الفصل الثاني

الشخصانية الإسلامية والمرأة: في نقد الأب

تقديم: أي معنًى هو الأنسب للحديث عن «الشخص»؟

حين تقرأ نصوص محمد عزيز الحبابي١ تشعر وكأنه «الشخص» الوحيد في ثقافتنا المعاصرة. ونعني بذلك أنه الفيلسوف الذي تميز بكونه مَن حوَّل الكلام في «الشخص» الإنساني إلى مشكِلٍ «شخصي» جذري. ربما لم يكن الأول الذي اكتشف قارَّة الشخص، فقد سبقه أوروبيون كثر، مثل شارل رونفي٢ الذي نشر سنة ١٩٠٣م كتابًا تحت عنوان الشخصانية عائدًا بهذه الفكرة إلى كانط، ولا سيما إيمانويل مونيي٣ الذي يُعتبَر مؤسِّس المذهب الشخصاني في فرنسا، على نوع من الإنسانوية الجماعوية، إلا أن الحبابي هو العربي والمسلم الأول الذي تصدَّى إلى هذه المنطقة من التفكير المعاصر وانخرط في تأصيلٍ عميق لها، بلغ حد الطموح إلى استكمال النظر الفلسفي فيها على مستوًى كوني. ولهذه الاعتبارات؛ على الباحث أن يتهيَّب أي لقاءٍ متفلسف معه، مع نصوصه «الشخصانية»، من أجل أن «الشخص» يؤخذ في اللغات على معانٍ عدَّة، وهو مطمورٌ خصيب من إمكانات اللقاء الروحي مع «مؤلِّفٍ» ما، لم يبدأ «كاتبًا» عربيًّا، بل صار عربيًّا بعد أن بدأ فرنسيًّا، نعني غربيًّا. وهذا الانتماء المضاعف والعائد على نفسه، على مستوى الهوية الفلسفية كما على مستوى اللغات المستعملة، لم يكن غمامةً عابرة في سماء قلبه، بل كانت جزءًا لا يتجزَّأ من الالتزام الوجودي الذي كان يحركه. كان الحبابي «شخصًا» يشعر أنه أكثر من «كائن» واحد من «عرق» أو «قومية» واحدة. هو مغربي مستعمَرٌ سابق، وفرانكفونيٌّ أثار انتباه الفرنسيين من وزن غاستون باشلار، ومانديس فرانس، وموريس غاندياك،٤ وميكال دوفران، وعربيٌّ محب للُغة الضاد إلى حد الشعر، ومسلمٌ واثق من رسوخ المقام الروحي الذي يستردف منه بلا هوادة وبكرمٍ شخصي فظيع. وهو مثقفٌ «ثالثي» يؤمن عميقًا بأن «العالم الثالث» قادر على التغلب على «المستقبل» الغربي المفروض على الشعوب المستعمَرة، بواسطة تطوير «غد» وفلسفة «غدوية» تكون على مقاس همومه غير الغربية، ولكن التي تضرب عميقًا في أغوار القيَم الإنسانية.٥ وعلاوة على كل ذلك، وكعلامة على كرم ضيافةٍ عابرة للثقافات ولكن أيضًا للتجارب الشخصية، هو شاعرٌ رقيق بالفرنسية والعربية وله دواوين،٦ وصاحب رواياتٍ منشورة،٧ ونال جوائز على أعماله. ونعني بذلك أنه لم يكن كاتبًا مغمورًا، بل شهرتُه طبقَت الآفاق، وكان له ما أراد: أن يرسِّخ نوعًا من التثاقف الكريم القائم على تبادُلٍ رائع للقيم الشخصانية، من قبيل التسامي والتعالي والمغامرة والتشخصن والتأنسن والمساواة والعدالة والحوار واللذة والحب.

ولأن «الشخص» هو كما جاء في لسان العرب «جماعة شخص الإنسان»، فإن اللقاء مع الحبابي أو مع نصوصه التي باتت الآن «لا-شخصية» (تُقرأ في غيابٍ رسمي للكاتب، دون أن يعني ذلك أنها بلا مؤلِّف) هو يريد أن يكون من الناحية الفلسفية لقاءً «شخصانيًّا» كليًّا؛ وذلك يعني ليس له أن ينحصر في أي اهتمامٍ شخصي به، قد يهم هذا القارئ أو ذاك بعينه. في الفلسفة ليس هناك رغباتٌ شخصية، جزئية، بل مناظرةٌ جذرية، كلية، مع «الشخص» المفهومي. وعلينا أن نسأل عندئذ: أية طريقة هي الأنسب لاستجماع كل معاني اللقاء الفلسفي مع «شخصانية» الحبابي؟

قال ابن منظور: «الشخص سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد.» فهل يعني ذلك أننا سوف نكتفي برؤية الحبابي «من بعيد»؟ نعني من وراء كل مسافة الجيل الذي يفصلنا عنه؟ إن المثير في شخصية مؤلفٍ مثل الحبابي هو أنه يستدرج قارئه لا ليُبصِّره بشيء إلا بنفسه. إنه مؤلف لا يُقرأ أبدًا على بُعد أو على مسافة. إنه كاتبٌ نموذجي ضد المسافة، نعني المسافة «الموضوعية» الباردة بين الكاتب وقارئه. وإذا لم تكن تشعر أن ما يفكر فيه أمامك هو أمرٌ يخصك أنت أيضًا بشكلٍ شخصي فأنت قارئٌ سيئ. لا يعرض عليك الحبابي مذهبًا عامًّا في الحياة، بل يدعوك إلى اكتشاف الشخص الذي بين جنبَيك، ونقله من مجرَّد «الكينونة» إلى معنى «الشخص». كان غرضه الفلسفي الأكبر والأول هو رسم خارطة المرور الإنساني «من الكائن إلى الشخص».٨
ولكن من هو الشخص؟ قال ابن منظور: «كل شيء رأيت جسمانه فقد رأيت شخصه.» هل أنا مجرَّد جسم يُرى؟ وهل المرئي هو البُعد الوحيد لمن يريد أن يكف أن يكون مجرَّد كائن؟ ما الذي تضيفه الرؤية إلى كائنٍ ما حتى يصبح شخصًا؟ هل «الشخاصة» هي نمط سلوك الإنسان في العالم؟ نعني أنه كما قالت لغة اللاتين persona قناع يوضع حتى يرانا الناس الرؤية التي تجعل منا ما ينتظرون منا أن نكون. هل كانت فرنسا تنظر إلينا بوصفنا «أشخاصًا» أم بوصفنا مجرَّد «كائنات»؟ هل يكون ذلك أحد الأسباب الدفينة التي حركَت الحبابي نحو اعتناق الشخصانية؟ نعني الشعور بدونيةٍ ما، «دون» الشخص وفي رتبة «الكائن»؟
إذا أردنا أن «نشخَص» — أي أن نرتفع — إلى حد الموقع الذي تكلم منه الحبابي إلى الأوروبيين، قبل أن يتكلم إلى المسلمين، وعلينا أن نضع في الحسبان أن الحبابي في بعض نصوصه مترجَم إلى أكثر من عشر لغاتٍ عالمية، من بينها الألمانية والصينية والروسية؛ أي إنه لا يتوجَّه إلينا بالكلام وحدَنا، وهذا دليل لا يُردُّ على البعد الإنسانوي في فكره، فيجدر بنا ألا نتوجَّه إليه بسهمٍ «شاخص» أي يجوز الغرض من أعلاه، فنكون كمن «شُخص» به أي أتى إليه أمرٌ يُقلقه، فكأنه رُفع من الأرض لقلقه وانزعاجه. فإذا بنا نرميه بكلامٍ «متشاخص» أي متفاوت، هو أقرب إلى «الإشخاص» أي الاغتياب، منه إلى تقريض السلف في الروح أو في الهوية. بل حقيقٌ بنا أن «نشخص» إليه، أي نرجع، من المكان الذي دعانا إليه دعوة الحريص على المشارك له في الإنسانية والموطن واللغة والأمة والهموم، نعني أن نرجع إليه من «أنفسنا»، أي من عند إنسانيتنا، وقد بذلْنا وسعنا في تطهيرها من ضغينة القبيلة ومكر الدولة وحجاب المجايلة. من أجل ذلك سوف لن نكلم الحبابي إلا «شخوصًا» أي على سفر. وليس كالتفكير معه في الذي شغله فكرًا، سفرًا روحيًّا وذهابًا فلسفيًّا إليه. ونعني بذلك أننا لن نكلمه باسم أي موقفٍ جاهز حوله. لا فلسفي ولا هووي. بل علينا أن نستدعيه إلى جهةٍ روحية لا فضل فيها لهوية على أخرى، إلا بالتقوى الإنسانية. ونعني بالتحديد أن نسائله عن رأيه «الشخصاني» في بنية «أنفسنا» قبل أي تعليقٍ أخلاقي أو دعويٍّ آخر: «أنفسنا» الأولى، كذكر وأنثى، لا غير.

قال عمر بن أبي ربيعة:

فكانَ مِجَنِّي، دون من كنتُ أتقي
ثلاثَ شخوصٍ: كاعبان ومُعصِرُ

فقال ابن منظور: «فإنه أثبت الشخص أراد به المرأة. والشخص: سواد الإنسان وغيره تراه من بعيد.»

يُقال الشخص إذن على المرأة والرجل بلا تمييز. وإذا كان ثمة من معنًى للإنسانية فهو هذا: أن تغفل اللغة في تسمية النفس عن الفرْق الجنسي بين الذكَر والأنثى، أو بين الرجل والمرأة، فلا تثبته. ولكن لماذا قد تسكت اللغة عن هكذا فرْق؟ أليس يدخل في ماهية الشخص كونه ذكرًا أو أنثى؟

لقد جلب انتباهنا بشكلٍ مثير أنْ عثرنا في نصوصه، وخاصة في كتاب الشخصانية الإسلامية، على تناولٍ صريح ومقصود بذاته لمسألة «وضع المرأة»، يخرج بها من النقاش اللاهوتي أو الاجتماعي إلى المناظرة الفلسفية المفصلة. وفي هذا السياق بالذات برهن الحبابي على طرافة أخذه بالمنحى «الشخصاني» في الفلسفة المعاصرة باعتباره طريقًا في التفلسف له طاقةٌ جبارة على طرح بعض المسائل الحساسة في تاريخ أنفسنا، والوصول في شأنها إلى تأصيلٍ حقيقي.
ففي الفصل الثاني من كتاب الشخصانية الإسلامية قام الحبابي بمعالجةٍ دقيقة ومتلطفة لجملة المسائل التي تؤلف مساحة التفكير ليس فقط في المرأة، فهذا موقف «نسوي» قد لا يعني الفلاسفة رأسًا، بل في الأساس الأنطولوجي للاختلاف بين الجنسَين، بين الرجل والمرأة، وذلك يعني حسب المصطلح ما بعد الحديث، في الأساس الأنطولوجي لمعنى «الجندر» في ثقافتنا الذاتية العميقة. والأطروحة الناظمة هنا هي: أن الشخص أبعد معنًى إنسانيًّا وأعمق أساسًا أنطولوجيًّا من أي نزعةٍ «جندرية» أبوية، تُنسب خطأً إلى ماهية الإسلام.
ويتكون هذا الفصل المشار إليه من ستة عناصر هي على التوالي: «(أ) تعدُّد الزوجات. (ب) المساواة بين الرجل والمرأة. (ﺟ) ثورة من الجذور. (د) الرجال قوامون على النساء. (ﻫ) بين الأموسية والأبيسية. (و) المسلمة والحياة الجنسية.»٩

إن قصْدنا في هذه المقالة هو دراسة رأي الحبابي في مسألة الجندر هذه في مختلف الأنحاء المشار إليها في عناوين الحبابي: كيف طرحَت الشخصانية قضية المرأة؟ وبأي طريقةٍ عالجَت مشكِل المساواة بين الجنسَين؟ وبخاصة: على أي أساسٍ أنطولوجي برَّر الحبابي، الفيلسوف الشخصاني المسلم، دعواه بأن الشخص أوسع معنًى من الفرْق الجنسي، وأنفذ حقيقة إلى الواقع الإنساني من الدلالة الجندرية السائدة للذكورة والأنوثة؟

(١) حب «هذه المرأة»: الحميمية والاختلاف

في كتابه الكبير الأول، من الكائن إلى الشخص. محاولة في الشخصانية الواقعية، الذي صدر سنة ١٩٥٤م في باريس،١٠ طرح الحبابي معنًى طريفًا لمفهوم «الحميمية»، مفاده أنْ لا وجود لحميميةٍ صرفة،١١ نعني مؤسسة على حالة «الوحدة» أو العزلة. حميمية الوحدة هي حميميةٌ مزيفة؛ لأنها تُبطل الركيزة الأساسية للشخص الإنساني أي اللقاء مع الآخر. ومن أجل ذلك لا يرى الحبابي من تجسيدٍ للحميمية أفضل من تجربتي «الحب» و«الفن»؛ ولذلك هو يعرِّف الحميمية على هذا النحو: ««الحياة الحميمة» هي الحياة في بيت، مع بقيَّة أعضاء العائلة.»١٢ هذا موقفٌ فلسفي ينطوي على طرافةٍ خاصة: إنه يخرج عن التصور الليبرالي الفرداني الحديث الذي يؤسِّس الحميمية على قدرة الفرد على الاستقلال الذاتي عن أي آخر. ولم تكن الحداثة منذ ديكارت ولوك غير القدرة الفلسفية على تأسيس وجود «الأنا-النقطة»، حسب عبارة الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور، النقطة التي لا خارج لها.

لكن الحبابي رفض أن يكون حداثيًّا بهذا المعنى الفرداني، الذي هو أوروبي في الصميم. ما كان يبحث عنه هو نوع من العلاقة بأنفسنا من شأنها أن تسمح له بضخ العنصر «الشخصي» غير الأوروبي، والإسلامي تحديدًا، الذي يحركه؛ ولذلك هو يفترض فرْقًا حاسمًا بين «الشخص» و«الفرد». وبهذا المعنى فإن الحب هو شخصيٌّ دومًا؛ إذ ليس هناك حبٌّ «فردي»، نعني أن المتوحد لا يحب أحدًا.

بقي أنه علينا أن نسأل، كما يفعل الحبابي: «لماذا هذه المرأة وليس الأخرى؟»١٣
الحب ليس عملًا فرديًّا، نعني ليس عزلة، بل لقاء مع آخر بعينه. وبهذا المعنى هو شخصي، أي يفترض اختيارًا عميقًا أو صادرًا من عمقٍ أخلاقي أو وجودي لا يمكن أن يكون رقميًّا فقط. المحب ليس فردًا، بل شخصٌ. ليس فردًا، نعني ليس جملةً أنانية ومتوحدة من الرغبات المتوحشة أو الشكلية. بل هو شخص؛ أي عضو أخلاقي أو وجودي في تاريخٍ روحيٍّ ما، تاريخ أمةٍ ما، وشعبٍ ما؛ ولذلك نحن لا نحب إلا من داخل تراثٍ جماليٍّ ما وتقليدٍ عاطفيٍّ ما. قال الحبابي: «إذا أحب الرجل اليومَ هذه المرأة بعينها، فلأن تاريخه الماضي يُهيئه كي تكون له قرابةٌ ما واستلطافاتٌ ما تخص هذا النوع من الجمال الجسدي، أو لأن هذه المرأة تناسب … عالم القيم الخاص به ومشاريعه.»١٤

بيد أنه لئن كنا نحب دومًا داخل تراثٍ ما، فإن الحب لا يكون محافظًا أبدًا. إنه ليس مجرَّد احترامٍ لقيم أو تقاليد سعادةٍ نجحَت، بل هو فعلٌ شخصي داخل أفُق انتماء لسنا مخيَّرين أبدًا في «التشخصن» من خلاله. الحب هو تجربة تشخصنٍ نموذجية يفترض الحبابي أنها مثالٌ كبير على حركة الانتقال البشري من مجرَّد تدبير الكائن إلى عظمة الاضطلاع بالشخص.

وأول علامة على التشخصن هو التعدُّد الموجب: «نحن ثلاثة، تقول قصة يابانية، الهزار، الوردة ونحن الاثنان.»١٥ وحسب الحبابي ليس هناك مونولوج في الحب: «المونولوج هو الملال.»١٦ وفي المقابل، فإن التشخصن يجري في نحو من الحوار الحميم بين المحبين، دون أي نمط من أنانية التماهي مع الغير. كل تماهٍ يُخفي ضربًا من الأنانية. فمن لا يجود بشكل كينونته إلى من يحب هو لا يعطيه شيئًا غير أنانيته.
قال: «إن فعل المحبة هو لا يتعلق بالأعمال البيولوجية، بل بالشخص، نعني بما هو عمل في صيرورة وبما هو ممكنٌ لا محدود فينا.»١٧
لا يعني ذلك إبقاء الجسد خارج الشخص. فليس الشخص غير طريقة في سكن الأجساد بوصفها قابلة للسكن. بل إن الجسد ليس غاية الحب؛ لأن «المرأة» ليست «أنثى» فقط. ولذلك يحرص الحبابي على استبعاد أي نموذج مماهاة لفرضه على المرأة بوصفها أنثى الرجل. المرأة أنثى نفسها فقط. أما في علاقتها بالرجل فهي امرأة. لذلك ليس الحب «انصهارًا للأنت في الأنا»،١٨ «ليس الحب موضوعًا، بل منبعًا لجملة من أنماط الكينونة، يمكن أن يُتخذ موضوعًا».١٩

نحن لا نحب غير حميميةٍ ما؛ لأنها توفر الشكل المناسب من العلاقة مع أنفسنا، نعني توفر نمطًا مناسبًا من «النحن» الموافق لعالم القيم الذي أتَينا منه، أو لمشروع الحياة الذي نؤمن به. لكن الإيمان بما هو جماعي لا يلغي أبدًا ما نؤمن به لأنفسنا. مفارقة الحب مع المرأة أنه لا يقبل أي انصهار أو تماهٍ مع الآخر، بل تحقيق ذلك النوع من التصالح الصعب بين حميمية لا يمكن أن تستغني عن الآخر ولا يمكن أن تتحقق إلا في الجمع، واختلاف بالذات لا يمكن لأي انصهار أن يلغيه؛ لأن من كف عن أن يكون ذاته هو لا يحب أحدًا.

قال الحبابي: «إن الحب لا يفترض الانصهار بل الاتحاد بين كائنَين مختلفَين هما سيظلان مختلفَين ويشعران بأنهما كذلك. ومن دون هذه الاختلافات فإن التكامل والإنابة، حيث يستمد الكائنان كل ثراء وكل حيوية محبتهما، لن يكون لهما من وجود؛ ليس ثمة سوى أنصاف انصهار؛ ليس ثمة سوى تواصُل بالنصف؛ أنا الآخر دون أن أكف عن أن أكون نفسي.»٢٠

هنا بالتحديد نقف على طرافة التناول الشخصاني للعلاقة مع المرأة: أن حبها ليس قتلًا لفرادتها، بل هو إحياء لذاتها، وذلك بدعوتها نحو حميمية لئن كانت تشترط حضور الآخر فهي لا تتخلى له عن ذاتها. وبهذا المعنى كان الحبابي سبَّاقًا لفكر الاختلاف قبل ظهوره فلسفيًّا: الحب هو «الاتحاد بين كائنَين مختلفَين هما سيظلان مختلفَين ويشعران بأنهما كذلك.» إن حب المرأة هو نموذجٌ رائع على التشخصن بوصفه تمرينًا على احترام الاختلاف بين الجنسَين، ومن ثَمة بين جميع الأجناس.

ومن علامات التأصيل الواضحة أن الحبابي، في كتابٍ موجَّه في أصله للقارئ الفرنسي، لم يكتفِ بتأسيس هذا الاختلاف الشخصاني بين الجنسَين على تقابُلٍ فلسفي شكلي حاسم بين الحميمية والتوحد: «إن الحميمية هي علاقةٌ بين الأنا والأنت في صلب النحن، هي رفض للتوحد.»٢١ بل هو قد تلطف في اقتناص تأييدٍ من التأويل الإسلامي للتوحد، يحتج به لدى القارئ الوجودي المعاصر.
قال: «لا يكون المرء وحده أبدًا، حتى ولو لم يكن مع بني جنسه. فهناك على الأقل الملَكان؛ ملَكا الخير والشر.»٢٢ بل الأخطر من ذلك أشواطًا أن عين الله ساهرة على خلقها، والمسلم المؤمن يشعر أنه تحت عين لا تأخذها سِنة ولا نوم؛ ولذلك يؤكد الحبابي أن الإسلام يقيم الشخص البشري على هذا النحو من الاعتبار: «أن كل فرد هو في حوارٍ دائم، وحين يكف عن الكلام، هو مع ذلك ما ينفك يعبِّر عن ذاته بواسطة النظر، والحركات … فإن للجسم لغته الخاصة، والصمت لا يخلو من فصاحة.»٢٣ لا يُوجَد مؤمنٌ متوحد، حتى ولو كان يسكن وحده. إن نفسه العميقة أكثر منه في كل مرة. فلا وجود لإيمان متوحد. هل كان ابن باجة من قبلُ يرنو إلى أمر من هذا الجنس؟

(٢) التكامل الضدي: من الفرد إلى الشخص

لم يكتفِ الحبابي بشرحٍ فلسفي للأساس الشخصاني للعلاقة مع المرأة، نعني مفهوم «الحميمية» باعتباره في عمقه يفترض الآخرين، ويستبعد أي تقريظ للعزلة أو التوحد. بل راح يبحث عن أساسٍ تاريخي أكثر التصاقًا بثقافة الشعب الذي ينتمي إليه، وهذا هو معنى حرصه على تمييزه مذهبَه بكونه «شخصانية واقعية» وليس شخصانية وجودية مثلًا. كان يعني بلفظة «الواقع» العالم المعيش الذي أتى منه ويريد أن يعود إليه كما يعود الفيلسوف الأفلاطوني إلى الكهف لإخراج المساجين، وهو معنى الالتزام لديه: إن الشخص «كائنٌ ملتزم، واعٍ لالتزامه، في الصراعات الحيوية التي تجمعه بالآخرين، وتجعله في آنٍ واحد، معارضًا لهم.»٢٤ وبهذا المعنى يقول في عبارةٍ مثيرة: إن «التفكير الشخصي غير حرٍّ؛ لأنه ملتزم.»٢٥
في هذا السياق أقحم الحبابي مفهوم «التكاملية» باعتباره المقابل النظري لفكرة «الحميمية» على مستوى الحب. قال: «لا بد من تكاملية بين الحريات: أي أن كل حرية تستلزم الأخرى.»٢٦ ولا يعني حرية «فردية» بل تلك التي «تشمل جميع أصناف البشر؛ فالحريات في أصلها، إنسانية، طبيعية، نوعية، أصيلة.»٢٧
نحن نأخذ هنا صفةً «نوعية» باعتبارها تشير إلى «النوع الإنساني»، وذلك كمرادفٍ لمصطلح «الجنس»: كل حرية هي جنسية في معنى كونها تنسحب على الجنس البشري برمَّته. وهي لم تكن لتشمل الجنس أو النوع البشري برمَّته لولا «ثورةٌ نفسانية وفكرية» محددة جدًّا في تاريخ الإنسانية الحالية كما نعرفها؛ يؤرخ لها الحبابي بحدثَين رمزيَّين متوازيَين، ألا وهما «عصر سقراط» و«عصر الديانات الإبراهيمية».٢٨ الشخص في رأي الحبابي: هو اكتشافٌ أخلاقي مزدوج المصدر: وثني يوناني وتوحيدي إبراهيمي في نفس الوقت. أما نتيجته الأخلاقية والسياسية المباشرة فهي: «أن نعترف لكل كائنٍ إنساني بكرامته، وحرمته، ومساواته بأي إنسانٍ آخر. إن كل واحد في ذاته أشرف المخلوقات وأعظمها شأنًا.»٢٩ والقصد الفلسفي البعيد هنا هو: «لا بد أن نؤمن بفردية الشخص أولًا».٣٠ فمن دون احترم لفرادة الآخر لا معنى لأي لقاءٍ شخصاني معه. لا معنى لأي ديمقراطية لا «تتيح للفرد الحريات الضرورية لتكوينه الذاتي، على اختلاف الأبعاد، وفي كل المجالات».٣١ وهو ما يسمِّيه الحبابي «مراعاة التغاير الشخصي لكل فرد».٣٢ وعلى هذا الأساس الشخصاني أقام الحبابي فكرته عن الديمقراطية بين البشر: إنها فكرة «التكامل الضدِّي».٣٣ وهو عبارة عن «معيَّة» تنبذ كل فرادية، ليس لها من غرضٍ بعيد سوى «صيانة «الإنسان»».٣٤
لكن الحبابي يستدرك هنا بطريقةٍ مثيرة للتفلسف، قائلًا: «إلا أننا نلاحظ أن «إنسان» عند كل طائفة لا يدل على نفس المعنى.»٣٥
نحن لا نتشخصن؛ أي نحن لا نصير بشرًا، في كل ثقافة بنفس الطريقة. لكن الخطر الأكبر للعصور الحديثة هو فتح باب «المزاحمة» الليبرالية بين الأفراد على نحوٍ صار فيه الشخص محتاجًا إلى الحماية. وجملة المحتاجين إلى الحماية هم «المنسيون»، أي كل أولئك الذين سيكونون «بدون شخصية ولا يكونون جماعة لها شخصية وحريات.»٣٦ وفي استباق واضح لمقولة معيارية ستأخذ حظها الفلسفي لاحقًا، يعتبر الحبابي أن «التواصل … من الأبعاد العميقة للشخص»، وهو يفهم التواصل في معنى «المعية» التي تكون عبارة عن «تبادُلٍ بين طاقاتٍ وجدانية، وليست أفعالًا منعزلة»، بحيث إن «الفرد لا يتجاوز فرديته نحو الشخص إلا مع الآخرين، فهو بطبيعته، أُلفة وتواصل»، ومن دون ذلك «تقلصَت شخصيته في كينونةٍ «متحجرة» متشيئة لا تتأنسن.»٣٧
الشخص هو ما يضيفه الفرد إلى ذاته كي يكفَّ عن أن يكون حيوانًا، وليس من معنًى لتجاوُز المرء ذاته سوى هذا: أن يصبح إنسانًا. لكنه لا يفعل ذلك في أي سياقٍ اتفق، بل بالتحديد داخل «معشرٍ» بشري بعينه هو الذي زوَّده سلفًا بتصوراته المحتملة عن ذاته بل وبأنماط «التذوُّت»٣٨ التي تخصُّه. «إن ورقة هويتي تعكس «أناي» كما هو في الواقع، أعني «ما أنا عليه» و«ما عندي» … فحريتنا تتحقق على مستوى التركيب الصحيح بين العندية والكينونة.»٣٩
في الغرب يتحررون من «الشعور المشيِّئ» («تأليه الأشياء المصنوعة»)٤٠ الذي خلفَته الأزمنة المعاصرة حتى يصبحوا أشخاصًا؛ نحن ربما نعاني من شيءٍ آخر: مما سمَّاه هيغل ذات مرة «الشعور الممزق»،٤١ الذي ينتج عن وعيٍ يعيش في عصرٍ خارج العصر، حيث تتشتَّت الذات «خارج الذات وخارج التاريخ المواقت لنا.»٤٢

في نقد «الأبيسية»: شذرات تفكير خجول في الجندر

في بعض الأحيان يبدو الحبابي وكأنه كاتبٌ أوروبي، بحيث إن أقواله الفلسفية هي مشاركة مواظبة التحلي بنفس القيم النظرية والأخلاقية للفيلسوف الشخصاني الأوروبي والغربي بعامة. لكن طرافته لا تَظهر على هذا المستوى، بل بخاصَّةٍ عندما تأخذه الحمية الفكرية على موقفٍ لا يعيشه الفرد الأوروبي بل هو قدر غير الأوروبيين أمثال الحبابي نفسه.

ولذلك يفاجئ الحبابي قارئه في كتابه من الحريات إلى التحرر، بهكذا تساؤل هو إلى حدٍّ ما خروجٌ عما كان فيه الكتاب من التحليل الشخصاني «الكوني»:
«فهل «العالم الثالث» متوافر على أسباب التثقيف؟»٤٣

ثم يأخذ في تحليل إحصائية حول شمال أفريقيا تعود إلى ما قبل ١٩٦٤م، تدرس عدد السكَّان ونسبة النمو ومعدَّل العمر ونسبة الأُميَّة. ولئن كان مقصد الحبابي الصريح هو التنبيه إلى الفرْق بين معدَّل العمر بين سكَّان شمال أفريقيا وسكَّان الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وفرنسا، عندئذ، فإن التعليق الذي خرج به من هذا التحليل الفلسفي لإحصائيةٍ ديمغرافية قد احتوى على عنصر طرافةٍ مثير للانتباه. لقد أقحم الحبابي فجأةً ملاحظة ما بعد كولونيالية ركَّز فيها صراحة على الفرْق الجندري بين الذكور والإناث، من حيث معدَّل العمر، كمعيار للتقدم، يفصل بين «الشعوب النامية» (يقصد الدول الغربية) وشعوب المغرب العربي، وخلص إلى القول:

«إن الجزائريات يعشنَ معدَّل نصف عمر الأمريكيات والسوفييتيات والفرنسيات، من جرَّاء التخلف في التغذية، وفي وسائل الوقاية من الأمراض، ومن جرَّاء عدم القدرة على الاستفادة مما اكتسبه عصرنا من تقدُّمٍ علمي وتقني.»٤٤

قد يبدو هذا القول عاديًّا، نعني يدخل في إطار النقد المعاصر للوجه المظلم من التنوير الغربي، ونتائجه على شعوب العالم الثالث، لكن الخلفية التي حركَت الحبابي كانت شخصانية وليست أيديولوجية. ونعني بذلك أنه كان يريد أن يذهب في نقد تخلُّف وضع المرأة إلى جذوره الأنثروبولوجية، وليس فقط الاقتصادية الليبرالية.

قال: «إلى جانب عدم المساواة التي تنتج عن استرقاقية الاقتصاد، يُوجَد تفاوُت بين الجنسَين؛ إن الأبيسية [يضع الحبابي هنا هامشًا مهمًّا: الأبيسية (patriarcat): نظامٌ يمتاز بسيادة الأب في الأسرة. يتمتع الأب بكامل السلطة بالنسبة للزوجة وللأبناء] تحرِم المرأة من حرياتها، في جُل بلدان الدنيا.
حقًّا، من مكاسب الأزمنة المعاصرة الحركة التحريرية النسوية، ولكنها لم تحقق بعدُ كامل المساواة مع الرجال، في جُل الأقاليم، وعلى الخصوص في العالم الثالث؛ لأن وسائل الإنتاج، وسلطة التنظيم للمجتمع ما زالت محتكَرة من لدن الرجال٤٥
هذا المقطع على غايةٍ من الأهمية الفلسفية في تاريخ النقاش الفلسفي العربي المعاصر حول المشكِلة النسوية، ومن ثَم حول مسألة الجندر؛ ذلك أن الحبابي لا يتطرق لمفهوم «الحريات» من دون التصدي بالسؤال إلى شروط «التحرر» التي من شأنها. وتحرير المرأة ليس مشكِلًا عرَضيًّا في مثل هذا التفكير. لقد طرح الحبابي مشكِل الحريات ليس باعتباره «موضوعًا فلسفيًّا وكفى»،٤٦ كما يقول، بل بوصفه جزءًا من تاريخ «الأبيسية» في أفق الإنسانية الحالية. الأبيسية، نعني شكل السلطة المؤسَّس على قداسة الأب والأبوية. وهذا يعني أن حرية المرأة ليست مشكِلًا «نسويًّا»، نعني يهم النساء دون الرجال. لا يتعلق الأمر بترفٍ جماليٍّ خاص بجنس دون آخر، بل بقدرٍ حضاري أدَّى فيه الأب/الذكَر دورًا تأسيسيًّا: دَور تأسيس القيم على نوعٍ محدَّد من السلطة هي السلطة الأبوية، وهي «أبوية» في معنيَين متضافرَين: هي سُلطة «الذكَر» الذي صار هو «الأب». ونعني بذلك الحيوان البشري الذي نجح في الجمع بين «الجنس» البيولوجي للذكورة وبين «الجنس» الاجتماعي للرجولة. لا يحكم الذكَر لأنه ذكَر، بل لأنه ذكَر صار رجلًا. ومن ثَم جمع بين سلطتَين معياريَّتَين: معيار الذكورة (وما يقترن به من قيم الفحولة والقضيبية والخصوبة … إلخ)، ومعيار الرجولة (وما يقترن به من معاني النفوذ والسلطة والشرعية والملكية … إلخ).
إن إشارة الحبابي للأبيسية ودَورها في «حرمان المرأة من حرياتها»، هو طَرقٌ مستبق لمشكِل الجندر بوسائل نظرية تعود إلى عصره. إلا أن موقفه لم يكن ينضوي تحت المذهب النسوي، بل في نطاق البحث الوجودي في المضمون «الواقعي» للشخصانية: نعني «تحقيق فلسفة تحرر»٤٧ تنطوي على شروطٍ تحقق الحريات من خلال عمليات تحرُّر عينية وملموسة، مفتوحة على أي تجربةٍ فردية.
وثمة عنصرٌ طريف آخر هو الطابع «الإنجازي» للغة التي كان يكتب بها الحبابي: فهو ما فتِئ يؤكد أن حياة الشخص هي «أفعال لا معطيات»،٤٨ وأن «الإنسان ليس مونادة»، وأن «العمل بُعدٌ من أبعاد الشخص»، وأن «الشخص يصنع حريته»،٤٩ وأن «الجسد مُوجَّه دائمًا نحو الفعل»،٥٠ وأن «الفعل الحر هو الذي يعبِّر عن «الأنا كله»».٥١ والنتيجة الفلسفية الحاسمة ولكن الصامتة هنا هي أن الفرْق بين الجنسَين رجل/امرأة لن يكون عندئذٍ مجرَّد فرْقٍ جنسي بيولوجي ذكر/أنثى. بل هو «فعالية» أخلاقية هي نمط التشخصن الخاص بكلٍّ منهما.
ولذلك فإن الحبابي لم ينسَ الجسد في أيٍّ من تحليلاته. بل هو يذهب إلى حد القول بأن «الفعل الحر يجب أن يصدر عن جسدٍ ما: إنه الفعل الذي بوسع الفكر أن يمارسه في العالم.»٥٢ كيف نفهم هذين الجانبَين معًا؟

إن مغزى تركيز الحبابي على «الفعل» في تحليل الشخص هو التزامه الفلسفي برسم حركة التحرر من الحيوان إلى الإنسان في قاع كل فرد. ما يمتاز به الشخص عن الفرد الحيواني مثلًا هو الفعل. لكن الفعل ليس مجرَّد النشاط البيولوجي. الفعل هو ما يضيفه الكائن الحر لكينونته. وهو ما ينقله من مجرَّد حيوان إلى إنسان.

يقول: «فالحيوان لا يغامر بنفسه أبدًا في سبيل تحقيق مثلٍ عالٍ أو لمحو عارٍ؛ إن أنثى الحيوان لا تموت دفاعًا عن «شرفها» ضد ذكرٍ وقح. فليس للكائن غير البشري صورٌ متعالية عن ذاته يعمل على تحقيقها … إنه يبقى في مستوى غرائزه الحيوية.»٥٣
والحال أن الإنسان هو «أكثر كثافة من مجرَّد «أنا» بيولوجي.»٥٤ أفُق الشخص (وليس ثمة شخصٌ غير بشري) هو التحرر وليس مجرَّد الحرية الطبيعية المعطاة. نحن دومًا مجموع حرياتنا، لا غير.٥٥

وسؤال الحبابي الدائم هو: هل هذا ممكن بالنسبة إلينا نحن العرب أو نحن المسلمين؟

على حرصه الفظيع على منحنا «فلسفة تفاؤل»٥٦ مناسبةً لآلامنا، فهو لا يكاد يُخفي شيئًا عن قارئه، وهو على بيِّنةٍ مَريعة من الخلل الشخصاني في أنماط تذوُّتنا. وهو ما يجعل الهوَّة بيننا وبين التفكير الغربي في الإنسان كبيرةً جدًّا.
قال: «تقدم للشخصانيين، بفرنسا وألمانيا، أن ميَّزوا بين معشر وجمهور،٥٧ لكن يكتسب هذا التميز وضوحًا جديدًا؛ ذلك أن كاتب هذه الصفحات من أمة لم يتحدد لديها المفهومان؛ فأنماط حياة العرب التقليدية الأبيسية٥٨ قد نمَّت فينا روح القطيع إلى حد أن مفهومَي شخص وشخصية قد ضحلا تحت ثقل الإبهام، منذ بداية انحطاط المدنية العربية-الإسلامية.»٥٩
لقد وضع الحبابي الإصبع على الداء: الأبيسية؛ أي ميتافيزيقا الأب والآباء هي التي تحكمَت في تاريخ الشخص داخل جماعتنا الروحية، ومن ثَم داخل جماعتنا المدنية، وذلك يعني عند الحبابي، أنه على الرغم من تحقُّق «الانقلاب» الأخلاقي الضروري لظهور فكرة أو قيمة الشخص في أفُق ذواتنا القديمة، ويعني بذلك «ثورة الأديان الإبراهيمية»، كحدثٍ ميتافيزيقي موازٍ لثورة الشخص في عصر سقراط، فإن «بداية انحطاط المدنية العربية-الإسلامية» لم يترك وراءه غير «الأبيسية»؛ أي سُلطة الأب الذي لم يعُد قادرًا على تأمين نمط التذوُّت المناسب أي المتحرر لأنفسنا. هل كان نقد الأبيسية هو المغزى البعيد للفلسفة الشخصانية التي فكَّر بها الحبابي؟
يبدو أن أمرًا عميقًا مثل هذا هو الذي دعا الحبابي إلى تأليف كتاب «الشخصانية الإسلامية». إنه عبارة عن إعادة كتابة تاريخ معنى الشخص في مصادر أنفسنا القديمة، قبل أن تتعرض لأي تحويل أو تشويه «أبيسي» لاحق.

(٣) الشخصانية الإسلامية والمرأة: بؤس الفقهاء

في الفصل الثاني من كتاب الشخصانية الإسلامية، وتحت عنوان «وضع المرأة» (ص٨٥-١٠٧) قدَّم الحبابي قراءةً طريفة لمسألةٍ وصفها قائلًا: «صعوبةٌ أخرى، أو الصعوبة الرئيسية، هي التي يُثيرها وضع المرأة في الإسلام٦٠ وأن يقدِّم الأمر على هذا النحو؛ أي اعتبار الكلام في وضع المرأة في الإسلام بوصفه الصعوبة الرئيسية التي تهدد الصلاحية النظرية للحديث عن «شخصانيةٍ إسلامية»، هو موقفٌ فلسفي نادر ومن طرازٍ رفيع. موقف الإسلام، وأي دين آخر، من «المرأة» في جملة معاني ذاتها، أنثى، كانت، بالمعنى البيولوجي، أو جندرًا، في مختلف الأدوار الاجتماعية التي يحتملها سُلَّم القيم المتاحة في كل مرة؛ هو كشَّافٌ عجيب عن ماهية ذلك الدين، كأن بين المقدَّس والمؤنَّث صلة قرابةٍ مطمورة سحيقة القدم، لعل الجنس هو الخيط الرفيع الذي لا يزال يربط بينهما على الدوام.

ويبدو لنا أن الحبابي لم يكن مبتكرًا بالمعنى المحصور للكلمة بقدر ما كان في كلامه عن المرأة بعامة، والمسائل التي تطرَّق إليها في شأنها بدأَت منذ رسالة الدكتوراه (١٩٥٣م) ولم تُفارِق نصوصه على اختلاف فنونها إلى النهاية. ليس الابتكار في استحداث الغرض المطروق — فقضية المرأة مطروقة منذ مطلع القرن الماضي في أدبيات مفكري الإصلاح والنهضة — بل في القراءة الشخصانية المعاصرة للمرأة/الشخص بعامة. وعلى الرغم من أن جملة الحجج التي اعتمد عليها الحبابي للإدلاء برأيه في تعدُّد الزوجات أو في المساواة بين الرجل والمرأة أو في القوامة أو في الحياة الجنسية، قد جاءت مستقاةً كلها من مصادر إسلامية أصلية مثل القرآن والسنة والفقه … إلخ؛ فإن طريقة تخريجها وأشكال تأويلها وطبيعة الرهان الأخلاقي الذي يحركها قد كانت فلسفية، وفلسفية من نوعٍ طريف. ويكمن وجه الطرافة في أنها فلسفةٌ «ملتزمة»، هادئة وتهذيبية ومناضلة، وليست أيديولوجية أو نقدية فحسب. فهي أقرب إلى مساواتية جندرية منها إلى النزعة النسوية العنيفة، نعني تلك التي تدعو إلى أيديولوجية أنثوية عرقية ضد-رجالية.

والفصل الثاني من كتاب الشخصانية الإسلامية يبدأ بعنصرٍ وصفي تشخيصي عنوانه «وضع المرأة». ولفظة «الوضع» تشير إلى مصطلحٍ وجودي مستقر لدى هيدغر أو سارتر. وضعٌ يعني ما يجد عليه المرء نفسه داخل إمكانية حياة أو شكل وجودٍ ما. الوضع واقعةٌ وجودية وليس موقفًا أخلاقيًّا خاصًّا. ونحن نرث وجودًا ما قبل أن نتخذ له ماهيةً تخصنا. فالوجود يسبق الماهية، أو هكذا قال ساتر؛ ولذلك فالمرأة المسلمة هي وضع، وليس طرفًا يقرِّر موقفًا فرديًّا. إن الفرد في تاريخ ذاتها لم يأتِ بعد، أو هكذا يُراد لها؛ ولذلك بدأ الحبابي تخريجه الشخصاني لقضية المرأة في الإسلام برسم «الوضع» الفقهي لها، ذاك الذي رسم جملة «الأحوال الشرعية الخاصة بها».٦١ ومن المثير وجوديًّا أن كل دين يعمل على ردِّ أي شخص إلى قائمة من «الأحوال الشرعية الخاصة به»، نعني إلى جملة من التوصيفات القانونية، المعيارية والصورية؛ حيث يتم تجريده من كل ملامحه الهووية الأخرى.
ولذلك رصد الحبابي جملة الأحوال الشرعية الخاصة بالمرأة في أفُق الإسلام في قائمة الأحكام التالية:
  • (١)

    تعدُّد الزوجات مُباح، تعدُّد الأزواج هو فُحش وإجرام.

  • (٢)

    للمسلم/الرجل، التزوُّج بكتابية، أمَّا المسلمة/المرأة، فذلك غير جائز لها.

  • (٣)

    للزوج وحدَه حق الطلاق.

  • (٤)

    نصيب المرأة من الميراث هو أقل دومًا من نصيب الرجل.

  • (٥)
    شهادة المرأة أقل قيمة شرعية من شهادة الرجل.٦٢
والسؤال الإنكاري الذي لا يمكن أن يتأخر عن الظهور هنا، وقد طُرِح فعلًا من قِبل المعاصرين (مثل سالم حميش)، وكان الحبابي قد استبق الجميع إليه، هو طبعًا: «إذا كان هذا هو الوضع، أيمكننا أن نتكلم عن «شخصانية إسلامية»؟» وبقدر جسامة التساؤل الإنكاري، كانت صرامة إجابة الحبابي: «نعم، بكل تأكيد، يكفي الرجوع إلى القرآن والسنة.»٦٣
لأول وهلة يبدو موقف الحبابي هشًّا ومجرَّد ادعاءٍ خطابي أو تعبيرٍ «حنيني»، إزاء أحكامٍ مقررة لدى أهلها. كما يدافع الشعراء عن الأنبياء، والحال أن الدين هو سياسة إخراج الشِّعر من أفُق الحقيقة بإطلاق، أو الفلاسفة عن اللاهوت، والحال أن اللاهوت هو علم حيل نكاح العقل في ثقافةٍ ما. فالنقاط الخمس المشار إليها هي في نظر المحدَثين لا يمكن أن تكون إلا بمثابة خمسة أمراض أخلاقية لأُمَّة «خارجة» عن الحداثة. ألا وهي: تعدُّد الزوجات،٦٤ والتمييز الجنسي، والبطركية، ودونية المرأة، واللامساواة. كيف يمكن الدفاع فلسفيًّا/وجوديًّا/شخصانيًّا، عن دينٍ أَسَّس وضع المرأة على هذا النوع من الأحكام؟ كيف يجوز لأي فيلسوفٍ شخصاني أن يتخلى للدين عن مساحة تفكيرٍ شخصاني مركزي مثل «المرأة»، الشريك الميتافيزيقي في بَلورة «غدٍ» أخلاقي مشترَك بين الجنسَين؟!

بدلًا من أن يخوض الحبابي أي سجالٍ لاهوتي مستنير مع فقهاء البؤس النسوي في ثقافتنا، اختار الحبابي طريقةً أخرى لها مغزًى فلسفيٌّ خاص.

قال: «فنحن إذ نقتصر على «الكتاب والسنة»، في بحثنا، نتناول بالدرس الإسلامَ قبل احتكاكه بالثقافات اليونانية والفارسية والهندية (وقبل تفاعُله مع الثقافة الإسرائيلية والمسيحية) مما سيجعلنا نُبرز العناصر المكوِّنة لشخصانيةٍ إسلامية أصيلة.»٦٥
هذا القرار التأويلي أعاده الحبابي في مستهل الفصل الذي خصصه لدراسة «وضع المرأة»٦٦ باعتباره «الصعوبة الرئيسية» أمام أي دعوى فلسفية حول «شخصانيةٍ إسلامية». إذن: يبدو أنه لا يمكن إنقاذ المرأة في الإسلام إلا إذا أعدْنا الإسلام نفسه إلى ماهيته الأولى. بين قدر المرأة وقدر الإسلام هناك إذن صلةٌ سابقة إلى نفس الأمر: أصالةٌ ما في خطر، وينبغي على المفكر إنقاذها.

إن أصالة المرأة من أصالة الإسلام، أو هكذا يبدو، حسب خطة الحبابي. وهكذا فإن المسائل الخلافية حول وضع المرأة في الإسلام، التي عمل الحبابي على تخريجها من موقع التزييف الفقهي إلى موضع الأصالة الأخلاقية، من قبيل «تعدُّد الزوجات» و«المساواة بين الرجل والمرأة» ودعوى «الرجال قوامون على النساء» و«الأموسية والأبيسية» و«المسلمة والحياة الجنسية»؛ هي مسائل قادها الحبابي بفلسفة أملٍ عنيدة لا نكاد نميز فيها بين هدف تحرير المرأة وبين مقصد تحرير الإسلام (!) هل كان الحبابي يرمي إلى الأمرَين معًا؟

وخطة التحرير/التأصيل التي اعتمدها الحبابي تعود في كل مرة إلى رسم معالم صورةٍ أخرى عن العلاقة الإسلامية بالمرأة، هي بالطبع ليست سوى الصورة الشخصانية، ولكن بعد نفض الغبار الفقهي عنها بالفكر الحر.

(٤) الزواج الأحدي: الرجل والمرأة «من نفس واحدة»

ضد الفقه الرجالي الذي يتأوَّل آيات النكاح على نحوٍ يسمح له ببسط سلطته الجندرية وفقًا لرؤيةٍ «أبيسية» للعالم؛ حيث تلعب الذكورة دَور البراديغم في ثلاثية الأب/الحاكم/الإله، التي أقام عليها الساميون التاريخ العميق لأنفسهم القديمة، حاول الحبابي، برشاقةٍ مرحة ولكن بعنادٍ نظري طريف، أن ينافح عن «الزواج الأحدي»٦٧ باعتباره هو المغزى «الأصلي» للنص القرآني، مستنِدًا في ذلك على السورة المدنية النساء (٣-٤، ١٢٧-١٣٠).
وعلى كثرة الحجج الصغرى التي قدَّمها، وهي «صغرى» في معنى أنها تنتمي إلى صلاحية القول الفقهي وذهنية الفقيه وتاريخ المسائل الخلافية في تاريخ الفقه الإسلامي الكلاسيكي، مثل أن «تعدُّد الزوجات لم يكن قط لا واجبًا ولا مستحبًّا»، أو أن «للزوجة الحق بأن تضيف إلى عقد الزواج شروطًا تلزم الزوج باحترام الزواج الأحدي»، أو أن «للزوجة الحق أيضًا أن تطالب القاضي بفسخ الزواج كلما وُجدَت أسبابٌ مقبولة»، أو أن «بإمكان الزوجة أن تطلق فسخ عقد الزواج إذا رفض الزوج أن يقاسمها فراشه عن إرادة، أو أن يجعلها تعاني من تعسفاته الشبقيَّة»٦٨ … إلخ. على الرغم من كل ذلك فإن ما يلفت النظر فلسفيًّا في خطة الحبابي هو كونه قد أخذ الآية الأولى من سورة النساء٦٩ بوصفها مبدأً ميتافيزيقيًّا في المساواة بين الجنسَين، وذلك قبل أي نقاشٍ حول نكاح النساء. قال: «فهناك إذن بين الجنسَين، في أصل التكوين، تساوٍ مطلَق، تام، يرتكز على روابط «المودة والرحمة».»٧٠

القصد الفلسفي هو تنسيب فكرة «التعدُّد» بالكشف عن ثانويتها أو عن تأخرها بالمقارنة مع لحظةٍ ميتافيزيقية أقدم منها: إنها لحظة «الخلق». فحين نسلم بأن الجنسَين كلَيهما مخلوقان من «نفسٍ واحدة»، يصبح كل كلام في الاستعمال العددي لأحدهما من طرف الآخر، اعتداءً ميتافيزيقيًّا عليه. ثمة مساواةٌ سابقة بين الجنسَين تُوجَد في «أصل التكوين»؛ بحيث إنه لا يمكن من بعدُ لأي فقه أن يؤسِّس عدم المساواة بين الرجال والنساء دون أن يُلحق ضرارًا أنطولوجيًّا بشخص المرأة.

في الحقيقة، لم يكن قول القرآن في النساء قولًا فقهيًّا في أول أمره، نعني لم يكن نظرية في الأحوال الشرعية أو نظرية في قانون النساء. كل تلك الآيات هي حسب الحبابي تتحدث في أكثرها عن «الزواج بيتامى النساء»؛ وهذا الأمر خطيرٌ جدًّا: إن سياق سورة النساء هو القول في سياسة اليتامى في الإسلام، ومن الطريف بذلك أن النساء هي تدخل في خانة اليُتم الأخلاقي أمام سُلطة الرجال؛ ولذلك فإن فصل الخطاب في الكلام القرآني عن النساء لم يكن اللذة أو التقنيات الشبقيَّة أو آداب العشق، بل «القِسط» و«العَدل» (!) إن سورة النساء هي في عمقها قول في العدل، وليس خطابًا فقهيًّا في أحكام النساء أو حتى خطابًا نسويًّا على فم الرجال.

ومن المثير أن نلاحظ أن الآية الثالثة من سورة النساء هي تركيب بين قضيتَين خطيرتَين لا علاقة بينهما في الظاهر: من جهةٍ، وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ [النساء: ٣]، ومن جهةٍ مقابلة، فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً. في اللحظة الأولى يبدو النكاح المتعدد حلًّا ضد عدم القسط في اليتامى؛ لم يكن النكاح مطلوبًا لذاته، بل مجرَّد وسيلةٍ فقهية لدرء ظُلمٍ مسلَّط ليس على النساء بخاصة، بل على اليتامى بعامة. النكاح ضد اليُتم، أو النكاح ضد ظلم اليتامى. أما في اللحظة الثانية، فإن النكاح الأحدي هو حلٌّ هذه المرة ضد عدم العدل بين النساء. إذن، وحده النكاح الأحدي يخص الكلام حول النساء، في حين أن النكاح المتعدِّد هو مستدعًى من أجل درء عدم القسط في اليتامى.

لذلك يقول الحبابي: «فالإسلام يرمي، بصفةٍ عامة، إلى حماية المرأة ضد كل محاولة تعسُّف أو ظلم من جانب الزوج … فالفضيلة الأساسية هي العدالة، خصوصًا إزاء الزوجة.»٧١

لا يمكن الدفاع عن تعدُّد الزوجات دون أن يؤدِّي ذلك إلى طرح مسألة العدل. وهذه قضيةٌ عميقة؛ لأن العدل لن يتعلق فقط بالعدل بين النساء تحت زوجٍ واحد، وإن كان هذا هو السياق القرآني الصريح، بل بالعدل بين النفوس التي خرجَت «من نفسٍ واحدة»، نعني بين جميع البشر.

لذلك يذهب الحبابي صراحة إلى أن الإسلام متى قرأناه بشكلٍ أصيل، وليس بعيونٍ فقهية «أبيسية»، إنما «يصل بنا إلى تحريمٍ ضمني لتعدُّد الزوجات.»٧٢ «ضمني» لا تعني هنا معنًى غير صريح أو مضمرًا، بل تعني الحثَّ غير المباشر أو الليِّن أو المقاصدي على اتخاذ موقفٍ شخصي دون حُكم أو أمر أو نهي. وكثرة «القيود» والتحدي (كما في عبارة «ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم»، النساء الآية ١٢٩) هو علامة على تحريمٍ ضمني، وليس تألقًا أخلاقيًّا فحسب؛ ذلك أن القرآن ليس فقط هو قد حدَّ من عدد الزوجات (على خلاف عصره) بل هو حرَّم أنواعًا أخرى من الزواج أكثر قبحًا من مجرَّد التعدُّد الشخصي: زواج «الرهط» («عدد الرجال بالنسبة للمرأة الواحدة») وزواج «البدل» (تبادل النساء) وزواج «الاستبضاع» (وطء «فراش فارس مرموق»).٧٣ هذه الأنواع القبيحة من الزواج هي نمط الإهانة الرسمي للمرأة في ذلك الوقت، وتحرير النساء كان بالأساس تحرير «الشخص» من الاستعمال الرجالي «البدوي»، والرهط والبدل والاستبضاع هي أنواع الإساءة الأخلاقية التي تقوم على الافتراض الرديء بأن المرأة ليست «شخصًا» بل جسدًا مملوكًا للسلطة الأبيسية على النساء بعامة. ربما كان القرآن هو أول محاولة بناء مساحة المرأة/الشخص في تاريخ العرب. وسورة النساء ليست مجرَّد نصٍّ فقهي بل هي محاولة بناء مساحةٍ أخلاقية محرَّمة خاصة بالنساء، وإن كان مفهوم المرأة/الفرد لم يتبلور بعد.
وحسب الحبابي فإن هذا التخريج الذي يدافع عنه قد سبق أن ارتآه المعتزلة وهو ما عاد إلى توكيد صاحب تفسير «المنار».٧٤ وهذا يؤكد أن الاجتهاد في تحرير الإسلام من تاريخ الفقه، مطبقًا هنا على تحرير المرأة من تاريخ النساء، هو موقف ليس ببدعةٍ حداثية، قام بها علمانيون متعلمون في بلاد الاستعمار. بل هو سيرة في الفهم متأصلة ليس فقط في المدوَّنة الأولى لأنفسنا القديمة: القرآن والحديث، بل هي تعمل بعدُ في العقل العالم كما اشتغل في سياق علم الكلام العقلي من المعتزلة إلى المصلحين المعاصرين.

(٥) ملكية الأنا، ملكية الاسم: مساواة أنطولوجية ما وراء الاختلافات الجندرية أو «إن المرأة شخص» (!)

من أطرف الحجج التي يسوقها الحبابي في مجرى المنافحة الشخصانية عن المساواة بين الرجل والمرأة، وهو يعتقد جازمًا أن هذا من تعاليم الإسلام الأصلية، هي تلك التي تتعلق بموضوعة «الأنا»، وهذا يتبدَّى في هذا المعطى الرمزي المثير (خاصة بالنسبة إلى قارئٍ فرنسي أو أوروبي بعامة).

قال: «تحتفظ المرأة باسمها (الاسم العلم)؛ لأنه صميمي في «أناها»، فلا تتنازل عنه لتحمل اسم الزوج. إن الزواج لا يُضعف من شخصية المرأة؛ فهي ليست «مدام فلان …»، بل إنها، وستبقى، كل حياتها، تحمل الاسم الذي حملَته منذ الولادة. نعم، لكل امرأة الحرية لتعطي لنفسها أي اسمٍ شاءت، لكن ليس هناك في الإسلام قانون يفرض عليها أن تنسلخ عن شخصيتها لفائدة اسم الزوج.»٧٥

لا يتعلق الأمر هنا بمجرَّد تسميةٍ اجتماعية للمرأة/الزوجة من ثقافة إلى أخرى، بل بمشكِلٍ وجودي كبير: إن الاسم هو العلامة الهووية الحاسمة على معنى «الأنا» في شخصية شخصٍ ما. بل ما «الشخص» من دون «اسم»؟ شخص بلا اسم هو شخص بلا أنا؛ ولذلك فإن انتقال أو نقل المجتمع للأنثى من «المرأة» إلى «الزوجة» هو عمليةٌ سياسية من الطراز الرفيع: هي سياسة الجندر الذي يسمِّيه المجتمع «مرأة» أو «نساء» حرصًا منه على تدجين معنى «الأنثى» والحد من حريته الجذرية في الانتماء إلى نفسه؛ ولذلك تنزع بعض المجتمعات، مثل المجتمع الفرنسي، حيث تعلَّم الحبابي تعاليم الشخصانية من فلاسفة من قبيل مونيي ولاكروا، تنزع إلى الحد من أنوثة الأنثى بالزج بها في براديغم «الزوجة» تحت اسمٍ جديد هو «سيدة» أو «حرم» (مدام) فلان. و«فلان» هذا هو جندرٌ غير نسوي أو هو الجندر الرسمي للشخص في المجتمع الأبوي، نعني «الرجل». وحيث تتماهى دلالة «الرجل» (المذكَّر الاجتماعي) مع دلالة «الزوج» (الصيغة الأبوية للاسم أو لمن يملك آلة الاسم وسُلطة التسمية على المرأة).

بذلك يبدو الإسلام في نظر الحبابي بمثابة ثورةٍ شخصانية في ترتيب علاقة المرأة «بنفسها»، نعني بآلة «الأنا» التي تستمد منها هويتها النسوية. إنه يمكنها — على عكس المجتمع الأوروبي — من أن تحتفظ باسمها مع كل النتائج الوجودية والهووية التي تترتب عن هذا الموقف. مثلًا: أن المرأة في الإسلام ليست موضوع نكاحٍ رجالي، دائمًا، بل هي «لها الحق في الزواج، والحق في تكوين أسرة، والحق في الإرث، وفي الملكية الشخصية، ويبقى الإرث والمكتسبات خاصة بها»، أو أن «المهر يصبح ملكًا شخصيًّا للمرأة»، أن لها «حرية التصرف في ممتلكاتها».٧٦ وبكلمةٍ جامعة: إن الإسلام قد مكَّن المرأة من أخطر مساحة هويةٍ ممكنة لكائنٍ بشري: مساحة «الملكية الشخصية»، ومن دون ملكيةٍ شخصية لا معنى للكلام عن أي مضمونٍ وجودي لكينونة «الشخص». وبالفعل هذا هو مقصد الحبابي: أن فقه النساء في الإسلام قد أسَّس معنى المرأة/الشخص وضبط أحكامه بصرامةٍ عالية. وليس هناك أي مساواة بين الرجل والمرأة إلا في هذا السياق. وأفضل الحجج لا يمكن أن نعثر على ذلك إلا في موضوعة الملكية.

أجل، عادةً ما يُناقَش موضوع النساء في الإسلام من زاويةٍ واحدة هي تعدُّد الزوجات. ولكن هذا الجانب يكاد يكون الجانب الأضعف والأكثر هشاشةً فقهية. وبكلمةٍ واحدة: هو لم يكن مقصودًا لذاته. أما ما كان مقصودًا لذاته فعلًا فهو سَن حقوق للنساء، خاصة بها، وغير قابلة للاستلاب. ومهما كانت تلك الحقوق محدودة بالمقارنة مع الإعلان العالمي الحديث لحقوق المرأة، فإن بناء حرمةٍ قانونية للنساء كأشخاص مالكة أو كذوات ملكية قائمة بذاتها، قد كان مكسبًا رمزيًّا استثنائيًّا في ثقافتنا العميقة. ووضع شيء مثل «فقه النساء» هو نفسه فتحةٌ علمية وحقوقية من طرازٍ رفيع.

هذا التأسيس القانوني (الفقهي) للمرأة/الشخص لم يكن اجتهادًا حضاريًّا متأخرًا بل كان مستقًى من نبع القرآن نفسه: فجأةً، مع الحدث القرآني، انسحبَت صورة «المرأة» الجاهلية (أنثى زواج الرهط أو البدل أو الاستبضاع، الأنثى «الموءودة» والأنثى التي متى بُشِّر بها «الرجل» الوثني ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)٧٧ وتم تنصيب صورةٍ غير جاهلية، صورة «إنسانية» للمرأة/الشخص؛ لذلك يقول الحبابي: «يقرن القرآن، دائمًا، المرأة بالرجل، في كل الحالات، فلم تعد شيئًا من أشياء الرجل، بل قرينته وكفئًا له.»٧٨ هذا الجمع القرآني بين الرجل والمرأة في صعيدٍ أخلاقي وفقهي واحد كان يحمل في طيَّاته تشريعًا روحيًّا ووجوديًّا للمساواة بين الجنسَين، وليس مجرَّد ضرورةٍ سردية أو فضول إحصائي.
على هذا الأساس الطريف يؤكد الحبابي أن الإسلام قد سن مساواةً أنطولوجية لا جدال فيها بين الرجل والمرأة. وهو يطلق على هذا الحدث الوجودي والأخلاقي، الشخصاني، صفة «ثورة من الجذور».٧٩ وهي جذرية في معنى أنها تستند إلى ماهية «الشخص» وليست مستمدة «من العادات الطابووية (tabou) ومن أعراف العصر الجاهلي».٨٠ وإذا كان ثمة «بعض الاختلافات» بين الرجل والمرأة فهي «لا تتصل، مطلقًا، بالجانب الأنطولوجي، بل تنحصر في الجانب القانوني الفقهي فقط».٨١
والقصد من المساواة الأنطولوجية هو أنها تقع في صلب «كينونة» المرأة/ الشخص، وليس في نوع الاستعمال الاجتماعي لجسدها. استعمال الجسد/الشهوة هو الذي مكَّن الفقه من تحويل المرأة إلى جندر، أي إلى نوعٍ اجتماعي نسوي هو على ذمة الاستهلاك السلطوي الرجالي. الفقه هنا: هو تقنية تحويل النساء إلى جندر تحت الطلب. وهو دومًا من اختصاص الرجال. و«الرجال» هم مؤسسة الثالوث الأب/الحاكم/الإله في ثقافةٍ ما. قال الحبابي: «فبما أن كل الفقهاء، إلا فيما ندر، هم من الرجال، فقد أوَّلوا معطيات المشاكل من منظار الرجل أكثر من اللازم.»٨٢
لكن طرافة تأويل الحبابي هو كونه لا يعادي جندر الرجال دفاعًا عن جندر النساء، بل فقط يرصد عناصر التحرر الموجودة في تراث أنفسنا القديمة، بحيث يمكنه أن يضع المرأة المسلمة في مكانها من النقاش العالمي حول تاريخ النساء؛ فبالمقارنة مع المرأة/البضاعة التي يمكن مقايضتها (في أثنيا القديمة) والمرأة/المهدور دمها، التي يحق للزوج قتلها (عند الرومان) وامرأة/نكاح المحارم (الفارسية) والمرأة/النجسة، التي يجب عزلها عن محيطها (عند اليهود)؛ خلص الحبابي إلى الاستنتاج بأن «وضع المسلمة وضعٌ تحرري ممتاز».٨٣ لأول مرة يتم التطرق إلى وضع المرأة من زاوية تاريخ النساء، وليس فقط من زاوية المفاضلة السقيمة الذكَر والأنثى. إن المرأة رهينة تاريخ حريتها. وبهذا المعنى فقط هي «شخص» أي عملية «تشخصن» يتخذ في كل مرة شكلًا معيَّنًا من «التحرر».
هذا التأويل الجندري هو موقفٌ فلسفي سابق لعصره يبدو أن الحبابي استقاه من قراءاته الوجودية ولا سيما كتاب سيمون دي بوفوار «الجنس الثاني» أو «الجنس الآخر» الذي صدر سنة ١٩٤٩م،٨٤ وهو، كما هو مقرَّر، نقطة انطلاق الأبحاث النسوية ودراسات الجندر منذ ظهوره إلى اليوم.
وعلينا أن نأخذ في الاعتبار أن الحبابي ذاهب حقًّا في التأسيس الشخصاني للمساواة بين الرجل والمرأة إلى منتهاه. وهو لا يكتم هذا الموقف الخطير بل يفتش في كل سياق عن تبريرٍ مناسب له. قال: «قضية مساواة المرأة بالرجل نقطة ارتكاز في كل اتجاهٍ شخصاني؛ لذا نرانا ملزَمين بأن نتفحصها من جوانب مختلفة.»٨٥
لكن القارئ لا يُنتظَر منه أبدًا أنه سوف يشرئب بفضوله الفلسفي إلى واحدة من الطموحات الوجودية الدفينة في قاع ماهية النساء لدى الشعوب التوحيدية بخاصة، ونعني أحقِّية النبوة. قال: «بما أن المرأة مساوية للرجل، من الجانب الأنطولوجي، أيمكنها أن تكون نبية؟» ثم يجيب: «فليس من تبريرٍ يجعل النبوة امتيازًا للرجال. أليست النساء، عند الله، شقيقات الرجال؟»٨٦
هذا الطور من طرح الحبابي حول التأويل الشخصاني للمرأة في أفُق الإسلام ذو دلالةٍ مثيرة. فعلاوة على رهن الشخصانية في فهم قضية المرأة، وعلاوة على رهن ماهية الإسلام في تأويل مكانة النساء لديه، ولا سيما المساواة الأنطولوجية مع الرجال، ها هو الحبابي يدفع بتلك المساواة إلى نتيجتها الميتافيزيقية القاهرة: «إمكانية نبوة المرأة»،٨٧ مادامت «تتوجه المرأة إلى الله بنفس الشعائر التي يتعبَّد بها الرجل»٨٨ (!) هل ثمة مساواةٌ أنبل وأكرم من المساواة في الشهادة٨٩ وفي الشعائر وفي نمط العبادة لإلهٍ واحد؟ إن كل الدعاوَى الجندرية حول تفوُّق الرجل تنكشف هنا مثل قناعٍ أبيسي مزعج لجنس ليس له من برنامج أخلاقي لنفسه غير الهيمنة الأخلاقية على جنسٍ آخر.

(٦) الإيمان والجنس: أو المرأة والمقدَّس

بما أنه لا يمكن أن يخلو كلام في المرأة من طَرق مقصود لذاته لمسألة الجنس و«الحياة الجنسية»؛ فإن الحبابي قد حرص على رصْد عنصر الطرافة الأكبر في الطرح القرآني لتجربة الجسد/الرغبة، ونعني بخاصة الربط المثير بين لذة الجماع ولذة المقدَّس. وذلك في سعي إلى ترجمة معنى «المودة والرحمة»٩٠ بين الزوجَين في دلالةٍ جنسيةٍ وجهُ الطرافة فيها أنها ليس فقط لا تتعارَض مع المقدَّس بل هي آيةٌ استثنائية ومقصودة عليه.
لبيان ذلك أورد الحبابي أحاديث على غايةٍ من الأصالة الأخلاقية والوجودية، كثيرًا ما يميل الفقه الرجالي إلى السكوت عنها. مثاله:
  • «ما من رجل أخذ بيد امرأته يراودها إلا كتب الله تعالى له حسنة، فإن عانقها فعشر حسنات. فإن أتاها كان خيرًا من الدنيا وما فيها.»

  • «خيار الرجال من أُمتي خيارهم لنسائهم، وخير النساء من أُمتي خيرهن لأزواجهن، يُرفَع لكل امرأة منهن كل يوم وليلة أجر ألف شهيد.»

  • «ما من امرأة حملَت من زوجها حين تحمل إلا كان لها من الأجر مثل القائم ليله، والصائم نهاره، والغازي في سبيل الله تعالى.»٩١
لم تكن المرأة مجرَّد «فرديةٍ دينية» أو «شخصيةٍ شرعية»٩٢ مقابلة لشخصية الرجل المؤمن، بل هي مجالٌ لتحقُّق المقدَّس وشرط ترنسندنتالي للاتصال به. وليس ذلك مجرَّد نيةٍ مترهبنة بل هو تجربةٌ حميمة بالجوارح والأعضاء، لا سيما وأن القرآن يبلغ في مخاطبة الأعضاء و«تشخصنها» ومحاورتها مبلغًا فريدًا. إن الإيمان تجربةٌ «عضوية» وليس مجرَّد خاطرٍ روحي بلا أعضاء. ليس ثمة في الإسلام إيمان بلا أعضاء، نعني بلا جسد، ومن ثَم بلا استعمالٍ مناسب، أي «ودود» و«رحيم» للذة.
هنا تأخذ المساواة «الأنطولوجية»٩٣ بين الرجل والمرأة، المشار إليها سابقًا، بُعدًا ملموسًا؛ إنها بنفس القدر وقبل ذلك مساواةٌ «بيولوجية» («من نطفة») و«سيكولوجية» («من أنفسكم»).٩٤ وهذه المساواة المثلثة هي أكبر علامة على بُطلان الدعوى السائدة عن «شيئية» المرأة في تاريخ الجسد في الإسلام.
وإذا كانت المسيحية الغربية قد أقامت فهم الذات على تاريخ الجنسانية المكبوتة، النجسة، ذات الضمير المعذَّب وشعور الخطيئة؛ فإن الإسلام هو أقرب إلى حضارات الشرق منه إلى الدين التوحيدي في صيغتيه اليهودية-المسيحية. إن الجسد المسلم هو جسدٌ شبقي من أقصاه إلى أقصاه؛ ولذلك كان من السهل على بعض الغربيين اتهامه بكونه ينظر إلى المرأة المسلمة باعتبارها «شيئًا من متاع الرجل لا يتعدى أن يكون موضوعًا لشهواته؛ إذ يرَون أن أخلاقية الإسلام لا تخرج عن دائرة الجماع».٩٥

ضد هذا الحكم المسبق (الصادر عن رؤيةٍ مسيحية مترهبنة للجسد وللجنس)، حاول الحبابي أن يبيِّن كيف أنَّ مكمن الصعوبة في نظرة الإسلام إلى الجنس هو كونه يعتبِر الجماع مجالًا للمقدَّس وليس أداة تدنيس لقداسةٍ ما، ممنوعة عن البشر والبشرية. وكيف يمكن لمسيحي أن يفهم أن «مراودة» الرجل لامرأته هي «حسنة» وليس سلوكًا شبقيًّا عابثًا؟ أو أن «عناقها» يساوي «عشر حسنات»؟ أو أن جماعها هو «أجر ألف شهيد»؟

وبذلك فإن المساواة في الشهادة وفي التعبد بين «الجنسَين» لا ترقى في الأجر إلى مستوى الإتيان «الجنسي» للمرأة وفقًا لنمط العفَّة الذي قرَّره القرآن. لا يتعلق الأمر هنا بمساواةٍ شبقيَّة بل بما يسمِّيه الحبابي «تنظيم المساواة» و«توجيهها»؛٩٦ لذلك ينبِّه الحبابي إلى طرافة موقف الإسلام من «العزوبة»، ولا سيما تلك التي تكون «عن عقيدة وقناعة جنسية؛ لأنها معاكسة للطبيعة».٩٧ والعبرة هي أن العزوبة تعليقٌ سيء للجنوسة التي تنظِّم علاقة الجنسَين: من دون تقابُل بين جنسَين «مجنوسَين» و«جنسيَّين» لن يكون هناك «مودة ورحمة» بين الناس. إن الجنس هو الرابطة «العضوية» والوجدانية بين الذكَر والأنثى من أجل تنظيمٍ مناسب للعلاقة الاجتماعية بين الرجل والمرأة؛ ولذلك ليست العزوبة علامة على الطهر أو العفة بل هي رعونةٌ أخلاقية للذهاب إلى ما هو أبعد من المنزلة الإنسانية. العزوبة تألهٌ رديء. ويؤكد الحبابي قائلًا: «على كل مُجدِّد مسلم ألا يخجل من الاهتمام الذي أعاره الإسلام للغريزة الجنسية: إن معطيات الدين الإسلامي في مستوى الكائنات الحية.»٩٨

ومع ذلك علينا أن نتساءل اليوم، بعد الحبابي: هل ذلك يسوغ ما صار يُسمَّى راهنًا «جهاد النكاح»؟ أم أن الإسلام براء من هكذا انتحال عدمي للجنس ومن ثم للمرأة/الشخص؟ كل ما قاله الحبابي في هذا المبحث هو جواب عن هكذا احتمال.

خاتمة: الأموسية المفقودة

من الإشارات الطريفة تحت قلم الحبابي تنبيهه إلى معنى لفظة «زوج» في القرآن: أنها لفظة لا ينبغي أخذها في دلالتها الحديثة؛ أي زوج المرأة، بل، على حد عبارته: «يُطلَق «زوج» على الذكَر والأنثى (الرجل والمرأة).»٩٩ لا أحد زوج الآخر إلا بمساواةٍ سابقة بين الجنسَين. إلا أن الحبابي يأخذ المساواة هنا في معنًى لطيف وليس في معنًى نضالي حديث. إنها مساواة «الأخوة» الأنطولوجية بين الجنسَين المخلوقَين «من نفسٍ واحدة». وهو يحيل هنا على حديث «عائشة زوج النبي: «شقائق الرجال»».١٠٠
بناء على أخوةٍ أنطولوجية بين الجنسَين لا تكون المساواة اعتداءً جندريًّا لجنسٍ على آخر، بل فقط محاولة تحرير إمكانية المرأة من تاريخها الأبيسي الذي قام دومًا على أطروحة «تفوُّق الرجال». وحسب الحبابي فإن «تفوُّق الرجال مغتصب، وليس أصيلًا في الطبيعة البشرية … إنه تفوُّقٌ كسْبي، في مجتمعٍ سادَته الأبيسية المطلقة.»١٠١
إن الطريف هنا هو أن الحبابي يقدِّم الإسلام وكأنه كان في صراعٍ تأويلي ووجودي مرير مع النزعة «الأبيسية»، وليس ممثِّلًا آخر لها. إنه برنامجٌ أخلاقي متكامل حول «أنسنة المرأة»؛ إذ وجدها في مجتمعٍ أبيسي مهيمِن، قائم على تفوُّق جندرٍ واحد هو الرجل. الأنسنة تعني هنا المساواة في شيءٍ واحد ووحيد هو «الكرامة»: «سوَّى بينها وبين الرجل في حدِّ القذف، وهو تساوٍ في العِرض، كما أقر الحكم بالقتل على قاتلها؛ لأن دمها مساوٍ لدم الرجل.»١٠٢ «العِرض» و«الدم» مقوِّمان حاسمان في بناء هوية شخصٍ ما؛ ولذلك فإن الإسلام لم يكتفِ بتحسين وضع النساء، من حيث طُرق النكاح أو الاستعمال الاجتماعي لأجسادهن، بل هو قد ثوَّر معنى كرامتها، وفتح الطريق أمام تحرير جندر المرأة من هيمنة جندر الرجل في ثقافتنا العميقة. وأطرف ما في بحث الحبابي في الأساس الشخصاني لمكانة المرأة في الإسلام هو كونه أقرب إلى ما صار يُسمَّى اليوم «أخلاق العناية» منه إلى أيِّ أخلاق واجب. وبالفعل هو يصرِّح بأن كلًّا من القرآن والسنة إنما يضمَّان «كثيرًا من أمارات العناية بالمرأة»١٠٣ كجنسٍ مهيمَن عليه يحتاج إلى مَن ينتصر له. وهذا هو لُب الموقف القرآني من النساء: إنه عنايةٌ شخصانية بجنسٍ مقهور قهرًا جندريًّا، وليس مجرَّد موضوعة نكاحٍ رجالية رسمية لا مرد لها.
وهنا يجازف الحبابي بافتراضٍ على غاية من الطرافة؛ قال: «فلو أن الإسلام أتى في بيئةٍ تسودها الأموسية لقفز أبعد في تحرير وأنسنة المرأة، ولا نغامر في الدفاع على الرجل؛ لأن الرجل في النظام الأموسي، يكون لا حول له ولا قوة.»١٠٤ عندئذٍ علينا أن نحضر جوابًا عن هكذا سؤال: «ما هي التدابير التي يجب اتخاذها في حق الرجل الناشز؟»١٠٥ (!) لكن رأي الحبابي هو أكثر حصافة وتوازنًا: إن النظام الأموسي قد انقرض كما أن النظام الأبيسي قد هرم. والأفق هو: «تفتح نظامٍ جديد تتكامل فيه الأبيسية مع الأموسية، داخل نسقٍ جديد يخفق شبابًا وحماسًا.»١٠٦ هل حان الوقت لدَينا للمشاركة في هكذا نبوءة؟ أم تاريخ الأب/الحاكم/الإله لا يَعرف تغييرًا؟ …
١  (فاس ١٩٢٤-الرباط ١٩٩٣م).
٢  Charles Renouvier (1815-1903): Le Personnalisme (1903).
٣  Emmanuel Mounier (1905-1950): Le Personnalisme, coll., “Que Sais-je?,” no 395 (Paris: P.U.F., 2001; 1re édition: 1949), Ecrits sur le personnalisme, préface de Paul Ricœur, collection “Points-Essais” (Paris: Éditions du Seuil, 2000).
٤  الحبابي، محمد عزيز، من الحريات إلى التحرر، مكتبة الدراسات الفلسفية (مصر: دار المعارف، ١٩٧٢م)، ص٥. صدر هذا الكتاب في أصله بالفرنسية ونقله المؤلف بنفسه إلى العربية. راجع:
Lahbabi, M. A., Liberté ou libération? A partir des libertés bergsoniennes (Paris: Aubier, 1956).
٥  الحبابي، محمد عزيز، عالم الغد، العالم الثالث يتهم. ترجمة فاطمة الجامعي الحبابي (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ١٩٩١م).
٦  الحبابي، محمد عزيز، بؤس وضياء (بيروت: مطبعة ستاركو، ١٩٦٢م)، يتيم تحت الصفر (الدار البيضاء: عيون المقالات، ١٩٨٨م).
٧  الحبابي، محمد عزيز، جيل الظمأ. رواية (بيروت: المكتبة العصرية، ١٩٦٧م)، العض على الحديد. قصص (تونس: الدار التونسية للنشر، ١٩٦٩م)، إكسير الحياة. رواية (القاهرة: دار الهلال، ١٩٧٤م).
٨  قارن: الحبابي محمد عزيز، دراسات في الشخصانية الواقعية، من الكائن إلى الشخص، مكتبة الدراسات الفلسفية (مصر: دار المعارف، ١٩٦٨م)، صدرَت الطبعة الأولى لهذا الكتاب بالفرنسية سنة ١٩٥٤م، وكانت في الأصل جزءًا من رسالة الدكتوراه. راجع:
Lahbabi, M. A., De l’être à la personne: essai d’un personnalisme réaliste, avant-propos de Pierre Maxime Schuhl (Paris: P.U.F., 1954; Thèse de Philosophie, Paris: 1953).
٩  الحبابي، محمد عزيز، الشخصانية الإسلامية، مكتبة الدراسات الفلسفية، الطبعة الثانية (القاهرة: دار المعارف، ١٩٦٩م) ص٨٥-١٠٧. وكان قد صدر بالفرنسية: Lahbabi, M. A., Le personnalisme musulman (Paris: P.U.F., 1964).
١٠  Lahbabi, M. A., De l’être à la personne: essai d’un personnalisme réaliste, avant-propos de Pierre Maxime Schuhl (Paris: P.U.F., 1954; Thèse de Philosophie. Paris: 1953).
وتُوجَد ترجمةٌ عربية لهذا الكتاب الأساسي قام بها المؤلف نفسه: الحبابي، محمد عزيز، دراسات في الشخصانية الواقعية، من الكائن إلى الشخص، مكتبة الدراسات الفلسفية (مصر: دار المعارف، ١٩٦٨م).
١١  Lahbabi, M. A., De l’être à la personne, Ibid., p. 194-195.
١٢  Ibid., p. 195.
١٣  Ibid., p. 196.
١٤  Ibid., p. 197.
١٥  Ibid., p. 197.
١٦  Ibid., p. 198.
١٧  Ibid., p. 199.
١٨  Ibid., p. 197.
١٩  Ibid., p. 199.
٢٠  Ibid., p. 199.
٢١  Ibid., p. 200.
٢٢  Ibid., p. 222.
٢٣  Ibid., p. 223.
٢٤  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٣٢.
٢٥  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٣٤.
٢٦  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٢٠.
٢٧  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٢٠.
٢٨  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٢٤.
٢٩  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٢٤.
٣٠  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٢٧.
٣١  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٤٠.
٣٢  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٤٠.
٣٣  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٤١ وما بعدها.
٣٤  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٤٦.
٣٥  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٤٦.
٣٦  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٤٧.
٣٧  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٤٨.
٣٨  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ١٤١.
٣٩  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ١٨٠.
٤٠  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ١٥٦.
٤١  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ١٥٩.
٤٢  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ١٩٦.
٤٣  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٤٩.
٤٤  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٤٩.
٤٥  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٥١. التشديد في النص من عندنا.
٤٦  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٥١.
٤٧  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٥٨.
٤٨  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٤٨.
٤٩  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٥٢.
٥٠  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٦٦.
٥١  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٧٤.
٥٢  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٧٩.
٥٣  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ١٠٩.
٥٤  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٢٠٩.
٥٥  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ١٩٦.
٥٦  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٢١٩.
٥٧  يريد: بين communauté (جماعة، أمة …) وmasse (جماهير بالمعنى السائد في عصر الأيديولوجيات، أو كما تحت قلم حنا أرندت). قال: «الإنسان المعشري (communautaire) يختلف تمامًا عن «الإنسان-جمهرة» (l’homme-masse).» ضِمن: الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٢٢٠.
٥٨  التشديد من عندنا.
٥٩  الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ٢٢١.
٦٠  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٥. التشديد من عندنا.
٦١  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٥.
٦٢  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٥.
٦٣  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٥.
٦٤  مصطلح «البولغاميا» (polygamie) مكوَّن من جذرَين يونانيَّين هما: polys أي «كثير» و«عديد»، وgamos (زواج، نكاح). لكن «البوليغامية» لا تعني تعدُّد الزوجات فقط بل تعدُّد الأزواج أيضًا. ولذلك أخذ علماء الأنثروبولوجيا يفرِّقون بين polygynie أي أن تكون لدى رجلٍ واحد زوجاتٌ عديدة، وبين polyandrie أي أن يكون لدى امرأةٍ واحدة أزواجٌ عديدون.
٦٥  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٥.
٦٦  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٥.
٦٧  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٦.
٦٨  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٦.
٦٩  تقول الآية الأولى من سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: ١].
٧٠  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٦.
٧١  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٧.
٧٢  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٧.
٧٣  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٨-٨٩.
٧٤  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٨٧.
٧٥  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٠.
٧٦  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٠.
٧٧  النحل، ٥٨-٥٩.
٧٨  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩١.
٧٩  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٣.
٨٠  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩١.
٨١  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٣.
٨٢  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٤.
٨٣  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٤.
٨٤  Cf. Simone de Beauvoir, Le deuxième sexe (Paris: Gallimard, 1949). سيمون دي بوفوار، الجنس الآخر. ترجمة محمد علي شرف الدين (بيروت: المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، ١٩٧٩م).
٨٥  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٥.
٨٦  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٥.
٨٧  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٥، الهامش.
٨٨  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٢.
٨٩  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٣.
٩٠  الروم، الآية ٢١.
٩١  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩١.
٩٢  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٢.
٩٣  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٣.
٩٤  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٥.
٩٥  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ١٠٧.
٩٦  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ١٠٥.
٩٧  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ١٠٧.
٩٨  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ١٠٧.
٩٩  يحيل هنا على: البقرة الآية ٣٥.
١٠٠  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٦.
١٠١  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٩.
١٠٢  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ١٠٠.
١٠٣  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ٩٣.
١٠٤  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ١٠٠.
١٠٥  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ١٠٠.
١٠٦  الحبابي، الشخصانية الإسلامية، ١٠٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤