الفصل الخامس

فلاسفة مستقلون

(١) برنردينو تليزيو (١٥٠٨–١٥٨٨)

ثلاثة فلاسفة إيطاليين من أهل الجنوب يظنون أنفسهم رجال العلم الحديث والفلسفة الحديثة، فيؤلفون فريقًا على حدة، ويختلفون عن فلاسفة شمال إيطاليا الذين كانوا أفلاطونيين أو أرسطوطاليين رشديين، وفيلسوف ألماني يحاول أن يحل مسألة صدور الكثير عن الواحد، فيضع مذهبًا من الغرابة بمكان.

أول الفلاسفة الإيطاليين برنردينو تليزيو، ولد بالقرب من نابولي، وتلقى العلم في ميلانو، ثم قصد إلى روما فإلى پاودڤا، وبعد أن قام مدة في بلاط البابا بولس الرابع، الذي كان يقدره تقديرًا كبيرًا حتى أراد أن يعينه رئيس أساقفة، عاد إلى نابولي، وعلم فيها، وأسس أكاديمية لتقدم العلوم الطبيعية عرفت باسمه «أكاديميا تليزيانا»، وفي سنة ١٥٦٥ ظهر القسم الأول من كتابه «في طبيعة الأشياء» وبعد اثنتين وعشرين سنة (١٥٨٧) ظهر القسم الخاص بالإنسان من الوجهتين النفسية والخلقية.

كان من أشد معارضي العلم الطبيعي الأرسطوطالي، ولكن علمه هو كان ساذجًا، بعث النظرية الرواقية فذهب إلى أن العالم حي، وأنه عبارة عن مبدأين جسميين خلقهما الله: مادة منفعلة فيها مبدأ فاعل، والمبدأ الفاعل مزدوج: قوة تخلخل أو حرارة، وقوة تكاثف أو برودة. فيقسم العالم إلى مركز حرارة هو السماء، ومركز برودة هو الأرض، دون ما اختلاف بين المادة السماوية والمادة الأرضية، والسماء تتحرك حركة دائرية بالطبع، لا بمبادئ مغايرة لها كالعقول المحركة عند أفلاطون وأرسطو؛ وذلك لأنها مركز الحرارة وأن الحرارة تحدث الحركة، والأرض ساكنة لأن طبيعتها باردة مظلمة (ولكن تليزيو يقول: «إن الأرض تحدث حرارة بتأثير الشمس، فلم لا تتحرك هي أيضا؟»).

الحرارة والبرودة تؤثران في المادة، فتشكل أشكالًا وتتكيف كيفيات مختلفة تبعًا لنسبة التخلخل أو التكاثف، أو أن الأشياء الطبيعية تولد من تماس الحرارة السماوية وسطح الأرض البارد، والموجودات جميعًا حاسة؛ لأن كل موجود فهو حاصل على الميل لاستبقاء كيانه، فيتعين أن يحسَّ اقتراب ضده منه لكي يقاومه، وإلا لم يستطع البقاء، فالغائية التي يجعلها أرسطو طبيعية في الموجودات غير العارفة، ومعلومة مرادة في الموجودات العارفة، يجعلها تليزيو كلها معلومة، فينتج له أن العالم حي عارف، وهذه القضية تقضي من جهتها بأن تكون الغائية معلومة مرادة، ونفس الحي جزء من المبدأ الفاعل، فهي جسمية مثله، لا صورة جوهرية للجسم كما يقول الأرسطوطاليون، وإلا لما أمكن للمادة أن تؤثر فيها، ولما أدركت هي التكاثف والتخلخل، من حيث إن هذا الإدراك يستلزم أن تتكاثف وتتخلخل، فالنفس حار منتشر في الأعصاب وتجاويف الدماغ، وهذا سيدعى فيما بعد بالأرواح الحيوانية، على أن تليزيو يقول إن الله يضع في الإنسان، إلى جانب النفس المادية، نفسًا روحية خالدة هي التي لا تقنع بالحياة الأرضية وتدرك الله، وقد يكون تليزيو أراد بهذا القول مجاراة الدين.

الإحساس إدراك التأثيرات الخارجية والتغييرات الداخلية، بل هو إدراك التغييرات الداخلية؛ لأننا إنما نعلم التأثيرات الخارجية بوساطتها، وكل معرفة فهي إحساس، والإحساس حركة مخية، ومتى تكررت في غيبة المحسوس كانت تخيلًا وتذكرًا، أما المعرفة العقلية فإدراك علاقات التشابه والتباين بين الإحساسات، وأما الأفعال الخلقية فترجع إلى غريزة حب البقاء، فيتضح ممَّا تقدم أنه يمكن اعتبار تليزيو ممثلًا للفلسفة القائمة على التجربة قبل تأسيس العلم الطبيعي الحديث، وما هي إلا الفلسفة المادية في جميع العصور، لا يغير فيها تقدم العلم إلا الاصطلاحات والتطبيقات.

(٢) چيوردانو برونو (١٥٤٨–١٦٠٠)

هو أبرز ممثلي روح «النهضة» في الفلسفة، روح التمرد وروح النشوة بالكون الجديد المتسع إلى غير حدٍّ، ولد بالقرب من نابولي، وفي السادسة عشرة دخل ديرًا للدومنيكان بالمدينة، ولكنه كان حادَّ المزاج قويَّ الشهوة، كثير التقلب حتى بدرت منه آراء أثارت الريبة في عقيدته، ففرَّ إلى روما، فكان فيها موضع ريبة أيضًا، فخلع ثوب الرهبنة في الثامنة والعشرين (١٥٧٦) وشرع يطوف في شمال إيطاليا يعطي دروسًا في الفلك لبعض الشبان الموسرين، ثم قصد إلى جنيف (١٥٧٩) وانتسب إلى جامعتها، ولم يكن الانتساب إليها مباحًا لغير البروتستانت إذ كانت المدينة بروتستانتية، فظن أنه من أتباع الكنيسة الجديدة، وما لبث أن أعلن رأيًا عدته السلطة الدينية منافيًا للمسيحية وأوقعت عليه حرمًا، فعمل على رفع الحرم عنه وأظهر الندم على ما فرط منه، ثم رحل إلى جنوب فرنسا، فعلم سنتين بجامعة تولوز ولقي إقبالًا شديدًا، علم الفلك وفلسفة أرسطو، وكانت له مشادات مع العلماء، وفي ذلك الوقت أراد أن يعود إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية فاشترط عليه قبل كل شيء العودة إلى ديره فأبى، وشبت في المدينة حرب أهلية، فرحل إلى باريس (١٥٨١) وعلم بها، فصادف من الإقبال مثل ما صادف في تولوز، وبعد سنتين ذهب إلى إنجلترا، فكتب إلى جامعة أوكسفورد يخبرها بمقدمه، ويعلمها بأنه أستاذ الحكمة الخالصة، وفيلسوف مشهور في جامعات أوربا، لا يجهله إلا البرابرة والأجلاف، إلى غير ذلك من الدعاوى ففتحت له الجامعة بابها، فعرض فيها آراءه الفلسفية والفلكية، فأثار مناقشات عنيفة، واضطر إلى وقف دروسه، ورجع إلى باريس بعد غيبة سنتين، وهناك أعاد الكَرَّةَ على الكنيسة الكاثوليكية، فكان ما كان في المرة الأولى من اشتراط فإباء، وفي مناقشة علنية بالجامعة هاجم مذهب أرسطو ودافع عن الفلك الجديد وعن حرية الفكر، وكان دائم الحملة على أرسطو «الشتام الطماع الذي أراد أن ينتقص آراء جميع الفلاسفة»، وبعد فترة قصيرة غادر باريس إلى ألمانيا، فأبت عليه جامعة ماربورج التعليم بها، وأجازته له جامعة فتنبرج فمكث بها سنتين هادئتين، وفي خطاب الوداع أشاد بالعلم الألماني يمثله نقولا دي كوسا وبراسلس وكوپرنك، وأكبر لوثير لمناهضته الكنيسة الكاثوليكية، فذهب إلى براج، فإلى فرنكفورت حيث قضى سنة، وقد يكود طُرد منها، فقصد إلى زوريخ، ثم إلى البندقية (١٥٩١).

وفيما هو بهذه المدينة شكاه أحد تلاميذه إلى مجلس التفتيش، فأمر باعتقاله (١٥٩٢) فأنكر برونو بعض ما نسب إليه من أقوال، وصرح بأنه كان دائمًا حريصًا على العقيدة الكاثوليكية في أعماق نفسه، وركع وطلب العفو عمَّا بدر منه من أضاليل، ونما خبر هذه المحاكمة إلى ديوان التفتيش بروما، فطلبه من حكومة البندقية، فبعثت به، فظل معتقلًا ست سنين ونيفًا، وكان من عادة مجالس التفتيش مطاولة المتهمين علَّهم يرعوون عن غيهم، أخذ عليه الديوان ثماني قضايا، منها التهكم على تجسد المسيح وعلى القربان الأقدس، فأصدر البابا أمره بأن يطلب منه إنكار القضايا المخالفة للعقائد المقررة، دون القضايا المتعلقة بمذهب كوپرنك، فكان هذا التمييز من جانب البابا دليلًا على استعداد الكنيسة لقبول العلم الجديد، قبل تحريم كتاب كوپرنك وإنذار جليليو بثماني عشرة سنة، وقبل الحكم الأخير على جليليو بخمسٍ وثلاثين سنة، ولكن برونو رفض الطلب، وقال إنه لم يخالف الإيمان، وإن رجال الدين يؤولون أقواله، فحكم عليه بالحرم، وبتسليمه إلى السلطة المدنية «كي يعاقب برفق ودون سفك دم»، فأعدم حرقًا بعد أسبوع «١٧ فبراير ١٦٠٠» وكان الي النفس الأخير رابط الجأش مصرًّا على عناده، حتى إن كاهنًا مد إليه صليبًا فردَّه، ومهما يكن من أمر إحراقه — وكان منهاج العصر يحتمل هذا الضرب من الإعدام — فلا شك في أنه خرج على الدين خروجًا خطيرًا، كما أشرنا إليه وكما سيتضح من بيان مذهبه أنه كان راهبًا معيبًا وفيلسوفًا مفتونًا، جواب آفاق، مشاكسًا مهاترًا.

وقد جاءت كتبه كثيرة بالرغم من شدة قلقه وكثرة ترحاله، وجاءت صورة لشخصيته الكدرة الغامضة، أي قليلة الوضوح عديمة المنهج، طنانة رنانة أهمها: كتاب «في العلة والمبدأ الواحد» (١٥٨٤) وهو خيرها جميعًا، وكتاب «في العالم اللا متناهي وفي العوالم» (١٥٧٤)، وكتاب «في المونادا والعدد والشكل» (١٥٩١)، وكتاب في «الكون اللا متناهي وفي العوالم» (١٥٩١)، وكتاب «في طرد البهيمة الظافرة» في الفلسفة الخلقية، ومن هذه العناوين نعلم أن مذهبه وحدة الوجود على الطريقة الرواقية.

كانت مرحلته الأولي إلى هذا المذهب الأفلاطونية الجديدة بأقانيمها الأربعة: الله، والعقل الكلي، والنفس الكلية، والمادة. وبقولها إن الله فوق متناول فكرنا الذي يعمل بالتمييز والاستدلال، ثم قال: ولكن الله يصير موضوع تعقل أو فلسفة من جهة كونه باديًا في الطبيعة أو نفسًا كلية تربط بين أجزاء العالم ربطًا محكمًا، ولما كان الله لا متناهيًا، كان العالم لا متناهيًا كذلك؛ لأن العلة اللا متناهية تحدث معلولًا لا متناهيًا، ولما كان من الممتنع أن يوجد لا متناهيان، كان الله والعالم موجودًا واحدا، فلا نهائية العالم تلزم إذن من اعتبار الله؛ فإن الله مبدأ الخير، فهو يمنح كل ما في قدرته أن يمنح، دون حسد ولا بخل، فالكمال اللا متناهي يتجلى بالضرورة في عدد لا متناهٍ من الموجودات، إذ إن التقابل بين القدرة والوجود لا يصح إلا بالإضافة إلى الموجود المتناهي، لا بالإضافة إلى اللا متناهي حيث تتفق القدرة والايجاد.

وتلزم لا نهائية العالم أيضًا من اعتبار العالم نفسه: فنحن نلاحظ أن الأفق ينتقل بانتقالنا في المكان، فالإدراك الحسي لا يدل على مركز مطلق للعالم أو على حدٍّ مطلق كما اعتقد القدماء، بل بالعكس يدل على إمكان اعتبار أي مكان نوجد فيه بالفعل أو بالخيال مركزًا للعالم، وعلى إمكان تكبير حدود العالم إلى ما لا نهاية، ويتفق مع شهادة الحس هذه ما لخيالنا وعقلنا من قوة إضافة العدد إلى العدد والمقدار إلى المقدار، دون وقوف عند حدٍّ، كما يتفق معها شعورنا بعدم الرضا كلما بلغنا إلى غاية توخيناها، فمن غير المعقول أن لا يكون الوجود بحيث يطابق مقدرة خيالنا وعقلنا وإرادتنا على مجاوزة كل حدٍّ.

ويلزم ممَّا تقدم نسبية المكان والحركة والزمان، أما نسبية المكان، فتتضح من كون الأفق يستدير دائمًا حول النقطة التي نوجد فيها، فيصبح تعيين المكان نسبيًّا، ويختلف شكل العالم في نظرنا باختلاف النقطة التي نتمثله منها، فيبدو من القمر غيره من الأرض، ويبدو من الزهرة أو من الشمس غيره كذلك وتصيره نقطة واحدة بعينها مركزًا أو قطبًا أو سمتًا؛ لذا كانت ألفاظ «فوق وتحت ويمين ويسار» لا تدل في الحقيقة على شيء مطلق، وأما نسبية الحركة، فتتضح من أن ليس في العالم نقطة ثابتة كما تقدَّم، فالحركة الواحدة بعينها تتخذ شكلًا خاصًّا حسبما تصورتها من الأرض أو من الشمس، وأي نقطة أفترض نفسي موجودًا فيها تبدو دائمًا غير متحركة، فليس يمكن الحصول على يقين مطلق بالفرق بين الساكن والمتحرك، والمذهب القديم يفترض ما يلزم التدليل عليه، أعني أن الأرض هي النقطة الثابتة التي تُقاس إليها كل حركة، وأخيرًا من نسبية الحركة تلزم نسبية الزمان، ذلك بأنه لما كان الزمان مقياس الحركة، وكانت الحركة تبدو مختلفة باختلاف الكواكب التي ننظر منها إليها، كان في العالم من الأزمنة بقدر ما فيه من كواكب، والنتيجة أن العالم لا متناهٍ، يشمل على نظم شمسية لا تُحصى، شبيهة بنظامنا الشمسي، أي إن النجوم شموس تحيط بها سيارات لها أقمار، فيجاز برونو موقف كوپرنك الذي كان يتابع القدما في تصور العالم محدودًا.

إذا كان الوجود واحدًا لزم أن تتفق فيه جميع الأشياء: وهذا ما يذهب إليه برونر ببيان أن الأشياء مرتبطة أوثق ارتباط، وأن الاضداد التي تبدو للفكر المنطقي منفصلة متعارضة، هي في الحقيقة ملتصقة متدرجة بعضها إلى البعض تدرجًا غير محسوس، فتم عن مبدأ مشترك تتحد فيه، غير أنه يميز في هذا الواحد بين العلة والمعلول: العلة هي الله أو الطبيعة الطابعة أو نفس العالم، هي المبدأ الذي يترجم عن نفس في مختلف الموجودات دون أن يبلغ إلى كمال تحقُّقه في صورة جزئية معينة، والمعلول هو العالم أو الطبيعة المطبوعة، وليس التوحيد بين الله والعالم إنكارًا لله، ولكنه تمجيد له، إذ أنه يوسع فكرة الله إلى أبعد من الحدود التي يحصرها فيها الذين يجعلون من الله موجودًا قائمًا«بجانب» الموجودات، أي موجودًا متناهيًا، إن الله موجود كله في كل شيء، بل هو أكثر حضورًا في الاشياء منها في أنفسها، وكل شيء في الطبيعة حي، وما الموت إلا تحول الحياة: إن فساد شيء كون شيء آخر، والعكس بالعكس، فكل موجود نفس وجسم معًا. النفس «مونادا» حية (من اللفظ اليوناني «موناس» أي الوحدة، وكان برونو أول من اصطنع هذا الاصطلاح، فأخذه عنه ليبنتز)، وكل موجود صورة جزئية لله المونادا العظمى، أو مونادا المونادات، أو العنصر أو الحد الأدنى؛ لأن كل شيء منتشر عنه، أو الحد الأقصى لأن كل شيء قائم فيه، والجسم أثر ما للمونادا من حركة انتشار، والفكر عودة المونادا إلى ذاتها، في هاتين الحركتين تقوم الحياة، فتدوم ما دامتا، وتنطفئ بسكونهما، لتظهر في صورة جديدة، ونفس الإنسان أعلى مظاهر الحركة الكونية، غير أن برونو عاد فأخذ بنظرية الجوهر الفرد في تفسير كون الموجودات وفسادها، فكانت هذه مرحلة ثالثة وأخيرة، لا تمحو نظرية وحدة الوجود بل تدخل فيها، فهو لم يأتِ بشيء جديد، اللهم إلا تلك المطابقة بين لا نهائية الله ولا نهائية العالم، ولو أنه رجع إلى أرسطو يتعلم منه بدل أن يتهجم عليه، وحكم العقل بدل أن ينقاد إلى الخيال، لعلم أن المادة لا يمكن أن توجد بالفعل إلى غير حد.

(٣) تومازو وكمپانيلا (١٥٦٨–١٦٣٩)

راهب آخر من الدومنيكان أثار الريبة ضده لانتقاضه على أرسطو بحجة استحالة التوفيق بين فلسفته وبين المسيحية واعتناقه آراء تليزيو الطبيعية، وميله إلى العلوم الخفية، وسئل في ذلك أمام مجلس التفتيش، فاستطاع الخروج بسلام من هذا الامتحان، غير أن فتنًا نشبت في كلابريا (مسقط رأسه) ضد الحكم الإسباني، وكان هو قد لفت إليه الأنظار بأفكاره الاشتراكية وإعلانه أنه استدل بالتنجيم عن أن ثورات ستقع سنة ١٦٠٠، فاتهم بالائتمار بالدولة والمروق من الدين، وعذِّب عذابًا شديدًا، وظل سجينًا بنابولي سبعًا وعشرين سنة، ولكنه كان في سجنه يقرأ ويكتب نثرًا وشعرًا، وكان نفر من أصدقائه يزورونه فيه فيأخذون ما يكتب ويقدمونه للطبع، ثم أفرج عنه وأرسل إلى روما، فأخذه البابا تحت حمايته، ويسَّر له سبيل الفرار إلى فرنسا، فقضى فيها سنيه الأخيرة وحكومتها تجري عليه معاشًا.

عرض آراء تليزيو في كتاب أسماه «دلالة الأشياء والسحر» دوِّن سنة ١٦٠٤ ونشر سنة ١٦٢٠، يعرف فيه السحر بأنه فن استخدام قوى النجوم وتأثير الإرادة الإنسانية في الطبيعة، فهو من هذه الناحية بعيد كل البعد من العلم الحديث الذي كان يمثله معاصراه ديكارت وجليليو، وفي سنة ١٦٢٢ طبع له بفرانكفورت «دفاع عن جليليو» دعا فيه الكنيسة إلى ترك الحرية للبحث القائم على التجربة؛ لأن كتاب الطبيعة إذا درس درسًا عميقًا بان متفقًا مع الكتاب المقدس، وكان اعتقاده أن الكنيسة ترحب بالعلم الجديد، وأن برونو لم يُحرق بسبب آرائه العلمية، ولكنه هو لم يكن يتصور التجربة مثل تصور جليليو، ولما صدر الحكم على جليليو أذعن له نزولًا على إيمانه، على أن أهم كتبه اثنان: الواحد «في الفلسفة العامة أو الميتافيزيقا» حرر القسم الأكبر منه في سجنه ونشره سنة ١٦٣٨، وفي يلتقي مع ديكارت في المنهج إلى حدٍّ غريب، ويقيم آراءه (أو آراء تليزيو) الطبيعية على أساس عقلي، والكتاب الآخر «مدينة الشمس» يعرض فيه أفكاره الاجتماعية ناحيًا منحى أفلاطون في «الجمهورية» وتوماس مور في «يوتوبيا».

في الفلسفة العامة يعنى أولًا بمسألة المعرفة، ثم ينتقل إلى مسائل الوجود، تنقسم معارفنا إلى حسية وعقلية، فلمعرفتنا مصدران هما التجربة والاستدلال، وقد ارتاب معظم القدماء في صدق إدراك الحواس، وقال الشكاك إن الموضوع المدرك بالحس ما هو إلا انفعال الحس، فكيف يسوغ إضافته إلى شيء خارجي، وقد تكون الذات المفكرة علة له وهي لا تدري، الجواب أن الحس الباطن يظهرني على وجودي بصفة مباشرة لا تحتمل الشك، (وهنا يستشهد كمپانيلا بالقديس أوغسطين، وكانت فكرة إقامة العلم على الشعور المباشر موجودة عند نقولا دي كوسا ومونتني وغيرهما من رجال عصر النهضة، وأعلن عنها ديكارت في كتابه «مقال في المنهج» المنشور سنة ١٦٣٧، والحس الباطن يظهرني على نفسي أني قادر عارف مريد، وأني محدود المعرفة والقدرة، فأستنتج أن هناك وجودًا يحدني أي عالمًا مغايرًا لذاتي، ويصح عندي هكذا بالاستدلال ما يصدر عني طبعًا قبل أي تفكير أعني الاعتقاد بعالم خارجي هو عله إدراكي الحسي، والمطابقة بين الإدراك الحسي وذات الشيء لازمة من كونهما صادرين (وكون الأشياء جميعًا صادرة) عن أصل واحد.

تلك الأمور الثلاثة التي يظهرني عليها الشعور، وهي القدرة والعلم والإرادة، هي المبادئ الكلية أو الشروط الأولية للوجود، ويستدل عليها بالعقل فإنه لكي يحصل الموجود على الوجود، يلزم أن يكون ممكن الوجود أو أن تكون له القدرة على أن يوجد، وأن يكون هناك مثال يتحقق الموجود بحسبه من حيث إنه بغير العلم لا يفعل فاعل، وأن يكون هناك إرادة تحققه، فالنظر في الموجود المدرك يؤدي بنا إلى موجد هو الموجود الأعظم أو الله، حاصل على غاية القدرة والعلم والإرادة، بينما سائر الموجودات، الملائكة والنفس الكلية والنفوس الإنسانية والأجسام، تشارك فيها على حسب مكانها من كمال الله، لأنها جميعا فاعلة، بحيث يلزم أن الوجود كله حي، أي إن في كل موجود قدرة أولية هي القدرة على تحريك الذات أو الحياة، وهذه القدرة مفروضة في القدرة على تحريك أي شيء، ويلزم أن في كل موجود علمًا أوليًّا هو علمه بذاته، ولكن هذا العلم كامن متفاوت، ونحن مشغولون عنه بالمؤثرات الخارجية التي ترد علينا باستمرار والتي لا محيص لنا من الالتفات إليها لصيانة حياتنا، فليس هذا العلم الأولي شعورًا بالفعل، وإنما هو إمكان شعور؛ لذا كنا لا ندرك أنفسنا إدراكًا مباشرًا، وإنما ندركها خلال أفعالنا، على أن هذا العلم الأولي شرط العلم بالأشياء، فإن إدراكي الحرارة معناه أني أشعر بنفسي حارًّا، فكل معرفة عبارة عن تغير وتعيين لشعوري فهي تفترض الشعور قبلها، ثم يلزم أن في كل موجود إرادة أولية تظهر في حبه للبقاء، بل إن النبات والحيوان يُرمى بالتوليد إلى بقاء أبعد من بقاء الفرد، بل إن ما في الضوء والحرارة من حاجة إلى الانتشار والفيض، يترجم عن ذلك الميل الأزلي أو المحبة الأزلية الفعالة، وكما أن العلم بالذات مفروض في كل علم، فكذلك محبة الذات مفروضة في محبة أي شئ، فإن الغرض من كل محبة حفظ الوجود وفيه سعادة الموجود، وأعلى مظهر لحفظ الوجود المشاركة الأبدية في الوجود الإلهي فإن كل موجود، كما أنه صادر عن الله، ينزع إلى أن يرجع إلى الله وان يشارك في الحياة اللا متناهية، فالموجودات جميعًا متدينة، لأنها جميعًا تنفر من العدم، ولما كانت تحمل في أنفسها العدم إلى جانب الوجود، كانت تحب الله أكثر ممَّا تحب أنفسها، وهكذا نصل إلى الأخلاق والدين من طريق محبة الذات التي تبدو في حقيقتها أنها محبة الله فعالة في كل موجود، ففي الإنسان دين كامل متحد بالعلم الكامن والميل الكامن، وهذا الدين الأولي مفروض قبل الأديان الوضعية، وإنما لزم الوحي لاختلاف الأديان الوضعية وأضاليلها، واللاهوت أعلى من الفلسفة بقدر علوِّ الله على الإنسان، وهكذا يؤلف كمپانيلا مذهبًا شاملًا قائمًا على معانٍ ثلاثة، وتعد محاولته هذه أولى المحاولات الحديثة التي ترتب الفلسفة كلها تبعًا لوجهة واحدة تعتبر بمثابة نقطة المركز.

أما السياسة فيجب أن تخضع للأخلاق والدين وتصدر عنهما، فهي ليست علمًا أو فنًّا مستقلًّا كما يريد ماكياڤلي «ممثل مبدأ الشر» بمذهبه السمج، السياسة قائمة على محبة الإنسان لنفسه بالمعنى المتقدم، ومحبته للمجتمع الذي هو شرط وجوده، ويا حبذا لو ألفت الإنسانية جمعاء إمبراطورية كبرى يديرها مجلس الملوك بإرشاد البابا، بل يا حبذا (كما جاء في «مدينة الشمس») لو ينظم المجتمع وفقًا لاصول العلم، أي العلم الطبيعي والفلسفة، فيتولى فيه الحكم خير الذين مهروا في العلم النظري والعلم العملي معًا، ونزول سلطة الإكليروس والإشراف، وتحظر الملكية الخاصة والمعيشة المنعزلة في دائرة الأسرة؛ لأن الاختصاص والانعزال ينميان الاثرة ويوهنان الوطنية، وتنظم العلاقات الجنسية بناء على الاعتبارات الفسيولوجية لكي تحصل الدولة على مواطنين أصحاء موهوبين، ويكلف كل مواطن بما يناسب استعداده من عمل، وترد إلى العمل حقوقه وكرامته فلا يعتبر مهينًا، ويعطى المواطن من نتاج العمل على قدر حاجته وفضله، فينتقي الظلم والفقر، ومتي كان العمل مفروضًا على كل مواطن وموزعًا تبعًا للكفاية، فيكاد المواطن لا يعمل أربع ساعات في اليوم، فينفق باقي وقته في تحصيل المعارف والحديث والرياضة، ياحبذا!

(٤) چاكوب بوهمي (١٥٧٥–١٦٢٤)

إسكاف لم يختلف إلى المدارس، ولكنه كان تقيًّا كثير التفكير، قرأ الكتب المقدسة، وكتبًا في الفلسفة والطبيعيات والفلك الجديد والتصوف، وعاشر جماعة من الأشراف المثقفين ومن الأطباء الآخذين بمذهب براسلس، وشغلته مسألة وجود الشر في العالم وفي الإنسان، وكيف يتفق وجود الشر مع وجود الله، وشرع يفكر وعدته تلك المصادر من الكتب وآراء أهل العلم، وكان يكثر من الصلاة يستمد العون الإلهي، حتى إذا ما لاح له حل المسألة اعتقد أن الله كشف له عنه على ثلاث مرات متواليات، وكان حينذاك في الخامسة والعشرين، فواظب على التفكير والتدوين (بالألمانية) اثنتي عشرة سنة، ثم نشر كتابة الأول «الفجر» (١٦١٢) وبعد سبع سنين نشر كتابًا آخر اسمه «وصف المبادئ الثلاثة للماهية الإلهية» ثم توالت كتبه.

يعرض أفكاره في أسلوب ميتولوجي رمزي «بسبب قلة فهم القارئ» فيأخذ أشياء من الكتب المقدسة ومن الكيمياء والفلسفة، ويؤلف مزيجًا غريبًا تلتقي فيه أقانيم الثالوث الأقدس والملائكة وأرواح مختلفة وكيفيات مشخصة، وما يرجع إلى الفلسفة من هذا المزيج بضعة أقوال تذكر بمذهب أنبا دوقليس في محاولته تفسير خروج الكثرة بالكراهية من الكرة الأصلية، وتعتبر لب الفلسفة الألمانية من إيكارت إلى شلنج وهجل وشوبنهور، تلك الفلسفة التي تتصور الوجود حياة متطورة، وتؤثر الحدس على الاستدلال، أو تستخدم الاستدلال في الإبانة عن الحدس.

يقول بوهمي: حيث لا يوجد شيء لا يولد شيء، فلا بد أن يكون لكل شيء، حتى للشر، أصل أزلي في الله خالق الأشياء، وأن يكون الله منطويًّا على كثرة هي الينبوع الخفي للحياة الكلية، إذ كيف يمكن تفسير الكثرة بالوحدة المطلقة، وليس في الوحدة المطلقة شيء تريده ما دامت وحدة، فالله «نعم ولا، نور وظلمة» أي محبة هي أصل الخير والنعيم، وغضب هو أصل الشر والجحيم، هذا الازدواج شرط كل حياة لكي تتطور ويتميز أحد الضدين بالآخر، وفي جميع الموجودات بلا استثناء صراع بين مبدأين متضادين، والله في ذاته آب وابن وروح قدس: الآب إرادة وقدرة، والابن موضوع قدرة الآب، فالآب بدون الابن إرادة بدون موضوع، هاوية وموت ولا وجود، فالله الابن هو الإرادة الإلهية ولها موضوع سرمدي لا متناه، هو النور الذي ينير الوجود الإلهي، وأخيرًا الإشعاع المتصل للنور، وتعبير الإرادة عن الحكمة، ذلك هو الروح القدس.

والإرادة الإلهية، إذ نتأمل كمالها، تحس شوقًا شديدًا إليه، فينشأ التقابل بين الإرادة والكمال، بين النور والظلمة، بين الخير والشر، أي الإرادة والشوق منفصلين عن الحكومة والمحبة، ثم تنقسم كل من هاتين الوجهتين من الله، ويتولد عن هذا الانقسام سبع ماهيات هي الأصل المشترك للكون، وتجري المادة في الفضاء، ويتكون العالم على ما نشاهده، ويوجد فيه الصراع والقلق فما الطبيعة إلا مظهر الله، أو ما الله بالإضافة إلى الطبيعة إلا بمثابة النفس بالإضافة إلى الجسم، ماهيته الله وقدرته تبدوان في كل شيء وفينا نحن، إنا نحيا في الله ويحيا الله فينا، ومتي كنَّا أطهارًا كنَّا الله، وبين الطبيعة المنظورة والله، طبيعة غير منظورة صادرة عن الله مباشرة، وحاوية جميع الماهيات والكيفيات الأساسية، هي الابن موضوع قدرة الآب، وعنها تصدر الطبيعة المنظورة، فتصير الماهيات والمثل موجودات وظواهر.

وإذن فقد كان الشر قبل الإنسان، وانحدر إلى طبيعته، ولكن لله قلبًا يعمل باتصال على دفع الشر، وما علينا إلا أن نشق طريقنا «ونخترق الغضب» لنبلغ إلى المحبة، فإن الشر فينا إرادة الانفصال من تناسق الكل، وإرادة أن نصير كلا ونحن في الحقيقة جزء، وهكذا تحل المشكلة بالكشف عن أصل الوجود وبيان إمكان التغلب على الشر والاتحاد بالله، وفي هذا الحل يستخدم بوهمي الاستدلال العقلي من ناحية، والتجربة الباطنة من ناحية أخرى، تلك التجربة التي تظهرنا على أن الشعور لا يصير ممكنًا بغير التنوع والتضاد، وأنه تطور الفوارق أو نموها نموًّا تدريجيًّا، وكثيرًا ما سيتخذ الفلاسفة من التجربة الباطنة أصلًا وأساسًا، ثم يتصورون العالم كأنه نفس كبرى ويعممون ملاحظاتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤