حياة سافو

لا نعرف إلا القليل عن حياة هذه الشاعرة ذات الاسم الغريب، «بسافو» كما كانت تسمي نفسها، أو «سافو» كما كان يخاطبها شاعر آخر معاصر لها ينتمي إلى بلدها نفسه، وهو ألكايوس.١ والقليل الذي نعرفه عن حياتها ونستخلصه من أشعارها وأغانيها كما نقله إلينا المؤرخون لا يخلو من الخلط والاضطراب، كما أن الكثير من أحداث هذه الحياة نفسها لم يكن دائمًا كبير الأثر على شعرها وفنها؛ فالعصر الذي ازدهرتْ فيه شهرتها يحدده المؤرخون القدماء تارة حوالي عام ٦١٢/ ٦٠٩ قبل ميلاد المسيح، وتارة أخرى حوالي عام ٥٩٨ق.م. ومعظم الشواهد التاريخية تقول إنها عاشت في الفترة التي حكم فيها ألياتيس والد كرويزوس مملكة الليديين المجاورة لجزيرة لِسبوس التي وُلدت فيها سافو؛ أي في الفترة الواقعة بين عامي ٦١٠ و٦٥٠ق.م. (راجع الشواهد التاريخية فيما بعد).

وسواء كانت شهرتها أو كانت سنة ميلادها تقع فيما حول هذا التاريخ، فقد ولدتْ على حدود القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، في فترة من أهم الفترات في التاريخ القديم؛ مالت فيها حضارات للمَغيب، وراحت شمس حضارة جديدة تتحول ناحية الغرب لتبزغ من بلاد اليونان ومستعمراتها في البحر الإيجي.

في هذا العصر الغنائي — كما يؤثر البعض أن يسموه تمييزًا له عن عصر العلم والفلسفة والديمقراطية الذي سيظهر بعده بقرنين — وُلدتْ هذه الشاعرة. وفي هذه الفترة التاريخية نفسها وُلد بوذا في الهند البعيدة، وحكم نبختنصر العظيم في بابل، ودعا إرميا وحزقيال في فِلسطين إلى النبوة، وحارب بسمتيك فرعونُ مصر الآشوريين، واستولى كيروس مؤسس إمبراطورية فارس على السلطة، وشرَّع صولون في أثينا، وراح حكماء الإغريق السبعة ينطقون بحكمتهم الخالدة، في حين كانت سافو تنشد أغاني الحب. وليس فيما بين أيدينا من أغاني سافو ما يمكن أن نقول عنه إنها أَلَّفتْه في شبابها؛ فهي إن رجعتْ في بعض الأحيان بالذاكرة إلى صباها وجدناها تروي لنا كيف كانت تجمع الأزهار في باقات، وتذكر لنا ما علَّمتْها إياه أمها «كلايس» من نصائح الأمهات إلى بناتهن، وربما تكون قد ذكرتْ شيئًا عن أبيها (الذي يجهل المؤرخون القدماء كل شيء عن نَسَبه، ويقولون إنه ربما يكون قد مات في أثناء الحروب الطويلة التي اشتركتْ فيها جزيرة لِسبوس مع أثينا للاستيلاء على الدردنيل، ويذكرون في بعض الأحيان أنه كان يسمى سكابا ندرونيموس، وكيف أنه مات وهي بعد في السادسة من عمرها). ولسنا نجد في أغانيها شيئًا عن فرحتها بالحب أو بالزواج، ولا عن سعادتها كزوجة أو أُمٍّ شابة، وإن كنا نعرف تمامًا أنها رزقتْ ابنةً سمتْها على اسم أمها كلايس.

وأشعارها التي بقيتْ بين أيدينا، وهي على ما هي عليه من شذرات مهلهلة، لا تسمح لنا بمعرفة شيء كثير في هذا الصدد. أضف إلى ذلك أن الحب الذي يجمع بين الرجل والمرأة لم يكن أبدًا هو الذي يحرِّك قيثارة الشاعر اليوناني بالغناء. وإذا روى لنا المؤرخون القدماء أنها تزوجتْ من رجل ثري من جزيرة أندروس يدعي كركيلاس، فمن الخير أن نتريث في قبول هذا الخبر، حتى تثبته الاكتشافات التي قد تستجد في المستقبل إثباتًا قاطعًا.

يبدو أن سافو قد انتقلتْ قبل زواجها من مدينة إريزوس التي ولدتْ فيها على الشاطئ الجنوبي من جزيرة لِسبوس إلى مدينة ميتيلينه عاصمة هذه الجزيرة التي اشتهرتْ بالغناء وحب الحياة، والتي أخرجت لليونانيين نفرًا من أشهر المغنين من أمثال ترياندروس وأريون. وكان شقيقها الأصغر لاريخوس يشارك بعض النبلاء في تقديم الخمور إلى الضيوف الذين يحضُرون إلى البيت الذي تشغله قاعة المدينة، ويظهر أن ذلك كان نوعًا من التكريم لا يناله إلا أبناء الشرفاء. أما شقيقها الأكبر خاراكسوس فقد كان له دور كبير في حياتها، كما كان مصدر كثير من عذابها الذي عبَّرتْ عنه في بعض أغانيها. فقد غادر خاراكسوس مدينة ميتيلينه في رحلة تجارية إلى مصر أو على التحديد إلى المستعمرة الإغريقية ناوكراتيس في الدلتا، شأنه في ذلك شأن الكثير من أبناء النبلاء الذين اتجهوا في ذلك العصر إلى التجارة بعد أن كان أسلافهم ينظرون إليها نظرة الاحتقار. غير أن الشاب النبيل لم يحاول أن يتاجر أو يكسب شيئًا، بل راح ينفق ثروته بلا حساب على فاتنة مصرية اسمها «دوريخا» يبدو أن جمالها واحمرار خدودها قد أسرا قلبه، فاشتراها وعاد بها إلى وطنه! ومع أن هذا التصرف لا يَعيب الشاب ولا يسيء إلى شرفه، فقد استنكرتْه شقيقته وحاولتْ أن ترده عنه بكل ما تستطيع. كانت ترى أنه يسيء إلى سمعة أسرتها وطبقتها، وأن من واجبها نحو أخيها — الذي تقوم منه مقام الأم والصديقة والمربية — أن تنهاه عنه باللوم والتهديد والرجاء.

ولسنا ندري على وجه التحديد ما انتهتْ إليه جهودها في هذا السبيل. وقد لا يكون لذلك أيضًا من أهمية تذكر إلى جانب ما نلاحظه من تأثير هذه الحادثة على شِعرها. فها نحن أولاء نرى في إحدى أغانيها كيف يحتل عذاب الآخرين مكان العذاب الشخصي، وكيف تنفعل بآلام شقيقها على الرغم من كل ما وجهتْه إليه من تأنيب واعتراض. وها هي ذي تخاطبه كأنها تسترضيه وتطلب منه أن يغفر الذنب الذي اقترفتْه في حقه:

كيبريس،٢ وأنتنَّ يا بنات نيرويس،٣
أعدن إليَّ أخي معافًى!
كل ما يتوق إليه قلبه
حققنه له!
ليجد كل ما افتقده ذات يوم.
لِتَعُدِ البهجة للأحباب الخلصاء.
لتحل النقمة على أعدائه!
رافقيه أنت يا كيبريس إلى الوطن،
أبعدي عنه العواصف الشريرة،
احميه على طريق العودة!

ومع أننا لا نكاد نعرف شيئًا عن حياة سافو العائلية، فنحن نعرف على الأقل أنها كانت زوجةً وأمًّا. وليس فيما بقي لدينا من شعرها بيت واحد توجهه إلى زوجها، كما أن الشواهد التي لدينا عن ابنتها كلايس تأتي من طريق غير مباشر في أقوال الكُتَّاب المتأخرين عنها، أو من إشارة «أوفيد» في الرسالة التي كتبها على لسانها إلى فائون حيث يقول:

ومع ما افتقدته من أشياء تعذبني عذابًا لا حد له،
تضاف إلى بقية الهموم ابنتي الصغيرة.

ولكن هناك بعض الشذرات القليلة التي تتحدث فيها عن ابنتها أو إليها، حيث تقول لها في إحداها إنه لا ينبغي لها أن تبكيَ، في بيت ينشد فيه الغناء:

لأنه ليس من الصواب أن تتردد الشكوى
في بيت عباد ربات الجمال، هذا ما لا يليق بنا.

ونغمة التأنيب هذه على ما فيها من رقة تدل على أن سافو كانت تأخذ عملها في خدمة ربات الفن والجمال مأخذ الجد الخالص، وأنها كانت تحاول أن تبصِّر ابنتها بمسئوليات ذلك العمل. وهي في مقطوعة أخرى تعبر عن حبها لابنتها في هذه الأبيات:

لي طفلة جميلة شبيهة بالورود الذهبية،
كلايس «هو اسمها» … حبيبتي،
فلن الحبيبة بها ولا بأي مملكة تفوقها في البأس والثراء.٤

فقد كانت مملكة الليديين المجاورة لجزيرتها في ذلك الحين شديدة البأس بالغة الثراء تحت حكم ألياتيس، ولكن ابنتها كانت أغلى عندها من أغنى ممالك الأرض، والحب عندها — سواء أكان لابنتها أم لإحدى فتياتها — أعلى قيمةً من كل ما يعتز به الناس من متاع «الأرض السوداء».

ظلتْ مدينة ميتيلينه عشرات السنين منذ هذه الفترة المبكرة من الحياة اليونانية مسرحًا للعواصف السياسية والاضطرابات الداخلية، شهدتْ فيها استيلاء الطغاة على السلطة، كما شهدتْ مصارعهم على أثر منازعات طويلة دامية. ولم يكن لهذه العواصف أن تمر على المدينة بغير أن تترك أثرها على بيت سافو؛ فقد رأت كيف يستولي الطاغية ميلانكروس على الحكم، وكيف يقصيه عنه بيتَّاكوس وأشقاء ألكايوس، وعاشت في ظل الثورات الطويلة ضد ميرزيلوس، وشهدت نفيه عن الوطن ثم عودته إليه وموته في النهاية، وجربتْ كل هذه الأحداث المريرة التي تسجلها أشعار ألكايوس في صورة حية. وقد يدهش القارئ لأغانيها ألا يجد في شعرها أثرًا لذلك كله، وأن يفتش فيه عن حياة الشارع فلا يجد منها شيئًا، وأن يعجب كيف استطاعت أن تحتفظ بعالمها الشعري كالجزيرة الآمنة وسَط هذه التيارات السياسية المصطخبة من حولها، وقد يعزو ذلك إلى نزعتها الإنسانية الخالصة أو إلى طبيعتها الأنثوية التي تجعل المرأة دائمًا أكثر اهتمامًا بمصاير القلوب منها بأخبار الحروب. ولكن الكشوف الحديثة سُرعان ما تصحح رأيه، وتثبتُ له أن الشاعر لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن أحداث عصره؛ لأنه هو المرآة الصافية التي ينعكس عليها هذا العصر. ففي عام ١٩٣٩م عُثر على القصيدة «السياسية» الأولى في شعر سافو، أو بمعنًى أصح: على قصيدة تعبر عن تأثير التغييرات السياسية على حياتها. كما يرجح بعض الشراح في السنوات الأخيرة أن يكون اسم الطاغية مرزيلوس قد ورد في إحدى أغانيها. ومهما يكن من شيء فقد اتفقتْ كل الشواهد التاريخية على أن سافو — مثلها في ذلك مثل صديقها الشاعر المعاصر لها ألكايوس — قد نُفيتْ من وطنها فترةً من الزمن (تقدر على الأرجح بين عامي ٦٠٣ و٥٩٥ق.م.)، واضطُرتْ إلى مغادرة جزيرتها لسبوس وهي في حوالي الرابعة عشرة من عمرها إلى مدينة «سيراقوصة» بصقلية، وقد كرمتْ ذكراها بعد ذلك وأقامت لها تمثالًا. وسواء أكان حكم النفي هذا قد وُجِّه إلى شخصها أم إلى أحد أفراد عائلتها (كزوجها أو أحد أشقائها الثلاثة الذين لا نجد في شعرها أي دليل على اشتراكهم في تلك المنازعات السياسية) فلم يكن من طبائع الأمور أن تمر هذه الفترة التي قضتْها طريدةً عن وطنها دون أن تترك أثرها على شاعرة مثلها. ولا يمنع من ذلك أن يكون التجانس والاتزان هو الانطباع العام الذي نحس به من شعرها، بل لعله أن يكون دليلًا على ما نقول: فقد يكون علينا أن نسأل أنفسنا كم احتملتْ من عذاب وكم كافحتْ من ألم لكَي تحتفظ بالسلام والسكينة في نفسها وفي شعرها؟

وبعد سنوات قضتْها في المنفى سُمح لها بأن تعود إلى الوطن مع ابنتها الحبيبة كلايس، وأغلب الظن أنها عادت إليه في الفترة ما بين عامي ٥٩٠ و٥٨٠ق.م، بعد أن عانى الشعب ما عاناه من ويلات الاضطرابات السياسية، وبعد أن اختار بيتاكوس ليهدي سفينته إلى بر الأمان، وهو الرجل نفسه الذي اتهمه شباب النبلاء بخيانتهم حين تآمروا على الطاغية مرزيلوس، والذي هاجمه ألكايوس في شعره أمرَّ هجوم، وذكرتْه سافو نفسُها في بعض أغانيها في لهجة لا تخلو من المرارة حين قالت موجهةً الحديث إلى ابنتها:

ما من (نسيج) ملون أحمله لك
يا صغيرتي!
ومن أين لي بمثل هذه الزينة؟
«ألقِ الذنب» على حاكم ميتيلينه،
«الذي جعل الأمور تصل إلى هذا الحد».

وعادت سافو إلى وطنها لتؤدي رسالةً ظلت تنهض بأعبائها إلى آخر نفس من حياتها؛ فقد راحت تتعهد في بيتها مجموعةً من الفتيات من أكرم العائلات في جزيرتها وفي مدن أخرى مثل: ميليه، وكولوفون، وسالاميس، وتلقنهن ما يمكن أن نسميه اليوم «التربية الجمالية» فتدربهن على فنون الرقص والعزف والغناء، وتعلمهن آداب اللياقة والأناقة وإعداد الباقات والأكاليل، وتُشركهن في حفلات الزفاف وفي الأعياد التي كانت تتقرب بها المدينة للآلهة، وفي مسابقات الجمال التي كانت تقام تكريمًا لهم في المعبد الأيولي المقدس على شاطئ الخليج الكبير في الشمال الغربي من مدينة ميتيلينه. ومن العسير علينا اليوم أن ندرك مدى تأثير هذه التربية على نفوس الفتيات، أو نقدرَ قيمتها عند أبناء تلك الحضارة. لم يكن ذلك المعهد الذي أقامته سافو في بيتها هو الوحيد من نوعه في المدينة، بل كانت هناك منافِسات كثيرات لها ذكرتهن في مواضع عديدة من أغانيها، مثل: أندروميدا وجورجو.

ولم تكن مهمة مثل هذا المعهد — إن جازت هذه الكلمة استنادًا إلى تسمية سافو نفسها له بمسكن ربات الجمال «مويزوبولون دوموس»٥ — هي تخريج راقصات أو مغنيات أو حتى كاهنات يَقمن على خدمة معابد الآلهة، بل كانت مهمتها هي خلق نفوس رقيقة ذكية جميلة تقوم على خدمة ربات الجمال، سواء في الحياة الاجتماعية أو في معبد الإلهة أفروديت،٦ مما يمكن أن نسميَه رابطة «ثيازوس»٧ تستبعد الرجال من عضويتها وتكرس حياتها تمامًا لعبادة إلهة الجمال والاقتداء بمثلها الأعلى، قاطعةً كل صلة لها بالعالم الخارجي. ولم تكن كذلك مهمة سافو مع تلميذاتها وصاحباتها مثل: أثيس وأناكتوريا وجونجيلا وغيرهن لتقف عند هذا الحد، فالحنان الدافق الذي تخاطبهن به في أغانيها يدل على أنها كانت تعطيهن أكثر مما يعطيه المعلم عادة لتلاميذه؛ كانت تعطيهن كل الحب الذي يقدِر على بذله إنسان، وكانت ترتبط بهن برباط العاطفة التي لا تتخلى عن موضوعها وإن تخلى هو عنها أو غدر. ومع ذلك فلم تكن عاطفة حب أعمى، فكم من مرة تلوم وتؤنب وتنصح وتُذكِّر بالعهد القريب أو البعيد، وكم من رقة تبذلها وهي تشجع وتواسي على الرغم مما يثقل قلبها من أحزان. لقد كان من قدر هذه الشاعرة أن تعيش لغيرها، وأن تعطي وتبذل من نفسها ولو كان الجحود هو جزاؤها الأخير. لقد كانت تتابع بقلبها مصير هؤلاء الفتيات حتى بعد أن يخرجن من بيتها، كما تشهد بذلك بقايا كثير من أغانيها، وها هي ذي تقول في إحداها:
وليس من العدل يا ميكا
(أن تنسي صداقتي)،
أما أنا فسوف لا أتخلى عنك.

وهي في هذا البيت الأخير تقول الكثير، لا، بل تقول كل شيء. وعندما كانت تدق ساعة الوداع، وتأتي اللحظة التي تغادر فيها إحدى فتياتها بيتها إلى بيت الزوجية، كانت سافو تكتب بنفسها الأغاني التي تنشَد في حفلة زفافها، كما كانت تعاني من جديد ألم الفراق، وتجرب معنى الزهد والتخلي، وتَحني رأسها لقدر لا مفر من التسليم به، ثم تمضي في خدمتها لربات الجمال، وتمجيدها لأفروديت، ولا تنقطع أغنياتها وأناشيدها لربة الحب والجمال حتى بعد أن تُثقل الشيخوخة كتفيها، وتكسو بالشيب شعرها. إن هذا القدر المحتوم لن يمنعها من أن تخاطب إحدى فتياتها قائلةً:

خذي القيثارة وغننا عن أفروديت،
التي تحمل زهرات البنفسج العطرة على صدرها.

وعندما ماتت سافو — ولسنا نعرف حتى اليوم تاريخ وفاتها — أقيم قبرها على أرض الوطن، وأقامت لها مدينة سيراقوصة التي قضت فيها سنوات النفي تمثالًا، وضربتْ مدينتا إريزوس وميتيلينه صورتها على عُملاتها، وظهر رسمها على كثير من الأواني والزهريَّات التي لا تزال باقيةً إلى اليوم. وكان لسحر شِعرها وشخصيتها أكبر الأثر على كثير من معاصريها، يتضح ذلك في القصائد التي كتبها الشاعر ألكايوس في تمجيدها والتغني بذكرها. وكانت إذا نبغتْ شاعرة في الأجيال التالية وُصفتْ بأنها تلميذة سافو، كما كان الحال مع الشاعرة إيرينا التي عاشت بعدها بقرون عديدة، بل إن الأمر ليبلغ بأحد الشعراء المجهولين في العصور التالية أن يقول: «إني أُحضر لك عسلًا جنَيتُه من أغاني سافو». وأصبح اسمها على مدى القرون صفةً تطلق على أغنيات يحس الناس فيها شيئًا من سحر أغانيها وصدقها؛ حتى أصبحت الأغنية توصف بأنها «سافية» إذا توافرت فيها تلك الخصائص التي توافرت لقصائدها. وهناك من الشواهد التاريخية ما يروي لنا كيف أوضح علماء اللغة من مدرسة الإسكندرية لأحد تلاميذ أرسطو، وهو المؤرخ خاميلون، أنه يستشهد بقصيدة لسافو مع أن «كل إنسان يستطيع أن يرى بوضوح أنها لا يمكن أن تكون لها». وقد استطاع علماء مدرسة الإسكندرية الذين يعرف العالم فضلهم في تنظيم التراث الأدبي الذي وصل إليهم، أن يجمعوا أعمال سافو الشعرية — التي بلغ حجمها فيما يقال ما يساوي اثني عشر نشيدًا من أناشيد هوميروس في ملاحمه — وأن ينشروها في ثمانية أو تسعة كتب على ما يرويه سويداس وشيشرون. وكل ما عُثر عليه حتى الآن من أوراق بردية وما سيُعثر عليه في المستقبل ليس إلا نسخًا من تلك الطبعة التي تولى نشرها علماء الإسكندرية. ولا يُستبعد أن تكون هذه الطبعة الأصلية قد حوت من القصائد ما يمكن الشك في نسبته إليها. وقد يكون من المؤلم حقًّا أن تنصرف شكوك العلماء إلى تلك الأغنية العذبة التي اشتهرتْ نسبتها إلى سافو، بحيث يرجِّح هؤلاء العلماء أنها كانت أغنيةً شعبيةً ذاعت على أيام سافو أو بعدها بقليل. ومهما يكن الأمر فلن يمنعنا ذلك من الإعجاب بتلك الأغنية التي ما زالت تسحرنا بصدقها وبساطتها وإيجازها، وتكاد وحدها أن تجمع كل ما ننتظره من الشعر الغنائي الأصيل:

الآن قد غاب القمر،
وغابت الكواكب السبعة،
انتصف الليل، ووقت الانتظار فات.
وأنا أنام وحدي.
وإذا كانت سافو قد نَعِمَتْ على مدى الأجيال بكل هذا التكريم، فعُدَّت أحد الشعراء الكلاسيكيين التسعة الذين يرى فيهم النقاد مبدأ الشعر الغنائي وكماله في آن واحد (وهم: ألكمان وستيزيخوروس وألكايوس وأناكريون وأبيكوس وسيمونيدس وبندار وباخيليديس) فقد وُجد بين المؤرخين من نسجوا حولها الخرافات والأساطير، ولطَّخوا اسمها بالوحل في بعض الأحيان. فقد راح بعضهم — مثل الكاتب ديديموس في القرن الأول قبل المسيح، والمؤرخ خاميليون والشاعر هرمزياناكس على أيام الإسكندر — راح يخترع الأقاصيص عن شذوذها الجنسي، ويؤلف النوادر تارةً عن غرامياتها مع الشاعر المعاصر ألكايوس (الذي اعتقد أرسطو نفسه أنه أعلنها بحبه) وتارةً أخرى مع أرشيلوخوس وهيبوناكس وأناكريون، بل إن موتها لم ينجُ من بعض الحكايات الشعبية الخرافية التي نُسجتْ حوله، وكان سببَها في أغلب الظن هو إساءةُ فهم بعض قصائدها. فقد قيل عنها إنها أحبتْ شابًّا يدعى فائون وقتلتْ نفسها من أجله. والواقع أن فائون كان اسمًا آخر لأدونيس معشوق أفروديت الشاب، وأنها كانت تحبه كما كانت تحب أدونيس، روح الربيع والخضرة الذي كان يموت ويحيا في كل سنة، أو الذي كان يكفي أن يحب لكي يموت. ويبدو أن سافو كتبت عنه أغنيةً تعلنه أفروديت فيها بحبها، وأن ذلك قد فُسِّر على أن سافو كانت تحب شابًّا اسمه فائون. وقد عبر أوفيد عن هذا الخطأ في قصيدة بعنوان: «رسالة سافو إلى فائون»، يصفه فيها بأنه شاب جميل، وأن أفروديت حوَّلتْه من الشيخوخة إلى الشباب جزاءً له على خدمة أدَّاها إليها، ويرتبط هذا بقصة أخرى تروي أن سافو حين اشتد بها اليأس من الحب، قد ألقتْ بنفسها من فوق الصخرة الليكودية إلى البحر. وقد يكون مرجع هذه القصة أيضًا إلى وهم شعبي خاطئ اعتقد معه الناس أن فائون كان يسكن بعيدًا عن لويكاس Leucas وأنه تحول هناك إلى مراكبي. والحقيقة كما تقدم هي أن سافو كانت تراه شبيهًا بأدونيس، وأنها كانت تتحدث إليه كما تتحدث إلى أدونيس.٨

وقد استغلت الكوميديا بعد ذلك كل هذه القصص والخرافات فراحت تعرضها في روايات عديدة حملتْ كلها اسم سافو، وراح مؤلفوها يتنافسون في عرض فضائح الشاعرة المسكينة! ولم يكن عجيبًا بعد هذا كله أن تُتَّهم سافو — في زمن لم يعد يفهم شيئًا عن طبيعة «الإيروس» الذي كان يربط بين سافو وبين فتياتها برباط الحب والإخلاص — بتهمة الشذوذ المَشين. ولسنا في حاجة إلى تتبع هذه التهم كلها من هوراس إلى أوڤيد ومارتيال حتى القرن التاسع عشر، ويكفي أن نتذكر أن التهمة نفسها كان من الممكن أيضًا أن توجه إلى شهيد الحكمة العظيم سقراط، لولا أن سخريته الساحرة كانت أقوى من كل التهم التي وُجهت إليه. فكلاهما — الشاعرة والفيلسوف — كان يتأجج في روحه ذلك الحب — الإيروس — الذي يدفع صاحبه إلى تربية الشباب والأخذ بأيديهم على مدارج الحكمة والخير والجمال.

١  انظر الملحق في نهاية الكتاب.
٢  نسبة إلى قبرص، وهذا أحد أوصاف أفروديت التي كانت عبادتُها سائدةً هناك.
٣  هو عند هوميروس «عجوز البحر»، الإله الطيب الحكيم، والد النيريديات أو عذارى البحر الجميلات الرحيمات.
٤  أرجو أن يلاحظ القارئ هنا وفي كل النصوص القادمة أن النقط تشير إلى فجوات في النص الأصلي، أما ما يوضع بين أقواس فهو تكملة من المترجمين واجتهاد في فهم السياق.
٥  Moisoplon domos.
٦  Thiasos.
٧  لم تكن أفروديت إلهة الحب فحسب، أو هي لم تكن كذلك بالدرجة الأولى، فالشهوة البدنية والانفعال الغريزي كانا من شأن إيروس أو العشق، أما أفروديت فكان مجال سلطانها أوسع من ذلك بكثير: فهي إلهة الأزهار والبحر المبتسم، وقوتها تكمن في السحر الذي تلقيه على المرئيات؛ ولذلك فقد كان خادماها الملازمان لها — كما صورهما فيدياس  pheidias — هما: إيروس وبيثو، أو الشهوة والإقناع. ولما كانت أسمى صور الجمال كما تصوَّره الإغريق تتجلى في جمال الجسم البشري، فقد كانت الإلهة التي تمنحه مسئولةً كذلك عن السحر الذي يأخذ بألباب من يراه. فأفروديت أشبه ما تكون بقيمة مطلقة أو بنور سحري يفيض على الحياة والأحياء من حين إلى حين، ويجعل البشر يهيمون بها حبًّا إلى الحد الذي قد يدفعهم إلى ما يقرب من الجنون؛ ولهذا كان الإغريق ينظرون إلى هدية أفروديت كما لو كانت نوعًا من الجنون أو الفتنة التي تذهب بعقول البشر، ويعتقدون أن حزامها يحتوي على فنون من الإغراء، «تسلُب حتى ألباب الحكماء». وقد كانت الفتنة التي يثيرها هذا الجمال الجسدي على اختلاف صوره، والعواطف التي يبعثها في نفوس الفتيات اللائي لم يؤثر الزواج ولا إنجاب الأطفال على حواسهن، هو المادة التي نسجتْ منها سافو أغانيها (س. م. بورا، الشعر الغنائي عند اليونان، ص١٨٩).
٨  س. م. بورا، الشعر الغنائي عند اليونان، ص٢٠٢-٢٠٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤