الفصل الثاني

توماس هوبس

١٥٨٨–١٦٧٩

(١) حياته ومصنفاته

هو أول الماديين المحدثين، وأكبر أنصار الحكم المطلق قبيل تقويضه، دخل جامعة أكسفورد في الخامسة عشرة ومكث بها خمس سنين يتلقى المنطق المدرسي والطبيعيات دون كبير اهتمام، ثم جعل يطالع الآداب القديمة، وبخاصة المؤرخين والشعراء، وعمل في خدمة بيكون كاتبًا لسره ومعاونًا له في نقل مؤلفاته إلى اللاتينية، وفي سنة ١٦٢٩ نشر ترجمة لتاريخ توكيديد «حيث تبدو الديمقراطية سخيفة أشد السخف» على حد قوله، فإلى سن الأربعين لم يكن كتب شيئًا في الفلسفة.

وحدث أنه سافر إلى فرنسا واقام بها سنتين (١٦٢٩–١٦٣١) فعرف فيها «مبادئ أقليدس» ولم يكن درس الرياضيات من قبل، وأعجب بالمنهج القياسي، وعول على اصطناعه، وعاد إلى القارة سنة ١٦٣٤، فقوبل في الاوساط العلمية الباريسية باعتباره فيلسوفًا مذكورًا، وكان واحدًا من الذين عرضت عليهم «تأملات ديكارت» (٣١ج) فكتب عليها اعتراضات تتبين منها فلسفته قبل أن يعرضها عرضًا مرتبًا، وقد رد ديكارت على هذه الاعتراضات، وقال إنه لو أسهب في رده لأعطاها أكثر مما تستحق من قيمة.

وجاءت الصورة الأولي لفلسفته في كتاب «مبادئ القانون الطبيعي والسياسي» دوَّنه سنه ١٦٤٠ وقسمه إلى ثلاثة أقسام: الأول «في الطبيعة الإنسانية أو المبادئ الأساسية للسياسة»، والثاني «في الهيئة الاجتماعية»، والثالث «في المواطن». وبعد عشر سنين نشر كتاب «لاوياثان أو في المجتمع الكنسي والمدني مادة وصورة وسلطة» ولاوياثان هو التنين الهائل المذكور في سفر أيوب (فصل ٣ آية ٨، وفصل ٤٠ آية ٢٠) ويقصد به هوبس الحكم المطلق، ثم نشر كتابه «في الجسم” (١٦٥٥) وهو يحتوي على المنطق، والمبادئ الأساسية أو الفلسفة الأولى، ونظرية الحركات والمقادير، ونظرية الظواهر الطبيعية، وقد وردت في الكتاب اخطاء رياضية أخذها عليه الرياضي واليس Wall’s، وأخيرًا نشر كتابه «في الإنسان» (١٦٥٨) القسم الأكبر منه في البصريات لتوضيح طبيعة حاسة البصر، والباقي بيان موجز في اللغة من الجهة النفسية وفي الانفعالات، فتم بهذا الكتاب مذهبه.

(٢) العلم ومنهجه

العلم معرفة العلة، أو هو معرفة المعلولات بعللها، والعلل بمعلولاتها، والعلم قياسي لأن القياس برهان النتيجة، وموضوع العلم الأجسام لأن كل موجود فهو جسمي، ولما كان الجسم إما طبيعيًّا أو صناعيًّا أي اجتماعيًّا، انقسم العلم إلى طبيعي يشتمل على المنطق والمبادئ الأولى والرياضيات والطبيعيات، وإلى مدني يشتمل على الأخلاق والسياسة، وكلاهما علم تجريبي موضوعة أجسام، أو أن الموضوع الإحساس الظاهر والباطن، وللظواهر جميعًا عله واحدة هي الحركة: هذا مبدأ عام لا يحتاج إلى برهان، فالهندسة تفحص عن القوانين الرياضية للحركة، وتفحص الميكانيكا عن مفاعيل حركة جسم في آخر، ويفحص علم الطبيعة عن مفاعيل الحركات الحادثة في ذرات الأجسام، ويفحص علم الإنسان والسياسة عن الحركات الحادثة في نفوس الناس والباعثة على أفعالهم.

غير أن هوبس يعترف بأن الصلة القياسية منقطعة في نقطتين: الأولى نقطة الانتقال من الميكانيكا إلى علم الطبيعة حيث نضطر إلى وقف القياس لنرى أي الظواهر هي الواقعة بالفعل من بين الظواهر الممكنة، فنكون مبادئ علم الطبيعة بتحليل تلك الظواهر، والنقطة الثانية نقطة الانتقال من علم الطبيعة إلى علم الإنسان والسياسة، فإن المبادئ ههنا هي الميول والانفعالات، وهي لا تستنبط مما سبق، بل تدرك في النفس وتوضع كمقدمات جديدة للقياس، وبالفعل كتب هوبس في الإنسان والسياسة قبل أن يكتب في القسمين الأولين من فلسفته كما ذكرنا، ونبَّه على أن لا بأس في ذلك لأن القسم الثالث يقوم على مبادئه الخاصة فلا يحتاج إلى القسمين الآخرين، وهذا يعني في الحقيقة استحالة معالجة الظواهر جميعًا بمنهج واحد يتقدم من البسيط إلى المركب، أي استحالة رد الظواهر جميعًا إلى الحركة وقوانينها: وفي هذا نقض للمذهب المادي.

(٣) الإنسان

ولكن هوبس لا يعدل عن المادية، فما إن يتخذ الإحساس مبدأ حتى يحاول أن يرجع إليه أفعالنا العقلية، يقول إن كل علم فهو آتٍ من الأحساس، ويعرف الإحساس بأنه حركة في ذرات الجسم الحاس صادرة عن حركة في الجسم المحسوس، تنتقل الحركة الخارجية إلى الدماغ ومنه إلى القلب بوساطة أعضاء الحواس والأعصاب، فتصادف مقاومة وصدى لأن الأعضاء الباطنة هي أيضًا في حركة متصلة، هذا الصدى بمثابة ميل إلى الخارج يجعلنا تقذف بموضوع الإحساس إلى الخارج، فهوبس يتابع العلم القديم في اعتبار القلب مركز الإحساس، وكذلك الوجدان أو الروح حركة؛ فاللذة مثلًا ما هي إلا حركة في القلب، ولكن ما تعليل الظاهرة الشعورية الناشئة مع الحركة الجسمية؟ إنها لمعجزة بالقياس إليها، وإن المذهب المادي لعاجز عن تعليلها، وهوبس يذهب إلى أن للأجسام خاصتين ليس غير، هما الامتداد والحركة، وأن سائر الكيفيات المحسوسة ذاتية، حتى الزمان والمكان فإنهما صورتان من نوع الصور التي يحدثها فينا الامتداد والحركة، وباستطاعتنا الاحتفاظ بهما مع افتراض زوال الأجسام جميعًا، وذاتية الكيفيات المحسوسة قضية لازمة من قوله إن ما يحدث في العالم هو حركة فحسب، فكل ما يبدو في الشعور مغايرًا للحركة، يكون ذاتيًّا، ويؤيد هوبس هذه القضية بما هو معروف من خداع الحواس والأحلام واختلاف الإحساس باللون باختلاف الأشخاص والإحساس بالضوء عند ضرب العين أو إثارة العصب البصري، فكيف نفسر هذه الذاتية إذا لم تكن النفس جوهرًا مغايرًا للجسم، ولم يكن فعلها مغايرًا للحركة الجسمية؟

وحركة الدماغ مرتبط بعضها ببعض بحيث إذا تكررت حركة لحقتها أخرى؛ لذا تتعاقب الصور بنفس ترتيب الإحساسات لتعاقب حركات الدماغ بهذا الترتيب، بيد أن هوبس يلاحظ أن مجرى الأفكار تابع ليس فقط لقانون اقتران الإحساسات في المكان والزمان، بل أيضًا لقانون الاهتمام أي لتأثير الميل والعاطفة، وهذا هو السبب في أن ترتيب الصور يتعدل في الأحلام وفي خواطر اليقظة وفي الأفعال المروية، فإن إرادة الغاية تولد فكرة الوسيلة الكفيلة بتحقيقها أي التي رأيناها في الماضي تحقق معلولًا شبيها بالذي ننشده، والعلاقات التي تسيطر على الترابط ههنا هي علاقات التشابه والعلة والمعلول والمبدأ والنتيجة والغاية والوسيلة والدال والمدلول، فلا يستطيع هوبس أن يفسر الحياة الفكرية تفسيرًا آليًّا.

على أننا نجد عنده تفسيرًا آليًّا للإرادة؛ ذلك أنه يقول إن الحركة الدماغية التي هي التصور إذا ما بلغت إلى القلب نشطت الحركة الحيوية أو عاقتها، ففي حالة التنشيط تكوَّن اللذة وتسمى خيرًا، وتكون محبة الشيء اللاذ، وفي حال العوق يكوَّن الألم ويسمى شرًّا، وتكون كراهية الشيء المؤلم، وحركة اللذة تدفع إلى اشتهاء الشيء، وحركة الألم تدفع إلى خوفه؛ فالاشتهاء والخوف هما الباعثان على جميع أفعالنا، وما الرواية أو المشورة إلا تردد هذين الباعثين إلى أن يحدث الفعل أو يمتنع منه، فالاشتهاء الأخير والخوف الأخير يسميان إرادة، والأوامر والنواهي إنما تؤثر بالترغيب والترهيب.

ولما كان المذهب المادي يستتبع الاسمية، فقد أنكر هوبس المعاني المجردة وقال إن كل ما هنالك أسماء تقوم مقام الصور الجزئية، وفسر الحكم بأنه تركيب ألفاظ بحيث تعني القضية الموجبة أن الموضوع والمحمول اسمان لشيء واحد، وتعني القضية السالبة أن الاسمين يختلفان في الدلالة، وفسر الاستدلال بأنه تركيب قضايا، وقال إن نتائجه ليست منصبة على الأشياء بل على أسمائها، أي إننا بالاستدلال نرى أن كنا نحسن أو نسيء تركيب أسماء الأشياء طبقا للعرف الموضوع في تسميتها، وفي هذا يقول ديكارت في ردوده: «من ذا يشك في أن الفرنسي والألماني يتصوران نفس المعاني أو الاستدلالات بصدد نفس الأشياء مع تصورهما ألفاظًا مختلفة كل الاختلاف؟، إذا كان هذا الفيلسوف يسلم بأن الألفاظ تدل على شيء، فلم لا يريد أن تكون ألفاظنا واستدلالاتنا متجهة إلى الشيء المدلول عليه لا إلى الكلام نفسه؟».

ومتي كان الإحساس المصدر الوحيد للمعرفة، كانت معرفتنا مقصورة على ما تتناوله بالفعل من الماديات المحدودة، فأمتنع علينا العلم بالعالم في جملته، مقداره ومدته وأصله، وامتنع علينا من باب أولى العلم باللا متناهي، وهوبس ينكر إمكان التدليل على وجود الله بالوقوف عند حد في سلسلة العلل، ويزعم أن كل علة فهي متحركة بالضرورة لأن شيئًا لا يتحرك بفعل شيء لا يكون هو نفسه متحركًا، وهكذا نتداعى إلى غير نهاية، وهو لا يرى أنه بهذا القول يسقط مبدأ العلية الذي يستند إليه، إذ إنه يجعل من جميع العلل معلولات فلا يصل إلى علة بمعنى الكلمة، ويخلط بين سلسلة العلل المتعاقبة بالعرض، وفيها يمكن التداعي إلى غير نهاية، وبين سلسلة العلل المترتبة بالذات، وفيها يجب الوقوف عند حد، وهو يقول ضد ديكارت إن اللا متناهي يجب أن يؤخذ بمعنى معدول، أي بمعنى ما لا نبلغ إلى نهايته، وإن لفظ اللا متناهي لا يدل من ثمة على موجود حقيقي أو خاصية محصلة لموجود ما، بل على قصور عقولنا وانحصار طبيعتنا، فيخلط بين الموجود في نفسه وبين طريقة تخلينا إياه، على أنه يصرح في مؤلفاته السياسية بأننا إذا ارتقينا في سلسلة العلل انتهينا إلى علة سرمدية لا علة لها؛ وذلك لأنه يعترف بالدين لأسباب عملية لا نظرية كما سنرى، ويقرر أنه لا يجوز أن نطلق على الله الألفاظ المقولة علينا وعلى الموجودات المتناهية، كالألم والاحتياج والعقل والإرادة، وأن الألفاظ المعدولة وأسماء التفضيل مقبولة وحدها في حق الله لأنها تدل على إعجابنا وخضوعنا لا على ماهية الله، بل إن لفظ اللا جسمي إذ نطلقه على الله ما هو إلا صفة تشريفية ليس غير، لأن كل موجود فهو جسمي.

(٤) الأخلاق والسياسة

إذا كان الإنسان على ما قلنا، كانت سيرته كلها قائمة على غريزة حب البقاء، وكانت هذه الغريزة بالإضافة إلى الحياة الإنسانية كالحركة بالإضافة إلى الطبيعة، من الخطأ الاعتقاد بغريزة اجتماعية تحمل الإنسان على الاجتماع والتعاون، وإنما الأصل أو «حال الطبيعة» أن الإنسان ذئب للإنسان، وأن الكل في حرب ضد الكل، وأن الحاجة واستشعار القوة يحملان الفرد على الاستئثار بأكثر ما يستطيع الظفر به من خيرات الأرض، وإن أعوزته القوة لجأ إلى الحيلة، يشهد بذلك ما نعلمه عن أجدادنا البرابرة وعن المتوحشين، وما نتخذه جميعًا من تدابير الحيطة وأساليب العدوان، وما نراه في علاقات الدول بعضها ببعض، وغاية ما تصنعه الحضارة أن تحجب العدوان بستار «الأدب» وأن تستبدل بالعنف المادي النميمة والافتراء والانتقام في حدود القانون.

بيد أن الطبيعة الإنسانية تشتمل على العقل إلى جانب الهوى، والعقل المستقيم يحمل الناس على التماس وسائل لحفظ بقائهم أفعل من التي يتوسل بها الفرد يجاهد وحده، هم يستكشفون أن البلية عامة، وأنه يمكن ملافاتها بوسائل عامة، فتنبت أول وأهم قاعدة خلقية، وهي يجب طلب السلم، فإن لم نفلح في تحقيقه وجب التوسل للحرب، وشرط السلم أن ينزل كل فرد عن حقه المطلق في حال الطبيعة، فينزل الأفراد عنه صراحة أو ضمنًا إلى سلطة مركزية، قد تكون فردًا وقد تكون هيئة تجمع بين يديها جميع الحقوق، وتعمل لخير الشعب، فتحل الحياة السياسية محل حال الطبيعة.

من هذا التعاقد يلزم وجوب الصدق والأمانة وعرفان الجميل والتسامح والإنصاف، والشركة فيما يتعذر اقتسامه، وفض الخلافات بالتحكيم، وبالجملة تلزم قواعد تلخص في العبارة المأثورة «لا تصنع بالغير ما لا تريد ان يصنع الغير بك» لذا كان القانون الخلقي الطبيعي إرادة الله الذي وهبنا العقل المستقيم، وليس يكفي طاعة القواعد ظاهرًا، بل يجب أيضًا طاعتها لذاتها والتشبع بها، فإن القانون الخلقي يقيد الإنسان إمام ضميره، وكل هذا معقول، ولكن هوبس لا يصل إليه إلا بالعدول عن الطبيعة الحسية إلى العقل المستقيم، وليس العقل مما يعترف به المذهب المادي كقوة خاصة لها قيمة خاصة.

ويجب أن تكون السلطة العامة مطلقة قوية إلى أبعد حد، بحيث لا يعود الفرد بإزائها شيئًا مذكورًا، ويكون واجبة الخضوع المطلق، وإلا عدنا إلى التخاصم والتنابذ، وفي الواقع يمتنع حد السلطة السياسية فإن مثل هذا الحد يعني الاعتراف بالسلطة المطلقة للفرد أو الأفراد المخول إليهم حق مؤاخذة الحكومة أو خلعها، والملكية خير أشكال الحكومة، من مزاياها أن واحدًا فقط قد يجاوز العدل ويسيء الحكم، وأنها تغني عن المنازعات الحزبية، وتصون أسرار الدولة، أما الديمقراطية فما هي إلا أرستقراطية خطباء، ويذهب حق السلطة إلى حد تقرير المعتقدات الدينية والقواعد الأخلاقية، وحسم الخلافات فيها لإقرار النظام، فالدين مخافة القوات غير المنظورة التي تعترف بها الدولة، والخرافة مخافة القوات غير المنظورة التي لا تعترف بها الدولة، ودين الدولة واجب محتوم على كل مواطن، والدين بالإجمال ظاهرة طبيعية أصلها الشعور بالضعف، وليس الدين فلسفة، ولكنه شريعة، لا تتحمل المناقشة بل تقتضي الطاعة، إلى هذا الحد من الاستبداد يذهب هوبس، وكأنه أراد أن يدعم الحكم المطلق بأن يجعل منه حكم القانون الطبيعي، وهو لم يفعل إلا أنه أحال ما كان واقعًا في بلاده نظرية فلسفية، ولكن الإنجليز لن يتابعوه، ومن إنجلترا ستعبر الديمقراطية البحر إلى القارة الأوربية، أما فلسفته فما هي إلا المادية بكل سذاجتها كما عرفناها من عهد ديمقريطس وأبيقور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤