مقدمة

خصائص العصر الحديث

(١) تطور عميق

إذا كان المؤرخون يعتبرون فتح الترك للقسطنطينية سنة ١٤٥٣، وما تبعه من انهيار الامبراطورية البيزنطية وهجرة علمائها إلي إيطاليا، نقطة التحول من العصر الوسيط إلي العصر الحديث، فما ذلك إلا لظهور هذه الأحداث وآثارها في جملة الأحداث التي كوَّنت نسيج التطور الجديد، إن التدرج قانون التحول الاجتماعي، تعمل علي هذا التحول أسباب لطيفة عملًا متصلًا، حتي يجيء يوم وإذا به قد تم وبرز للعيان، وقد بينَّا في «تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط» أن الانتقاض علي القديم بدأ بابتداء القرن الرابع عشر، فما كاد ينصرم ذلك القرن حتى كانت الفلسفة الاسمية قد نضجت في انجلترا وفرنسا، وقضت في بعض الأذهان علي جهود المدرسين في سبيل إقامة فلسفة تتفق مع الدين، وحطمت العلم الطبيعي الأرسطوطالي في جامعة باريس، وظاهرت الأمراء في تمردهم على السلطة البابوية. وكانت بين إيطاليا وبيزنطة علاقات ثقافية ترجع إلي القرن الثالث عشر، إذ كانت إيطاليا منقسمة إلي جمهوريات، وكان امراؤها يستقدمون الأدباء والعلماء من البيزنطيين، وتوثقت هذه العلاقات في القرن التالي من جرَّاء نشاط التجارة بين البلدين ومحاولات التقريب بين الكنيسة اللاتينية والكنيسة اليونانية، فنشط تعلم اليونانية والنقل منها إلي اللاتينية، وتكاثر في إيطاليا عدد الأدباء والعلماء البيزنطيين بعد ضياء ملكهم، حتي صار الشغف بالأدب القديم عامًّا في القرن الخامس عشر، وكان الايطاليون كأنهم يعودون إلي أدبهم السالف، الأدب اللاتيني الملقح باليونانية، ومن إيطاليا انتشر الأدبان إلي فرنسا وانجلترا وألمانيا وهولندا، وأسرع انتشارهما بفضل اختراع الطباعة في منتصف القرن، فكانت «نهضة» حقيقتها أنها عودة إلى الثقافة القديمة، وثورة على ما استحدث العصر الوسيط من أدب وفلسفة وفن وعلم ودين، وأسباب الحياة السياسية والاقتصادية.

هذه الثقافة القديمة تنضح بالوثنية من كل جانب، فانتشرت الوثنية في الأفكار والأخلاق، رأى فيها فريق كبير من الغربيين صورة إنسان الفطرة والطبيعة واعتبروا دراسة القدماء كفيلة وحدها بتكوين الإنسان بمعنى الكلمة، فسميت هذه النزعة بالإنسانية أي المذهب الإنساني، وسميت الآداب القديمة بالإنسانيات.

وجاءت كشوف كولومبوس وڤاسكو دي جاما وماچلان ودريك، في أواخر القرن، بمعلومات كثيرة عن شعوب كانت بمعزل عن المسيحية وكان لها أديان وأخلاق، فظهرت فكرة الدين الطبيعي والأخلاق الطبيعية، وهكذا تكوَّنت في الغرب المسيحي نظرية جديدة في الإنسان تقنع بما يسمى بالطبيعة وتستغني عمَّا فوق الطبيعة، كأنها تقول لله: نشكرك اللهم على نعمتك، ولكنَّا بغير حاجة إليها! ولسنا نرى إلا أن هذه النظرية تعتمد على إحدى وجهتين للثقافة القديمة، وتغفل عن الوجهة الأخرى؛ فقد كانت المدنية اليونانية والرومانية تقوم على علاقة وثيقة بين المواطنين والآلهة، وكانت العقول مشغولة بالقدر والغيب، وبقيت «الأسرار» ناشطة طول عهد الفلسفة، وتأثر بها أعظم الفلاسفة، حتي تحسر أفلاطون على أن وحيًّا إلهيًّا لم ينزل بخلود النفس فيقطع التردد والقلق، وحتي رأى رجال الأفلاطونية الجديدة أن كمال الفلسفة في كمال الدين والتصوف، ويقال مثل هذا في جميع الشعوب القديمة: كان الدين أظهر مظاهر حياتهم، يتناولها في جميع نواحيها وينظمها أدق تنظيم، وإذن فقد أخطأ الإنسانيون إدراك روح اليونان والرومان وغيرهم من الأمم، وخدعهم عن هذه الروح بعض الشعراء الماجنين والفلاسفة الماديين، ولكن هكذا كان، فنجمت نتائج خطيرة.

كان من آثار المذهب الإنساني العمل على سلخ الفلسفة عن الدين، أو بعبارة أدق، العمل على إقامة الفلسفة خصيمة للدين، والحملة على الفلسفة المدرسية بالتهكم على لغتها وبحوثها وطريقة استدلالها، بل الحملة على العصر الوسيط بجميع مظاهره، ورميه بالجهل والغباوة والبربرية، وكان ما هو أخطر من هذا: كان أن تسرب المذهب الإنساني إلى المسيحية نفسها، وأخذ يعمل على تقويضها من الداخل، فما كانت البروتستانتية في البدء إلا «احتجاجًا على الغفرانات» ودعوى إصلاح في الإدارة الكنسية والعبادة، ثم زعمت أن الدين يقوم على «الفحص الحر» أي الفهم الخاص للكتاب المقدس، وعلى التجربة الشخصية، بغير حاجة إلى سلطة تحدد معاني الكتاب، ثم تناولت العقائد بالفحص الحر فذهبت فيها كل مذهب، وبددت علم اللاهوت غير محتفظة إلا بعاطفة دينية عاطلة من كل موضوع، قام لوثير (١٤٨٣–١٥٤٦) وزڤنجل (١٤٨٤–١٥٣١) وكلفان (١٥٠٩–١٥٦٤) يزعزعون العقيدة الفلسفية وينشئون الكنائس المستقلة وقام هنري الثامن (١٥٠٩–١٥٤٧) يقهر الانجليز على إنكار الكثلكة، وقام غيره من الملوك والأمراء يناصرون المبتدعة قضاء لمآربهم الخاصة، فكان القرن السادس عشر من أشد القرون اضطرابًا وفوضى، انحلت فيه الروابط الدينية والعائلية والاجتماعية وعنفت الأهواء القومية، فنشبت الحروب من أجل الدين والسياسة جميعًا، واستبيح فيها كل محرم بحجة سلامة الأمير أو الدولة.

وكان الأمراء الإيطاليون يطالبون أسباب القوة والترف، فشجعوا الفنون والصناعات، فاندفع الأهلون إلى الابتكار والإتقان، وتنافست المدن في هذا المضمار، حتى غالت في الاستئثار بالمخترعات والآلات الجديدة، وكان من استخدام القوى الطبيعية أن زاد في معرفة أفاعيلها، وحفز الهمم إلى البحث عن قوانينها، فخرج العلم الآلي من ازدهار الصناعات، ونبغ علماء وفنانون من الطراز الأول، ومن المعلوم أن العمل الساذج يسبق النظر، أو أن الفن يسبق العلم، ثم يخرج من النظر عمل جديد، ومن العلم فن جديد أغنى وأكثر إحكامًا، وكان العلم بأرشميدس في القرن السادس عشر، ذلك العالم الذي طبق النظر على العمل خير معوان على إقامة ميكانيكا جديدة أرضية وسماوية؛ فازداد سلطان الإنسان على الأرض، واتسعت السماء أمام ناظرية بفضل اختراع التلسكوب، فأحس من الكبرياء والطموح ما لم يحسه من قبل، والتقى هذا الإحساس في نفسه بما أوحى به المذهب الإنساني في الأدب والدين، وبما نفخ فيه النضال السياسي من إحساس قوي بالاستقلال، فتشعر كأنَّه ربُّ نفسه ليس فوقه رب.

تلك خصائص عصر النهضة، وهي هي خصائص العصر الحديث إلى أيامنا، نستطيع أن نردها إلى اثنتين: الفردية العنيفة في الأدب والدين والسياسة، والعناية البالغة بالعلم الآلي وتطبيقاته العلمية الرامية إلى توسيع سلطان الإنسان على الطبيعة والزيادة في رخائه، وسيكون لكل هذا صدى قوي في الفلسفة: ستستقل الفلسفة عن الدين، فتكون هناك فلسفة إلحادية، وتكون فلسفة تتحدث عن الروحانية والمسيحية ولا تعني سوى مجرد عاطفة دينية، وتكون فلسفة تشيد بالعلم الآلي وتحصر مجالها على قدر مجاله، أو تجتمع هذه الوجهات المختلفة في بعض المذاهب مع تفاوتٍ بينها، وتظل الأجيال إلى الآن حائرة مترددة، تعتنق المذاهب وتخلعها الواحد بعد الآخر، وتستبدل نظامًا من الحياة بنظام.

(٢) أدوار الفلسفة الحديثة

هذه المذاهب من الكثرة والتشعب بحيث يتعذر التمهيد لها والإشارة إليها بشيء من الدقة في مقدمة عامة، فتقتصر هنا على تعريف مجمل بأبواب الكتاب وهي ستة، يدور الباب الأول على عصر النهضة، أي القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهو عصر جديد، ولكن فيه شيئًا غير قليل من القديم: فيه أتباع لأفلاطون يستمدون منه أسباب دين طبيعي، وفيه رشديون يذيعون الإلحاد تحت ستار دراسة أرسطو وابن رشد، وفيه علماء يحاولون استكناه أسرار الطبيعة بالسحر والتنجيم، وآخرون يضعون أسس العلم الحديث في الرياضيات والفلك والطبيعيات، وفيه نقاد يتشككون في أصول الأخلاق ومبادئ المعرفة، وفيه فلاسفة تضطرب في عقولهم جميع هاته الميول، فيخرجون مذاهب غامضة مختلطة.

ولكن ما إن يجيء القرن السابع عشر، وهو موضوع الباب الثاني، حتى تهدأ الثورة، ويبدو ميل إلى الإنشاء بعد الهدم، فتزدهر نهضة دينية، وبخاصة في فرنسا، وتظهر أمهات المذاهب الحديثة، في مقدمتها مذهب ديكارت الذي يزعم إقامة فلسفة مسيحية ويستمد عناصرها من القديس أوغسطين والقديس أنسلم ودونس سكوت، ولكنه يبث فيها روحًا مغايرة للدين، ويتفلسف على أثره مالبرانش وبسكال وسبينوزا وليبنتز، فيبين كل منهم على وجهة ستتكرر في الأجيال التالية، بينما يضع هوبس وفرنسيس بيكون ولوك فلسفة واقعية تنكر الميتافيزيقا وتستمسك بالتجربة.

فيكون لهذه الفلسفة الإنجليزية تأثير كبير على القرن الثامن عشر، موضوع الباب الثالث، يلح فيها الإنجليز، وأشهرهم هيوم، ويصطنعها الفرنسيون، فيرد كوندياك المعرفة بأسرها إلى الإحساس، وينقد ڤولتير وروسو وأضراب لهما كثيرون أصول الدين والاجتماع ويبددون فلسفة ديكارت، ويجمع كنط بين المذهبين الحسي والعقلي في محاولة قوية لتفسير العلم والوجود تجعل منه فيلسوف ألمانيا الأكبر، وتسيطر على العقول إلى أيامنا.

وبينا يبدو القرن الثامن عشر عصر تحليل دقيق ونقد عنيف، إذا بالنصف الأول من القرن التاسع عشر، موضوع الباب الرابع، يعمل على التركيب والبناء في ألمانيا وفرنسا وإنجلترا على السواء، تظهر في ألمانيا فلسفات ضخمة صاخبة تحمل أسماء فختي وشلنج وهجل وشوبنهور، ويتعمق الفرنسيون في دراسة الحياة النفسية وشرائطها بحيث يترتب على هذه الدراسة حلول في سائر النواحي، كما فعل مين دي بيران، أو يستوعب أوجست كونت جميع النواحي في مذهب واحد يصدر عن الواقعية، ويحاول نفر من الإنجليز، أبرزهم هاملتون تصحيح المذهب الحسي بالفلسفة الألمانية.

ثم ينقلب الحال في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، موضوع الباب الخامس، فينشب صراع بين المادية وقد وجدت أسلحة جديدة في نظرية تطور الأحياء، وأنصارًا عديدين في ألمانيا وإنجلترا، أشهرهم دروين وسبنسر، وبين الروحية يؤيدها فلاسفة فرنسيون.

ويستمر هذا الصراع في النصف الأول من القرن العشرين، موضوع الباب السادس والأخير، ويمكن القول إنه لن ينتهي، ولكن الروحية العصرية عرجاء ناقصة، فإن الفلسفة الحديثة في جملتها لا تؤمن بالعقل ومعانيه ومبادئه، ولا تؤمن بجواهر ثابتة حتى تقول بنفس خالدة وإله شخصي مفارق للطبيعة، فالروحانية مفتقرة في الواقع إلى فلسفة وجودية موضوعية كفلسفة أرسطو، ولا ندري ما إذا كانت العقول العصرية تأخذ أنفسها بمثل هذه الفلسفة، أو تمضي في محاولاتها العقيمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤