الفصل العاشر

حياته ومصنفاته

(١) من ليبنتز إلى هيوم

قيل عن سقراط إنه يشطر الفلسفة اليونانية شطرين: ما قبله وما بعده، ودُعي ديكارت أبا الفلسفة الحديثة واعتبر الحد الفاصل بين القديم والجديد في تطور الفكر الأوربي، كذلك نقول عن كنط إنه يشطر الفلسفة الحديثة نفسها شطرين، أجل لقد أخذ الشيء الكثير عمَّن سبقوه، من ديكارت إلى هيوم ورسو، وجرى في تيارهم، ولكن تفكيره أدى به إلى وجهة جديدة سيطرت على القرن التاسع عشر، ولم تبدأ العقول في التحرُّر منها إلا منذ عهد قريب، وسنحاول أولًا أن نبين تدرج هذا التفكير، فنترجم لحياة كنط العقلية، وهي تكاد تكون كل حياته، فقد تقضَّت حياته الخارجية في مدينة واحدة أو منطقة واحدة، وكانت منظمة تنظيمًا دقيقًا تسير كالآلة في العمل والراحة والنوم، ولا يتخللها من حوادث سوى الحوادث العلمية.

ولد كنط بكونجسبرج من أبوين فقيرين على جانب عظيم من التقوى والفضيلة، ينتميان إلى شيعة بروتستانتية تدعى الشيعة التقوية piétisme تستمسك بالعقيدة اللوثرية الأساسية القائلة إن الإيمان يبرر المؤمن، وترى أن محل الدين الإرادة لا العقل، وتعلي من شأن القلب والحياة الباطنة؛ ومن ثمة تقول إن الإيمان هو الذي تؤيده الأعمال، وتعتبر المسيحية في جوهرها تقوى ومحبة الله، وتعتبر اللاهوت تفسيرًا مصطنعًا أقحم عليها إقحامًا، نشأ كنط على هذا المذهب وتشبع به في المنزل والمدرسة والجامعة، فكان لذلك أثره في توجيه فكره حتى كوَّن فلسفة تميز تمييزًا باتًّا بين صورة خالصة ومادة، وحتى قال في وصف هذه الفلسفة: «أردت أن أهدم العلم (بما بعد الطبيعة) لأقيم الإيمان».
دخل في الثامنة إحدى المدارس التابعة للشيعة التقوية، وأتم برنامجها في السادسة عشرة، وكان أظهر ما أفاده فيها شيئين: إعجابًا باللغة اللاتنينة وما تنطوي عليه قواعدها وتراكيبها من روح الجد والنظام، حتى كان مطمحه حين ذاك أن يتوفر على فقه اللغة، وإعجابًا بالرواقية الرومانية وما تتحلى به من نبل وشجاعة، وسيبقى هذان الأثران في نفسه، ويدخلان في فلسفته، وبعد المدرسة اتَّجه إلى كلية الفلسفة بجامعة مدينته يقصد إلى دراسة اللاهوت ليصير قسيسًا، ولكنه عدل عن هذا القصد فيما بعد، تتلمذ لأستاذ بالكلية للرياضيات والفلسفة من أتباع التقوية ومن أتباع فولف١ ناشر فلسفة ليبنتز الموسومة بالعقلية، فعرف بواسطته مؤلفات نيوتن، فكانت عنصرًا آخر هامًّا من عناصر فكره، ولكنه حار بين التقوية والعقلية، الأولى تشيد بالإرادة والعاطفة كما ذكرنا، والثانية تشيد بالعقل والعلم القياسي وتؤلف التقوى الحقة من «نور وفضيلة» وتعلن أن من الخطأ على السواء «الاعتقاد بأن المرء يستطيع أن يحب أخاه الإنسان دون أن يخدمه، وبأنه يستطيع أن يحب الله دون أن يعرفه»، وفي ١٧٤٦ تقدَّمَ برسالة جامعية حاول فيها التوفيق بين ديكارت وليبنتز في مسألة قياس قوة جسم المتحرك.

توفي والده، فرأى أن يكسب رزقه بالتعليم في أسرة غنية، وزاول هذا العمل في ثلاث أسر على التوالي من أهل المنطقة، قضى في ذلك تسع سنين لم ينقطع أثناءها عن التحصيل والتفكير، ونشر في نهايتها (١٧٥٥) كتابًا في «التاريخ العام للطبيعة ونظرية السماء» غفلًا من اسمه، طبق فيه على أصل العالم القوانين التي فسر بها نيوتن النظام الراهن للعالم، وعرض في تفسير تكوين العالم نظرية آلية كثيرة الشبه بالنظرية التي سيعرضها لاپلاس بعد أربعين سنة، وفي تلك السنة استطاع أن يستقر بكونجسبرج، وحصل على درجتين جامعيتين: أولاهما برسالة «في النار» والثانية برسالة «في المبادئ الأولى للمعرفة الميتافيزيقية» يقبل فيها دليل العلل الغائية على وجود الله بدون تحفظ، ثم عين أستاذًا خاصًّا بالجامعة.

إلى ذلك الوقت كان تحت تأثير فولف ونيوتن ميتافيزيقيًّا وعالمًا طبيعيُّا، ففي رسالة نشرها سنة ١٧٥٥ دافع عن تصور ليبنتز للحرية وقال إن الإرادة لا تشذ عن مبدأ السبب الكافي، وفي سنة ١٧٥٨ نشر رسالة أيَّد فيها تفاؤل ليبنتز القائل إن الله لكماله خلق بالضرورة خير العوالم الممكنة، وحاول الرد على القائلين إن فكرة خير العوالم الممكنة فكرة جوفاء غير ذات موضوع، ثم قرأ شفتسبري وهاتشيسون وهيوم، وقرأ روسو، فتغير تفكيره تغيرًا عميقًا.

وجد عند الثلاثة الأول القول بحس خلقي يدرك المعاني الخلقية بداهة، ويقرر الخير والشر دون حاجة إلى تدليل، وبعبارة أخرى وجد عندهم فلسفة خلقية مستقلة عن العقل، ومستقلة عن الدين، ووجد عندهم أيضًا منهجًا قائمًا على التحليل النفسي، وأكبر منهم منهجهم هذا في الملاحظة الباطنة، واكتشافهم أن قوة الشعور بالخير غير قوة تصور الحق، وأن الشعور دون العقل هو الذي يقدم للعمل الخلقي موضوعات محققة وبواعث فاعلية، وأرجع «الخلقية» في صميمها إلى الشعور بالجمال وبكرامة الطبيعة الإنسانية، ورأى أن هذا الشعور غير مرتبط بموضوع جزئي، وأنه من الممكن لذلك أن يصير باعثًا كليًّا للعمل.

وكان تأثير هيوم أبعد مدًى، وقال كنط فيما بعد إن هيوم أيقظه من سباته الاعتقادي، وكان ذلك برأيه في مبدأ العلية بنوع خاص، إذ كان قد قال إن مبدأ العلية ليس قضية تحليلية، أي إن المعلول ليس متضمنًا في العلة أو مرتبطًا بها ارتباطًا ضروريًّا، وإن الضرورة التي تبين له ما هي إلا وليدة عادة تتكون بتكرار التجربة، سلم كنط بالملاحظة الأولى، ولكنه فطن إلى أن التجربة لا تولد ضرورة بمعنى الكلمة، وأن العلم قائم على مثل هذه الضرورة، وأن قيام العلم أمر واقع يمنع من قبول الشك ومن الاكتفاء بالتجربة فحسب، فيجب أن يكون مبدأ العلية مبدأ أوليًّا في العقل، وبفضله تتحول القضية التجريبية إلى قضية أولية كلية ضرورية، ويجب إذن الفحص عن سائر المبادئ المطوية في العقل وتعيين وظائفها في المعرفة العلمية، وتلك هي الفكرة النقدية التي بنى عليها كنط فلسفته، ولكنها لن تنضج عنده إلا بعد زمن غير قصير.

أما روسو فكان يدعو إلى الرجوع للطبيعة أي للفطرة خالصة ممَّا غشاها به المجتمع من عرف وتقليد، وقد قال كنط إنه كان يعتقد أن العلم أكبر عنوان للمجلد، والغاية القصوى للإنسانية، حتى احتقر الشعب الجاهل، فرفع روسو الغشاوة عن بصيرته وعلمه أن حال الطبيعة أسمى من حال المدنية، وأن التربية يجب أن تكون سلبية في الأكثر، فتقتصر على ضمان حرية الميول الطبيعية، وتنبذ إكراه العرف المصطنع، إن روسو عالم الأخلاق، فكما أن نيوتن وجد المبدأ الذي يربط ما بين قوانين الطبيعة المادية، كذلك استكشف روسو الحقيقة البسيطة التي تضيء الطبيعة الإنسانية إلى أعماقها، وهي الخلقية الصافية المستصفاة من كل إضافة زائفة.

(٢) نقد الميتافيزيقا

نأتي الآن إلى مرحلة ثانية من ١٧٦٠ إلى ١٧٧٠ شرع فيها كنط ينقد الفلسفة العقلية في النظريات والخلقيات قبل أن يستبين مذهبه، ففي رسالة بعنوان «الأساس الممكن الوحيد للبرهنة على وجود الله» (١٧٦٣) يذكر أربعة أدلة على وجود الله، فينقد الدليل الوجودي الذي يستخرج الوجود كمحمول من فكرة الله كموضوع، ويقول: ليس الوجود (العيني) محمولًا متضمنًا في فكرة، ثم ينقد الدليل الطبيعي الذي ينتقل من وجود حادث إلى وجود ضرروي كامل، فيحتج بأن هذا الدليل يذهب من الضروري إلى الكامل كأنهما متساوقان فيعود إلى الدليل الوجودي، وينقد دليل العلل الغائية بحجة أن كمال العالم نسبي فلا يدل بذاته على موجود كلي الكمال، وأن هذا الدليل أيضًا يعود إلى الدليل الوجودي، يبقى دليل يذهب من الممكن إلى المطلق، فيراه صحيحًا لأن الممكن لا يعقل بما هو كذلك إلا بالإضافة إلى موجود عيني ضروي لولاه لكان الممكن ممتنعًا، وهذا خلف، ويرى كنط أن الأدلة الثلاثة السالفة إذا بنيت على هذا الدليل صارت صحيحة.

وفي «دراسة في وضوح مبادئ العلم الإلهي النظري والأخلاق» (١٧٦٤) يذهب إلى أن العقل المنطقي لا يجد في ذاته حقائق معينة، وإنما يجد مبادئ عامة جوفاء، كمبدأ الذاتية الذي لا يعطينا بنفسه موضوعًا للعلم، ومن هذا القبيل فكرتا الواجب والكمال، وهما في الفلسفة العقلية الفكرتان الأساسيتان للأخلاق، ففكرة الكمال لا تعرفنا بالكامل الذي يجب طلبه وما فكرة الواجب إلَّا فكرة الضرورة القانونية الخالية من كل تعيين.

وفي «أحلام واهم معبرة بأحلام الميتافيزيقا» (١٧٦٦) ينطق العنوان بقصد المؤلف إلى التهكم والنقد، الواهم أو الإشراقي هو الذي يدعي الاتصال بموجودات روحية عليا، مثل سويدنبورج السويدي معاصر كنط، والميتافيزيقي أيضًا يتحدث عن مثل هذه الموجودات، ولكنه يزدري الإشراقي، فهو يعتقد إذن أن ليس لها تجربة مباشرة، وهو مضطر إلى الإقرار بأنَّه لا يدركها في أنفسها، وأنه إنما يعرفها بضرب من المعرفة السلبية، وفي هذه الحالة تكون الميتافيزيقا علم حدود العقل الإنساني، ولا تستطيع مجاوزة التجربة التي هي المعرفة الحقة، ولا بأس في ذلك، لأن هذا الذي يفوت عملنا ويعتبر ضروريًّا لتنظيم حياتنا الخلقية، وهو عالم الأرواح، هو موضوع إيمان لا موضوع برهان، على أن تصور مثل هذا العالم قد تصبح له قيمة لو جاءت وقائع تثبت أن ثمة وحدة أو مشاركة روحية بين الموجودات العاقلة، وقد يكون الضمير الخلقي إحدى هذه الوقائع لما ينطوي عليه من الواجب، أي تقرير ما يجب أن يكون بغَضِّ النظر عن التجربة، ولما تفترض صفته الكلية من الارتباط بين جميع الضمائر، وقد يمكن تأويله بأنه وحي بعالم معقول تخضع فيه الإرادات الجزئية لقوانين خاصة أو لإرادة كلية.

وكانت نقطة التحول إلى فلسفته رسالة باللاتينية في «صورة ومبادئ العالم المحسوس والعالم المعقول» (١٧٧٠) خوَّلته الحق في اعتلاء كرسي المنطق وما بعد الطبيعة، يذهب فيها إلى أن المعرفتين الحسية والعقلية تختلفان، ليس فقد بدرجة التمييز كما يقول العقليون، بل كل الاختلاف، المعرفة الحسية تؤدي إلينا كيفيات، وهذه الكيفيات تبدو في المكان والزمان، والمكان والزمان معنيان كليان، فهما إذن من مصدر آخر غير التجربة، هما صورتان يفرضهما الفكر على الكيفيات المحسوسة، فالمعرفة الحسية مجموعة ظواهر، أما المعرفة العقلية فتلوح كأنها تظهرنا على الأشياء كما هي في نفسها، إذ تمدنا بمبادئ ومعانٍ مطلقة لا تمت إلى المحسوس بسبب، بل إنها تقع في التناقض إذا أرادات تطبيقها عليه: فمثلًا المبدأ القائل إن المركب يفترض البسيط، اعتمد عليه ليبنتز فوصل إلى أن العالم مركب من بسائط، ولكننا لا نصل أبدًا إلى البسيط بسبب القسمة إلى ما لا نهاية، ثم إن المعاني المنطوية في ذلك المبدأ، وهي معاني الكل والبسيط والمركب، وأيضًا المعاني التي يستخدمها ليبنتز في المونادولوجيا، وهي معاني الإمكان والوجود والضرورة والجوهر والعلة، لا تدخل كأجزاء في أي تصور حسي، وليست مستخرجة من التصور الحسي، فالمحسوس والمعقول متخارجان متغايران.

(٣) وضع الفلسفة النقدية

عكف كنط على النتائج التي بلغ إليها يعيد فيها النظر ويلائم بينها، وبعد عشر سنين (١٧٨١) أخرج كتابة الأكبر«نقد العقل الخالص النظري» يبين فيه كيف وإلى أي حد تتطابق معاني العقل ومدركات الحس، فقرر أن المعاني لا تُستفاد من الأشياء، على ما يزعم الحسيون، وأن الأشياء لا تُستفاد من المعاني، على ما يزعم العقليون، ولكن المعاني هي الشروط الأولية المتعلقة بها المعرفة الحسية، فمعنيا المكان والزمان يطبقان على الكيفيات المحسوسة فيجعلان منها ظواهر، وليس المكان والزمان شيئين محسوسين، ومعانٍ أخرى أو مقولات اثنتا عشرة تطبق على الظواهر فتجعل منها قضايا علمية أي معارف كلية ضرورية، وليس في التجربة كلية وضرورة، ومعانٍ أخرى ثلاثة، هي معاني النفس والعالم والله، ليس لها في التجربة موضوع تنطبق عليه، وكل ما يدعي العقل إثباته بشأنها غلط، ففي هذا الكتاب تلقى الرسائل النظرية التي لخصناها في العدد السابق، ومحصله أن الفكر حاصل بذاته على شرائط المعرفة، وأن الأشياء تدور حوله لكي تصير موضوع إدراك وعلم، ولا يدور هو حولها كما كان المعتقد من قبل، وهذه هي الثورة التي أحدثها كنط في عالم الفكر، وشبهها بالثورة التي أحدثها كوپرنك في عالم الفلك، ولكي يقرب هذا المذهب إلى الإذهان ويصحح ما جرى من الأخطاء في فهمه، وضع رسالة أسماها «مقدمة لكل ميتافيزيقا مستقبلة تريد أن تعتبر علمًا» (١٧٨٣).

ثم تحول إلى فلسفة الأخلاق، فصنَّف فيها كتابين: الأول «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» (١٧٨٥) والثاني «نقد العقل العملي» (١٧٨٨) يكمل به الكتاب السالف، وخلاصة موقفه فيهما أنه لما كان العلم كليًّا ضروريًّا أي صادرًا عن العقل، فيلزم أن الفلسفة الخلقية لا تقوم على التجربة الظاهرة، ولا على حس باطن (كما كان اعتقد هو تحت تأثير الفلاسفة الإنجليز وروسو)، بل على العقل وحده، فإن العقل هو الذي يمدنا بمعنى الواجب الذي هو الركن الركين في الأخلاق، أما معاني الله والنفس والحرية والخلود، التي كانت الفلسفة السلفية تقيم الأخلاق عليها، فلا سبيل إلى اعتبارها أساسًا لها بعد أن بيَّن «نقد العقل النظري» استحالة العلم بها، على أنه يمكن الإيمان بها إذا أدَّى بنا إليها تحليل المعاني الأخلاقية أنفسها، فتنبى الميتافيزيقا على الأخلاق بدل أن تبنى الأخلاق على الميتافيزيقا.

ورأى كنط ضرورة الوصل بين العقلين النظري والعملي، فدوَّن كتابه «نقد الحكم» (١٧٩٠) أو فلسفة الجمال والغائية؛ ذلك أن موضوع العقل هو الحق الذي مظهره الضرورة والآلية في الطبيعة، وموضوع الإرادة الخير بواسطة الحرية، ولدينا قوة أخرى حاكمة بالجمال وبالغائية، أي واضعة نسبة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، بين الضرورة الطبيعية والحرية، باعتبار الجمال والغائية معلولين للحرية تعمل في مادة خاضعة لقوانين الآلية، فموضوع هذه القوة متوسط بين الحق والخير، فالقوة نفسها متوسطة بين العقل والإرادة، وتسميتها بالحكم آتية من المماثلة بين مظاهرها وبين الحكم المنطقي، فإنها كالحكم (عند كنط كما سنرى) توقع نسبة بين شيئين متغايرين، الحكم بالجمال آني تلقائي، والحكم بالغائية وليد التجربة والاستدلال، والحكمان ذاتيان، ليس لهما قيمة موضوعية، ولكنهما صادران بموجب تركيب الفكر، وبخاصة حين ننظر إلى عالم الأحياء، الغائية تكمل الآلية، وهي الواسطة بين العلم الآلي والإيمان بالإله الخالق الذي هدتنا إليه الأخلاق، وأداة الوصل بين الطبيعة والحرية.

وكان الجدل حول الدين شديدًا، فضلًا عمَّا للدين في ذاته من أهمية لدى الفيلسوف، فحرر كنط كتابًا بعنوان «الدين في حدود العقل الخالص» (١٧٩٣) يرجع فيه الدين إلى مجرد عاطفة، ويؤول العقائد تأويلًا رمزيًّا، كما يريد المذهب التقوي الذي نشأ عليه، وكان هو انقطع منذ زمن طويل عن الاختلاف إلى الكنائس وعن كل عبادة خارجية، فلمَّا ظهر الكتاب وجهت إلى المؤلف رسالة ملكية تعرب عنع عدم رضا الملك لرؤيته يشوِّه في ذلك الكتاب وفي رسائل أخرى بعض العقائد الجوهرية في المسيحية أو يحط من قدرها، وتطلب منه الكفَّ عن نشر مثل هذه الأضاليل أو عرض نفسه لإجراءات صارمة، فأجاب بأن موقفه الفلسفي يحترم المسيحية، وتعهد بعدم الكتابة أو التعليم في الدين بصفته «تابعا جد أمين لجلالة الملك»، وقال فيما بعد إنه تعتمد وضع هذا التحفظ لأنه أراد أن يؤقت تعهده بحياة الملك، وبالفعل عاد إلى الكتابة في المسائل الدينية بعد وفاة الملك.

ورأى كنط أن يدل على كيفية تنظيم العلم والعمل، أي أن يكمل فلسفته النقدية بميتافيزيقا، إذ أن النقد لا يعني إلغاء الميتافيزيقا بل التمهيد لها باعتبارها علمًا كليًّا للتجربة، لا كالميتافيزيقا القديمة التي تدور على معانٍ جوفاء مقطوعة الصلة بالتجربة، ولما كان العقل مشرعًا على نحوين: أحدهما بالفهم في ميدان الطبيعة، والآخر بالإرادة في ميدان الحرية، كانت الميتافيزيقا على نوعين: ميتافيزيقا الطبيعة أو فلسفة العلوم الطبيعية وميتافيزيقا الأخلاق العملية، فمن الوجهة الأولى وضع «المبادئ الميتافيزيقية للعلم الطبيعي» أي خصائص المادة وقوانين الحركة، و«الانتقال من المبادئ الميتافيزيقية للعلم الطبيعي إلى الفيزيقا» أي إلى الظواهر الطبيعية، ومن الجهة الثانية نشر «رسالة في السلام الدائم» (١٧٩٥) ثم «ميتافيزيقا الأخلاق» (١٧٩٧) في جزأين: الأول عنوانه «المبادئ الميتافيزيقية الأولى لمذهب الحق» وعنوان الثاني «المبادئ الميتافيزيقية الأولى لمذهب الفضيلة» وهما يتناولان تطبيق الكليات في الجزئيات وليس فيهما شيء يعتبر جديدًا، بل هما ينمان عن ضعف الشيخوخة.

وفي الواقع شعر كنط في السنة التي ظهر فيها كتابه الأخير بانحطاط قواه العقلية، فاعتزل التعليم بالجامعة بعد أن زاوله نيفًا وأربعين سنة، محاضرًا أثناءها في شتى العلوم، فضلًا عن علوم الفلسفة، مثل القانون والتربية وعلم الإنسان والجغرافيا الطبيعية والميكانيكا والرياضيات والمعادن، مؤلفًا في كل ذلك كتبًا ومقالات، فقد كان متوفرًا بكليته على العلم، لم يتزوَّج، ولم يكن له مع أقرب أقربائه سوى علاقات متباعدة، وإن كان يحلو له الاجتماع بالأصدقاء حول مائدة الطعام، وبغير الجامعيين منهم على الخصوص، والتبسط معهم في أحاديث الأسفار والأدب والاقتصاد، فيفيد منهم معارف لم يكن يصادفها بنفسه، وأخذت حالته الجسمية والعقلية تسوء بمر الزمن حتى فقد البصر والذاكرة، ولما حضرته الوفاة كانت كلمته الأخيرة قوله: «حسنًا».

١  كان لفولف Christian Wolf (١٦٧٩–١٧٥٤) تأثير كبير في ألمانيا بدروسه وكتبه الموضوعة على نسق في جميع أقسام الفلسفة، فأذاع مذهب ليبنتز في الجامعات والأوساط المثقفة، وظلت الفلسفة الألمانية إلى أمد بعيد تصطنع لغة كتبه وبرامجها ومناهجها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤