تمهيد

بدأ العصر الحديث بتمجيد العقل حتى أعلى كلمته فوق كل كلمة فجعل منه الحكم الأخير فيما يوجد وما لا يوجد وفيما يصدق وما يكذب؛ ذلك كان الحال عند ديكارت ومالبرانش وسبينوزا وليبنتز، ولكن الفلاسفة الحسيين لوك وباركلي وهيوم وأضرابهم، هاجموا المعاني والمبادئ العقلية هجومًا عنيفًا، فظن كنط أنه ينقذها إذا اعتبرنا مجرد صيغ جوفاء لتنظيم التجربة، وجاء مذهب التطور فرأى رجاله أنه يقتضي القول بأن الحس والعقل وظيفتان من وظائف الحياة وأن المعرفة آلة للعمل وأن رأي كنط يلائمهم تمام الملاءمة، ولقد أدى هذا الجمع بين نقد كنط ونظرية التطور إلى طائفة من المذاهب «الحيوية» أو العملية غلبت فكرة الحياة على فكرة العلم فافترقت عن كنط وعن سبنسر جميعًا، افترقت عن كنط في أن تنظيم التجربة ليس الغرض منه العلم بل المنفعة، وأن المعاني والمبادئ ليست كلية ضرورية وإنما هي عبارة عن حاجات الكائن الحي ومطالبه، فهو يستعمل الصيغ العقلية لحفظ وجوده واستكماله، ويستطيع أن يستبدل بها غيرها دون أن يفوته النجاح العملي، كما يستبدل الصانع آلة بأخرى أو جهازًا بآخر ويؤدي مع ذلك نفس العمل أو يحصل على نفس النتيجة، واقترفت هذه المذاهب عن سبنسر في القول بأن الكائن الحي هو الذي يكوِّن العالم على حسب مطالبه بينما سبنسر يرى أن هذه المطالب نتيجة تأثير العالم في الكائن الحي، فالعقل عندهم غائي في جوهره يتجه إلى العمل لا إلى النظر، والمعاني والمبادئ فروض ومحاولات يكون بها العالم لفائدته.

هذه المذاهب الحيوية لا تحفل إذن بتبرير العلم والميتافيزيقا تبريرًا نظريًّا، ولا تغار على مبادئ العلم غيرة كنط، ولكنها تستمسك مثله بالمعاني الميتافيزيقية وترمي مثله إلى تحقيقها بالفعل وإقامة الإيمان بها على منفعتها العملية؛ فهي تمثل «العقل العملي» محولًا إلى قوة فاعلية، وأظهر ما يكون هذا الموقف في أمريكا وإنجلترا المطبوع أهلهما على العمل والمغامرة الميالون بالفطرة إلى التجربة، وهذه أول مرة نذكر الفلسفة الأمريكية وقد أخذ العالم الجديد يساهم في جميع فروع النشاط العقلي، وهذه الفلسفة داخلة من غير شك في نطاق هذا الكتاب ورجالها أوربيو الأصل واللغة، وبعد الفراغ منها نعرض للفلسفة في إنجلترا، ثم للفلسفة في فرنسا، وأخيرًا للفلسفة في ألمانيا، فنرى ما انتهت إليه تلك الجهود العقلية، وما انتهت إلا إلى الشك في العقل والحيرة في مصير الإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤