أغاني الزفاف

ظلت أغاني الزفاف (أبيثالاميا) تحتل منزلةً مهمةً بين أشعار سافو، سواء في طبعتها السكندرية أم في ترجماتها الأوروبية. وهي أغانٍ كانت تُنشَد أمام خِدر العروسين (ثالانوس) وتمتد مع حفل الزفاف إلى آخر الليل. وكانت تلقيها في معظم الأحوال جَوقة من الفتيات (يصح أن نفترض أنهن كن ينشدن تحت قيادة واحدة منهن) أو جَوقة من الفتيات وأخرى من الشبان على سبيل التبادل، في تنافس مرح لا يعرف المنتصرين ولا المهزومين. ولسنا نعرف اليوم على التحقيق ما كان يجرى بالتفصيل في حفلات الزفاف في تلك الفترة المبكرة من حياة اليونان — وإن كان العلماء يعرفون أنه كانت توجد على جزيرة لِسبوس كلمة خاصة للعروس١ وأخرى للهدايا٢ التي تهدى إليها من أقاربها — ومع ذلك فيمكننا أن نتصور أنها كانت تشبه في بعض الوجوه حفلات الزفاف التي نعرفها اليوم في بلاد اليونان أو في بعض بلاد البحر الأبيض المتوسط، وأنها كانت حفلات شعبيةً تُنشَد فيها الأغاني الشعبية وتنطلق فيها الروح الشعبية على سجيتها. وما زال موكب العروس في طريقه إلى بيت الزوجية يحيط به حاملو المشاعل من الجانبين، وتشارك المدينة أو القرية كلها فيه بالمرح والغناء والتبريك، صورة حية في قرانا المصرية تشبه من قريب ما نجده في وصفها عند هوميروس وهزيود وسافو.

وأهم ما في هذه الأغاني أنها تكشف لنا عن مشاعر سافو نحو تلميذاتها وصاحباتها، وعن حقيقة العلاقة التي كانت تربطها بهن. وتصل هذه العلاقة إلى ذروتها عندما تتأهب العذراء لمغادرة بيت سافو إلى عش الزوجية. فالشاعرة تحس عندئذٍ بألم الفراق الذي يحرك أصابعها بأرق أغانيها الذاتية، كما يفرض عليها واجبًا آخر فيه من القسوة بقدر ما فيه من القداسة، يجعلها تكتب أغنيةً تُنشَد في حفل الزفاف، وتلقيها بنفسها أو بالاشتراك مع جَوقة الفتيات.

ومن الأغنيات التي تعبر عن الحالة الأولى أغنية مشهورة يضعها بعض المفسرين في الكتاب الأول ضمن أشعارها الخالصة، ويضعها البعض الآخر بين أغاني الزفاف، وأغلب الظن أن الأغنية تصف العريس الجالس إلى جانب عروسه في حفل الزفاف:

يبدو لي شبيهًا بالآلهة،
ذلك الرجل الذي يجلس إلى جانبك …
وقد عدها القدماء أغنيةً عاطفيةً خالصةً، كذلك فعل لونجينوس، وبلوتارك، والشاعر الروماني كاتولوس الذي ترجمها بتصرف وأهداها إلى حبيبته لسبيا. وأما المحدَثون فقد نظروا إليها نظرةً مختلفةً، فهي عند بعضهم٣ أغنية ذاتية كتبتْها سافو بمناسبة زواج إحدى تلميذاتها، وعبرتْ بها عن عواطفها وهي ترى تلميذةً عزيزةً عليها ربما للمرة الأخيرة قبل رحيلها إلى بيت الزوجية، ويختلف البعض الآخر٤ حول تفصيلات لغوية لا أرى داعيًا للتعرض لها في هذا المقام، ولكنهم يتفقون معهم على أنها أغنية من أغاني الزفاف، ففي حفلات الزفاف وحدها يُسمح للفتاة بأن تجلس إلى جوار الرجل وأن تتحدث معه بحرية. وقد يجوز أن الفتاة كانت تضع قناعًا على وجهها، وأن حفل العرس كان يجرى في بيت أبيها، بحضور سافو قائدة الجَوقة التي ستنشِد الأغنية أمام العروسين. غير أن سافو وهي تكتب الأغنية قد فصلت بين هذا الواجب الذي كان عليها أن تقوم به إزاء إحدى تلميذاتها وبين حياتها ومشاعرها الخاصة وهي تتذكر ما يعنيه حفل الزفاف من فراق لإحدى حبيباتها. إنها تصف الزوج الذي يجلس إلى جانب فتاتها فتقول عنه إنه «رجل» كأي رجل آخر من أبناء الفناء، ولكنها لا تحس نحوه بشيء من الغَيرة، فها هي ذي تعود فتقول إنه يجلس إلى جوار العروس، وإن هذا وحده يجعله شبيهًا بالآلهة.

فالأغنية إذن تعبير نادر عن عاطفة ذاتية جربتْها سافو، ليست هذه العاطفة حبًّا، على الرغم من دقة الوصف لحالتها الجسدية، وليست كذلك غَيرةً ولا حقدًا؛ لأنها تصف الرجل صراحةً بأنه شبيه بالآلهة، وليست تعبيرًا عن مرارة الفراق، فما من كلمة واحدة تذكر فيها هذا الفراق، بل هي وصف بسيط للعواطف التي جاشت في قلبها في حضرة المحبوب، وصفٌ لا نستطيع أن نحدده أو نجد له اسمًا. فهذه العواطف تعبر عن نفسها في صورة جسدية، في ارتعاش القلب، واحتباس الصوت، وتصبب العرق، وسريان النار تحت الجلد، واضطراب الرؤية أمام العينين. وتصل هذه الظواهر الجسدية إلى قمتها حين تقول في نهاية القصيدة إنها قريبة من الموت، فتضفي على اللوحة كلها نغمةً طبيعيةً صادقةً. وتشبيهها لنفسها بالميتة ليس من قبيل المبالغة أو «الكليشيه» الذي شاع في الشعر الهليني بعد ذلك، بل تعبير نستطيع أن نؤمن بصدقه وإخلاصه، تحت تأثير انفعال جارف جعلها تقول في موضع آخر:

تتملكني الرغبة في أن أموت.
وأرى شواطئ آخيرون المندَّاة
المغطَّاة بأزهار اللوتس.

وهو كذلك تعبير عن الضياع الذي أحست به في مثل هذا الموقف حين قالت في موضع ثالث:

أود صراحةً أن أموت.

هذه الرغبة في الموت تجعل لسافو مكانةً فريدةً بين شعراء الإغريق، الذين نظروا في جملتهم إلى الموت على أنه شيء بعيد وكريه. ولعل طبيعة حياتها التي كانت سلسلةً طويلةً من عذاب الفراق للأحباب هي التي أجرت على لسانها هذه النغمة اليائسة الغريبة على أبناء ذلك الزمان. وقد لا أبعد كثيرًا عن الصواب إذا قلت: إن في هذه الأغنية دليلًا على أن صدق التجربة هو وحده الذي يستطيع أن يصنع المعجزات!

مهما يكن من شيء، فلا بد من أن سافو كانت تؤدي دورًا مهمًّا في مراسم الزفاف، يعطيها الحق في أن تقول عن العريس إنه يبدو لها شبيهًا بالآلهة. فقد كانت — فيما يقول عنها البلاغيُّ هيمريوس الذي رتب أغاني الزفاف — تقوم بقيادة جَوقة المنشدات، وتغني على القيثارة أغنيةَ الزفاف التي كتبتْها بنفسها، وتدخل إلى مخدع العروسين فترتب الفراش، ثم تنادي الفتيات أن يدخلن معها، فتهيئ منهن مَن تمثل أفروديت في عربتها التي تجرها ربات النعمة والجمال «خاريس»٥ وتزين شَعر العروس بأزهار الهياسنت (السنبل البري أو الزعفران) وضفائر الفتيات وأجنحتهن بالذهب، وتجعلهن يسرن أمام العربة ويرفعن أيديهن عاليةً بالمشاعل.

كان حفل الزفاف يبدأ عادةً بمأدبة يحضرها العروسان، تقام في بيت أحدهما، وكان لهذه المأدبة طابع ديني، فوالد العروس يقدم القرابين لآلهة الزواج ومن بينهم أفروديت. وكان الحفل ينتهي عادةً باصطحاب العروس التي تجلس في عربتها إلى جانب أفضل الرجال إلى بيتها الجديد. ويصف لنا لونجوس — الذي عرف شيئًا عن العادات المنتشرة في جزيرة لِسبوس كما قرأ شعر سافو — إحدى هذه الحفلات بقوله: «حين يقبل المساء، يصطحبهما الضيوف إلى مخدع الزوجية، بعضهم يعزف على الناي والبعض الآخر على المزمار، وفريق منهم يتقدم العربة حاملين المصابيح والمشاعل في أيديهم، فإذا بلغوا عتبة غرفة الزوجية بدءوا يغنون أغنية زفاف في أنغام خشنة غليظة كأصوات المعاول والفئوس!»

وهناك نوع آخر من أغاني الزفاف لا نجده إلا في شعر سافو، كانت هذه الأغاني تقوم على حوار يدور بين العروس وشخص آخر يمثل العُذرية. ولم يبقَ لنا من الشواهد عليها سوى هذين السطرين:

العروس :
أيتها العذرية، أيتها العذرية، إلى أين هربتِ وذهبتِ عني؟
العذرية :
لن أعود أبدًا، أبدًا لن أعود إليك.

ولا بد من أن هذه الأغنية كانت تستند إلى أصول شعبية، غيرتْ سافو في شكلها وأضافت إليها كما فعلت في سائر أغانيها. وهي تذكِّرنا بحوار آخر تتقدم فيه سافو وفتياتها بالشَّكاة إلى أفروديت، باكيات على موت أدونيس. ولا بد من أن العروس كانت تقوم بغناء الجزء الخاص بالعذرية.

وقد تكون هناك بقايا أخرى من هذا النوع المفقود من أغاني الزفاف، مثل الشذرة التي تقول فيها:

أما زلتُ أحنُّ إلى العذرية؟

الذي يبدو أنه بقية كلام مفقود على لسان العروس، أو الكلمات التي تقول فيها:

سأظل دائمًا عذراء …

والتي يبدو أنها جاءت على لسان عروس تحتج فيها على مصيرها، أو تحاول أن تحميَ تاجها الأخضر من اغتصاب الرجال. ومع ذلك فإن الشواهد الباقية على هذا النوع من أغاني الزفاف نادرة، ولا بد من انتظار اكتشافات جديدة قد تَهدينا إلى نماذج أخرى منها.

لم تبقَ لنا أغنية واحدة كاملة من أغاني الزفاف عند سافو، ولكن من المدهش حقًّا أن نجد فيها مزيجًا رقيقًا من الروح المدنية المهذبة والروح الشعبية التي تسمح لنفسها في مثل هذه المناسبات بقدر كبير من حرية التعبير، فلا شك في أن حفل العرس لم يكن يخلو من كثير من العبث الذي يتبادله أهل العروسين أو أصدقاؤهما، وأن بعض الألسنة الطويلة لم تكن تترك العريس «الفلاح» في حاله، ولا كانت تترك حارس الخدر العملاق قبل أن تتندر بقدميه الغليظتين أو بملامحه العابسة! ومع ذلك فلا بد من أن «الشهامة» كانت تقوم بدورها في مثل هذه الأفراح، وأن الروح الشعبية كانت تعبِّر عن نفسها أجمل وأصدق تعبير. وكل هذا يزيدنا حزنًا على ضياع هذه الأغاني، ولو أن أغنيةً واحدةً منها سلمتْ من الضياع لرأينا فيها ذلك الكنز الشعبي الصافيَ الذي يجمع خير ما في الشعر الغنائي على مر العصور. وتزداد الحسرة إذا نظرنا إلى إحدى هذه الأغنيات التي تشبِّه فيها سافو العروس بالتفاحة الحلوة، المتوردة بالحمرة على أعلى غصن، نسي القاطفون أن يجنوها، لا لم ينسوا — كأني بالشاعرة تستدرك حتى لا تتورط في سوء الأدب! — بل لم يستطيعوا أن يبلغوها. إن الشاعرة تبدو وكأنها تتوقف في منتصف القصيدة لتلتقط أنفاسها، ربما لتجد تعبيرًا أفضل أو لتبحث عن صورة أكثر حيوية، أو تبالغ في التصعيد بالنغمة إلى أقصى مداها: «عاليًا، على أعلى غصن». ولعل ذلك هو سر هذه الخفة والرشاقة التي تميز أغانيها في الزفاف، وتجعلنا لا نكاد نقرؤها حتى يخيل إلينا أننا نستمع معها إلى رنين قيثارة أو إيقاع صُنُوج كانت تصاحبها.

١  تاليس Talis.
٢  أثريماتا Athrermata.
٣  مثل: فيلا موفيتس وبرونو سنيل.
٤  ومنهم بورا، ص٢١٧.
٥  الخاريتيس إلهات ثلاث تصور الأساطير اليونانية فيهن الحسن والرقة والمحبة. اختلف حول أصلهن، وربما كن من إلهات النبات والخضرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤