الفصل الثاني

وضع خطة الرحلة

هذه قصة رحلة قمت بها سنة ١٩٢٣ من السلوك على شاطئ البحر الأبيض المتوسط إلى الأبيض عاصمة مديرية كردفان بالسودان، وهي مسافة قدرها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلومتر، قُطِعت على ظهور الإبل، وقد وُفِّقت فيها إلى العثور على واحتين مجهولتين هما «أركنو» و«العوينات»، وكانتا غير معرفتين قبل ذلك للجغرافيين.

وقد كانت الغاية الأولى من رحلتي هذه علمية، ولكني حاولت في هذا الكتاب أن أتجنب إرهاق القارئ بذكر المصطلحات الفنية، وأن أقدم إليه حكاية أرجو أن تكون شائقة حتى لِمَنْ يجهل مصر والسودان وصحراء ليبيا.

كان أكبر همي طول أيام حياتي، أن أجوب صحراء ليبيا وأصل إلى «الكفرة»، وهي مجموعة من الواحات في صحراء ليبيا لم يزرها قبلي إلا مستكشف واحد، فقد نجح المستكشف الألماني المقدام «رولفس» سنة ١٨٧٩ في القيام بهذه الرحلة، ولكنه لم يخرج منها إلا بحياته، بعد أن خسر جل مدوناته ونتائج ملاحظاته العلمية.

وقد أسعدني الحظ سنة ١٩١٥ بلقاء السيد إدريس السنوسي في القاهرة عند عودته من الحج، والسيد إدريس هو شيخ الطائفة السنوسية التي مقر ملكها واحة الكفرة، وفي سنة ١٩١٧ أوفدت في بعثة إلى السيد إدريس المذكور مع اللواء تالبوت باشا، أحد مشاهير الضباط البريطانيين المنتدبين للخدمة في الجيش المصري، كان قد ترك الخدمة العسكرية، وعاد إليها عند نشوب الحرب العظمى.

وكان أهم مقاصد هذه البعثة، الاتفاق مع السيد إدريس على منع العرب من الاعتداء على حدود مصر الغربية، ومنع القلاقل التي قد تُحدثها الحرب.

وقد انتهزت هذه الفرصة، فجددت علاقاتي مع السيد إدريس في «الزويتينة» وهي ثغر صغير بالقرب من «جدابيه» في برقة وكاشفته بغايتي، وقد عطف عليَّ السيد إدريس وسألني أن أحيطه علمًا بموعد سفري، متى شرعت في القيام بهذه الرحلة، حتى يقدم لي المساعدة والرعاية اللتين لا بد منهما لكل مسافر يقصد «الكفرة».

وقابلته بعد ذلك في «عكرمة» بالقرب من «طبرق» وأخبرته بعزمي على القيام بالرحلة بعد انتهاء الحرب الأوروبية، وكان معي إذ ذاك في «طبرق» المستر فرنسيس رود، وهو صديق لي قديم ترجع صلتنا إلى عهد الدراسة في كلية «باليول» بجامعة أكسفورد فاتفقنا أن نترافق في هذه الرحلة.

وانتهت الحرب فجاءتني مسز روزيتا فوربس — وهي الآن مسز مجراث — وتقدمت إليَّ بخطاب من صديقي رود راجية أن ترافقنا كذلك، فبدأت برسم خريطة لرحلة يرافقاني فيها، ولكن الموانع حالت دون مصاحبة المستر رود لنا، وقد أوشكنا أن ننتهي من كل ترتيب، وانتهى الأمر بسفر مسز فوربس معي سنة ١٩٢٠ مزودين بمساعدة السيد إدريس الذي قدَّم لنا ما يلزم للقافلة، فوصلنا الكفرة في يناير من سنة ١٩٢١.

ولكن هذه الرحلة إلى الكفرة لم تزدني إلا حبًّا في التوغل في أحشاء تلك الصحراء الممتدة وراءها، وكان هناك إشاعات عن واحتين مجهولتين، لا يعرفهما كثير من أهل الكفرة إلا في أساطير الأولين وأخبارهم.

فلما عدت من الرحلة الأولى إلى القاهرة، صممت على القيام برحلة ثانية، وعزمت على الانحدار إلى الجنوب مخترقًا تلك الصحراء المجهولة إلى واداي والسودان، وزادني رغبة في القيام بهذه الرحلة الثانية، أن كل ما كان معنا في الرحلة الأولى من المعدات العلمية لم يزد عن بارومتر وبوصلة؛ ولذلك لم يكن في وسعي أن أقوم بعمل خريطة دقيقة للجهات التي اخترقناها، ولا أن أضبط مواقع الآبار وواحات الكفرة بالدقة، فداخلني ميل شديد إلى التحقق من النتائج العلمية التي وصل إليها «رولفس» من مكان الكفرة على الخريطة الجغرافية.

وفي سنة ١٩٢٢ تشرفت بعرض خطة رحلتي مخترقًا الصحراء، من البحر الأبيض المتوسط إلى السودان، على حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول، الذي كان قد تفضل فأبدى اهتمامًا برحلتي الأولى، ومنحني نوط الجدارة فأظهر عناية شديدة بفكرتي، وسمح بإعطائي إجازة طويلة، وتفضل بإصدار أمره إلى الخزينة المصرية بمنحي جميع النفقات التي تتطلبها هذه الرحلة، فلجلالته مني تقدير العبد المخلص، الذي يجهر بأن كل ما وُفِّقَ إليه من النجاح في هذه الرحلة، راجع إلى معونة جلالته الثمينة.

figure
شاطئ السلوم.

وانتهيت من ترتيباتي وجمعت حوائجي في ديسمبر سنة ١٩٢٣ في دار أبي؛ حتى أحظى ببركته وصالح دعواته، وفقًا لتقاليدنا القديمة، قبل بدئي بعمل هذه الرحلة.

سدد الله خطاك

«سَدَّد الله خُطَاك» تجاوبت أركان الغرفة الفسيحة بهذه الدعوة الطيبة، التي امتزجت ألفاظها بما انتشر في الجو من ضوء الشموع وسحب البخور المتناثرة.

وكانت إلى جانب الحوائط، أكداس من حوائج السفر بين صناديق متفاوتة الأحجام من كبير وصغير وقِرَب الماء «وفناطيس» من الصفيح لحمله أيضًا، وحقائب مفعمة زادًا، ورزم من الخيام وجعب مختلفة من الجلد والمعدن تحوي بعض الأجهزة العلمية وكذلك أمتعتي الخاصة.

سكنت جَلَبتنا من إعداد كل شيء بعد حزمه وترتيبه، فوقفنا وسط الغرفة واجمين وليل مصر يسدل ستاره، والنسيم يحمل إلينا من ناحية الحديقة، تلك الهمهمة الخافتة التي تسري عند المساء في أحياء القاهرة.

كنا ثلاثة، أنا وعبد الله وأحمد، أما عبد الله فنوبي من أسوان وثقت به الثقة كلها، وكان عند حسن ظني به، وأما أحمد فنوبي من أسوان أيضًا صحبته في رحلتي، فكان طاهيها البارع وروحها الهفافة.

ووقف أمامنا شيخ طويل القامة ذو لحية بيضاء مسترسلة، يلبس قفطانًا من الحرير البرتقالي، وينبعث من وجهه الوسيم المتغضن، نور الصلاح والطمأنينة والتقوى، وتتساقط بين أصابعه الطويلة المنشرحة حبات سبحة من الكهرمان، ووقف إلى جانبه خادم يحمل مبخرة من الفضة، يتصاعد منها بخور زكي الرائحة ينشر في فضاء الغرفة حلقات رقيقة.

وضع ذلك الشيخ التقي سبحته جانبًا ثم رفع يديه نحو السماء، وتمتم بصوت خافت من فعل السنين، واضح من أثر اليقين، دعاء يستمطر به رحمة الله بالراحلين، ويضرع إليه تعالى أن يسدد خطانا، ويكلل بالنجاح مسعانا ويعيدنا سالمين غانمين.

وجعل يغادي في أنحاء الغرفة ويراوح بالمبخرة على كل حزمة من حوائج السفر مرددًا دعاء قصيرًا.

تلك هي حفلة التبرك، حفلة مباركة الأمتعة والحوائج التي استنَّتها العرب وجعلتها الأجيال المتعددة واجبًا مقدسًا قبل الرحيل، وقد فرَّط فيها الخلف وقلَّ استعمالها في أيامنا الأخيرة، أما أبي الذي يضيء سبل حياته سنا العرفان، ويشع فيها نور الرسول، فقد أبى إلا أن يؤدي هذا الواجب لابنه الوحيد المقبل على سفر طويل بعيد.

وقفت أمام ذلك الشيخ الصالح أتلقى البركة، فلم أعد ذلك المصري المتحضر، وإنما كنت بدويًا يعود إلى الصحراء حيث أقام أجداده وأسلافه قوائم خيامهم، ثم درت ويممت أبي.

لقد قضيت وإياه خمسة عشر عامًا — منذ أُرسِلت لتلقي العلم في أوروبا — تختلف مشاربنا وآراؤنا وتتباعد طرائقنا في الحياة، على أنني طالما تمنيت لو أني توفرت على درس ما مال إليه من العلوم، حتى أقتبس من معارفه الواسعة وأغترف من بحر علمه الغزير.

سمعته ذات يوم يقول عني لأحد زملائي: «إنه مخلوق لغير زماني فدعه يحصل ما يقتضيه زمنه من العلم والتهذيب.» وهكذا نشأت في غير نشأته.

وهكذا كان شأن أبي وشأني، أما الآن، وقد أقبلت على العودة إلى الصحراء التي نشأ فيها أجدادي فقد التقت خواطرنا، واجتمعت أفكارنا واتحد شعورنا، وعرف كل منا ما يخالج ضمير الآخر فتفاهمنا صامتين، وغشينا سكون قصير ثم وضع يديه على كتفيَّ وقال: «سِرْ يا بني رافقتك السلامة، وَسَدَّد الله خُطَاك ووهبك القوة وأنجح مسعاك.»

بوركت حوائج السفر وخرج عبد الله وأحمد إلى السلوم، بما ثقل منها وخليا لي الأدوات العلمية وآلات التصوير … وفي اليوم التاسع عشر من شهر ديسمبر أقلعت بي الباخرة من الإسكندرية إلى السلوم.

•••

ما كدت أنتهي من وضع هذا الكتاب حتى فوجئت بموت أبي، ففقدت بفقده خير النصراء النصحاء، فقدت الأب البار الشفيق، كنت إذا اشتدت صروف الحوادث واستحكمت حلقاتها، أجد عنده الكلمة التي تُفَرِّج الكرب، والنصيحة التي تفتح أبواب الفرج، والعظة التي تعيد للنفس المضطربة بأسها، وللحواس المضعضعة قوتها، وللعزيمة المزعزعة ثباتها.

كان الصديق الصادق إذا ضاقت السبل وانقطعت الأسباب، وتعقد الأمر وتكاثفت الظلمات، واشتدت الحيرة، فلا عجب إذا كان مصابي بفقده جللًا، وخطبي بموته جسيمًا، وإذا أحسست بعد غيابه بفضاء واسع وفراغ كبير، كان يملؤه صلاحه وتقواه، وسعه الله برحمته وأسكنه فسيح الجنة والرضوان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤