الفصل الثالث

علماء

(١) ليونارد داڤنتشي (١٤٥٢–١٥١٩)

ثمرة من خير ثمار عصر النهضة، اشتغل بالتصوير والنحت والموسيقى فكان فنانًا عظيمًا، وتبحَّر في التشريع والمعمار والميكانيكا فكان عالمًا مبرزًا، واستخلص من أبحاثه أصول المنهج العلمي، ومن مشاهداته للناس عوامل سيرتهم فكان فيلسوفًا مذكورًا، تناول علم الميكانيكا حيث تركه أرشميدس، ونهج فيه نهجه، فوصل إلى نتائج تختلف عمَّا كان وصل إليه الاسميون الباريسيون في القرن السابق، وكان مقتنعًا بأن العلم ابن التجربة، وأن النظريات التي لا تلقى تأييدًا من التجربة نظريات باطلة، فكان يرمي الكيميائيين والمنجمين بأنهم دجَّالون أو مجانين، وليست التجربة عنده مجرد الإدراك الحسي، بل البحث عن العلاقات الضرورية بين الأشياء، ووضع هذه العلاقات في صيغ رياضية تخلع على نتائج التجربة يقينًا كاملًا، وتسمح باستنتاج الظواهر المستقبلة من الظواهر الراهنة.

(٢) نقولا كوپرنك (١٤٧٣–١٥٤٣)

ولد بمدينة ثورن Thorn من أعمال بروسيا، ولكن البولنديين يدعونه، والمرجع أنه من أسرة ألمانية استوطنت بولندا، درس الآداب والرياضيات والفلك بجامعة كراكوڤيا، وقضى عشر سنين بإيطاليا (بمدن بولونيا وروما وپادوڤا)، ويلوح أن أستاذه ببولونيا كان يشك في الفلك القديم، وتكونت عنده هو أصول مذهبه فيما بين الثالثة والثلاثين والسادسة والثلاثين، وقضى زمنًا طويلًا يعالجه وينقحه، ثم وضع كتابه «في الحركات السماوية» ولكنه لم ير نشره إلا في آخر حياته، فجاءته نسخة مطبوعة منه وهو على فراش الموت فاقد الوعي.

أراد أن يتصور السماء على نحو أبسط من تصور أرسطو وبطليموس، ورائده أن دأب الطبيعة إدراك غاياتها بأبسط الوسائل، فرأى أن بقاء أكبر الأجرام ثابتًا على حين تتحرك من حوله الأجرام الصغرى، أكثر تحقيقًا لهذا المبدأ من دوران الأجرام جميعًا حول الأرض، وأضاف إلى مبدأ البساطة مبدأ النسبية حيث قال: إن الإدراك الحسي لا ينبئنا بداهة، حين تحدث حركة في الفضاء، إن كان المتحرك هو الشيء المحسوس، أو الشخص الحاس، أو أن الاثنين يتحركان بسرعة مختلفة، أو في اتجاه مختلف، فإذا افترضنا الأرض متحركة، وهي المكان الذي نشاهد منه الحركات السماوية، حصلنا على صورة للعالم أبسط من الصورة المبنية على افتراض الأجرام السماوية هي المتحركة، وينحصر جهد كوپرنك في التدليل الرياضي على أن الفرض الأول يدع الظواهر كما تبدو للإدراك الحسي، فالنظرية الجديدة معروضة هنا كمجرد فرض، وقد عني الناشر بالتنبيه على ذلك في المقدمة، فلم يثر الكتاب اعتراضًا، وهذه النظرية قال بها أرسطرخس الفيثاغوري، وذكرها شيشرون في أحد كتبه، وقرأها كوپرنك، فعمل على تأييدها، أو بعبارة أصح، على بيان إمكانها.

(٣) لويس ڤيفيس (١٤٩٢–١٥٤٠)

ولد في بلنسية من اعمال إسبانيا، درس في باريس، وقضى باقي حياته في بلجيكا، كان من القائلين بوجوب اتخاذ التجربة أساسًا للمعرفة، وقد طبق هذا القول في كتاب له «في النفس والحياة» (١٥٣٨) جمع فيه مواد كثيرة مستمدة من القدماء، وملاحظات شخصية كثيرة، وتحليلات دقيقة للظواهر النفسية، فهو يصرح بأن صعوبات جمَّة تعترض الفحص عن ماهية النفس، وأن العلم بما ليست النفس أيسر من العلم بما هي، وأن لا فائدة من معرفة ماهيتها، بل الفائدة في معرفة وظائفها، فعلم النفس عنده فسيولوجي وصفي، وهو يتصور النفس مبدأ للحياة بجميع مظاهرها، وليس فقط للحياة الفكرية، ويجعل من الدماغ مركز المعرفة، خلافًا للأرسطوطاليين الذين كانوا يضعونها في القلب، على أنه يضع في القلب القوة الحيوية، بحجة أن القلب موضع أول مظهر وأخر مظهر للحياة، وموضع الانفعالات، وهو مع ذلك روحي، يقول إن النفس الإنسانية مخلوقة من الله مباشرة، وإن النفسين النامية والحاسة متولدتان بقوة المادة، ودليله على روحية نفس الإنسان أنها لا تقنع بالمحسوس المتناهي، ولكنها توَّاقةٌ إلى اللا نهاية، وقد كان له أثر قوي للغاية على النظريات النفسية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وديكارت يدين له بالشيء الكثير، ويذكره في غير ما موضع، وله آراء قيمة في التربية والتعليم.

(٤) كپلر (١٥٧١–١٦٣٠)

ولد في إحدى مدن ورتمبرج، درس الآداب والفلسفة واللاهوت والرياضيات والفلك في المدرسة الأكليريكية بتوبنجن، ثم انصرف عن اللاهوت إلى تدريس الرياضيات، وكان يرى فيها أكمل العلوم، ويرى وجوب اتباع منهجها في كل علم؛ لأن الروح الإلهي يتجلَّى بالنظام والقانون، ولأن العقل الإنساني يدرك النسب الكمية بأوضح ممَّا يدرك أي شيء آخر، ولا يصل إلى اليقين التام إلا باعتباره الوجهة الكمية، وكان أول اتجاه كپلر إلى وضع نظرية جديدة توفق بين نظرية كوپرنك ونظرية العقول المحركة للكواكب، ولكنه عاد فآثر أن يفترض عللًا «طبيعية» واستعاض بالقوة عن العقل المحرك، وبعد بحوث طويلة استعاض بالإهليلج عن الدائرة التي كانت معتبرة أكمل الأشكال، وأيد نظرية كوپرنك بأن اكتشف مدارات السيارات وقانون حركتها، وفي أول كتاب له خصص فصلًا للتوفيق بين نظرية كوپرنك والتوراة، وكان بروتستانتيًّا، فلما راجع المخلوط أساتذة اللاهوت بجامعة توبنجن البروتستانتية، حذفوا منه ذلك الفصل، فلم يظهر في الكتاب المطبوع (١٥٩٦)، وفي سنة ١٦٠٨ أراد أن ينشر في ليبزيك تقريرًا مفصلًا عن النجم المذنب الذي ظهر في السنة السابقة، فأصر لاهوتيو المدينة البروتستانت على أن يمتنع من النشر.

(٥) جليليو (١٥٦٤–١٦٤٢)

ولد بمدينة پيزا من أعمال إيطاليا، وفي السابعة عشرة دخل جامعتها لدراسة الطب نزولًا على رغبة والده، ولكنه كان يتلقى في الوقت نفسه الفلسفة والرياضيات والفلك، مع شغف كبير باليونانية واللاتينية والشعر والموسيقى والرسم، وإيثار لأفلاطون وأرشميدس على أرسطو، وبعد ثماني سنين صار أستاذًا بالجامعة فمكث بها ثلاث سنين (١٥٨٩–١٥٩٢) ثم انتقل إلى جامعة پادوڤا، فقضى بها سبع عشرة سنة (١٥٩٣–١٦١٠)، وكان يعرض الفلك القديم مع اعتقاده بنظرية كوپرنك، شأن غير واحد من أساتذة العصر، وفي سنة ١٦٠٩ صنع التلسكوب، فرأى جبال القمر ووديانه، وأقمار المشترى الأربعة، وعين قانون حركتها، وفي مارس من السنة نفسها نشر كتابًا بعنوان «رسول من النجوم» عرض فيه كشوفه، وأعلن انحيازه لنظرية كوپرنك، فلقي هذا الكتاب نجاحًا عظيمًا وغادر جليليو پادوڤا إلى فلورنسا إجابة لدعوة الغراندوق، وفي أواخر السنة اكتشف كلف الشمس، فاستنتج من حركة الكلف على قرص الشمس دروان الشمس نفسها، وفساد الرأي القديم الذي يقسم العالم إلى منطقة سفلية هي محل الكون والفساد، وأخرى علوية بريئة منهما، ودعا أتباع أرسطو إلى النظر بالتلسكوب، ويذكر أن ملانكتون، الزعيم البروتستاني، وكريمونيني، أستاذ پادوڤا، رفضا هذه الدعوة غيرة منهما على مذهب أرسطو، وفي سنة ١٦١١ ذهب جليليو إلى روما، فأحسن البابا بولس الخامس وفادته، واحتفى به فلكيو المعهد الروماني، ثم عاد إلى فلورسنا.

وما كاد يستقر فيها حتى صدر كتاب لأحد علمائها «في الفلك والبصريات والطبيعيات» (١٦١١) يتهمه بمخالفة التأويل السلفي للكتب المقدسة فرد عليه جليليو في ٢١ ديسمبر ١٦١٢ برسالة موجهة إلى الراهب البندكتي كاستلي، أستاذ الرياضيات بجامعة بيزا الذي كان يقول بدوران الأرض، ودفع التهمة بتأويل النصوص الكتابية المعترض عليها طبقًا لنظريته، ثم عاد فأسهب في هذا الموضوع في رسائل أخرى، وفي ٥ فبراير ١٦١٥ أحال أحد الرهبان الدومنيكان إلى ديوان الفهرست، وهو الديوان المكلف بمراقبة الكتب ووضع الخطر منها في ثبت الكتب المحرفة، ورسالة جليليو إلى كاستل، فقام الديوان بالتحقيق مع جليليو، ونصحه الكرادلة دلمونتي، الذي كان رشحه للأستاذية بجامعة بيزا، وبلارمينو من كبار رجال الكنيسة، وباربريني الذي صار فيما بعد البابا أوربان الثامن، بأن يقتصر على التدليل العلمي، ويعرض نظريته على أنها فرض أبسط من النظرية القديمة، ويدع تفسير الآيات الكتابية إلى اللاهوتيين ولكنه لم يستمع إلى هذه النصيحة، ونشر تفسيرًا جديدًا لبعض الآيات، فأعلن إليه ديوان التفتيش في ٢٥ فبراير ١٦١٦ أن يمتنع من الجهر برأيه، فوعد بالامتناع، وفي ٥ مارس قرر ديوان الفهرست تحريم كتاب كوپرنك «ما لم يصحح» وأغفل ذكر كتاب جليليو مراعاة له، ومعنى قول الديوان «ما لم يصحح» أنه يأذن بطبع الكتاب نظرًا لفائدته بشرط تصحيح المواضع التي يتحدث فيها المؤلف عن حركة الأرض ومكانها من العالم «لا كمجرد فرض بل كحقيقة» كما جاء في تفسيره لقراره بتاريخ ١٥ مايو ١٦٢٠.

وفي ١٦١٨ ظهر نجم مذنب، فنشر جليليو (أو أحد تلاميذه فيما يقال) «مقالًا في المذنبات»، فرد عليه أحد اليسوعيين من أساتذة المعهد الروماني فصنف جليليو كتابًا في شكل رسالة موجهة إلى أحد رجال الدين المعروفين، أسماه «المحاول» (١٦٢٣) أي محاولة في المنهج التجريبي، وحمل فيه حملة عنيفة على الفلك القديم، فأخلف وعده مرتين، على أن البابا (أوربان الثامن) استقبله بروما في السنة التالية ست مرات، وشمله بعطف كثير، وبعد ثماني سنين (١٦٣٢) أذاع جليليو كتابة المشهور «حوار يناقش فيه أربعة أيام متوالية أهم نظريتين في العالم» يقتصر فيه ظاهرًا على سرد الحجج في جانب كل نظرية، وينم أسلوبه عن الجانب الذي يميل إليه، فعهد البابا إلى لجنة بفحص الكتاب، وأعلن ديوان التفتيش إلى جليليو بالمثول أمامه، فاعتذر باعتلال صحته، وبعد خمسة أشهر (١٣ فبراير ١٦٣٣) وصل إلى روما، فلم يحبس كما كان مألوفًا، ولما سُئِلَ أجاب أنه ما زال منذ قرار ديوان الفهرست يعتبر رأي بطليموس حقًّا لا يتطرق إليه الشك، وكرر هذا الجواب، فكان كاذبًا مرتين، فطلب إليه التوقيع على جوابه وصرف، وفي اليوم التالي قرئ عليه الحكم، فإذا بالحكم يعلن أنه شبهة قوية قائمة على جليليو بالخروج على الدين لقوله بمذهب كاذب منافٍ للكتاب المقدس، ويطلب إليه أن ينكره، وأن يقسم بأن لا يقول أو يكتب شيئًا يمكن أن يستنتج منه هذا المذاهب، فأنكر وأقسم وهو راكع على ركبتيه، ثم وقع بإمضائه على صيغة الإنكار والقسم، ويروى أنه بعد التوقيع ضرب الأرض برجله وقال: «ومع ذلك فهي تدور» ولكن هذه الرواية لم تذكر لأول مرة إلا سنة ١٧٦١، وهي إن صحت كانت شاهدًا ناطقًا بريائه أو كذبه مرة ثالثة.

وكان الحكم يقضي عليه بالحبس، ولكن البابا عين إقامته في قصر سفير توسكانا صديق جليليو، وبعد بضعة أيام تركه يذهب إلى مدينة سيين حيث نزل عند أحد الكرادلة من أصدقائه أيضًا، وبعد خمسة أشهر طلب الإذن بالذهاب إلى فلورسنا، فأجابه البابا إلى طلبه، فعاش هناك «سجينا بالشرف» فكان يواصل بحوثه الرياضية، ويستقبل من يقصد إليه من العلماء والكبراء، وفي سنة ١٦٣٨ نشر كتابًا بعنوان «مقالات في علمين جديدين» يحوي أصول العلم الحديث في الميكانيكا والطبيعة، ولكنه طبع في هولندا هربًا من المراقبة قبل الطبع، وفي أوائل تلك السنة فقد جليليو بصره، وكانت وفاته بالحمى، وفي أثناء مرضه أبدى عواطف تقوى حارة، وأرسل إليه البابا بركته.

والحق أن «المجمع المقدس» اخطأ في الحكم بأن مذهب كوپرنك باطل منافٍ للكتب المقدسة، ولكن هذا لا ينال من الكنيسة بالقدر الذي يزعم الكثيرون، ذلك بأن الكنيسة تعلم أن عصمتها في العقائد والأخلاق قائمة في المجمع الكنسي العام؛ أي الممثل للكثلكة جمعاء، متحدًا مع البابا، وفي البابا نفسه ناطقًا باسم الكنيسة وفارضًا نطقه صراحة على جميع المؤمنين، والحكم هنا صادر عن هيئة خاصة، وهذه الهيئة إن كانت أنكرت النظرية الجديدة، فهي لم تمانع في إذاعتها كمجرد فرض علمي، فلم يكن رائدها التعصب ضد العلم، بل صيانة الكتب المقدسة لصيانة الدين والأخلاق، وكل ما يمكن أن يقال هو أن غيرة رجالها على الدين أربت على فطنتهم، ولكن يجب أن نذكر أن النظرية القديمة كان يؤيدها البروتستانت أيضًا، وقد مَرَّ بنا موقف لاهوتبهم من كپلر، كما كان يؤيدها جمع الأرسطوطاليين من مؤمنين وملحدين، ثم إن أدلة جليليو لم تكن برهانية، وهذه نقطة جديرة بالتنويه، فكان خصوم نظريته يناقشونها وينقدونها، وقد قال الكردينال بلارمينو، في رسالة ترجع إلى سنة ١٦١٥ موجهة إلى أحد الرهبان المناصرين لمذهب كوپرنك:

لو كان هناك برهان حق على دوران الأرض وثبات الشمس، إذن لتعين الحذر الشديد في تفسير آيات الكتاب المقدسة، ولكان أحرى بنا أن نقول إننا لا ندرك معناها، من أن نكذب ما قام عليه البرهان، ولكني لن أعتقد بقيام هذا البرهان قبل أن يبين لي.

وهذا ما حدث بالفعل فيما بعد، إذ لم تعد الكنيسة تحرم الاعتقاد بمذهب كوپرنك، بل صارت تحمل الآيات على محمل التعبير بالظاهر، كما نقول نحن الآن: طلعت الشمس وغربت. وماذا يقول الشانئون لمن يذهب من علمائنا المعاصرين إلى أن نظرية كوپرنك مجرد فرض، وأن ميزتها على النظرية الأخرى تنحصر في بساطتها ليس غير؟ فيصرح أحدهم، هنري بوانكاري، بأن هاتين القضيتين: «الأرض تدور» و«أفترض دوران الأرض أكثر نفعًا في العلم» هما معنى واحد بعينه، وليس يوجد في إحداهما أكثر مما يوجد في الأخرى.١

وبعد فأهمية جليليو في تاريخ الفلسفة ترجع إلى نقطتين: إحداهما المنهج العلمي، والأخرى بناء النظرية الآلية، فمن الناحية الأولى نجده يقول عن المنطق الصوري إنه مفيد في تنظيم التفكير وتصحيحه، ولكنه قاصر عن استكشاف حقائق جديدة وليس يحصل الاستكشاف باستقراء جميع الحالات الممكنة؛ فإن مثل هذا الاستقراء مستحيل، وإنما يحصل الاستكشاف باستخلاص فرض من تجارب معدودة (وهذه مرحلة تحليلية) ومحاولة تركيب قياس يبين أن ذلك الفرض مطابق لتجارب أخرى (وهذه مرحلة تركيبية) بحيث يتكامل التحليل والتركيب ويتساندان، وهذا يعني أن المنهج العلمي هو الاستقراء الناقص مؤيدًا بالقياس، والاستقراء ممكن حتى ولو لم نستطيع أن نجد أو نوجد في الطبيعة الفرض الذي نستخلصه: مثال ذلك، نفترض أن الأجسام تسقط في الخلاء بنفس السرعة، ولكننا لا نستطيع تحقيق الخلاء المطلق، فنستعيض عنه بالنظر إلى ما يحدث في أوساط يتفاوت هواؤها كثافة، فإذا رأينا السرعات تتقارب كلَّما تخلخل الهواء، حكمنا بأن الدليل قد قام على صحة الفرض.

ومن ناحية النظرية الآلية: يقول جليليو إن هذه النظرية أقرب إلى مبدأ البساطة الذي قال به كوپرنك؛ فالعالم مادة وحركة، أما الحركة فخاضعة لقانون القصور الذاتي، وكان كپلر قال إن الجسم لا ينتقل بذاته من السكون إلى الحركة، وقال جليليو إن الجسم لا يغير اتِّجاه حركته بذاته، أو ينتقل بذاته من الحركة إلى السكون وبيَّن التجربة أن الحركة تستمر بنفس السرعة كلما أزلنا العوائق الخارجية، فمتى وجدت الحركة استمرت دون افتقار إلى علة، وأما المادة فمجرد امتداد، ويقول جليليو إنه لم يستطع قط أن يفهم إمكان تحول الجواهر بعضها إلى بعض، أو طروء كيفيات عليها، كما يذهب إليه أرسطو، ويرتئي أن كل تحول فهو نتيجة تغير في ترتيب أجزاء الجسم بعضها بالنسبة إلى بعض، وهكذا لا يخلق شيء ولا يندثر شيء، فالتغيرات الكيفية عبارة عن تغيرات كمية أو حركات، وينقلب العلم الطبيعي علمًا رياضيًّا ينزل من المبادئ إلى النتائج، ويسمح بتوقع الظواهر المستقبلة؛ لذا كان مبدؤه قياس ما يقبل القياس، ومعالجة ما لا يقبله مباشرة حتى يصير قابلًا له بصفة غير مباشرة، ويصرح جليليو أن الأعراض التي يصح إضافتها للأجسام هي: الشكل والمقدار والحركة والسكون ليس غير، ويسميها لذلك بالأعراض الأولية أو العينية الملازمة للأجسام بالضرورة، أما الضوء واللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة والبرودة، فما هي إلا انفعالاتنا بتأثير الأجسام الخارجية، وهي كيفيات ثانوية، وهذا يعني أن ما لا يقاس (كما هو حال الإحساسات بالكيفيات الثانوية) فهو غير عيني أو موضوعي، وكان المنطق يقضي على جليليو بأن يقتصر على القول بأن ما لا يقاس فهو خارج عن العلم الطبيعي الرياضي، لا أن يقول إنه غير موجود، وقد كان هذا الاعتقاد بذاتية الكيفيات المحسوسة، مدعاة للشك في المعرفة، ومزلقة إلى التصورية التي تدعي أنَّنا لا ندرك سوى تصوراتنا، وبكلمة واحدة، إن جليليو يبعث مذهب ديموقريطس، ويظنه صورة للوجود، وسيمضي في أثره العلماء المحدثون.

١  Henri poincaré la science et Phypo hèse p. 4.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤