الفصل الثالث

رني ديكارت١

١٥٩٦–١٦٥٠

(١) حياته ومصنفاته

ولد بلاهي من أعمال مقاطعة تورين بفرنسا، ولما بلغ الثامنة أدخل مدرسة «لافليش» للآباء اليسوعيين، وكانت من أشهر المدارس في أوربا، فمكث بها ثماني سنين حتى أتم برنامج الدراسة فيها، وكانت الفلسفة تحتل في هذا البرنامج مكانًا فسيحًا، فتمتد على الثلاث سنوات الاخيرة، وكانت تدريسها عبارة عن شرح كتب أرسطو موزعة إلى مجموعات ثلاث، لكل سنة مجموعة: كتب المنطق، فكتب الطبيعيات (وإلى جانبها الرياضيات)، فكتاب النفس وكتاب ما بعد الطبيعة. وأعجب ديكارت بوضوح الرياضيات ودقتها وإحكام براهينها، أما الفلسفة فتركت في نفسه أثرًا سيئًا لكثرة ما فيها من أخذ ورد، واعتقد ان اختلاف الفلاسفة مدعاة للشك في الفلسفة وفي باقي العلوم التي إنما تقوم على الفلسفة وتستمد منها مبادئها، هذا ما نقرأ في «المقال في المنهج» ولعل ديكارت يضيف إلى عهد الصبا حكمًا نضج عنده فيما بعد، على أن من المحقق أنه تعلق بالرياضيات وانصرف عن الفلسفة إلى زمن، ولم يكن يخصص لها سوى «ساعات في العام».

غادر إذن المدرسة في السادسة عشرة، وبعد أربع سنين (١٦١٦) تقدم لامتحان القانون في بواتيني ونال الإجازة، وبعد سنتين تطوع للخدمة في جيش الأمير موريس دي ناسو بهولاندا، وكانت حينذاك حليفة فرنسا على إسبانيا، وعرف هناك طبيبًا شابًّا يدعى إسحق بكمان «أيقظة من سباته» على حد قوله، إذ عرض عليه عددًا وفيرًا من المسائل الرياضية والطبيعية وكانا يعالجانها معًا، وهذه مرحلة هامة في حياة ديكارت، فإن فكره تكون في الوقت الذي كان العلم الطبيعي الحديث يتكون فيه بتطبيق المنهج التجريبي والاستدلال الرياضي على الظواهر الطبيعية.

وفي السنة التالية (١٦١٩) ترك جيش الأمير إلى جيش آخر فآخر من جيوش الأمراء الألمان، وحل الشتاء، وخلا ديكارت إلى نفسه في حجرة دافئة في قرية مجاورة لمدينة أولم، وإذا بنشوة علمية غريبة تغمره وتبلغ أقصاها في العاشر من نوفمبر، وإذا به يستكشف في حلم «أسس علم عجيب» بل ثلاثة أحلام تتابعت في تلك الليلة حتى اعتقد أنها آتية من علٍ، هذا الحلم يدلنا على شدة استغراق ديكارت في تفكيره، أما العلم العجيب فقد تضاربت فيه الآراء، وأغلب الظن أن المقصود به «منهج كلي» يرد العلوم جميعًا إلى الوحدة، ذلك المنهج الذي سيلعنه في «المقال».

وعدل ديكارت عن المهنة العسكرية، وراح يطوف في أنحاء أوربا تسع سنين حتى هبط سنة ١٦٢٨، تسع سنين لم ينقطع في أثنائها عن معالجة المسائل الطبيعية بالطريقة الرياضية، أي بتجريدها من المبادئ الفلسفية التي كانت لاصقة بها عند أرسطو والمدرسيين، أي تطبيق الجبر على الهندسة، أجل كان نفر من العلماء القدماء والمعاصرين قد سبقوه في هذا المضمار فعرضوا أمثلة على تطبيق هذا المنهج، بيد أن هذه الأمثلة كان عندهم مجرد طرائق عملية لا يجمعها تصور كلي، فرأي ديكارت «السبب» الذي من أجله تفلح هذه الطرائق الجزئية، وهذا السبب ادي به إلى منهج كلي يطبق على جميع الحالات بغض النظر عن طبائعها الخاصة، إذ أنه نظر إلى العلم بعين الفيلسوف، فبلغ إلى كلياته، ووسع مدى تطبيقه، ولعل الهندسة التحليلية ذلك العلم العجيب. كانت الهندسة مقصورة على النظر في الأشكال، وكان الجبر كثير الصيغ معقدها، ولم يكن بين العلمين اتصال، فبدا ليكارت أن الهندسة والحساب يقومان في الترتيب والقياس وأن المطلوب من الجبر التعبير عن أعم قوانين الترتيب والقياس، وأنه من الممكن وضع علم تكون صيغة أبسط من صيغ الحساب وأكثر تجريدًا من أشكال الهندسة، فتطبق على الأعداد والأشكال جميعًا، أي على كل ما هو مرتب وقابل للقياس، فرمز بأحرف لخطوط الشكل الهندسي وعلاقات الخطوط، ومثل الشكل بمعادلة جبرية تعبر عن خصائصه الأساسية، حتى إذا ما وضعت هذه المعادلة، كان استخراج نتائجها بالجبر كافيًا لاستكشاف جميع الخصائص، وإلى هذا الدور أيضا يرجع كتابه «قواعد تدبير العقل» وهو بمثابة منطق جديد مستمد من مناهج الرياضيين، ولكن ديكارت لم يتمه، فبقي مطويًّا إلى أن طبع بعد وفاته بنصف قرن (١٧٠١).

انقضت التسع سنين ولما يشرع ديكارت في البحث عن أسس فلسفة أوكد من الفلسفة الدارجة كما يقول، على أنه كان قد حصل من الآراء الجزئية قدرًا يذكر، حتى جرؤ على عرضها في نوفمبر ١٦٢٨ في مجلس خاص كان أهم أعضائه الكردينال دي بيريل، عرض هذه الآراء على أنها تؤلف فلسفة مسيحية منافية لفلسفة أرسطو (والقديس توما الأكويني بالطبع)، فأعجب به الكردينال وكان أوغسطينيًّا، وشجعه تشجيعًا حارًّا على مواصلة بحثه وإتمام فلسفته، خدمة للدين وصدًّا لهجمات الزنادقة، وهذه واقعة لها خطرها، ندرك منها أن العلم الطبيعي الرياضي أو الآلي صرفه عن أرسطو إلى أفلاطون، وأنه تأثر (ولو بالواسطة) بالأفلاطونيين المسيحيين، فلن نعجب إذا وجدنا عنده شيئًا من القديس أوغسطين وشيئًا من القديس أنسلم، وشيئًا من دونس سكوت، وشيئًا من أوكام وغيره من الاسميين.

لم ترقه الحياة في باريس، وأراد أن يفرغ لوضع فلسفته، فقصد إلى هولاندا في أواخر تلك السنة، وهناك دون رسالة قصيرة في «وجود الله ووجود النفس» يرمي بها إلى إقامة أسس علمه الطبيعي، ثم عاد إلى الاشتغال بالطبيعات وشرع في تحرير كتابه «العالم» وواصل العمل فيه إلى سنة ١٦٣٣، وإذا بالمجمع المقدس يدين جليليو لقوله بدوران الأرض، وكان ديكارت قد اصطنع من جهته هذا القول، فعدل عن مشروعه وطوي كتابه (وكان شديد الحرص على هدوئه وعلى احترام الكنيسة) فلم تنشر أجزاء الكتاب إلا بعد وفاته بسبع وعشرين سنة (١٦٧٧) على أن ديكارت سيلخصه في القسم الخامس من «المقال» وفي «مبادئ الفلسفة»، وقد كان صديقه الأب مرسين أجرأ منه إذا نشر سنة ١٦٣٥ مؤلفات جليليو ودافع عنه.

ورأى ديكارت أن يمهد الطريق لمذهبه ويجس النبض حوله، فأذاع سنة ١٦٣٧ شيئًا من عمله الطبيعي في ثلاث رسائل قدم لها برسالة يقص فيها تطور فكره، ويجمل مذهبه في الفلسفة والعلم، وكان العنوان الأصلي للكتاب برمته «مشروع علم كلي يرفع طبيعتنا إلى أعلى كمالها، يليه البصريات والآثار العلوية والهندسة، حيث يفسر المؤلف أغرب ما استطاع اختياره من موضوعات تفسيرًا يسهل فهمه حتى على الذين لم يتعلموا»، فاستبدل به هذا العنوان «مقال في المنهج لإجادة قيادة العقل والبحث عن الحقيقة في العلوم، يليه البصريات والآثار العلوية والهندسة، وهي التطبيقات لهذا المنهج»، ويبين لنا من هذا أن الوحدة قد تمت في فكر ديكارت بين الفلسفة والعلم الطبيعي الرياضي، والغاية المرجوة منه وهي «رفع طبيعتنا إلى أعلى كمالها».

وأراد أن يعرض مذهبه على اللاهوتيين باللاتينية بعد أن أعرضه على عامة المثقفين بالفرنسية «آملًا أن الذين لا يستخدمون سوى عقلهم الطبيعي خالصًا يقدرون آراءه خيرًا من الذين لا يؤمنون إلا بالكتب القديمة»، فعاد إلى ما في «المقال» من آراء فلسفية، فتوسع في شرحها وتأييدها، فكان له من ذلك كتاب أسماه «تأملات في الفلسفة الأولى، وفيها البرهان على وجود الله وخلود النفس»، وقبل تقديمها للطبع استطلع فيها رأي نفر من الفلاسفة واللاهوتيين ليستدرك ما قد يأخذونه عليه، فيهيئ للكتاب قبولًا حسنًا وينال رضا لاهوتيي السوربون فدونوا اعتراضات كثيرة ألحقها بالتأملات وعقب عليها بردوده، ونشر الكل سنة ١٦٤١ وفي الطبيعة الثانية (١٦٤٢) قال في العنوان «تمايز النفس من الجسم» بدل «خلود النفس» على اعتبار أن النفس متى كانت متمايزة من الجسم كانت خالدة ونشرت للكتاب ترجمة فرنسية سنة ١٦٤٧ بقلم الدوق دي لوين.

وخطر لديكارت أن أنجع وسيلة لإذاعة فلسفته وعلمه الطبيعي ربما كانت تلخيصهما في كتاب مدرسي سهل التناول، فنشر سنة ١٦٤٤ باللاتينية (وكانت لغة العلم والتعليم في أوربا) كتاب «مبادئ الفلسفة» مع إهداء إلى السوربون، وحاول أن يحمل معلميه السابقين على تقريره في مدارسهم فيحل هو محل أرسطو، فلم يجيبوه إلى رغبته. ونشرت للكتاب ترجمة فرنسية سنة ١٦٤٧ مع إهداء إلى الأميرة إليزابث، ورسالة إلى المترجم عرض فيها فلسفة عرضًا عامًّا، وبين ما بينها وبين الفلسفة القديمة من تعارض.

ومن ذلك الحين مال إلى الأخلاق، وكتب فيها رسائل إلى الأميرة إليزابث ابنة فردريك ملك بوهيميا المخلوع واللاجئ إلى هولاندا، هذه الرسائل يظهر فيها تأثير الرواقيين وبخاصة سنيكا، ثم وضع «رسالة في انفعالات النفس» وهي آخر مؤلفاته، نشرت سنة ١٦٤٩، وتخللت إقامته الطويلة في هولاندا ثلاث رحلات قصيرة إلى فرنسا (١٦٤٤، ١٦٤٧، ١٦٤٨) ومناقشات حادة بينه وبين بعض العلماء واللاهوتيين، ونزاع عنيف بين أنصاره وخصومه … وفي سنة ١٦٤٩ قصد إلى استكهولم تلبية لدعوة كريستين ملكة السويد، فتأثر بالبرد وساءت صحته وقضى في ١١ فبراير ١٦٥٠.

(٢) الفلسفة ومنهجها

يعرف ديكارت الفلسفة بقوله: «إن كلمة فلسفة تعني دراسة الحكمة، ولسنا نقصد بالحكمة مجرد الفطنة في الأعمال، بل معرفة كاملة بكل ما في وسع الإنسان معرفته بالإضافة إلى تدبير حياته وصيانة صحته واستكشاف الفنون، ولكي تكون هذه المعرفة كما وصفنا، فمن الضروري أن تكون مستنبطة من العلل الأولى»، ثم يقول في تقسيمها: «إن قسمها الأول الميتافيزيقا، وهي تشتمل على مبادئ المعرفة التي منها تفسير أهم صفات الله وروحانية نفوسنا وجميع المعاني الواضحة المتميزة الموجودة فينا، والقسم الثاني العلم الطبيعي، وفيه — بعد أن نكون وجدنا المبادئ الحقة للماديات — نفحص عن تركيب العالم على العموم، ثم على الخصوص عن طبيعة عن طبيعة هذه الأرض وجميع الأجسام … وبالأخص عن طبيعة الإنسان، حتى يتسنَّى لنا استكشاف سائر العلوم النافعة له، وعلى ذلك فالفلسفة كلها بمثابة شجرة، جذورها الميتافيزيقا، وجذعها العلم الطبيعي، وأغصانها باقي العلوم، وهذه ترجع إلى ثلاثة كبرى، أعني الطب والميكانيكا والأخلاق، أي أعلى وأكمل الأخلاق التي تفترض معرفة تامة بالعلوم الأخرى، والتي هي أخرت درجات الحكمة … كما أنه لا يُجنى الثمر من جذور الأشجار ولا من الجذع بل من أطراف الأغصان، فكذلك تتعلق المنفعة الرئيسية للفلسفة بمنافع أقسامها التي لا تتعلم إلا أخيرًا» (مقدمة «مبادئ الفلسفة»).

في نظر ديكارت إذن الفلسفة هي العلم الكلي كما عند القدماء، وهي كذلك لأنها علم المبادئ أي أعلى ما في العلوم من حقائق، وهي نظرية وعملية كما كانت عند القدماء، والنظر فيها يوفر للعمل مبادئه، غير أن العمل عند ديكارت هو المقصد الأسمى، ولو أن العقل أهم جزء في الإنسان، والحكمة خيره الأعظم، والغرض من العمل ضمان رفاهية الإنسان وسعادته في هذه الحياة الدنيا بمد سلطانه على الطبيعة واستخدام قواها في صالحه.

ومنهج الفلسفة حدس المبادئ البسيطة، واستنباط قضايا جديدة من المبادئ لكي تكون الفلسفة جملة واحدة، أما الاستقراء المعروف فلا يصل إلا إلى معارف متفرقة إن جمعت بعضها إلى بعض ألفت علمًا مهلهلًا ملفقًا لا ندري من أين نلتمس له اليقين، وعلامة اليقين وضوح المعاني وتسلسلها على ما نرى في الرياضيات التي تمضي من البسيط الواضح إلى المركب الغامض بنظام محكم، فهذا المنهج هو المنهج الوحيد المشروع؛ لأن العقل واحد، ويسير على نحو واحد في جميع الموضوعات، ويؤلف علمًا واحدًا هو العلم الكلي، فليست تتمايز العلوم فيما بينها بموضوعاتها ومناهجها، ولكنها وجهات مختلفة لعقل واحد يطبق منهجًا واحدًا وليس الاستنباط القياس الأرسطوطالي، فلا خير يرجى من هذا القياس (وديكارت يردد بهذا الصدد الانتقادات المتداولة)، ولكنه سلسلة من الحدوس تتقدم من حد إلى حد بحركة متصلة، فيربط العقل بين حدود لم تكن علاقاتها واضحة أول الأمر، حتى إذا ما انتهى في الاستنباط إلى غايته، رد المجهول إلى المعلوم، أو المركب إلى البسيط، أو الغامض إلى الواضح، والحركة العقلية هنا ثانوية، فإن مبدأها حدس ومنتهاها حدس (كتاب «قواعد تدبير العقل»).

وللمنهج أربع قواعد عملية:
  • القاعدة الأولى: «أن لا أسلم شيئًا إلا أن أعلم أنه حق»، ولهذه القاعدة معنى خبيء غير المعنى الظاهر الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، فإن ديكارت يريدنا على ألا نسلم شيئًا إلا أن نعلم أنه حق بالعلم الذي يعنيه، وهو الإدراك بالحدس المباشر وبالحدس غير المباشر أو الاستنباط، وهذا يقضي بأن نقصي من دائرة العلم، ليس فقط جميع الوقائع التاريخية، بل أيضًا كل معنى يستلزمه تفسير الظواهر الطبيعية ولا نتمثله أو نتخيله، كمعنى القوة التي ندرك ضرورتها لتفسير التغير والحركة، وقد استبعد ديكارت بالفعل معنى القوة، فنتجت له نتائج سنذكرها فيما بعد، وقد تذرع الكثيرون بهذه القاعدة لنبذ الدين لما يعول عليه من أحداث تاريخية تتعلق بنزول الوحي، وما يتضمن من عقائد تفوق إدراك العقل، وقالوا إن هذه القاعدة عبارة عن إعلان حرية الفكر وإسقاط كل سلطة.
  • القاعدة الثانية: «أن أقسم كل مشكلة تصادفني ما وسعي التقسيم وما لزم لحلها على خير وجه»؛ ذلك بأننا لما كنا نطلب الوضوح فيجب علينا أن نذهب من المركب إلى بسائطه، ومن الكل إلى أجزائه، أي مما هو تابع لغيره ومعقول بهذا الغير إلى ما هو مستقل بنفسه ومعقول بذاته، وهذا هو التحليل، والغرض منه الحدس الذي هو المعرفة الحقة.
  • القاعدة الثالثة: «أن أسير بأفكاري بنظام، فأبدأ بأبسط الموضوعات وأسهلها معرفة، وأرتقي بالتدريج إلى معرفة أكثر الموضوعات تركيبًا، فارضًا النظام حتى بين الموضوعات التي لا تتالى بالطبع»، وهذه قاعدة التركيب بعد قاعدة التحليل، ولها فرعان: الأول التدرج من المبادئ إلى النتائج، وذلك بأن ننظر أولًا في حد من حدود المسألة، ثم في حد آخر، ثم في النسبة بينهما، ثم في حد ثالث، وهكذا حتى نأتي على جميع الحدود ونسبها، والفرع الثاني هو افتراض النظام حين لا يتبين نظام الحدود، ثم استخراج النتائج بالطريقة التركيبية المذكورة، والمقصود بالنظام «نظام الأسباب» الذي بموجبه تلزم معرفة حد من معرفة حد سابق لزومًا ضروريًّا، وإذا لم ينتج النظام المفروض، افترضنا نظامًا آخر، إلى أن نصل إلى النظام الملائم: فهنا يتدخل العقل إذ لا يقوم العلم إلا بالنظام.
  • القاعدة الرابعة: «أن أقوم في كل مسألة بإحصاءات شاملة، سواء في الفحص على الحدود الوسطى أو في استعراض عناصر المسألة، بحيث أتحقق أني لم أغفل شيئًا»، هذه القاعدة تمكن من تحقيق القاعدة السابقة، فإنها ترمي إلى استيعاب كل ما يتصل بمسألة معينة، وترتيب العناصر التي يتوصل إليها، وهي تفيد في التحقق من صدق النتائج التي لا تستنبط رأسًا من المبادئ البينية بذاتها، أو ما يبعد عن هذه المبادئ بعدًا كبيرًا يصعب علينا معه أن نتذكر الطريق الذي سلكناه، فإذا رتبنا الحدود وانتقلنا بنظام من حدٍّ إلى آخر، قام هذا الانتقال مقام حدس العلاقة بين نتيجة ومبدئها، ونقترب من هذا الحدس بمحاولة تذكر الحدود بأسرع ما يمكن، ويختلف هذا الإحصاء، أو الاستقراء كما يسميه أيضًا ديكارت، عن الاستقراء الأرسطوطالي، في أن الغرض منه ليس الوصول إلى نتيجة كلية من أجل ما شوهد في الجزئيات، بل الوصول إلى حدود تتصل بذاتها بعضها ببعض، وأحيانًا يمكن الاكتفاء بعدد محدود من الحدود، مثلما إذا أردت أن أبين أن النفس الناطقة ليست جسمية، فإني أكتفي بأن أجمع الأجسام في بضع طوائف، وأدلل على أن النفس الناطقة لا يمكن أن ترجع إلى واحدة منها، بعكس ما إذا أردت أن أبين عدد الموجودات الجسمية، أو كيف تقع هذه الموجودات تحت الحواس، فيجب أن يكون الإحصاء تامًّا.

فالمنهج عند ديكارت يبين القواعد العملية التي يجب اتباعها لإقامة العلم، ولا يحلل أفعال العقل ولا يدل على صدقها ومواطن الخطأ فيها كما يبين المنطق، فإن هذا التحليل عديم الفائدة في رأي ديكارت وبيكون وأضرابهما، وإن المنطق الطبيعي يغني عن المنطق الصناعي، وبينما المنطق علم وفن معًا، نجد المنهج عند هؤلاء الفلاسفة فنًّا فحسب، وإن يكن منطويًا على نظرية في العقل والعلم كما سنرى في عرض فلسفة ديكارت، فإن هذه النظرية متمشية على هذا المنهج ومؤسسة له، والعلم إذن عند ديكارت استنباطي يضع المبادئ البسيطة الواضحة ويتدرج منها إلى النتائج، أو هذا ما يدعيه ديكارت، ومع أنه كان يجمع المعلومات ويجري التجارب بهمة لا تني، فقد كانت أهمية التجربة مقصورة في منهجه ومذهبه على إثارة الفكر وتعريفنا أي نتائج الاستنباط هي المحققة بالفعل من بين النتائج المختلفة التي يستطيع العقل أن يستنبطها من المبادئ.

(٣) الشك واليقين

بعد المنهج المذهب، وهو تطبيق قواعد المنهج، لكل علم مبدأ، فأين نلتمس المبدأ الذي نقيم عليه العلم؟ إن عقلنا مشحون بأحكام ألفناها في عهد الطفولة أو قبلناها من المعلمين قبل تمام النضج والرشد، وإذا نظرنا في العلوم ألفيناها تكونت وتضخمت شيئًا فشيئًا بتعاون رجال مختلفين، فجاءت كالثوب الملفق أو البناء المرمم، فإذا أردنا أن نقرر شيئًأ محققًا في العلوم، كان من الضروري أن نشرع في العمل من جديد، فنطرح كل ما دخل عقلنا من معارف، ونشك في جميع طرق العلم وأساليبه، مثلنا مثل البناء يرفع الأنقاض ويحفر الأرض حتى يصل إلى الصخر الذي يقيم عليه بناءه، والأساس الذي نريد الوصول إليه هو العقل مجردًا خالصًا، فإن العقل واحد في جميع الناس، إذ أنه الشيء الوحيد الذي يجعلنا أناسي ويميزنا من العجماوات، فهو متحقق بتمامه في كل إنسان، وما منشأ تباين الآراء سوى تباين الطرق في استخدام العقل.

ولسنا بحاجة إلى التدليل على كذب آرائنا السابقة ليسوغ لنا اطراحها على هذا النحو، بل يكفي أن نجد فيها أي سبب للشك، إذ ليس الشك مقصودًا هنا لنفسه، بل لامتحان معارفنا وقوانا العارفة، ولسنا بحاجة كذلك الي استعراض تلك الآراء رأيًا رأيًا، بل يكفي أن نستعرض المبادئ، فإن هدم الأساس يجر وراءه كل البناء.

إذن فأنا أشك في الحواس لأنها خدعتني أحيانًا، ولعلها تخدعني دائمًا، وليس من الحكمة الاطمئنان إلى من خدعنا ولو مرة واحدة، وأنا أشك في استدلال العقل؛ لأن الناس يخطئون في استدلالتهم، ومنهم من يخطئ في أبسط موضوعات الهندسة، فلعلي أخطئ دائمًا في الاستدلال، ومن دواعي الشك أيضًا أن نفس الأفكار تخطر لي في النوم واليقظة على السواء، وليست أجد علامة محققة للتمييز بين الحالتين، فلعل حياتي حلم متصل، أي لعل اليقظة حلم منسق، وممَّا يزيد في ميلي إلى الشك أني أجد في نفسي فكرة إله قدير يقال أنه كلي الجودة وهو مع ذلك يسمح أن أخطئ أحيانًا، فإذا كان سماحه هذا لا يتعارض مع جودته، فقد لا يتعارض معها أن أخطئ دائمًا، ولكن ما لي ولله، فقد يكون هناك روح خبيث قدير يبذل قدرته ومهارته في خداعي، فأخطئ في كل شيء حتى في أبسط الأمور وأبينها، مثل أن أضلاع المربع أربعة، وأن اثنين وثلاثة تساوي خمسة.

ولكني في هذه الحالة من الشك المطلق أجد شيئًا يقاوم الشك، ذلك أني أشك، فأنا أستطيع الشك في كل شيء ما خلا شكي، ولما كان الشك تفكيرًا فأنا أفكر، ولما كان التفكير وجودًا فأنا موجود: «أنا أفكر وإذن فأنا موجود»، تلك حقيقة مؤكدة واضحة متميزة خرجت لي من ذات الفكر، لها ميزة نادرة هي أني أدرك فيها الوجود والفكر متحدين اتحادًا لا ينفصم، ومهما يفعل الروح الخبيث فلن يستطيع أن يخدعني فيها، لأنه لا يستطيع أن يخدعني إلا أن يدعني أفكر، وإذن فأنا أتخذ هذه الحقيقة مبدأ أول للفلسفة، الفكر مبدأ لأنه وجود معلوم قبل كل وجود، وعمله أوضح من علم كل وجود، هو معلوم بداهة، ومهما نعلم فنحن بفكرنا أعلم، فمثلًا لو اعتقدت أن هناك أرضًا بسب أني ألمسها وأبصرها، فيجب أن أعتقد من باب أولى أن فكري موجود، إذ قد أفكر أني ألمس الأرض دون أن يكون هناك أرض، ولكن ليس من الممكن ألَّا أكون في الوقت الذي أفكر فيه، ثم أنا اتخذ هذه الحقيقة الأولى معيارًا لكل حقيقة: فكل فكرة تعرض لي بمثل هذا الوضوح أعتبرها صادقة، وتعريف الفكر بالإجمال أنه«كل ما يحدث فينا يحدث ندركه حالًا بأنفسنا»، فحين أقول إنى شيء مفكر، أقصد «أني يشك ويثبت وينفي، ويعلم قليلًا من الأشياء ويجهل الكثير، ويجب ويبغض، ويرد ويأبى، ويتخيل أيضًا ويحس» والفكر صادر عن النفس، أو هو النفس أو الروح خالص ثابت عندي مهما أشك فى وجود جسمي وسائر الأجسام.

على أن اطمئناني إلى الوضوح ما يزال مفتقرًا إلى التثبيت، فقد يكون خالقي صنعني بحيث أخطئ فى كل ما يبدو لي بينًا، أو قد يكون سمح للروح الخبيث أن يخدعني عن الدوام، الحق أنه بدون معرفة وجود الله وصدقه، فلست أرى أن باستطاعتي التحقق من شيء ألبتة، أعود إذن إلى فكرة الله، التى كانت سببًا من أسباب الشك، فأجد أنها فكرة موجود كامل، والكامل صادق لا يخدع إذ أن الخداع نقص لا يتفق مع الكمال، وعلى ذلك فأنا واثق بأن الله صنع عقلي كفئًا لإدراك الحق، وما عليَّ إلا أن أتبين الأفكار الواضحة، وصدق الله ضامن لوضوحها.

سنعرض بعد هنيهة أدلة ديكارت على وجود الله، ونقدر قيمتها، أما الآن فنقف عند هذه المراحل الثلاث الأولى من مراحل المنهج، وهى الشك المطلق، فوضوح الفكر، فالضمان الإلهي، ونسأل: هل هذا المنهج سائغ؟ أما الشك فلسنا نوافق على أنه فرضي منهجي كما يقول ديكارت، إذ لكي يكون الشك كذلك يجب أن يكون صوريًّا جزئيًّا، وديكارت يشك حقًّا فى كل شيء، وهو يشك فى كل شيء فيصبح شكه حقيقيًّا بالضرورة، إنه يصرح بأن «ليس هناك شيء إلا ويستطيع أن يشك فيه على نحو ما» فإذا ما أحس أن مثل هذا الشك الكلي معارض لطبيعة العقل، استعان بالإرادة وقال: «أريد أن أعتبر كل ما في فكري وهمًا وكذبًا» وأفترض الروح الخادع وألح على فكره إلحاحًا عنيفًا لكي يحقق في نفسه حالة الشك الصحيح، فلو أنه قصر الشك على الأمور غير البينية المفتقرة إلى برهان، واستثنى المبادئ الأولية البينة بذاتها، لأمكنه الاستناد على هذه المبادئ للخروج إلى اليقين، ولكنه يشك فى العقل ذاته، فشكه كلي حقيقي يمتنع الخروج منه، يذهب بعض المؤلفين إلى أن الشك الديكارتي ليس كليًّا مثل شك الشكاك، وذلك لسببين: الأول أن الفيلسوف يقصد إلى تبرير اليقين بعد المضي في الشك إلى أقصى حدوده، والثاني أنه يستثني بالفعل العقائد الدينية والقواعد الأخلاقية والتقاليد الاجتماعية.

ولكن إرادة تبرير اليقين ترجع إلى نية الفيلسوف، وليست النية بمغيرة شيئًا من الموضوع … واستثناء العقائد والأخلاق والتقاليد لا يعني أن الفيلسوف موقن بها ذلك اليقين الذي ينشده، فإن العقائد أسرار تفوق العقل، والأخلاق والتقاليد من الضروري التزامها قبل الشك وأثناءه «لأن أفعال الحياة غالبًا ما لا تحتمل الإرجاء» كما يقول ديكارت نفسه، وأن «ليس من الفطنة التردد فى العمل بينما يضطرنا العقل إلى التردد في الاحكام»،٢ كذلك يذكرون قوله: «إذا اعتبرنا المعاني في أنفسها دون نسبتها إلى شيء آخر، فلا يمكن أن تكون كاذبة» (التأمل الثالث). ولكنا لسنا هنا بإزاء يقين مستثنى من الشك، بل بإزاء تعليق للتصديق من حيث إن الصدق والكذب يقومان في الحكم لا في تصور المعاني.
أما مبدؤه «أنا أفكر وإذن فأنا موجود» فيثير مسألتين: إحداهما تاريخية، والأخرى فلسفية، مدار المسألة التاريخية على مبلغ أصالة ديكارت فى هذه المرحلة من منهجه، فقد استخدم القديس أوغسطين الشعور بالفكر كشاهد من شواهد اليقين، ويوجد شبه قوي بين ألفاظه وألفاظ ديكارت، لحظه العارفون من أول الأمر ونبهوا عليه، فنفى ديكارت عن نفسه شبهة الأخذ عن أوغسطين وقال إنه ذهب إلى مكتبة المدينة (ليدن) في اليوم نفسه وقرأ النص فوجد أن أوغسطين يستخدم الفكر للتدليل على الوجود الذاتي، وعلى أن فينا صورة ما للثالوث من جهة أننا موجودون، ونعلم أننا موجودون، ونحب ما فينا من وجود وعلم، بينما هو يستخدمه ليدلل على أن الأنا المفكر جوهري لا مادي، وأن الغرضين مختلفان جد الاختلاف، وأن استنتاج الوجود الذاتي من الشك أمر من البساطة بحيث كان يمكن أن يهتدي إليه أي كان. نقول أولًا إنه كان شديد الاعتداد بنفسه، قوي الإيمان بجدة مذهبه، حتى ادعى أنه لا يدين بشيء لأحد من المتقدمين، وأن الآراء المشتركة بينه وبينهم مؤسسة عنده على نحو مغاير بالمرة لما عندهم، وهو يذكر أفلاطون وأرسطو وأبيقور وتليزيو وكامپانيلا وبرونو، ويصرح بأنه يعرفهم ولكنه لم يتعلم منهم شيئًا من حيث إن مبادئه غير مبادئهم، اللهم إلا كپلر، ويصعب علينا تصديق دعوى ديكارت أنه لم يكن يعرف نصوص أوغسطين، ولعله أراد أنه لم يقرأها في كتبه، ولكنه عرفها بالواسطة بلا ريب، فإنها مشهورة وكانت كتب أوغسطين متداولة، وكان مذهبه شائعًا، وكان أول عرض قام به ديكارت لمذهبه بحضرة الكردينال دي بيريل الأوغسطيني، أما أن الغرضين يختلفان، فهذا ما لا يمكن ادعاؤه إطلاقًا، فإن أوغسطين هو أيضًا يستخدم وجود الفكر للتدليل على روحانية النفس، ولرفع الشك، ويمضي من الفكر إلى وجود الله كما يفعل ديكارت، فوجود الفكر مبدأ المذهبين، وقد غلط پسكال حين قال إن أوغسطين كتب تلك الكلمة عفوًا دون أن يطيل التفكير فيها ودون أن يتوسع فيها، على حين أن ديكارت أدرك في هذه الكلمة سلسلة بديعة من النتائج تبرهن على تمايز الطبيعتين المادية والروحية وجعل منها مبدأ وطيدًا مطردًا لعلم طبيعي بأكمله.٣ وكيف يكون أوغسطين قال هذه الكلمة عفوًا واتفاقًا، وهو يذكرها ست مرات؟ وكيف يقال أنه لم يطل فيها التفكير ولم يتوسع فيها، وقد قصد بها إلى إدحاض الشك، والتدليل على وجود النفس وروحانيتها، وعلى وجود الله كما تقدم؟ بيد أنه يبقى أن وجود الفكر هو عند ديكارت حالة فذة يتجلى فيها اليقين، ومبدأ للفلسفة سيخرج منه كل يقين، وأنه عند أوغسطين حالة جزئية من حالات اليقين، ربما كانت أوضحها عند مناقشة الشكاك، إلا أنها لا تخرج عن كونها واحدة منها، وهذا فرق في مصلحة أوغسطين إذ أنه لا يستهدف للدور الذي وقع فيه ديكارت حين نظر إلى الفكر كأنه مجرد شعور فلم يسترد اليقين بموضوعات الفكر إلا بالالتجاء إلى صدق الله، وفكرة الله نفسها أحد هذه الموضوعات.

ومدار المسألة الفلسفية على جواز اتخاذ الفكر الخاص مبدأ أول والذهاب منه إلى موضوعات مغايرة له، إن هذا لا يجوز، فقد نستوثق من فكرنا (وأي شاك شك في فكره؟) ثم لا نستوثق من شيء آخر على الإطلاق. والأمر وأضح عند ديكارت كل الوضوح، فإن الروح الخبيث ما يزال ظله محلقًا فوق أفكارنا مهما تكن جلية متميزة، وإن فاته خداعنا في وجود الفكر، بقي سلطانه كاملًا على موضوعات الفكر، فيمتنع التقدم خطوة واحدة، وليس صدق الله بمُجدٍ شيئا في طرد الروح الخبيث؛ لأن فرض هذا الروح سابق على معرفتنا بالله، فيجب الشك في هذه المعرفة ذاتها، وديكارت لا يخرج من شكة إلا بدور ظاهر: فمن جهة يجب للبرهنة على وجود الله الاعتماد على العقل والأفكار الواضحة كوسائل لا تخدع، ومن جهة أخرى لأجل التحقق من أن العقل والأفكار الواضحة لا تخدع، يجب العلم أولًا بوجود الله وصدقه، فالواقع أن المنطق كان يقضي على ديكارت أن يظل على شكه يردد طول حياته قوله «أنا أفكر وأنا موجود» مثله مثل ذلك الشاك اليوناني الذي عدل عن الكلام مخافة الاضطرار إلى الإيجاب والسلب، ولكن ديكارت لم يكن ليرضى بهذا الموقف، وكما «أراد» الشك كليًّا، فقد «أراد» الوصول إلى اليقين وضمان العلم مهما يكن من أمر المنطق.

(٤) التصور والوجود

قبل أن نتابع ديكارت في سيرة نحو اليقين والعلم، نريد أن نلفت النظر إلى أن شكه المطلق ينطوي على تصورية مطلقة هي روح المذهب ونقطته المركزية، التصور عند ديكارت تصور بحت لا إدراك شيء واقعي، والفكر عنده لا يدرك إدراكًا مباشرًا غير نفسه، وإلا لما أمكن الشك في موضوعاته، فديكارت إذ يأبى في مرحلته الأولي أن يقبل شيئًا من دون الفكر، فيؤمن بتفكيره في السماء والأرض ويشك في وجودهما، يفصل بين ما لأفكارنا من وجه ذاتي وما لها من وجه موضوعي؛ ومن ثَمَّ يفصل فصلًا تامًّا بين الفكر والوجود، ليس فقط الوجود الخارجي، بل أيضًا وجود المفكر نفسه، وقد أنكر بعضهم على ديكارت اتخاذه عبارة «أنا أفكر وإذن فأنا موجود» مبدأ أول وقال إن هذه العبارة قياس إضماري حذفت منه المقدمة الكبرى وهي «ما يفكر فهو موجود»، وإن الأولي وضع هذه المقدمة موضع المبدأ الأول، فرد ديكارت أن هذه العبارة ليست قياسًا، ولكنها حدس يدرك وجود المفكر في الفكر، ونحن نرى أنها كذلك إذا اعتبرنا الفكر قوة مدركة للوجود، أما إذا اعتبرناه إدراك أفكار أو ظواهر، تعين علينا أن ندلل على وجود المفكر، وسنرى لوك وهيوم وكنط ينازعون في صحة هذا التدليل.

أما الأشياء الخارجية، فإذا سألنا ديكارت عن علة الأفكار التي نمثلها، أجاب قائلًا: قد أكون أنا تلك العلة، إذ ليس من الضروري أن تصدر الأفكار عن أشياء شبيهة بها، بل قد تصدر عن علة حاصلة بالذات على الكمال الممثل فيها، أو عن علة حاصلة عليه على نحو أسمى، وأنا حاصل على الفكر بالذات، فأستطيع أن أؤلف فكرة الملاك، وأنا حاصل على حقائق الأجسام، على نحو أسمى لأن الجسم دون الفكر، فأستطيع أن أؤلف أفكار الأجسام. ومع ذلك سيطلب ديكارت أصولًا خارجية لأفكار الأجسام يجعلها موضوع العلم الطبيعي، وسيتخذ سبيلًا إلى ذلك وجود الله وصدقه، فأمامنا إذن مسألتان، الواحدة هي: هل أفكارنا صادقة؟ والأخرى هي: هل لأفكارنا موضوعات في الخارج؟ وديكارت يقدم الأولى على الثانية، كما يقتضي مبدؤه التصوري، يقول: «قبل أن أفحص عمَّا إذا كان هناك أشياء خارجية، يجب أن أنظر في أفكاري من حيث هي كذلك، وأن أتبين أيها واضح وأيها غامض». فالفكرة الواضحة صادقة ويقابلها موضوع، أما الفكرة الغامضة فانفعال ذاتي، وهذا يعني أن العالم الخارجي لا يعلم إلا بعد أفكاري وعلى مثالها، وأن الحقيقة (أي الوضوح) سابقة في علمي على الوجود، وأنها عبارة عن جسر بين الفكر المعلوم أولًا والأشياء المعلومة بعده وتبعًا له، وهذا المذهب التصوري، (إيديالزم)٤ ابتدعه ديكارت وتابعه فيه الفلاسفة المحدثون، فوقعوا في إشكالات لا تحصى، وظن ديكارت أن صدق الله يحل المسألتين ويرد إلى المعرفة قيمتها والواقع أنه يهدمها هدمًا، إذ لو كان لدينا وسيلة طبيعية للمعرفة الحقة، لما افتقرنا إلى الضمان الإلهي، ولو كانت قوانا العارفة تؤدي وظيفتها كالواجب، وتمضي بالطبع إلى الحقيقة، لحملت في نفسها علامة صدقها، ولعلمنا ذلك قبل الالتجاء إلى الضمان الإلهي، اما افتقارنا إلى ضمان خارج عن العقل والحواس، فأدعى إلى التشكك في الله وحكمته وجودته.

وللتمييز بين الصادق والكاذب من الأفكار، تمهيدًا للخروج من التصور إلى الوجود، يرتب ديكارت الأفكار في طوائف ثلاث: الأولى أفكار حادثة أو اتفاقية، وهي التي يلوح لنا أنها آتية من خارج، أي التي تقوم في الفكر بمناسبة حركات واردة على الحواس من الخارج، كاللون والصوت والطعم والرائحة والحرارة، وهي غامضة مختلطة، الطائفة الثانية أفكار مصطنعة، وهي التي نركبها من أفكار الطائفة الأولى، كصورة فرس ذي جناحين، أو صورة حيوان نصف إنسان ونصف فرس، وما شاكل ذلك. والطائفة الثالثة أفكار غريزية أو فطرية، ليست مستفادة من الأشياء ولا مركبة بالإرادة، ولكن النفس تستنبطها من ذاتها، وتمتاز هذه الأفكار بأنها واضحة جلية بسيطة أولية، وهي التي تؤلف الحياة العقلية بمعناها الصحيح، كفكرة الله والنفس والامتداد وأشكاله والحركة وأنواعها والعدد والزمان وغيرها. وقد سئل ديكارت في هذه الأفكار، فقال إنه يقصد بكونها غريزة أنَّ فينا قوة تحدثها، وبكونها طبيعية أنها في النفس على نحو ما نقول إن السخاء أو إن مرضًا ما طبيعي في بعض الأسر، وقال إنها ليست مرتسمة فى العقل كأبيات الشعر فى الديوان، ولكنها فيه القوة كالأشكال في الشمع، وإنها في عقل الطفل على نحو ما هي في عقل الراشد حين لا يفكر فيها، ويعود إلى علة الأفكار، فيقول إن أفكار الطائفة الأولى والثانية لا تتطلب علة غير النفس، فإنها عبارة عن انفعال النفس بالمؤثرات الخارجية وتركيب الانفعالات بعضها من بعض، أما الأفكار الفطرية فإنما تمثل «طبائع بسيطة وحقائق موضوعية» فمن الخطأ الظن أن العقل علتها الكافية، إن العقل عله كافية للفكرة من حيث هي فعل نفسي، لا من حيث موضوعها، وعلى ذلك يجب استعراض الأفكار الفطرية والنظر فيما إذا كانت تفسر بالفكر وحده أو تقتضي علة خارجية، ذلك سبيلنا للتخطي من التصور إلى الوجود.

(٥) الله والحقيقة

أجل، إذا عثرت على فكرة تفوق حقيقتها الموضوعية كل ما فيَّ بحيث لا أكون علة هذه الفكرة، علمت أني لست وحيدًا في العالم، والواقع أني أجد بين أفكاري فكرة الله، أعني فكرة موجود كامل لا متناهٍ، وهذه الفكرة واضحة متميزة، فإنها تحوي كل ما أتصور من كمال، من أين جاءتني؟ هل أقول أني استنبطتها من نفسي؟ ولكني موجود يشك ويتردد كما رأينا، والشك علامة النقص إذ من البين أن العلم خير منه، فكيف أستطيع استحداث فكرة الكامل وأنا ناقص؟ هل أقول إنها جاءت من الأشياء الخارجية؟ ولكنها لا تخطر لي أبدًا على غرة مثل أفكار المحسوسات، والعالم الخارجي ناقص مؤلف من أشياء كل منها محدود، ومهما أجمع أشياء أو أفكارًا ناقصة بعضها إلى بعض، فلن أبلغ إلى تأليف فكرة الكامل اللا متناهي، هذا إلى أن هذه الفكرة بسيطة لا مجال فيها لتأليف وتركيب، من حيث إنها تمثل موجودًا واحدًا حاصلًا على جميع الكمالات، وإني لا أستطيع أن أنقص منها أو أزيد فيها شيئًا، ولا يمكن أن يقال إني لا أتصور الكامل اللا متناهي بفكرة محصلة، بل بإدخال السلب على فكرة النقص والتناهي التي أجدها في نفسي، إذ ليست فكرة الكامل اللا متناهي معدولة تمثل عدمًا وسلبًا، ولكنها محصلة تمثل موجودًا هي أكمل موجود، بل الواجب أن يقال على العكس إني إنما أتصور النقص والتناهي بالحد من الكمال واللا تناهي، ولو لم تسبق لي فكرة موجود كامل لا نقص فيه، لما استطعت أن أعتبر نفسي ناقصًا، وإذن فليست هذه الفكرة حادثة ولا مصطنعة، ولا يبقى إلا أنها فطرية بسيطة أولية.

إذ تقرر هذا قلت: إن كل ما أتصور بوضوح حصوله لماهية ما فهو حاصل لها، أو كل محمول متضمن في فكرة شيء فهو صادق على هذا الشيء، فمثلًا حين أتصور المثلث، أتصور ماهية ثابتة لم أخترعها وليست متعلقة بفكري، فلا أستطيع أن أعدل فيها زيادة أو نقصانًا، وأنا أتصور في ماهية المثلث أن زواياه الثلاث تساوي قائمتين، وهذا صحيح عن المثلث، وهكذا في كل ماهية. فإذا عدت إلى فكرة الكامل وجدتها تتضمن الوجود بالضرورة؛ لأن الوجود كمال ولو كان الكامل غير موجود لكان ناقصًا مفتقرًا لموجد، وهذا خلف. فوجود الله لازم من ذات فكرة الله، أي من مجرد تعريفه، وقد يبدو هذا القول مغالطة، ولكن ذلك وهم، سببه أننا نميز بين الوجود والماهية في سائر الأشياء، فتحملنا العادة على اعتقاد إمكان فصل الوجود عن ماهية الله، أما إذا تدبرنا الأمر، وجدنا ماهية الله تقوم في حصول جميع الكمالات، وأن فكرة الله هي الفكرة الوحيدة التي تتضمن الوجود كمحمول ذاتي، فلا يمكن فصله عن الماهية، كما لا يمكن فصل فكرة الوادي عن فكرة الجبل، وهذا دليل أول على وجود الله، هو دليل القديس أنسلم مهد له ديكارت ودعمه ببيان أصالة فكرة الله، ويعد هذا البيان نصيبه الخاص في إقامة الدليل.

إذا انتقلت من النظر في مفهوم فكرة الله إلى الفحص عن علتها، كان لي دليل ثانٍ على وجود الله، قد سبق القول أن لها من الحقيقة الموضوعية أو الكمال ما يفوقني إلى غير حد، فلا يمكن إلا أن تكون صدرت إليَّ عن علة كفء لها، أي عن موجود حاصل بالفعل على الكمال الممثل فيها، ورُبَّ قائل يقول: لعلِّي أعظم مما أظن، ولعلِّي حاصل بالقوة على الكمالات التي أضيفها إلى الله، ولعل هذه القوة على اكتساب الكمالات بالتدريج كافية لتوليد تصور هذه الكمالات في نفسي، ولكن لا، فمن الجهة الواحدة الله موجود كله بالفعل، وفكرة موجود كامل بالفعل تفوق كل اكتساب الكمال بالتدريج، ومن جهة ثانية ليس يمكن تحقيق اللا متناهي بزيادات متتالية، إذ أن كل ما هو متناهٍ فهو قابل للزيادة دائمًا، فالظن بأن موجودًا متناهيًا يستطيع الوصول بالتدريج إلى اللا متناهي ظن متناقض، وأخيرًا العلة التي بالقوة ليست شيئًا وليست علة، والحقيقة الموضوعية لفكرة ما تتطلب علة بالفعل؛ إذن فالله موجود، وهو نموذج فكرة الكامل اللا متناهي وعلتها.

وإذا فحصت عن علة وجودي بصفتي حاصلًا على فكرة الكامل، كان لي دليل ثالث على وجود الله؛ ذلك بأنني لو كنت خالق نفسي لكنت منحت نفسي الكمال الممثل لي في هذه الفكرة، من حيث إن الإرادة تتجه إلى الخير دائمًا، وما الكمال إلا صفة للموجود وحال له، فخلقه أيسر من خلق الوجود ذاته، فلو كنت أوجدت نفسي لكنت أردت لها كمال الوجود، ولكني ناقص، فذلك دليل على أني لست خالق نفسي، ولا يمكن القول إني وجدت دائمًا على ما أنا الآن، فإن أجزاء الزمان منفصلة بعضها عن بعض بحيث لا يتعلق الزمان الحاضر بالزمان الذي سبقه، فالموجود — لكي يدوم في كل آنٍ — مفتقر لنفس الفعل اللازم لخلقه، فلا استطيع الدوام زمنًا ما إلا إذا كنت أخلق خلقًا جديدًا في كل آنٍ، وليس لديَّ مثل هذه القوة لحفظ نفسي في الوجود، ولو كانت لي لعلمت ذلك علمًا يقينًا، فإن قوة ما لا توجد فيَّ بما أنا موجود مفكر دون أن أعلمها، وإذن فلست خالق نفسي، ثم لا يمكن أن يقال إن وجودي مستمد من توالدي أو من علة أخرى دون الله كمالًا، لأنه مهما تكن تلك العلة فلا بد أن تكون حاصلة على فكرة الكمال، وحينئذٍ فإما أن تكون أوجدت نفسها، وأوجدت نفسها كاملة، فتكون الله، أو أن تكون صدرت عن علة أخرى، فتعود المسألة، ويمتنع التسلسل إلى غير نهاية، لأن المطلوب هنا ليس العلة التي أوجدتني في الماضي، بل التي تحفظ وجودي في الحاضر، فلا بد من الوقوف عند علة هي الله، وهكذا كما أدركت النفس دون أن أخرج من الفكر، فقد أدركت الله إدراكًا مباشرًا في علاقتي بفكري ووجودي، وبلغت إلى موجود محقق مع بقائي مستمسكًا بالفكر. إن فكرة الله محدثة فيَّ منذ خلقت، وهي طابع الله في خليقته.

ونحن نتغاضى هنا عمَّا في هذه الأدلة من مسائل فرعية تغنينا غرابتها عن الإسهاب في نقدها، مثل احتمال إحداث الموجود ذاته، وتصور الدوام خلقًا متكررًا لا ندري كيف يبقى معه الموجود هو هو، واعتقاد ديكارت أن المفكر يدرك كل ما في نفسه، مما يرجع إلى إنكار القوة واللا شعور، نتغاضي عن هذا وعن غيره، ونحصر النظر في فكرة الله التي يبني عليها ديكارت أدلته الثلاثة، هل صحيح أنها محصلة جلية متميزة؟ الواقع أنها مكتسبة بالاستدلال، فالأصل فيها ضرورة تفسير الموجود المتغير بإسناده إلى علة، وضرورة الوقوف عند علة أولى في سلسلة العلل، وإلا بقي الموجود المتغير بدون تفسير، وضرورة إيجاب الوجود لهذه العلة الأولى، وإلا لم تكن أولى، فديكارت يتناول هذه الفكرة كما كونها الفلاسفة واللاهوتيون المدرسيون ويعتبرها أولية، فيبدأ من حيث انتهوا، ويعتبرها محصلة، ولو كانت كذلك لاستوى فيها كل الناس، ولأظهرتنا على ماهية الله كما هي، والواقع يرد هاتين النتيجتين، وديكارت نفسه يقر بهذا الواقع فيقول (في التأمل الثالث): «أجل إني لا أفهم اللا متناهي، وإني أجهل أمورًا كثيرة فيه، ولكني متى علمت أنه حاصل على جميع الكمالات التي أتصورها، وفهمت حق الفهم أن تمام الإحاطة باللا متناهي ممتنع على موجود متناهٍ مثلي، فقد حصلت على فكرة عنه جلية جدًّا ولو أنها ناقصة جدًّا». نقول: إذا كانت الفكرة ناقصة إلى هذا الحد، فليست صورة حقة للامتناهي تفيدنا معرفته كما هو وإنما هي فكرتنا نحن عنه، أو بعبارة أدق هي جملة أحكامنا بأن الله موجود وبأن له كذا وكذا من الصفات، أي إن تلك الفكرة فعل عقل متناهٍ ناقص يتعقل الكامل اللا متناهي كما يستطيع، فديكارت إذ يقول إنها محصلة، يخلط بينها وبين موضوعها، فإن هذا الموضوع، الذي هو الله موجود حق، إما فكرتنا عنه فليست صورة أو معنى شبيهًا به، وإلا كانت تظهرنا عن حقيقة اللا متناهي إظهارًا كليًّا كما قلنا، وهذا غير صحيح، ولكن ديكارت — وقد قطع الصلة بين الفكر والوجود — اضطر لوضع الأفكار موضوع الموجودات واعتبارها أشياء قائمة بأنفسها، وهو بقوله إن فكرة الله محصلة، وبفصله بينها وبين الاستدلال الذي ينتجها ويسوغها، يمهد السبيل لاعتبارها مجرد صورة فكرية أو وهمًا ضروريًّا كما يقول كنط، أو تشخيصًا للمجتمع كما يقول الاجتماعيون، أو ما إلى ذلك من أقاويل.

وما دامت هذه الفكرة دعامة الأدلة الثلاثة، فقد أنهارت هذه الأدلة بانهيارها؛ ذلك بأن الوجود المتضمن في فكرة الله محمول من جنس الفكرة، أي محمول متصور فحسب، وليست الفكرة صورة حقه لموضوعها، فقد زال عنها امتيازها وأوضحت فإذا بينها وبينه مثل ما بين سائر الأفكار وبين موضوعاتها من مسافة، وتعين البحث فيما إذا كان يقابلها موضوع حقًّا، أو كانت مجرد تصور، فإذا ثبت لها موضوع، قيل حينئذٍ إن الوجود محمول ذاتي له كما قدمنا، وبعبارة أخرى: إذا ثبت وجود الله، فقد ثبت أن الوجود واجب له، إما الانتقال من الوجود المتصور إلى الوجود الواقعي، فغلظ أو مغالطة، وقد نبَّه على ذلك القديس توما الإكويني في رده على دليل القديس أنسلم، أما عن الدليل الثاني، فما دامت فكرتنا عن الله ناقصة ومكتسبة بالاستدلال، فليست تتطلب عله لا متناهية، وليس ما يمنع أن تصدر عن الموجود المتناهي الذي يتصورها، وهو إنما يتصورها بحكم ينفي الحد ويطلق الوجود من كل قيد، وأما عن الدليل الثالث، فلا مسوغ للانتقال من وجودي المتناهي إلى الموجود اللا متناهي؛ إذ أن هذا الانتقال لا يتم عند ديكارت بتطبيق مبدأ العلية على وجودي، بل بواسطة حصول فكرة اللا متناهي في فكر متناهٍ لو كان خلق نفسه لكان خلقها كاملة لا متناهية، فإذا كانت فكرتي عن اللا متناهي ليست لا متناهية، فقد بطل الاستدلال، ولم يبقَ منه إلا أني قد أكون خالق نفسي، أي قد أكون وأنا موجود متناهٍ حاصل على أفكار متناهية، خلقت نفسي متناهيًا! إلى مثل هذا التناقض يرجع دليل ديكارت متى أبطلنا الواسطة المبني عليها، أي كون فكرة اللا متناهي محصلة بسيطة أولية، وقد استعاض ديكارت بفكرة انقسام الزمان إلى غير نهاية، عن فكرة الإمكان التي استخدامها السلف، أو أنه نقل الإمكان إلى اللحظة الآتية التي لا يستطيع فيها المخلوق استبقاء وجوده، فيجدد الله خلقه، فدليله لا يرمي إلى إثبات بداية للمخلوق، بل إلى تفسير دوامه وحفظه في الوجود، وهذا تصور غريب لدوام المخلوق ولحفظ الله له.

وغريب كذلك تصور ديكارت لماهية الله: فإن الله عنده حُرٌّ قدير حتى ليعتبر «بالإضافة إلى ذاته بمثابة العلة الفاعلية بالإضافة إلى معلولها» بل حتى إنه «لو لم يكن إعدام الذات نقصًا، لأمكن إضافة تلك القوة إليه» وتتناول حرية الله كل شيء، ليس فقط ما نراه ممكنًا، بل أيضًا «الحقائق الدائمة» رياضية وفلسفية، وماهيات المخلوقات؛ فإن الله صانع الأشياء جميعًا، وهذه الحقائق والماهيات أشياء، فهو إذن صانعها، أجل إنها تبدو لنا ضرورية، ولكن الله هو الذي أراد أن تكون كذلك، وفرضها على عقلنا، لقد كان الله حرًّا في أن يجعل الخطوط الممتدة من المركز إلى المحيط متساوية، وزوايا المثلث الثلاث متساوية قائمتين، مثلما كان حرًّا في أن لا يخلق العالم، فلما اختار، غدا اختياره حقًّا، ولما كان الله ثابتًا، فلا خوف أن يتغير الحق، والنصوص الواردة بهذا المعنى كثيرة صريحة، تدل على شدة تعلق ديكارت بنظرية هذه، وهي واردة في رسائله الخاصة منذ سنة ١٦٢٩، وفي ردوده على الاعتراضات، دون الكتب التي أعلن فيها مذهبه كاملًا منظمًا، وقبل نشره للكتاب الأول من هذه الكتب (وهو«المقال») بثماني سنين، وفي سنة ١٦٣٠ ظهر كتاب يدور على هذه المسألة لقسيس صديق لديكارت من قساوسة «الأوراتوار» هو الأب Gibicof، والنظرية على كل حال قديمة، نجدها بارزة في القرن الرابع عشر عند دونيس سكوت ونقولا دوتركور، ونجدها تولد الشك، وديكارت نفسه يدلنا على أثرها في المعرفة حيث يقول (في التأمل الثالث): «إذا كنت حكمت أن بالاستطاعة الشك في هذه الأشياء، فما كانت ذلك لسبب غير أنه كان يخطر ببالي أن إلهًا قد يكون أعطاني طبيعة هي بحيث أخطئ حتى فيما يبدو لي أوضح ما يكون، وكلما عرض لفكري هذا الرأي المتصور آنفًا في إله كلي القدرة، رأيتني مرغمًا على الاعتراف بأن من الميسور له — إن شاء — أن يجعلني أخطئ حتى فيما أعتقد أني أدركه ببيان عظيم جدًّا، وعلى العكس كلما توجهت صوب الأشياء التي أعتقد أني أتصورها بغاية الوضوح، رأيتها تقنعني …».

وعلى ذلك نرى أن لهذه النظرية أثرًا كبيرًا في تركيب المذهب، إذا كانت الحقيقة خلقًا حرًّا، فلم يعد لها قيمة بالذات، وإنما قيمتها آتية من أمر الله، وقد كان في مقدور الله أن يقرر نقيضها كما يقول ديكارت ويكرر القول، وإذن فباستطاعتنا أن نشك فيها مهما بدت ضرورية، لأنها ضرورية بالإضافة إلينا، ولكنها ممكنة في نفسها وبالإضافة إلى الله، فالشك الكلي المؤيد بفرض الروح الخبيث يتناول ماهية الحقيقة وصدق الفكر، وليس يشك ديكارت في صدق الفكر إلا لأنه يشك في الحقيقة، فكان محتومًا عليه ان يستبعد كل حقيقة حتى يبلغ إلى الفكر الخالص، لكي يقف نفس موقف الله وهو يقرر الحقيقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى إذا كانت الحقيقة وضعية، فليس يعتبر الوضوح علامة حاسمة لتصديقها، ولكنه شعور ذاتي يميل بنا إلى التصديق، فقبل أن نميل معه يتعين علينا أن نتيقن أنه غير خادع، إذ كما أن الحقيقة محدثة فإن مصاحبة الوضوح لها محدثة كذلك، فالثقة بها تقتضي معرفة واضعها، وكون كاملًا صادقًا، وإلا امتنع لدينا كل سند للحقيقة، فصدق الله ضمان الوضوح، ومعنى الاثنين جميعٍا أن بين العقل وبين الحقيقة مناسبة وملاءمة لأنهما من صنع الله.

(٦) العالم وقوانينه

بعد أن يطمئن ديكارت إلى وجود الله وصدقه، ينتقل إلى وجود العالم ويسأل نفسه: هل الماديات موجودة؟ فيجيب بالإيجاب، ويقدم الأسباب، فأولًا هذه الأشياء ممكنة، والله يستطيع إحداث الممكنات، ثم إن في قوة حاسة هي قوة انفعالية تتطلب قوة فعلية تثير فيها أفكار المحسوسات، وهذه القوة الفعلية ليست فيَّ، فإني جوهر مفكر، وإذن فهي خارجة عني، على أنها قد تكون إما جسمًا حاصلًا بالذات على ما أتصوره في المحسوسات، أو تكون الله الحاصل عليه على نحو أسمى: فما هي؟ إني أحس في نفسي ميلًا طبيعيًّا إلى الاعتقاد بأشياء جسمية، وما دام هذا الميل طبيعيًّا فهو صادر على الله، والله صادق فلا بد أن يكون خلق أشياء مقابلة لأفكاري. إن طبيعتي تعلمني أن لي جسمًا، وأن أجسامًا أخرى تحيط بي، وأن هذه الاجسام مختلفة فيما بينها تحدث فيَّ إدراكات مختلفة ولذات وآلامًا، فلن أكثرت بعد الآن لأخطاء الحواس وخيالات الأحلام، فإن مراجعة الحواس بعضها ببعض، ومراجعتها بالذاكرة والعقل، تبدد الخوف من الخطأ في الإدراك الحسي، وكذلك تتميز اليقظة باتساق الإحساسات فيما بينها، ويتميز المنام باضطراب التصورات، هذه قرائن لا يمكن أن أخطئ فيها وقد علمت أن ليس الله خادعًا.

الماديات موجودة إذن، ولكن على أي نحو؟ هنا يجب أن أراجع أفكاري بكل حذر حتى يقتصر تصديقي على ما أراه واضحًا متميزًا، فإن أفكاري إنما تصدر عن الله من حيث ما فيها من وضوح، والله إنما يحدث من موضوعات الأفكار ما يتصور بوضوح ليس غير، وما أتصوره واضحًا في الأشياء يرجع إلى أنها امتداد فحسب، وباقي ما يبدو في الإحساس فهو صادر عن فكري: الضوء واللون والصوت والرائحة والطعم والحرارة، كل هذه انفعالات ذاتية، أفكار غامضة أضيفها خطأ لذلك الميل الطبيعي، وأتخذها أساسًا لمعرفة ماهيات الأجسام، وليس في الأجسام شيء يشابهها، وليس لها من غاية سوى إرشادي إلى النافع والضار فأكيف مواقفي في الحياة تبعًا لذلك، فديكارت يستبعد «الكيفيات الثانوية» ويستبقي «الكيفيات الأولية» مع كونها جميعًا إحساسات وانفعالات، مستندًا إلى مفهوم فكرة المادة وإلى صدق الله.

هذه المادة الهندسية لامتناهية المقدار من حيث إنه يستحيل وضع حد للامتداد، وديكارت يعول هنا على الامتداد المتخيل لا الامتداد المعقول، فإن المخيلة لا تقف عند حد في تخيلها إذ أنها لا تتخيل إلا المحسوس، أما العقل فيستطيع الحكم بوجوب الحد متى علم أن المادة الموجودة بالفعل متشكلة بالضرورة ومن ثمة محدودة بالضرورة، وهذه المادة الهندسية مقسمة إلى أجزاء غير متناهية، فليس هناك جواهر فردة أو أجزاء لا تتجزأ من حيث إن كل امتداد مهما صغر قابل للقسمة إلى جزأين وهكذا إلى غير نهاية، وهذه المادة الهندسية ملاء لا يتخلله خلاء؛ لأن الخلاء امتداد، والامتداد مادة (عند المخيلة كما تقدم) بحيث تفسر كل حركة بأن الجسم المتحرك يطرد الجسم المجاور له ليحل في مكانه، وهكذا إلى ما لا نهاية، فالحركة في العالم دائرية، والمادة متحركة حركة متصلة: حركها الله منذ الخلق، وشرع للحركة قوانين، هذه القوانين تستنبط من فكرة ثابت الله، وأولها «إن كل شيء يبقى على حاله طالما لم يعرض له ما يغيره»، ومن هذا القانون يلزم قانونان: أحدهما «أن مقدار الحركة (المحدثة عند الخلق) يبقى هو هو في العالم لا يزيد ولا ينقص»، والآخر «أن كل جسم متحرك فهو يميل إلى الاستمرار في حركته على خط مستقيم» وهذا قانون القصور الذاتي، وديكارت أول من وضعه عن بينة، وقد يكون وصل إليه بتأثير كپلر. هذه القوانين الثلاثة تنطوي على جميع قوانين الحركة، وكلها ثابتة بثبات الله،٥ فهنا أيضًا يلجأ ديكارت إلى الله لكي يقيم أركان علمه الطبيعي، ولكن هل يمنع ثبات الله من حدوث التغير في الطبيعة؟ ومن يدرينا، لعل الله أراد بإرادة واحدة أن توجد قوانين معينة وقتًا ما، ثم أن تحل محلها قوانين أخرى؟
وكان من فعل الحركة في المادة على مقتضى القوانين أن تكونت السماء والأرض والسيارات والمذنبات والشمس والنجوم الثوابت والضوء والماء والهواء والجبال والمعادن والنباتات والحيوانات والأجسام الإنسانية، تكونت كلها بمحض فاعلية الحركة في الامتداد، دون أي شيء من تلك الكيفيات والقوى والصور الجوهرية التي أضافها أرسطو والمدرسيون إلى المادة، ودون علل غائية، فليس لهذه العلل محل في العلم الطبيعي، وأنى لنا أن نكشف عن غايات الله، والله على كل حالٍ لم يتوخَّ غاية، وإنما رتب الأشياء بمحض إرادته الحرة، فالأجسام آلات ليس غير، بما فيها النبات والحيوان وجسم الإنسان، أما أن الحيوان عاطل من العقل، فدليله أنه لا يتكلم ونحن نشاهد أن الكلام لا يقتضي إلا قليلًا من العقل، وإذا كان بعض الحيوان يفوق الإنسان مهارة في بعض الأفعال، فإنه لا يبدي شيئًا من تلك المهارة في أفعال أخرى كثيرة، فما يفوقنا فيه لا يدل على عقل وإلا لكان حظه منه أكبر من حظنا ولأجاد سائر الأفعال، ولكنه يدل على أن لا عقل لله وأن الطبيعة هي التي تعمل فيه، كذلك ليس للحيوان شعور وعاطفة؛ لأن العاطفة ضرب من الفكر، وقد ظن ديكارت أن رأيه هذا تأيد باكتشاف وليم هارڤي للدورة الدموية سنة ١٦٢٨، أي حين بين هذا العالم أن الدم لا يجري في الجسم بقوة ذاتية، بل إن انقباض القلب هو الذي يدفعه، فاعتقد ديكارت أن قوانين الحركة تنطبق أيضًا على الجسم الحي، وأن في الاعصاب «أرواحا حيوانية» هي أدق أجزاء الدم وأسرعها حركة، بحركاتها تفسر جميع الأفعال الحيوانية الجسمية، ومثل هذه الأفعال مثل حركاتنا اللا إرادية، كمد اليدين إلى أمام في حركة السقوط، فإنها حادثة عن تحرك الأرواح الحيوانية بتأثيرات غير مشعور بها، فإذا كان الحمل يهرب عند رؤية الذئب، فلذلك لأن الأشعة الضوئية الصادرة عن جسم الذئب إلى عين الحمل تحرك عضلاته بوساطة تيارات الأرواح الحيوانية، ويمكن تفسير عودة السنونو في الربيع كما نفسر دق الساعة في فترات راتبة؛ وإذن فجميع الأجسام آلات دقيقة الأجزاء كثيرة التعقيد عجيبة الصنع، ولكنها آلات على كل حال تعمل بالحركة فحسب، والعالم في مجموعه آلة كبرى أو علم الميكانيكا متحقق بالفعل، ولئن فاته بهاء الألوان ونغم الأصوات وشذى الروائح وكل ذلك الجمال الذي تتوهمه فيه الفلسفة الناسجة على منوال أرسطو والذوق العام، فقد استعاض عنه معقولية طالما نشدتها تلك الفلسفة فأعياها البلوغ إليها، إذ قد أضحت الأجسام شبيهة بالأشكال الهندسية معقولة كلها دون غموض ولا خفاء٦ ولكنها لم تصبح كذلك إلا بإرادة الفيلسوف الذي أفرغها مما فيها من قوة وحياة، وردها أشكالًا جوفاء.

(٧) النفس والجسم

بقي على ديكارت، وقد استعاد يقينه بوجود الأجسام بما فيها جسمه، أن يخطو خطوة أخيرة ويفحص على طبيعته هو، إنه مؤلف من نفس وجسم، أي من جوهرين متمايزين متضادين: النفس روح بسيط مفكر، والجسم امتداد قابل للقسمة، ليس في مفهوم الجسم شيء مما يخص النفس، وليس في مفهوم النفس شيء ممَّا يخص الجسم، وقد أشك في وجود جسمي وسائر الأجسام دون أن يتأثر بهذا الشك وجود فكري ونفسي؛ لذا لا يأتي العلم بالجسم إلا في هذا الموضع كما يقتضي المنهج، وإن كان النفس والجسم في واقع الأمر متضامنين يؤلفان موجودًا واحدًا، فإن المنهج يقضي بأن تتسلسل الأفكار بنظام «إلى حد أن نفترض نظامًا بين الموضوعات التي لا تتالى بالطبع»، وإن المبدأ التصوري يقضي بأن نذهب من أفكارنا إلى موضوعاتها بحيث لا يمكن أن تختلف الموضوعات عن الأفكار ولا أن يوجد في الواقع نفس وجسم يختلفان عن تصورنا للنفس والجسم، ومن أين جاء ديكارت بتعريف النفس والجسم؟ إنه يضع التعريف من عند نفسه، لا من ملاحظة الكائنات الحية، ولا يريد أن يعلم أن الجسم، وإن كان عديم القدرة على التفكير، فقد يكون شرطًا للتفكير، ومن ثمة قد يكون متصلًا بالنفس ضربًا من الاتصال أوثق من الذي يرضى به الفيلسوف الأفلاطوني، وقد اعتقد ديكارت أنه بهذا الفصل التام بين النفس والجسم أسقط المادية وأقام الميتافيزيقا، ولكن هذا الفصل الذي ينكر النفس على الحيوان ويجعل من البيولوجيا فرعًا من الميكانيكا، قد يؤدي إلى إنكار النفس على الإنسان ورد التعقل إلى الإحساس المشاهد في الحيوان، فتسقط الروحانية، وتسقط الميتافيزيقا من حيث إنها لا تقوم على الحس بل على العقل، وسنرى كثيرين من الفلاسفة يستخرجون هاتين النتيجتين، ويردون على ديكارت بنفس أقواله.

بيد أن ديكارت يستدرك فيقول: إن طبيعتي تعلمني أني لست حالًّا في جسمي حلول النوتي في السفينة، ولكني متحد به اتحادًا جوهريًّا يكون كلًّا واحدًا، بحيث لو جرح جسمي فلست أقتصر على إدراك الجرح بالعقل، ولكني أنبه إليه بالألم، فالألم والجوع والعطش وسائر الانفعالات لا تنال النفس بما هي كذلك، وإنما هي ناشئة من اتحاد النفس والجسم واختلاطهما، ويقال مثل هذا عن المعرفة الحسية والحركات المنعكسة والأحلام والتخيل والتذكر،٧ عجبًا! يستعير ديكارت ألفاظ أرسطو الذي ينكر على أفلاطون أن تكون النفس في الجسم «كالنوتي في السفينة» والذي يؤكد اتحاد النفس والجسم «اتحادًا جوهريًّا» فكيف يفسر ديكارت هذا الاتحاد؟ الواقع أنه يذعن هنا مكرهًا لشهادة الوجدان وأن مذهبه ثنائي لا يطيق الوحدة بحال، في مواضع كثيرة يتكلم عن النفس والجسم كأنَّ النفس حالَّةٌ في الجسم مجرد حلول، وهو يعين لها فيه مكانًا ممتازًا هو الغدة الصنوبرية «حيث تقوم النفس بوظائفها بنوع أخص منها في سائر الأجزاء، وتنتشر قوتها في الجسم كله»، وإنما وضعها في هذا الجزء من الدماغ لأنه رأى فيه المكان الملائم لقبول الحركة وتوجيهها، أي في وسط هذا الجزء من الدماغ وفوق القناة التي تمر منها الأرواح الحيوانية من تجاويف مقدم الدماغ إلى تجاويف مؤخره، فكلما أرادت النفس شيئًا «حركت الغدة المتحدة بها الحركة اللازمة لإحداث الفعل المتعلق بتلك الإرادة»، أما الجسم فيؤثر في النفس بأن يبلغ إليها الحركات الواقعة عليه والحادثة فيه فتترجمها هي ألوانًا وأصواتًا وروائحَ وطعومًا ورغباتٍ ولذاتٍ وآلامًا، ولا ندري كيف تتم هذه الترجمة، ولم تحس النفس الجوع والعطش، وتحس ألمًا من جرح، بدل أن تدرك مجرد إدراك أن بالجسم جرحًا وأن به حاجة إلى الطعام والشراب، وماذا يصير بمبدأ القصور الذاتي: إن النفس روح فلا تنالها الحركة، وعلى ذلك فالحركة الجسمية حركة فانية، فإذا سلمنا أن النفس تحرك الغدة الصنوبرية، قلنا بحركة جديدة غير ناشئة من حركة سابقة، ومبدأ القصور الذاتي يحول دون تصور الحركة تفنى أو تخلق، وقد قال ديكارت ردًّا على اعتراض أو سؤال: إن النفس لا تخلق حركة، بل توجد الأرواح الحيوانية، ولكن التوجيه أو التغيير في الاتجاه يقتضي حركة، فيخالف مبدأ القصور الذاتي، على أن ديكارت يقول إنه هكذا رتبت الأمور لخير الإنسان وحفظ كيانه، أي هكذا رتبها الله، فيعود ديكارت إلى الله مرة أخرى للخروج من مأزقه، كما كان التراجيديون اليونان يقحمون الآلهة في المواقف الحرجة، وتلك هي الكلمة الأخيرة في المشكلة؛ إذ يستحيل تصور اتحاد حقيقي بين جوهرين تامين، وتصور تفاعل حقيقي بين جوهرين متضادين.

ولديكارت كلمة أبلغ دلالة على هذه الاستحالة، ألحت عليه الأميرة إليزابث أن ينجدها بالتعليل الشافي، فأفاض في القول دون أن يأتي بشيء جديد، بل إن هذه الإفاضة تنم عن حيرة شديدة، وانتهى بالاعتراف بأن المسألة لا تحتمل حلًّا عقليًّا، قال: «تعلم النفس بالعقل، ويعلم الجسم بالعقل كذلك، ولكنه يعلم أحسن بكثير بالعقل تعاونه المخيلة، أما اتحاد النفس والجسم، فلا يعلم إلا علمًا غامضًا بالعقل والمخيلة، ويعلم علمًا واضحًا بالحواس، وهو أمر محسوس لا يشك فيه عامة الناس، ويستطيع الفلاسفة أن يدركوه إذا هم كفوا عن التعقل والتحليل وتركوا أنفسهم للحياة وللأحاديث الجارية»، وأردف ذلك بقوله: «لا يلوح أن باستطاعة العقل الإنساني أن يتصور بجلاء وفي نفس الوقت تمايز النفس والجسم واتحادهما؛ إذ أن ذلك يقتضي تصورهما شيئًا واحدًا وشيئين، وهذا تناقض». وهذا إقرار صريح بالعجز والفشل؛ لذلك نرى نظرية ديكارت في النفس والجسم خير نظرياته بيانًا لما يميز مذهبه من تركيب صناعي، إنها ضعيفة إلى حد التناقض بإقرار الفيلسوف نفسه، وعندها يتحطم المنهج الجديد في يد صاحبه، وإن في هذا الإخفاق لعبرة، فهو يدلنا على عاقبة قلب نظام المعرفة الإنسانية ومحاولة إخضاع الوجود لمنهج يفرض عليه فرضًا، بدل إخضاع الفكر للوجود، إن الوجود أصلب من أن يلين للنظريات، و هو لا يلبث أن يثأر لنفسه منها ويبين تهافتها، أليس غريبًا أن نسمع ديكارت «العقلي» المعتد بالعقل إلى غير حدٍّ، يدعونا إلى اطِّراح العقل والاسترسال مع الحياة وأحاديث الناس في مسألة هي من الأهمية الفلسفية بأعظم مكان؟ وهل هناك ثأر أبلغ من هذا؟ وإذا ذكرنا إن كپلر وجليليو ثم نيوتن من بعدهما اكتشفوا بالتجربة قوانين مضبوطة، فكانت تسمح لهم بتوقع الظواهر وتقودهم إلى مكتشفات جديدة، بينما القوانين (غير الصحيحة) التي فرضها ديكارت على الطبيعة لم تكن تفسر الأشياء إلا تفسيرًا إجماليًّا، ولا تسمح بأي توقع، إذا ذكرنا ذلك كان لنا منه مثال آخر على ثأر الطبيعة من المتجبرين عليها وسخريتها منهم.

(٨) تعقيب على المذهب

نستطيع الآن أن نرى أنَّ العلم الطبيعي الرياضي مفتاح المذهب، كما أن الشك في ضرورة الحقيقة مفتاح المنهج (٣٥ج). تقدم لنا الرياضيات المثل الأعلى للعلم، ذلك العلم «اللمي» الذي ينزل من المبادئ إلى النتائج فيبين علة النتائج في مبادئها ويرضي العقل تمام الرضا، كان أفلاطون يصبو إلى هذه الغاية ويحاول تحقيقها، وكان أرسطو يعتبرها كذلك الغاية القصوى، ولكنه فطن إلى أن العلم الطبيعي نوع آخر من العلم، هو العلم «الأني» المكتسب بالاستقراء، يأتي في المرتبة الثانية لأنه يقتصر على القول بأن الشيء كذا دون بيان العلة في أكثر الأحيان، ولكنه العلم الملائم لطبيعة معرفتنا التي تبدأ بالمحسوس وتتأدى منه إلى المعقول، ولم يوفق ديكارت إلى مثل اتِّزان أرسطو وتواضعه، فقد غلا في طلبه المعقولية وأراد أن يكون علمنا كله لميًّا أو لا يكون أصلًا، فأحال العلم الطبيعي علمًا رياضيًّا بحتًا، وذهب في ذلك إلى حد افتراض قوانين كان يعلم عدم مطابقتها للواقع، ولكنه افترضها «لكي يمكن أن تقع الأشياء تحت الفحص الرياضي»، والرياضيات لا تنظر في غير الأعداد والأشكال، فمتى رددنا العلم الطبيعي إلى الرياضي، رددنا الاجسام الطبيعية إلى أشكال هندسية، ورددنا أفعالها إلى حركات آلية تُقاس ويعبر عنها بأعداد، سواء في ذلك الأفعال الحيوية والأفعال الجمادية على ما بين الطائفتين من تباين، فيلزم عن ذلك أن الإحساس ذاتي، وأن لا شبه بينه وبين علته الخارجية.

يضاف إلى ما تقدم أن تصور الأجسام الخارجية آلات، أي مركبات صناعية خلوًا من كل طبيعة أو ماهية، يحملنا على استبعاد المنطق القديم القائم على أن الموجودات طبائع وماهيات لها خواص وأعراض، فلا يبقى هناك مجال لتحليل الأشياء إلى أجناس أنواع، وإنما تحل إلى أجزاء حقيقية كأجزاء الآلة، فلا نقول «الإنسان حيوان ناطق» بل نقول «الإنسان نفس وجسم»، وديكارت يستبعد بالفعل الحكم الأرسطوطالي (وهو إسناد محمول إلى موضوع، أو وصف شيء بشيء) ويستعيض عنه بمعنى آخر للحكم هو أنه اعتقاد الإرادة بوجود خارجي لموضوع فكرة ما، وإن من ينعم النظر في «قواعد تدبير العقل» يرى في ديكارت واحدا من الاسميين، أولئك الفلاسفة الحسيين الذين ظهروا في القرن الرابع عشر وكانوا أول الخارجين عن الفلسفة الأرسطوطالية، فإن ديكارت يعتبر المعاني الكلية أسماء جوفاء، ويستعيض عنها بما يسميه الطبائع البسيطة، ويستعيض عن منطق أرسطو بمنهج الرياضيين، ويلزم من ذلك (كما تنبه إليه الحسيون، القدماء منهم والمحدثون) أن ليس هناك حقائق ضرورية، فينشأ لدينا سبب آخر للشك في العقل شكًّا حقيقيًّا لا منهجيًّا، ويمكن أن نقول إن الفلسفة الحديثة كلها اسمية مثل ديكارت.

بهذا المذاهب أحدث ديكارت انقلابًا خطيرًا في عالم الفكر، فأولًا قد غير نظر العقل لطبيعته، كان القدماء يعتقدون أن العقل يدرك الوجود، فأصبح العقل منعزلًا في نفسه، وأخذ الفلاسفة من بعده بهذه التصويرية، فأنكروا العالم الخارجي — ولم يكن ديكارت قد آمن به إلا بمخالفته للمبدأ التصوري، ولم يؤمن به إلا هزيلًا ضئيلًا على ما رأينا — وأنكروا العلية فاعلية وغائية، وأنكروا الجوهر والنفس والله، وفي الحق إذا كنا لا ندرك سوى تصوراتنا، فلا سبيل إلى تجاوزها وهذا الفصل بين الكفر والوجود استتبع الفصل بين العلم الواقعي والفلسفة، فعاد العلم لا يعرف له موضوعًا غير الامتداد والحركة، وحصرت الفلسفة دائرتها في الفكر فأصبحت تأليفًا ذاتيًّا أو نوعًا من الفن، وانقسم المفكرون طائفتين: واحدة تأخذ بالعلم فترد الفكرة إلى حركة مادية، وأخرى تنحاز إلى الفلسفة فترده المادة والحركة إلى الفكر، وما تزال هذه الثنائية والمشكلات الناجمة عنها قائمة إلى اليوم.

وغير ديكارت معنى الوضوح والمعقولية، فأصبح العقل المنعزل في ذاته القانون الأكبر والأوحد «لا يسلم شيئًا إلا أن يعلم أنه حق» أي إلا أن يعقله هو، ويركبه بأفكار واضحة هي في الواقع أفكار سهلة، فإن استعصى عليه شيء أنكره، وقد رأينا ديكارت يذهب من الفكر إلى الوجود، ويتصور الأشياء على مثال أفكاره، ويمحو منها القوة والحياة اكتفاء بالحركة الآلية، فكان ديكارت أول من حرر العقل من سلطان الوجود، وأعلن أن الفكر يكفي نفسه بنفسه ولا يخضع لشيء سواه، فقلب الوضع الطبيعي بالذي يجعل العقل الإنساني تابعًا للوجود ومحتاجًا إلى التعلُّم من السلف، وأقام «الفردية» على أساس فلسفي بعد أن كانت مجرد عصيان وتمرد، تلك الفردية التي تحمل الشخص على أن يظن نفسه أهلًا للحكم على الأشياء بنفسه، كأن ليس هناك عقول غير عقله، فتورث الفوضى العقلية، وعلى أن يجعل من نفسه مركزًا تدور حوله الأسرة والمجتمع، فتورث الفوضى الخلقية والاجتماعية، وقد كان العصر يضطرب بهذه الفردية التي تنفر من كل سلطان في العلم والفلسفة والدين، وبالعلم الآلي الذي يرمي إلى السيطرة على الطبيعة وتسخيرها لتحقيق سعادة الإنسان على وجه الأرض، وكان يلتمس طريقه إلى توضيح هاتين النزعتين وتسويغهما، فلما جاء ديكارت أحسهما إحساسًا عميقًا، وساهم في العلم مساهمة خصبة، ووضع فلسفة تؤيده وتحميه، وترفع الفردية من مستوى العاطفة والإرادة الغامضة إلى مستوى الحق والقانون، فوضع دستور الفكر الحديث، واستحق أن يدعى أبا الفلسفة الحديثة.

(٩) ذيوع فلسفة ديكارت

في حياة ديكارت انتشرت فلسفته في أوربا بأسرها، وأضحت بعد مماته معينًا يستقي منه الأنصار وهدفًا يرميه الخصوم، ففي فرنسا كانت الصالونات تتندر ببعض نظرياتها وتعابيرها، حتى إن موليير تناولها على المسرح، بينما كان اللاهوتيون الأرسطوطاليون في الجامعة وخارجها ينددون بها ويحضون السلطة المدنية على تحريمها، وكان الأوغسطينيون يناصرونها ويحملون على أرسطو، وفي هولندا كان النزاع عنيفًا، وقام من بين الأساتذة البروتستانت نفر يعارضها ويرى فيها خطرًا على الدين، وفي ألمانيا وإيطاليا ظهرت كتب تعرضها وتحبذها.

من بين المذكورين من مخالفيها بيير جساندي (١٥٩٢–١٦٥٥) وهو قسيس فرنسي علم الفلسفة والرياضيات، واشتغل بالطبيعيات والفلك، وكان معجبًا بجليليو متأثرًا به، نشر في شبابه نقدًا شديدًا للفلسفة المدرسية، واصطنع مذهب أبيقور أخذًا عن لوكريس، وكان أحد الذين عرضت عليهم «تأملات» ديكارت، فدون عليها الاعتراضات، لما كان حسيًّا في مسألة المعرفة، جريًا مع أبيقور، فقد عارض نظرية ديكارت في المعاني الفطرية، وبخاصة معنى الله، قائلًا إن الله لا يعقله عقل مقصور على الصور الحسية، وعارض ديكارت في إنكاره الجوهر الفرد، فقال إن القسمة إلى غير نهاية ممكنة من الوجهة الرياضية، غير ممكنة من الوجهة الطبيعية، فلقسمة المادة حد معين لا تتجاوزه، والجواهر يفصل بينها خلاء، وإلا استحالت الحركة، وعارض ديكارت في تفاصيل العلم الطبيعي، أي في تفسيراته للظواهر، ولكنه لم يمضِ مع أبيقور إلى نتائجه الأخيرة بل أضاف إلى مذهبه المادي مذهبًا روحيًّا يقول بالله والنفس الناطقة، ويستثنيهما من المبدأ القائل إن جميع العلل مادية: ذلك بأن نظام العالم يمنع من الاعتقاد بأنه وليد حركات اتفاقية، وأن الأخلاق والدين تقضي بأن يوجد في الإنسان نفس لا جسمية عاقلة حرة.

١  نشر هذا الفصل أولا في مجلة المقتطف (١٩٣٧) بمناسبة احتفال فرنسا، واحتفال المعاهد العلمية في أنحاء العالم، بانقضاء ثلاثة قرون علي نشر ديكارت كتابة الشهير «مقال في المنهج» وأثبتناه هنا مع بعض تنقيح وزيادة.
٢  مقال فى المنهج، القسم الثالث، مبادئ للفلسفة، القسم الأول، فقرة ٣.
٣  انظر طبعه برنشفيج الصغرى، ص ١٩٢–١٩٣.
٤  قيل «مثالية» في ترجمة «إيديالزم»: وقد رأينا أن نقصر لفظ «مثالية» علي النسبة إلى نظرية أفلاطون في المثل والنسبة إلى المثل الأعلى، وأن نقول «تصورية» للدلالة على المذهب الذي عرفناه فوق، والإفرنج إذ يستعملون لفظًا واحدًا هو «إيديالزم» يضطرون إلى تعيينه بقولهم idobjectif دلالة على النظرية الأفلاطونية وidsubjectif دلالة على المعنى الآخر.
٥  «مبادئ الفلسفة» القسم الثاني: فقرات ٢١، ٢٢، وما بعدها.
٦  «مقال في المنهج» القسم الخامس، و«مبادئ الفلسفة».
٧  كتاب «انفعالات النفس» فقرات ١٢، ١٣، ٢٤، ٢٧، ٤٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤