنع، ودار الأيتام. أخذ أبو أمين بيد من تفتخر بهن بيروت، ومن خلال الحجاب الكثيف أطلَّ بهن على هذا المجتمع حيث تراكمت أنقاض ماضينا المظلم، وقال لهن: لكنَّ من نفوسكن النيرة ما يقيكنَّ العثرات. تقدمنَّ في طريق النور.

يعتقد البعض أن من يقول للمرأة المسلمة أن تساعد في ترميم الوطن المتهدم إنما هو يدفعها إلى نزع الحجاب. هذا البعض مخطئ في ظنه لأن مسألة الحجاب في نظر من يجاهدون مسألة جزئية لا تستحق أن يقف عندها مفكر.

المهم هو أن يكون عندنا نساء يعرفنَ ما عليهن من الواجبات، وما لهنَّ من الحقوق؛ ولأجل هذا الأمر وضع أحمد مختار حجر الزاوية في النهضة النسائية الإسلامية.

فإذا ما جاء اليوم الذي تصبح فيه المرأة كائنًا كاملًا عليه واجبات وله حقوق، تذكر الأمة فضل الرجل الذي خدمها بإخلاص.

وكأني بكم تقولون: «ألعلنا ناسون فضل الرجل؟ فإذا كنا غير مُقرِّين بفضله، فما معنى اجتماعنا لتكريمه؟»

أيها السادة، ما تمكنت السنة الماضية من حضور الحفلة التذكارية التي أقامها نادي السيدات للفقيد الكريم، على أنني أرسلتُ كلمة جاء فيها: إذا أردتم أن تكرموا الرجل فكمِّلوا العمل الذي بدأ به، فحرام أن تموت هذه النهضة بموت أحمد مختار.

والآن أراني أتردد بقول هذه الحقيقة المؤلمة، وهي أن الحفلات التأبينية قليلة الفائدة إذا كانت النهضة لا تزال حيث كانت. إذا رجع كل منكم إلى نفسه، أنتم الذين تكرمون الفقيد وتعرفون قيمة العمل الذي بدأ به، إذا رجع كل منكم إلى نفسه وسألها: ماذا فعلتُ في البناء الجديد؟ يأخذ جوابًا: لا شيء.

أيها السادة، لا شيء! فالنادي لا يزال حيث كان، والمدرسة حيث كانت،٣ والمصنع حيث كان. إن الوقوف في علم الاجتماع يعني التأخر؛ لأن من لا يركض في عصر الطيران هذا يدعى واقفًا، ومن يقف يرى جماهير الراكضين تسبقه، ومن يُسبق فهو متأخر.

أيها الكرام، لا أقصد هنا أن أطرق موضوع النسائيات الذي لا نبحث فيه لسوء الحظ إلا لنتكلم عن التافهات؛ كموضوع الملابس القصيرة أو الطويلة إلى آخر ما هنالك من الجزئيات التي نلهو بها؛ إذ ليس لنا ما نلهو بسواها.

هل نحن نريد حياةً استقلالية كاملة؟ هل نريد هذه الحياة حقيقة أم نريدها بالكلام — كما نريد كل شيء؟

لا حياة كاملة بدون نهضة قومية، ولا نهضة قومية بدون نهضة فكرية. ونهضة فكرية يقوم بها الرجل وحده تدعى نصف نهضة؛ لأن النصف الثاني الذي يتألف منا، نحن النساء، لا يزال لسوء الحظ مقعدًا كسيحًا.

لنذكر كلما جاء ذكر الفقيد — وما أكثر ما تذكرونه — أننا على باب حياة جديدة، وأن علينا أن نعمل كل يوم، بل كل ساعة، بل كل دقيقة. لنذكر أننا نطالب بحقوق الشعوب الحية، فلنعمل عملًا واحدًا يدل على الحياة.

١  كتب هذا التأبين للحفلة التذكارية السنوية التي أقيمت للمرحوم أحمد مختار بيهم، نصير المرأة المسلمة، في دار الصناعة، في ٦ شباط سنة ١٩٢١.
٢  جمعية الأمور الخيرية للفتيات المسلمات.
٣  ليت هذه النهضة بقيت حيث كانت! مات النادي ومدرسة النادي بموت أحمد مختار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤