الفصل الثاني

رشديون

(١) پونبوناتزي (١٤٦٢–١٥٢٥)

هو أشهر أساتذة پادوڤا في ذلك العصر، وكانت جامعتها أرسطوطالية رشدية تنشبث بتأويل ابن رشد لأرسطو، ليس فقط في العقليات، بل أيضًا في الطبيعيات، فتعارض الميكانيكا الجديدة التي بدأت في جامعة باريس في القرن الرابع عشر، بنظرية أرسطو في حركة المقذوفات، وتصر على قسمة العالم إلى الرشديين اللاتين في قولهم إن القضية الواحدة قد تكون صادقة عند اللاهوتي دون أن تكون كذلك عند الفيلسوف، وإن باستطاعتنا أن نؤمن بالإرادة بما لا نجد له مبررًا في العقل، فنخضع للدين مع علمنا ببطلان عقائده، ونشر كتابًا في «خلود النفس» أنكر فيه الخلود، ثم أعلن خضوعه لتعليم الدين بالخلود كحل نهائي للمسألة، ولكن محكمة التفتيش أمرت بإحراق الكتاب، ونجا هو من الأذي بفضل حماية أحد الكرادلة.

في كتاب «خلود النفس» (١٥١٦) يذهب إلى أن الخلود ليس لازمًا من مبادئ أرسطو، فكأنه يرد على القديس توما الإكويني الذي قال بعكس ذلك، بل كأنه يقيم الحجة على الكنيسة بالفيلسوف الذي أعلنته حجتها، وفي معالجته للمسألة ينحرف عن قول ابن رشد وأتباعه إن العقل المنفعل مفارق كالعقل الفعال، وإن للنفس الإنسانية بما هي مشاركة في المعرفة العقلية خلودًا لا شخصيًّا، ويتابع إسكندر الأفروديسي في أن العقل المنفعل في النفس، وأنه «هيولاني» أي إنه مجرد استعداد جسماني لقبول تأثير العقل الفعال المفارق، وأن النفس الإنسانية فانية كالجسم، وكان هذا الموقف الثاني يعد أكثر خطرًا من الأول، وكانت هناك مناقشات بين أتباع إسكندر وأتباع ابن رشد، فلا نعجب أن يشجع البابا أحد الرشديين (واسمه نيفو nifo) على معارضة پونبوناتزي، فيدون كتابًا «في الخلود» لهذا الغرض (١٥١٨)، وبعض الشر أهون من بعض! ثم يرد پونبوناتزي على الحجة التي تستنتج ضرورة الثواب والعقاب، فيقول إنها قائمة على تصور خاطئ، أو على الأقل ناقص، للفضيلة والرذيلة والثواب والعقاب، إن الفضيلة التي تصنع بغية ثواب مغاير لها، ليست فضيلة، يشهد بذلك أننا جميعًا نعتبر الفعل النزيه أجمل من الفعل النفعي، والثواب الحق هو الفضيلة نفسها وما يلحقها من اغتباط، أما الأجر المغاير للفضيلة، فثواب عرضي لا يمت إلى الفضيلة بسبب، وكذلك الحال في الرذيلة، فإنها تنطوي على عقابها، حتى ولو لم يلحقها ألم خارجي، إن الغاية الطبيعية للإنسان هي طبيعته الإنسانية، وإن في كرامة الفضيلة وعار الرذيلة لسببًا كافيًا لمحبة الأولى والترفع عن الثانية، فليس يسوغ للإنسان، سواء أكان فانيًا أم خالدًا، أن يحيد عن طريق الخير، أما أن الشعب يصنع الخير ابتغاء ثواب أخروي، ويجتنب الشر خشية جهنم، فهذا يدل على أن أفكاره الأخلاقية ما تزال في الطفولة، وأنه بحاجة إلى الوعد والوعيد حيث يصدر الفيلسوف عن المبادئ ليس غير، المشرعون هم الذين ابتكروا الاعتقاد بالخلود، لا عناية منهم بالحقيقة، بل حرصًا على الخير العام، وپونبوناتزي على حق فيما يثبت من أن الطبيعة الإنسانية مقياس الخير والشر، وأنه يجب إتيان الفضيلة لذات الفضيلة، واجتناب الرذيلة لذات الرذيلة، ولكنه على باطل فيها يريد أن ينفي، فليست الفضيلة غاية في ذاتها، وإنما غاية الإنسان وسعادته نظرية، والمسيحية تعلم أن مثل هذه السعادة تتحقق بمعاينة الله، وأن عقاب الرذيلة الحرمان من الله، فإذا كان الثواب والعقاب الأخرويان مغايرين للفضيلة والرذيلة بما هما كذلك، فإن الثواب الأخروي ذاتي للإنسان الفاضل الذي يتوجه إلى الفضيلة لكونه إنسانًا ويتخذ منها وسيلة لتغليب الإنسانية على البهيمية، والعقاب الاخروي ذاتي للإنسان الرذيل الذي يتحول عن إنسانيته، وپونبوناتزي بعد لا يستطيع أن يعين أساسًا للواجب ومبدأ ملزمًا به، فيدعه لمحض مشيئة الشخص، وتعد محاولته هذه نموذجًا للأخلاق الطبيعية المستقلة عن الفلسفة والدين.

وله كتاب «في القدر والحرية وانتخاب الله للمخلوقات» (١٥٢٥) يذهب فيه إلى أن الحرية الإنسانية ثابتة بالتجربة، وأن العناية الإلهية ترجع إلى الإيمان، ولا يمكن التوفيق بينهما؛ لأن في وضع الواحدة رفعًا للأخرى، ويعرض لمسألة الشر، فيبرره بأنه داخل في نظام العالم، وأنه شرط الخير، كما يفعل أفلاطون والرواقيون وأفلوطين. وبعد وفاته نشر له كتاب «في علل الظواهر الطبيعية العجيبة أو كتاب التعازيم» (١٥٥٦) يقول فيه إن المعجزات أحداث استثنائية تصاحب نشوء الأديان، وهي مع ذلك أحداث طبيعية، إلا أن تفسيرها يتطلب تعمقًا في معرفة الطبيعة لا يبلغ إليه الإنسان عادة؛ فهو يتطلب مثلًا معرفة ما للأعشاب والأحجار والمعادن من قوى خفية، وما بين الإنسان وسائر أجزاء العالم، ومنها النجوم بنوع خاص، من علاقات مختلفة، وما للمخيلة من قوة قد تحدث الشفاء بالإيحاء، وأمورًا أخرى من هذا القبيل. وكان أفلوطين قد قال بمثل ذلك (في الرسالة الرابعة من التساعية الرابعة، ف ٣٦–٤٢). فهؤلاء الرشديون أو الأرسطوطاليون يستمدون أسلحتهم من كل موضع.

(٢) جيرولامو كردانو (١٥٠١–١٥٧٦)

خريج جامعة پادوڨا أيضًا، اشتهر بالطب. وله اسم مذكور في الرياضيات بوضعه قاعدة لحل معادلات الدرجة الثالثة في كتاب نشر سنة ١٥٤٣. وهو صنو براسلس، ذهب إلى مزيج غريب من السحر والتنجيم، ومن الآراء الحرة. نظر في قيام الأديان وانحطاطها، وفي توزعها في مناطق الأرض، فأرجعها إلى تأثير اقتران النجوم، واستخرج طالع المسيح المولود في اقتران المشتري والشمس، وأضاف الشريعة اليهودية إلى تأثير زحل وللعالم عنده نس واحدة آلتها الحرارة، فجميع الموجودات الطبيعية حية ولو لم تظهر الحياة فيها جميعا، ويروى أنه عد استكشاف أقمار المشترى أبى أن ينظر في التلسكوب وأصر على إبائه لمخالفة هذا الكشف لمذهب أرسطو.

(٣) تشيزارى كريمونيني (١٥٥٠–١٦٣١)

من أساتذة بادوفا وآخر ممثلي مدرستها في الوقت الذي كان العالم من حولها قد تحول أيما تحول، له كتاب «في السماء» يردد فيه الآراء المميزة لمدرسة قدم العالم وضرورته، إنكار الخلق، اتحاد وثيق بين النفس والجسم يقضي على الروحانية، إنكار الخلود، إنكار العناية الإلهية، واعتبار الله علة غنائية فحسب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤