الفصل الرابع

بليز بسكال

١٦٢٣–١٦٦٢

(١) حياته ومصنفاته

عالم عبقري ومفكر عميق وكاتب مجيد، ولئن لم يكن فيلسوفًا بالمعنى الاصطلاحي فقد خلف أثرًا حقيقًا بالذكر ترامى فعله إلى أيامنا وسيظل فعالًا بلا ريب، ولد في كليرمون (من أعمال فرنسا) وما إن أمكن التحدث إليه حتى بدت منه أمارات ذكاء خارق، وكان والده واسع الثقافة ضليعًا في الرياضيات، وأخذ على نفسه أن يكون معلمه الأوحد ولم يدخله مدرسة، وكان مبدؤه في تعليمه ألا يلقنه شيئًا إلا بعد أن يبين له فائدته، ثم أن يلقنه ما يفوق طاقته حتى يفحص بنفسه ويدرك بنفسه، فأعكفه على الفرنسية واللاتينية واليونانية، وتروي أخته المترجمة لحياته أنه فيما هما في ذلك، والصبي ما يزال في الثانية عشرة، وجد من تلقاء نفسه الأشكال الهندسية، ثم وجد المبادئ، ثم ركب الأدلة حتى بلغ القضية الثانية والثلاثين من الكتاب الأول لإقليدس، فذهل والده وبكى فرحًا وأعطاه كتاب إقليدس فقرأه وحدة، وفي رواية أخرى أقرب إلى التصديق أنه قرأ إقليدس خفية في ساعات معدودات، على أن نبوغه كان قد ظهر واضحًا قبل ذلك بسنة، إذ لحظ ذات مرة أن طبقًا من الخزف إذا ضرب بسكين خرج منه صوت عالٍ ينقطع بوضع اليد على الطبق، فما زال يكرر التجربة حتى وقف على السبب، ووضع رسالة في الأصوات كانت أول مؤلفاته.

وأخذ يحضر المجالس التي كان يعقدها حينذاك علماء باريس كل أسبوع قبل إنشاء أكاديمية العلوم، وكان يساهم في المناقشات ويعرض مسائل جديدة، وفي السادسة عشرة دون رسالة في المخروطات جاز فيها ما كان قد وصل إليه أحدهم، فأعجبوا به، إلا ديكارت فقد تصنَّع عدم المبالاة، وهو في الثامنة عشرة عُين والده جابيًا للضرائب، فرآه يعاني مشقة في حسابها، فنبتت لديه فكرة صنع آلة حاسبة تغني عن القلم وعن كل قاعدة حسابية، فشرع يبحث ويجرب، وطالت تجاربه عشر سنين صنع خلالها خمسين نموذجًا أو تزيد، حتى سجل اختراعه سنة ١٦٤٩ وبعد ثلاث سنين وضع النموذج الأخير، فأثار إعجابًا عامًّا.

وفي الثانية والعشرين اتجه صوب العلم الطبيعي إذ علم أن توريتشلي ملأ أنبوبة زئبقًا وغمسها في حوض مليء بالزئبق فنزل عمود الزئبق في الأنبوبة وترك جزءها الأعلى خاليًا، فاهتم بهذه التجربة جد الاهتمام، وأعادها فنجحت، وبدت دليلًا على وجود الخلاء، ولم يقنع بذلك وتخيل تجارب منوعة، فاستخدم سوائل مختلفة (الماء والزيت والنبيذ) وآلات مختلفة (المواسير والرشاشات والمنافخ والسيفونات) وميولًا مختلفة على الأفق نوفي النهاية اعتقد أنه دلل على وجود الخلاء المطلق ضد أرسطو وديكارت، واعترض معترض، فرد عليه وضمن رده أقوالًا صريحة قوية في شروط المعرفة العلمية وقواعد المنهج القويم، إنه يأبى أن يؤمن بغير التجربة؛ لذا هو يؤمن بالخلاء البادي للحواس، ويسخر من قول القائلين إن الطبيعة تنفر من الخلاء، ويسخر من المادة اللطيفة التي يملئون بها الخلاء والتي لا تُبصَر ولا تُلمس، وكان توريتشلي قد افترض أن ضغط الهواء على سطح الحوض هو الذي يستبقي الزئبق معلقًا في الأنبوبة، فأجرى بسكال التجارب سنة ١٦٤٨ في سفح جبل وفي قمته، في برج كنيسة وفي منزل خاص، فكانت النتيجة أن الزئبق ينخفض بنسبة الارتفاع لأن ضغط الهواء أخف في أعلى منه في أسفل، ثم ربط قوانين توازن السوائل بمبادئ الميكانيكا العامة، فمنهجه المضي من التجربة إلى النظرية، بخلاف ديكارت.

وحوالي ذلك الوقت اتجه اتجاهًا آخر إذ اتصل بقساوسة علماء وقرأ كتبًا دينية، فأدرك إدراكًا قويًّا أن المسيحية تقتضينا أن نحيا لله وحده، أجل أنه كان قد نشأ على التمسك بالفضيلة واحترام العقيدة، كان والده يقول إن العقيدة موضوع إيمان فلا تُبحث بالعقل، وكان هذا القول عاصمًا له من الشك، وفي نفس الوقت صارفًا عن علم اللاهوت، وهذا موقف سيكون له أثره في مذهبه، فوجه همه إلى بلوغ كمال الفضائل المسيحية، حتى أثر في والده نفسه، وفي إحدى أختيه فدخلت الدير، غير أن مجهوداته البالغة كانت قد نالت من صحته منذ الثامنة عشرة، وازدادت صحته سوءًا فيما بعد وانتابته أوجاع لأزمته طول حياته تشتد تارة وتخف أخرى، فأشار عليه الأطباء باللهو وترك التفكير، فأخذ يغشى المجالس، واتصل بنفر من المتعاملين الزنادقة، وقرأ أبكتاتوس، وقرأ مونتني، فكان لكل ذلك أثر في مذهبه، وفطنت أخته الراهبة إلى ما في هذه الحياة الجديدة من خطر على فضيلته ودينه، وأقنعته بالإقلاع عنها واعتزال العالم، وكان حينذاك في الثلاثين، وبعد سنين لجأ إلى دير «بور روايال» وعاش فيه إلى مماته يعاني آلام المرض بصبر وتسليم، ويستأنف العمل العلمي كلما استطاعه، وإلى ذلك العهد يرجع جمعه «لخواطره» في الدعوة إلى الدين، وهو أشهر كتبه، وهو كتاب خالد حقًّا، وإلى ذلك العهد ترجع أبدع مكتشفاته الرياضية، فقد أسس حساب النهايات: حساب التكامل وحساب الاحتمالات، ونظريات أخرى، أهمها نظرية «الروليت»، وقد دعا العلماء إلى المسابقة فيها «باسم مستعار» وعين جائزة مالية للفائز، فتنافس كثيرون، ولكن أحدًا لم يوفق إلى الحلول المطلوبة، فأعلن هو حلوله، فكانت موضع الإعجاب العام.

(٢) منهجه

رأيناه يؤثر التجربة على الاستدلال، فيؤمن بالخلاء البادئ للحواس وينكر على أرسطو وديكارت استدلالهما على امتناعه؛ فهو إذن لا يرى أن تحل المسائل الطبيعية باستنباط نتائج من مبادئ، بل بالتجربة، فلا يعتقد — خلافًا لديكارت — بمنهج واحد يطبق على جميع الموضوعات، بل يذهب إلى أن لكل موضوع منهجًا ينبغي ابتكاره؛ وذلك لأن مقتنع بتنوع الطبيعة إلى جانب خضوعها لقوانين عامة، فيسلم بوجوب «القول بالإجمال أن الاشياء تعمل بالشكل والحركة لأن هذا حق، أما تعيين الأشكال والحركات، وتركيب آلة العالم، فمضحك لأنه عديم الجدوى وموضع ريب وعسير» (خاطرة ٧٩).

وحين يقول إن المبادئ حق، يعني أننا نحسها ونسلمها، لا أننا نتعقلها ونبرهن عليها، إنه يرى أنه كمال الطريقة الهندسية يقوم بحد كل شيء والبرهنة على كل شيء، وأن هذا عمل لا ينتهي، فنقف عند أوليات لا تحد ولا تبرهن، ولكن هذه الأوليات ليست طبيعية، فإن الطبيعة تتغير باستمرار، «وليس هناك من مبدأ، مهما يكن طبيعيًّا مألوفًا منذ الطفولة، إلا ويمكن القول إنه أثر خاطئ للتعليم أو للحواس»، و«ما مبادئنا الطبيعية إلا مبادئ مألوفة بالعادة تختلف باختلافها، العادة طبيعة ثانية تمحو الأولى … وإني لأخشى ألا تكون الطبيعة نفسها إلا عادة أولى»، هنا نرى قارئ مونتني قد تأثر به وأذعن له غير أنه على كل حال يضيف المبادئ والمعارف التي من قبيلها إلى «القلب»: «القلب يحس أن للمكان أبعادًا ثلاثة، وأن الأعداد لا متناهية، وسائر المبادئ الهندسية، والقلب يحس الله، فيتغلب على الشك» (خاطرة ٢٧٨).

أما العقل فهو قوة استدلالية تستنبط النتائج من المقدمات الآتية من القلب والإرادة؛ لذا كان العقل قابلًا لأن يميل إلى كل جانب، ونحن نرى الناس كثيرًا ما لا يؤمنون إلا بما يحبون، فالقلب والعقل متباينان: «عبثًا يحاول العقل زعزعة المبادئ بالاستدلال، فإنها خارجة عن دائرته ولا شأن له فيها، من المضحك أن يطلب العقل إلى القلب الأدلة على مبادئه، كما أن من المضحك أن يطلب القلب إلى العقل الشعور بالقضايا التي يستنبطها» (خاطرة ٢٨٢).

وهكذا يظن بسكال أنه يخرج من الشك، ولكننا نستطيع دائمًا أن نقول إن شعور القلب وليد العادة، والعادة متغيرة، فنعود إلى الشك، بيد أن بسكال سيحاول التفريق بين مقدمات القلب السليم ومقدمات القلب الفاسد، كما سنرى.

يقابل التمييز بين العقل والقلب تمييز مشهور عن بسكال بين الروح الهندسي وروح الدقة، الروح الهندسي يتناول المبادئ محصورة محدودة يدركها كل عقل متنبه ويحس استخدامها بمجرد تطبيق قواعد الاستدلال، أما روح الدقة فمبادئه تكاد لا تُحصى ولا توضع في صيغ محدودة، فإنها موضوع شعور أكثر منها موضوع علم، وتتطلب بصبرة ثاقبة، ولا نوفق إلى إشعار الغير بها إلا بعد عناء شديد، ويستخدم روح الدقة الاستدلال، ولكنه استدلال إضماري طبيعي لا صناعي، وأكثر ما يكون في الأمور الإنسانية والتجارب الطبيعية، «ويندر أن يكون الهندسيون دقيقين، وأن يكون الدقيقون هندسيين».

(٣) الدعوة إلى الدين

أخذ بسكال على نفسه — وهذا رأيه في المعرفة — أن يقنع الزنادقة المستهترين بضرورة اعتناق الدين، وهذا موضوع كتاب «الخواطر» وهو كتاب ملفق من القصاصات التي دوَّنها بسكال تمهيدًا لكتاب منظم، ثم لم يمهله الأجل للعودة إليها وتهذيبها وتأليفها، كتاب غريب ممتع بالرغم من شكله المهلهل، قد نقول بسبب هذا الشكل، وكل قطعة من قطعه آية من آيات النثر الفرنسي.

لا يبدأ بسكال، ورأيه في المعرفة على ما قدمنا، بالتدليل على وجود الله، بل يدع جانبًا «البراهين الميتافيزيقا على وجود الله»؛ لأنها ليست من نوع البراهين الهندسية، وأنها «من البعد على استدلال الناس ومن التعقيد بحيث لا تؤثر إلا قليلًا، وإذا أقنعت بعضهم فليس يدوم اقتناعهم إلا اللحظة التي يرون فيها البرهان، وبعد ساعة يداخلهم الخوف أن يكونوا أخطئوا» (خاطرة ٥٤٣).

هذه العبارة تذكرنا ببعض أقوال ديكارت، ولكنه يفصل القول فيسأل: حين يقول الفلاسفة للملحدين إنه ما عليهم إلا أن يعتبروا عجائب الطبيعة حتى يروا الله رؤية، هل يعتقدون أنهم يقنعونهم بمثل هذه الحجة الواهية؟ وحين يقولون مثلًا إن للحقائق الرياضية أساسًا هو الحقيقة الأولى، هل يؤثرون في الناس؟ ليس إله المسيحيين مجرد صانع الحقائق الهندسية ونظام العناصر، ذلك نصيب الوثنيين والأبيقوريين، وليس هو مجرد إله معني بحياة البشر وخيراتهم، ذلك نصيب اليهود. إله المسيحيين إله محبة وعزاء (٥٥٦).

فالغرض الذي يرمي إليه بسكال الاستغناء عن الميتافيزيقا للرجوع إلى النفس والنظر في حالة الإنسان. «اعرف نفسك»، ذلك هو المبدأ هنا كما عند سقراط، ويتألف منهجه من ثلاث مراحل: في المرحلة الأولى يبين أن المسيحية وحدها تفسر الإنسان وترضي جميع حاجات نفسه؛ وإذن فليست هي معارضة للعقل ولكنها مطابقة له، وفي المرحلة الثانية يحببها إلى النفس حتى تميل إليها بالفعل وتعتنقها، بحيث يحمل الإنسان على طلب الله بدل أن يفرض الله على الإنسان، وفي المرحلة الثالثة يبين حقيقتها، لا بالتدليل على العقائد، بل بما حفظه التاريخ من شواهد محسوسة هي النبوءات والمعجزات، وقد أضحت النفس مستعدة لقبولها.

ما الإنسان إذن؟ الإنسان سر أو لغز، إنه مزيج غريب من حقارة وعظمة، فمن الناحية الواحدة ما هو إلا قصبة وأضعف موجود في الطبيعة، حالما يحاول الإحاطة بالطبيعة يضل في لا متناهيين: اللا متناهي في الكبر واللا متناهي في الصغر وهو نفسه لا متناهٍ في الصغر بجانب الفضاء اللا متناهي وسكوته المروع، ويخرج من هذه المحاولة بأن لا نسبة بينه وبين الطبيعة، وأن العلم ممتنع لامتناع الوقوف على جميع العلل والمعلولات كما يريد العقل الذي يطلب معرفة الأجزاء وانتظامها في الكل، معرفة البداية والنهاية، فلا يفوز إلا بشيء من الوسط، فإذا تحول عن الطبيعة ليتجه إلى نفسه، وجدها ألعوبة بين أيدي قوى خداعة: فالمخيلة تشوِّه الأشياء، تكبر الصغير وتصغر الكبير، وتملي عليه رغباتها، وتغره بسعادة زائفة زائلة، تقود عقله خفية بينما يتوهم العقل أنه هو الذي يقودها، والمنفعة تعميه، والعادة تكوِّن شخصيته كما تشاء الظروف الخارجية، فماذا يبقى للإنسان إلا أن ينساق مع الاضطراب العام، فيتعامى عن نفسه وعن بطلان الحياة الدنيا؟ هذا موقف حقير، ولكنه أحكم موقف إذا كانت تلك حال الإنسان، بيد أن الإنسان، من الناحية الأخرى، إذا كان قصبة، فإنه قصبة مفكرة، وإذا كان العالم يحتويه ويبتلعه كالنقطة، فإنه بفكرة يحتوي العالم (٣٤٨).

أجل، ليس بالعالم من حاجة للتسلح كي يحطمه، يكفي لقتله شيء من البخار أو نقطة ماء، ولكنه أشرف مما يقتله لأنه يعلم أنه يموت ويعلم ما للعالم من ميزة عليه، والعالم لا يدري من هذا شيئًا (٣٤٧).

وليس يوجد التناقض في طبيعة الإنسان فحسب، ولكنه يوجد أيضًا في المواقف الفلسفية من اليقين: الاعتقاديون والشكاك في حرب متصلة، ولكل فريق موضع خطأ، فإننا عاجزون عن البرهنة عجزًا لا يقوى عليه المذهب الاعتقادي، ولدينا فكرة عن الحقيقة لا يقوى عليها مذهب الشك، ويوجد التناقض أيضًا في أفعال الإنسان ومحدثاته، نعتقد بوجوب سيادة العدالة في الدول وبقوانين طبيعية يجب أن تحتذيها القوانين المدنية (٣٠٩، ٣٧٥)، ولكن العدالة التي وضعت بالفعل تختلف باختلاف الدول، تحرم في الواحدة ما تبيحه في الأخرى: «لسنا نرى عدلًا أو ظلمًا إلا ويختلف كيفًا باختلاف الإقليم: ثلاث درجات ارتفاع من القطب تقلب الفقه كله، ودرجة من درجات الطول تقرر الحق … إنها لعدالة مضحكة تلك التي يحدها نهر! الحق في هذه الجهة من البرانس، والباطل فيما وراءها».

جميع النقائض ترجع إلى تناقض العظمة والحقارة: إن في الإنسان قوة طبيعية للخير والحق والسعادة، غير أن هذه القوة تنصرف إلى موضوعات لا تلائمها، ولم يكن الإنسان ليحس نفسه شيئًا مهينًا لو لم يكن يعلم أنه موجود لغايات أسمى من التي تعرض له في هذه الحياة، وإذن فلن يصدق مذهب في تفسير الإنسان وتدبيره إلا أن يكون محتويًا على ضدين وعلى العلاقة بينهما، وكل مذهب يقتصر على وجهة واحدة، وكل مذهب يدرك تضاد طبيعتنا ويدع الضدين متجاورين، ليس مذهب حق وحياة، لقد عرف أبكتانوس أن الإنسان عظيم بالفكر، وعرف واجبات الإنسان إذ طلب إليه أن يعتبر الله خيره الأعظم، وأن يخضع للعناية الإلهية دون تذمر، ولكنه والرواقيين جميعًا أضافوا إليه القدرة على توجيه أفكاره بنفسه والحصول بذلك على جميع الفضائل، فجهلوا ضعف الإنسان وأعلنوا مبادئ كبرياء شيطاني، وجاء مذهبهم عقيمًا لأنهم يخاطبون إنسانًا موهومًا يفترضون له السيطرة التامة على نفسه، وراح مونتني يفحص عمَّا يستطيعه العقل دون نور الإيمان، فحكم على العقل بالشك، وجهل عظمة الإنسان، وبدا كأنه يحله من كل واجب،١ الأول عرف عظمه الإنسان وجهل عجزه، والثاني عرف ضعف الإنسان وجهل شعوره بالواجب.

وليس يعطينا الجمع بينهما مذهبًا كاملًا، مما قد يلوح، إن حكماء هذا العالم يضعون الأضداد في موضوع واحد بعينه هو الطبيعة الإنسانية، فيراها البعض عظيمة، ويراها البعض الآخر حقيرة، بينما يعلمنا الدين أن الحقارة راجعة إلى الطبيعة، وأن الفضيلة راجعة إلى النعمة الإلهية، لقد فات أبكتاتوس ومونتني جميعًا أن حال الإنسان الراهن يختلف عن حاله وقت الخلق، ولم يعتبرا عواقب سقطة آدم وضرورة المخلص لإصلاح الحال، وهكذا يحطم أحدهما الآخر ليهيئا محلًّا للإنجيل الذي يوفق بين الأضداد بفن إلهي لم يكن ليصدر إلا عن الله، فيعلن إلينا أن عظمة الإنسان آتية من أصله الإلهي، من أنه صنع الله، وأن شقاءه آتٍ من خطيئة آدم التي أفسدت الطبيعة، هاتان الحالتان المتعاقبتان، حالة الخلق وحالة الخطيئة، تفسران الوجهتين المتلازمتين اللتين كشف عنهما التحليل.

وليس يمكن أن يظل الكافر عديم المبالاة بمصيره، «إن خلود النفس من الأهمية بحيث لا يظل عدم المبالاة بالإضافة إليه إلا من فقد كل شعور، إن أفعالنا وأفكارنا تتخذ سبلًا مختلفة حسبما كان هناك خيرات أبدية ترجى أو لم يكن، فالذين يمكن تسميتهم عقلاء طائفتان: طائفة يعبدون الله بكل قلبهم لأنهم يعرفونه، وطائفة يطلبونه من كل قلبهم لأنهم لا يعرفونه» (خاطرة ١٩٤). فإعراض الكافر عن التفكير في شقائه وحقارته لن يغير شيئًا من حاله، فإن الإنسان مائت حتمًا، فإذا لفتنا نظره إلى الموت فإنما نلفت نظره إلى نفسه وإلى منفعته الكبرى، هذا ما ينبغي أن يفهمه قبل كل شيء، وهذا ما ينبغي أن نعاونه على فهمه لنوجهه من باطن نحو الدين، فيبدو له الدين حقًّا لأن الدين يعرف شقاءه، ويبدو له مستحبًّا لأنه يعده بالعلاج، فلنذكر الملحد بالموت وبالأبدية ماذا لديه من القول عنهما؟ هل يقول إنه لا يبالي؟ أليس منتهى الحماقة، ونحن نعنى أكبر العناية بصغائر الأمور، ألا نثير المسألة الكبرى التي يتوقف عليها النعيم الأبدي أو الشقاء الأبدي؟

هل يقول إن العقل يثبت أن الدين غير مفهوم؟ فليكن ولكن كيف نستنتج من هذا أن الدين ليس حقًّا؟ لنفرض الغموض متساويًا من جهة إثبات الدين ومن جهة نفيه، يبقى أن الاختيار بينهما واجب، ولنلاحظ أن عدم الاختيار هو في الحقيقة اختيار ضمني للنفي، من حيث إننا حينئذٍ نحيا كما لو لم يكن الله موجودًا ولم تكن النفس خالدة، وهو اختيار الجهة الأشد خطرًا، من حيث إنه استهداف للعذاب الأبدي، أما إذا راهنَّا على حقيقة الدين فإننا نلتزم بحدوده وتكاليفه، ونفقد الحق في العيش على ما نشتهي، ولكنَّا نربح حظ الحصول على النعيم الأبدي، فنضحي بالخيرات المتناهية في سبيل الخير اللا متناهي، وحتى لو افترضنا أن الحظ ضئيل جدًّا في جانب وجود الله، فإن الحظ في جانب صدق القول المعارض لا يمكن أن يكون إلا متناهيًا، فالنتيجة واضحة: «حيثما يكن اللا متناهي ولا يكون هناك حظوظ لا متناهية للخسارة في مقابل حظ الربح، فليس من سبيل للتردد، يجب بذل كل شيء» (٢٣٣).

وحتى لو قدرنا خيبة الأمل في الحياة الآجلة، فليس لنا أن نأسف على شيء — وهذا ما يعطي حجة الرهان قوتها الظافرة — فإن المسيحي أحسن حالًا من الكافر وأسعد في هذه الحياة العاجلة، إنه أمين صالح متواضع عارف للجميل محسن صديق وفي، فإذا رجعنا إلى منفعتنا الحقة فحسب، وجب علينا أن نتمنى أن يكون الدين حقًّا (٢٣٣) فإذا كسبنا كسبنا كل شيء، وإذا خسرنا لم نخسر شيئًا.

ذلك هو المذهب، فيه شيء من منهج القديس أوغسطين، وبينه وبين منهج ديكارت شبه قوي، عند ديكارت نجد مونتني من جهة والعلم من جهة أخرى، فيمضي المنهج من الشك إلى اليقين، وعند بسكال نجد مونتني من جهة والدين من جهة أخرى، فيمضي المنهج من القلق إلى الإيمان، ويقول اللاهوتيون إن دلائل الوحي هي الدلائل الوحيدة على العقائد الدينية الفائقة للطبيعة، وأن النعمة الإلهية هي الوسيلة الوحيدة للإيمان، فمد بسكال هذا القول إلى الحقائق العقلية الطبيعية، مثل وجود الله وخلود النفس، وأراد أن يكون التدليل، في العلم الطبيعي وفي مصير الإنسان على السواء، بالتجربة (الظاهرة والباطنة) لا بالاستدلال العقلي، فشق طريقًا سيلجه كثيرون من بعده: أشهرهم كنط الذي يقدم العقل العملي على العقل النظري، وأصحاب الپراجماتزم على اختلافهم الذين يمتحنون القضايا الميتافيزيقية بفائدتها العملية، والسبب واحد عندهم جميعًا: هو الشك في العقل، وإرادة تجاوز الحس مع ذلك، وقد أعطانا بسكال نظرة المسيحية إلى الوجود في هذه العبارة الجامعة التي تلخص مذهبه أحسن تلخيص حيث قال «جميع الأجسام، السماء والنجوم، الأرض وكمالها، لا تساوي أدنى الأرواح، إذ أنه يعلم كل هذا ويعلم ذاته، وليست تعلم الأجسام شيئًا، الأجسام جميعًا والأرواح جميعًا وجميع محدثاتها لا تساوي أدني حركة من حركات المحبة، فإن هذا يرجع إلى مرتبة أعلى بما لا نهاية» (٧٩٣) تلك هي «المراتب الثلاث» التي أذاعتها عبارته هذه: الجسم والروح ومحبة الله. ولأجل إقناع الناس بهذه النظرة كتب «الخواطر». وبسبب اقتناعه بها زهد في الدنيا وتحمل الآلام المبرحة.

١  إن بسكال يتجنى على مونتني ويزعم أنه انتهى إلي حال هي شر من اليأس، حال عدم المبالاة بالنجاة، حال خلو من الخوف ومن الندم (خاطرة ٦٣). والحقيقة أن مونتني يوجهنا إلى الإيمان مثل بسكال (أنظر ما قلناه: ١٧هـ).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤