الفصل الثاني

الفلسفة الخلقية والاجتماعية

(١) لورد شفتسبري (١٦٧١–١٧١٣)

المذاهب التي نجملها في هذ الفصل تؤلف موقفًا وسطًا بين مذهب الإنانية الذي يمثله هوبس، وبين المذهب العقلي الذي يريد أن يرجع الأخلاق إلى قواعد ثابتة، فإن أصحاب هذا الموقف الوسط يستهجنون الأنانية ويرون بينها وبين الأخلاق الصحيحة مسافة كبيرة، ولكن المذهب الحسي أضعف ثقتهم بالعقل، فلجئوا إلى العاطفة وطلبوا إليها أن تمدهم بأسس الأخلاق، وأولهم شفتسبري حفيد اللورد الذي عرفه لوك.

يذهب شفتسبري في كتابه «بحوث في الفضيلة» إلى أن ليس بصحيح أن الميل الأساسي في الإنسان هو محبة الذات، إن في الإنسان ميولًا اجتماعية طبيعية، بل إن في الحيوان مثل هذه الميول، وهي في كل نوع موجهة لخير النوع، وهي صنع غاية تحقق بها النظام الكلي، لقد بدَّد هوبس معنى الأخلاق، وهدم لوك أساس الأخلاق بنقده للمعاني الغريزية واستبعاده كل غريزة طبيعية، ليس يمكن الادِّعاء أن معنى المحبة والعدالة مستمدَّان من التجربة وحدها أو من الدين وحده، إن هناك غريزة تربط الفرد بالنوع، فلم يعِشِ الإنسان قط ولا يستطيع أن يعيش متوحدًا، ومن الخطأ المعارضة بين حال الطبيعة وحال اجتماع وإذا ما عدنا إلى أنفسنا وجدنا فينا عواطف لا إرادية، هي الإعجاب بالنبل والخير، واحتقار الخسة والخبث، وذلك هو الحس الخلقي، لدينا حس باطن قوامه محبة النظام والجمال، وهذا الحس يدرك الخير والشر في الأفعال إدراكًا بديهيًّا مما يدرك البصر الألوان في الأشياء، فإذا طاوعناه وجدنا الإيثار يحدث في النفس اغتباطًا لطيفًا بما نهيئه للغير من سعادة، فيتفق الإيثار والأثرة ولكنها أثرة يفوق الاغتباط بها الاغتباط باللذات الحسية العنيفة، ويكفل الأخذ بها النظام والتناسق في الحياة الفردية والحياة الاجتماعية في الوقت نفسه.

(٢) فرنسيس هاتشيسون (١٦٩٤–١٧٤٧)

نشر عدة كتب في الأخلاق، أهمها كتاب «الفحص عن أصل معنى الجمال والفضيلة» (١٧٢٥) وعين أستاذًا بجامعة جلاسكو في سنة ١٧٢٩، ويقتصر عمله على ترتيب آراء شفتسبري والتوسع في شرحها والتدليل عليها، وهو يذهب إلى أن لنا حسًّا للخير الخلقي، وأنه مع ذلك لا يغني عن العقل وعن التجربة، فالعقل يستنبط الوسائل لتحقيق غايات ذلك الحس، والتجربة تظهرنا على معلولات الأفعال وتعلمنا أن خير الأفعال ما عاد بأكبر سعادة على أكبر عدد من الناس، والحس الخلقي منحه من الله ودليل على حكمته السامية من حيث إن هذا الحس لا يقر إلا الافعال النافعة للغير أو العائدة علينا بخير شخصي يتفق مع خير الغير وهو حس أصيل لا يرجع إلى الدين ولا إلى النفع الاجتماعي، أما أنه لا يرجع إلى الدين فالشاهد عليه ما نراه من بعض الناس الذين لا يعرفون الله ولا ينتظرون منه ثوابًا وهم حاصلون مع ذلك على معنى رفيع للشرف، وإذا استبعدنا الحس الخلقي ولم نعتبر سوى الجزاء الإلهي، كانت أفعالنا صادرة عن إغراء الثواب أو خوف العقاب لا عن الشعور بالواجب، وأما أن الحس الخلقي لا يرجع إلى اعتبار النفع الاجتماعي، فدليله أننا لا نقدر سوى الأفعال النزيهة، فنحتقر الخائن لوطنه ولو كان نافعًا لوطننا، ونكبر العدو الكريم، فالأخلاق قائمة بذاتها مستقلة عن الدين والتجربة.

(٣) آدم سميث (١٧٢٣–١٧٩٠)

أخذ عن هاتشيسون بجامعة جلاسكو، ثم قصد إلى أكسفورد، وفي سنة ١٧٥١ صار أستاذًا بجامعة جلاسكو، وكان تدريسه مؤلفًا من أربعة أقسام: اللاهوت الطبيعي، الأخلاق، الحق الطبيعي، الاقتصاد السياسي، وله كتابان هامان: الأول «نظرية العواطف الأخلاقية» (١٧٥٩) والثاني «بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها» (١٧٧٦) كان بمثابة «شهادة ميلاد» علم الاقتصاد السياسي باعتباره علمًا قائمًا برأسه مبنيًّا على التجربة، وعد سميث مؤسسه، وفيما يلي كلمة عن كل كتاب.

في «نظرية العواطف الأخلاقية» يرى آدم سميث هو أيضًا استحالة تعيين الفضيلة في كل حالة جزئية بناء على قوانين ثابتة، ويرجع هذا التعيين إلى «العطف» أو التعاطف أي انفعالنا بعواطف الغير، ويستخرج قانون السيرة من قوانين العطف، فيلاحظ أن انفعالات الغير تنتقل إلينا بالعدوى، فلا نراهم يألمون أو يضحكون أو يغضبون إلا ونشاطرهم شعورهم، ذلك ميل طبعي غير إرادي يحسه أشد الناس أنانية، وهكذا تجعلنا الطبيعة متضامنين جميعًا، نسر أو نحزن لما يصيب الغير، وقد ربطت الطبيعة بالعطف لذة كي يطلب لذاته، وهذا يكفي أساسًا للأخلاق؛ لأن العطف يتجه بالطبع إلى الخير، مثال ذلك أن غضب الرجل العنيف أقل تأثيرًا فينا من حلم خصمه، وأننا نتأثر بالغضب للحق والعدل أكثر من تأثرنا باستكانة المسيء، فقوانين العطف وقوانين الأخلاق متطابقة، بحيث نستطيع أن نضع هذه القاعدة: «لا تفعل إلا ما شأنه أن يحوز رضا إخوانك في الإنسانية ويكسبك عطفهم»؛ إذ أن خيرية الفعل تقاس بما يثيره من عطف خالص شامل في الحاضر والمستقبل، ومن هذه القاعدة تنشأ جميع المعاني الأخلاقية من مدح وذم وندم وواجب، فكما أننا نحكم على الآخرين، يحكم الآخرون علينا، فنعتاد النظر إلى أفعالنا ممَّا ينظرون إليها أي بدون تحيُّز، حتى إننا قد نخالف قومنا ونخرج على بعض التقاليد المرعية بينهم فنتعرض للوم والمذمة، ونحن واثقون أن الخلف ينصفنا، وأن قاعدة العطف تتحقق هنا أيضًا من حيث إننا شهود أفعالنا نغتبط بها أو نألم لها تمشيًا مع تلك العاطفة الباطنة، وعلى ذلك ليس الحس الخلقي غريزة كاملة منذ البداية، ولكنه يتكون ويترقى بالعقل والتجربة، وما يسمى بالواجب صادر عن العطف وراجع إليه، بمعنى أن العمل بمقتضى الواجب يقوم في أن ينصب كل منَّا نفسه شاهدًا عدلًا على نفسه فيقدر أفعاله بما يشعر به من عطف نزيه كالذي يشعر به الآخرون لو علموا بها.

وفي كتاب «ثروة الأمم» يقصد إلى أن يكفي الناس شر تدخل الحكومة وتعسفها، فيبين أن للثروة مصدرين هما العمل والادخار، وأنهما لا ينموان إلا حيث يترك «روح الصناعة» حرًّا من كل قيد، وأن قانون المنفعة كفيل بتنظيم الشئون الاجتماعية، بحيث إذا كفت الحكومة عن التدخل وتركت قانون تقسيم العمل بحسب الكفايات وقانون العرض والطلب يفعلان فعلهما، رأينا منفعة المنتج ومنفعة المستهلك تتطابقان، فيضع سميث هذه القاعدة: «كل إنسان، طالما لم يخالف قانون العدالة، فهو حر كل الحرية في اتباع الطريق الذي تدله عليه منفعة»، ولكنه يعني بالعدالة معنى غريبًا، فيحلل المنافسة التجارية بجميع وسائلها، ولا يقر للعامل بحد أدنى من الأجر بل يدعه تحت رحمة صاحب العمل، كأنه لم يُشِدْ بالعطف، وكأن ليس من شأن العطف التخفيف من وطأة قانون العرض والطلب، ولا يريد سميث أن تتدخل الحكومة لحماية الضعفاء أو لصيانة الأخلاق العامة، بل يقصر وظيفتها على منع العنف وإقرار الأمن، وقد ظن أن ليس يوجد وسط بين ما يخافه من استبداد الحكومة وبين ما يراه من إطلاق الحرية، هو تدخل الحكومة في حدود معقولة، وقد ساد العمل بهذا المذهب الحري زمنًا طويلًا فأدى إلى استبداد أقلية من الماليين بجمهور العمال، وإلى نشأة الأحزاب الاشتراكية تدافع عن العمال وتحاول تحقيق العدالة الاجتماعية، ثم إلى الشيوعية التي تقيم نظام الثروة العامة على تدخل الحكومة ولا تدع للأفراد شيئًا من الحرية، ونحن نشهد الآن إفلاس المذهب الحري، وميل الحكومات جميعًا إلى تنظيم الإنتاج والاستهلاك لضمان حياة محتملة للسواد الأعظم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤