الفصل الرابع

نقاد

(١) نقولا ماكياڤلي (١٤٦٩–١٥٢٧)

أشهر أشياع الوثنية في عصره، ولد بفلورنسا في أسرة شريفة، وفي سن مبكرة انتظم في السلك السياسي، وكانت الجمهوريات الإيطالية متنابذة أشد التنابذ، تستبيح في حروبها كل صنوف الدسيسة والغدر والقسوة، فشهد كل ذلك، وقرأ مثله في كتب التاريخ، فاعتقد أن هذه هي الطبيعة الإنسانية، وانتهي إلى «سياسة واقعية» قوامها أن الحذر والقوة هما الخصلتان الضروريتان للحاكم، كما قال سوفسطائيو اليونان، وعرض مذهبه في كتب، أشهرها كتاب «الأمير» (١٥١٣) و«مقالات على المقالات العشر الأولى في تاريخ تيتو ليفيو» (١٥١٣–١٥٢١) وهي خير ما كتب.

في كتبه جميعًا يقارن بين الأخلاق القديمة والأخلاق المسيحية، فيرى أن القدماء كانوا يحبون الجاه والصحة والقوة البدنية، وكانت دياناتهم تخلع هيبة إلهية على القواد والأبطال والمشرعين، أما المسيحية فإنها على العكس ترجئ غاية الإنسان إلى الآخرة، وتحث على الإعراض عن الجاه الدنيوي، وتمجد التواضع والنزاهة، وتضع الحياة النظرية الباطنة فوق الحياة العملية الظاهرة، فأوهنت عزيمة الإنسان، وأسلمت الدنيا لأهل الجرأة والعنف، فهي نافعة وضرورية للجمهور فقط المطلوب منه الطاعة، ويجب على الحاكم أن يحميها ويؤيدها حتى ولو اعتقد بطلانها.

غاية الأمير القوة والأمن في الداخل، وبسطة السلطان في الخارج، فإذا أراد صيانة سلطانه وجب عليه المران على عدم التقيد بالفضيلة، وعلى استخدام الخير والشر تبعًا للحاجة، أما الذي يريد أن يسير سيرة فاضلة في كل ظرف، فعليه أن يحيا حياة خاصة ولا يعرض للحكم، وإلا هلك حتمًا وسط كثرة الأشرار، وليس الأمير مشرعًا، ولكنه حربي، والحرب صناعته الأولى؛ لذا هو لا يبالي أن يُرمى بالقسوة حين يريد الرعية على طاعته، أليست الرحمة الحقة في إعطاء بعض الأمثلة الصارمة الرادعة، بدل ترك الاضطراب يتفاقم ويقلب المجتمع؟ وهكذا كان مكياڤلي نصير الاستبداد، وبقي اسمه عنوانًا على سياسة الختل والعذر، وحسب المسيحية منه هذا الانتقام!

(٢) پيير دي لارامي (١٥١٥–١٥٧٢)

هذا اسمه الفرنسي، ويعرف أيضا باسمه اللاتيني «بتروس راموس» هو من أوائل الذين حملوا على منطق أرسطو، وقالوا بالاكتفاء بالمنطق الفطري، فعملوا على زعزعة الفلسفة المدرسية، كان أول أمره خادمًا عند طالب موسر بباريس، وكان يحس رغبة شديدة في العلم، فكان يدرس ليلًا، مال أولًا إلى المنطق المدرسي، ولكنه ما لبث أن رغب عنه، وأقبل بشغف على محاورات أفلاطون، وفي الحادية والعشرين حصل على درجة الماجستير في الفنون برسالة لاتينية عنوانها «في أن كل ما قاله أرسطو فهو وهم» (١٥٣٦)، وبعد سبع سنين نشر كتابًا باللاتينية «في الأخطاء الأرسطوطالية» وهو نقد مفصَّل للمنطق القديم فطلبت الجامعة إلى البرلمان إعدام الكتابين، مهتمة المؤلف بأنه عدو الدين والأمن العام، وأنه يبث بين الشباب شغفًا خطرًا بالجديد، وعرض الأمر على الملك فرنسوا الأول، فأصدر مرسومًا بتحريم الكتابين، وكفَّه عن التعليم والنشر؛ لأنه «إذا ينقد أرسطو يعلن عن جهلة هو»، على أن هنري الثاني ألغى المرسوم سنة ١٥٥١، فعلم راموس عشر سنين في الكوليج دي فرانس، وهو معهد أنشأه فرنسوا الأول للعلماء الإخصائيين، علم المجموعتين الثلاثية والرباعية على منهج العصر الوسيط، فصادف إقبالًا هائلًا لم يعرف له نظير منذ تدريس أبيلار، إذ كان يحتشد لإسماعه نحو ألفي شخص، وفي هذه الأثناء نشر بالفرنسية كتابًا في الجدل (١٥٥٥) وأخر بعنوان «تنبيهات مقدمة إلى الملك على إصلاح جامعة باريس» (١٥٦٢)، وفي تلك السنة اعتنق البروتستانتية على مذهب كلفان، ولما نشبت الحرب الأهلية غادر باريس وفرنسا، فلقي استقبالًا شائقا في ألمانيا وسويسرا حيث علم من ١٥٦٨ إلى ١٥٧٠، ثم عاد إلى باريس، وفي ٢٦ أغسطس ١٥٧٢ قتل فيمن قتلوا من البروتستانت.

فكرته الأساسية أن المنطق فن عملي يزاول بالطبع، وأن القواعد عقيمة مرهقة للعقل، وهذه فكرة قديمة ترجع إلى نفر من الرواقيين والأفلاطونيين، احتجاجًا منهم على الإغراق في التمرينات المنطقية، وقد عرضها أفلوطين في الرسالة الثالثة من التساعية الأولى، حيث يعارض المنطق بالجدل الأفلاطوني، ويستشهد راموس بمن سبق المنطق الصناعي من فلاسفة وسياسيين وخطباء وشعراء ورياضيين، هؤلاء جميعًا استخدموا العقل دون قصد، وطبقوا القواعد دون شعور بها، فالمهارة في الجدل تكتسب، لا بترديد القواعد النظرية، بل بمخالطة «الشعراء والخطباء والفلاسفة، وبالجملة خيار الناس» مخالصة متصلة، وكان هو يستعين بقدماء الكتاب في دراسة المنطق وتدريسه، فيجد عندهم غذاء لذوقه الأدبي، وهو يقسم المنطق إلى قسمين: أحدهما في اختراع الحجج، والآخر في تركيبها، أما اختراع الحجج فهو عبارة عن كتاب أرسطو في الجدل، وأما تركيبها فقد اشتغل به راموس بنوع خاص وفصل نظرية الاستدلال، والأمر الغريب أنه في الواقع لم يحِد عن منطق أرسطو، وقد هاجم أرسطو من ناحية أخرى، فاتهمه بإنكار العناية والخلق، وبوضع أخلاق مستقلة عن الدين، فانبرى له «المفكرون والأحرار» يردُّون عليه، وانتشرت آراؤه في ألمانيا وأسكوتلندا وسويسرا، فكان له في هذه البلدان أشياع وخصوم، وهو إن لم ينل من أرسطو ولم يأتِ في المنطق بشيء جديد، فقد كان في طليعة الحاملين على المعلم الأول، الشانئين للمنطق الصوري، وسيردد مثل أقواله جميع فلاسفة القرن السابع عشر.

(٣) ميشيل دي مونتني (١٥٣٢–١٥٩٢)

من بين المذاهب القديمة كان الشك معروفًا من كتب شيشرون وسكستوسن أمبيريقوس، وقد وجد له أنصارًا طوال القرن السادس عشر، اصطنعه بعضهم للإلحاد والاستهتار، وبعض آخر لكي يخلصوا إلى أن الدين وحده يوفر لنا اليقين، ويرشدنا إلى طريق السعادة، أشهرهم إطلاقًا ميشيل دي مونتني، شريف من أشراف فرنسا تفقه في الأدب القديم، وبخاصة الأدب اللاتيني، فعرف الشيء الكثير عن الإنسان وأحواله، ثم نظر إلى الناس في بلده وفي ألمانيا وسويسرا وإيطاليا، فزاد معرفة بالإنسان، وأخيرًا آوى إلى أملاكه، بعيدا عن الخصومات السياسية والدينية، متوفرًا على الدرس والتأليف وتعرف الإنسان في نفسه هو، دون «محاولات» Essais أي مقالات في شتى الموضوعات، ونشرها فيما بين سنتي ١٥٨٠ و١٥٨٨ وهو يكثر فيها من الحديث عن نفسه — وهذه إحدى خصائص المحدثين — فيذكر أخباره وعاداته وأذواقه ودراساته، ويقول: «أدرس نفسي أكثر من أي شيء آخر، وهذا عندي ما بعد الطبيعة والطبيعة».

نقل من اللاتينية إلى الفرنسية كتابًا في «اللاهوت الطبيعي» لأحد أساتذة جامعة تولوز في الثلث الأول من القرن الخامس عشر، يدعى ريمون دي سبوند، توخى فيه التدليل على العقائد بقوة العقل فحسب، بما لا يخرج عن مذهب القديس توما الإكويني، فأثار نقدًا من جانب الملحدين، فأخذ القلم وكتب مقالًا في «الدفاع عن ريمون دي سبوند» عرض فيه مذهب الشك، يقول لهم: تزعمون أن سبوند لم يثبت ما قصد إلى إثباته. أجل ليست أدلته حاسمة ولكن هاتوا أنتم دليلًا حاسمًا له أو عليه، برهونوا أنتم على آرائكم، لا تهتموه بالعجز بل اتهموا بالعجز العقل الإنساني نفسه، إلا أن الإنسان متكبر مغرور بالطبع، إنه أكبر المتكبرين، مع أنه أضعف المخلوقات، يتعالى على الحيوان، ويلقب نفسه ملك الخليقة، وليست المسافة بينه وبين الحيوان على ما يظن، إنه لا يمتاز بالحس فإن الحيوان يحس، ولا بالعقل فإن الحيوان يستدل على قدر حاجاته استدلالًا معقدًا صائبًا، ولا بالاجتماع فإن من الحيوان ما يجتمع ويتعاون، ولا بالكلام فإن الحيوان يتفاهم. وما من فضيلة من الفضائل التي يفخر بها الإنسان وما من رذيلة إلا ولها مقابل في الحيوان: الحلم والعدالة والإحسان والحب والصداقة والغيرة والمكر والادِّخار والشجاعة والأمانة وعرفان الجميل، وهنا يروي مونتني عن ذكاء الحيوان في أفعاله ومصنوعاته حكاياته لطيفة ملفقة، أخذ معظمها من أفلوطرخس، ولم يكن يصدقها من غير شك، ثم يقول: إنما يمتاز الإنسان بأنه حيوان مرن غير محدود، بينما سائر الحيوان محدود في نطاق طبيعته، مقصور على حاجاته البدنية.

هل يقال أن هناك شيئًا جوهريًّا يرفعنا فوق الحيوان هو العلم؟ ولكن ما هذا العلم؟ إذا استثنينا المعارف النازلة بالوحي، لم نجد أنفسنا نعرف شيئًا، ماذا نعرف عن الله؟ لكل فيلسوف جواب، والأجوبة بعضها أغرب من بعض، حين نقول إن العصور الماضية والمستقبلة ما هي إلا بمثابة اللحظة بالإضافة إلى الله وإن خيرية الله وعلمه وقدرته غير ماهيته، نقوله باللسان ولا يتعقله العقل، وماذا نعرف عن النفس؟ إن النفس أقرب الاشياء إلينا، ومع ذلك نجد آراء الفلاسفة فيها أكثر تضاربًا وغرابة، وماذا نعرف عن جسمنا؟ ما أعضاؤه وما أجزاؤها؟ وكيف تتصل وتتلاءم فيما بينما، وكيف ولِمَ تفعل أفعالها، وما المرض، ولِمَ ينجع بعض الأدوية دون بعض؟ لا جواب إلا جوابًا لفظيًّا لا أكثر، وماذا نعرف عن الطبيعة؟ وهل نعرف حقيقة الأجرام السماوية، وحقيقة حركاتها؟ يعارض كوپرنك بطليموس، ولكن «من يدري؟ لعل رأيًا ثالثًا يظهر في مدى ألف عام فيقلب الرأيين». وإن جغرافيي العصر لمخطئون في توكيدهم أن كل شيء قد اكتشف، سقط العلم القديم، فلِمَ لا يسقط العلم الجديد بدوره؟ نحن نتوهم أننا نعلم حين نستخرج نتائج من مبادئ، ولكن ما قيمة المبادئ؟ إن كل قضية نؤيد بها رأيًا، مفتقرة هي أيضًا إلى تأييد، ويتسلسل الأمر إلى غير نهاية فتبقى المبادئ غير مثبتة، كثير أن نقول «لا أدري» وأحرى بنا أن نقول «ما أدراني» فنعين بذلك مبلغ العلم الإنساني، وإن أكثر الناس علما ليعلمون أننا لا نعلم شيئًا، فإذا كان الجهل المطبق بداية العلم، كان جهل العالم نهايته، لقد حدث للعلماء الحقيقيين بهذا الاسم مثل ما يحدث لسنابل القمح التي تصعد في الفضاء رافعة الرأس ما دامت خاوية، حتى إذا ما امتلأت حبًّا أخذت تتضع وتُدلي القرون.

ولكن قد يقال: إذا كان علمنا على مثل هذا النقض، أفليس لنا أن نأمل علمًا أضبط في المستقبل؟ كلا، فإنَّ آلات العلم عاجزة عن توفير اليقين، وستظل كذلك، كيف نطمئنُّ إلى شهادة الحواس بوجود أشياء، ونحن نعتقد في المنام بوجود ما يتراءى لنا؟ من يدرينا؟ لعل اليقظة ضرب من المنام، وكيف نطمئن إلى الحواس في شهادتها بكيفيات الأشياء وعلاقاتها، وهي إنما تدرك انفعالاتها، لا الأشياء نفسها؟ ثم إن حواس الحيوان مختلفة عن حواسنا، فالحيوان لا يدرك الأشياء كما ندركها نحن، ويقال مثل ذلك عن أفراد الناس، بل إن الفرد منَّا يتغير باستمرار، وتتغير إحساساته، ثم إن من الحيوان ما يحيا حياة كاملة وهو عاطل من البصر أو من السمع: فمن يدرينا؟ لعلنا عاطلون من حاسة أو اثنتين أو ثلاث أو أكثر، أما العقل فليس يوثق به كذلك، إن صاحب الرأي الخاطئ يعتقد صوابًا، فمن يضمن لنا أننا لسنا على خطأ حين نعتقد أننا على صواب؟ ولو كان للعقل ما يزعم له من حكم صائب، لما اختلفت العقول. ولا سبيل إلى علامة لتمييز الحق من الباطل: «لكي نحكم على الظواهر الواردة من الأشياء، يلزمنا أداة للحكم، ولكي نتحقق من هذه الأداة، يلزمنا برهان، ولكي نتحقق من هذا البرهان، يلزمنا أداة، ويدور الدولاب»، بل نحن لا نستطيع أن نثبت أن قضية ما أرجح من أخرى؛ فإن مثل هذا الإثبات يستلزم أولًا معرفة الحق يقترب منه الرجحان.

ولما كانت القوانين من صنع الناس، فقد جاءت ناقصة متباينة بتباين البلدان، مختلفة في البلد الواحد باختلاف الأزمان، يقول البعض إن الضمير يعلن إلينا «قوانين غير مكتوبة» أزلية ثابتة … كلا، فإن الضمير وليد البيئة والعادة، لا وليد الطبيعة؛ لذا نراه يختلف باختلاف البلدان والأزمان، فالملحدون الذين يتمردون على الله، والبروتستانت الذين ينازعون الكنيسة سلطانها، والثائرون الذين يريدون إبدال النظام القائم بنظام أصلح في رأيهم، كل أولئك يصدرون عن الكبرياء والغرور، إن الحكمة تقضي بأن نحكم على الأشياء لا بحقيقتها، وليس لنا إلى الحقيقة من سبيل، بل بفائدتها للحياة، وفي هذا نجد اتفاقًا عامًّا بين الجماعات الإنسانية، فلنستمسك بالعادات والتقاليد، فمونتني يجدد حجج قدماء الشكاك بأسلوبه الحي الملون، ولا يزيد عليها شيئًا، ويصل إلى عين النتيجة التي وقفوا عندها، وهي الاستسلام للطبيعة والعادة كأن ليست لنا عقول، ولكنه كان عاملًا قويًّا في إذاعة الشك، وقد أثر تأثيرًا كبيرًا في ديكارت وبسكال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤